منها:
فتن كقطع اللّيل المظلم، لا تقوم لها قائمة، و لا تردّ لها راية، تأتيكم مزمومة مرحولة يحفزها قائدها، و يجهدها راكبها، أهلها قوم شديد كلبهم، قليل سلبهم، يجاهدهم في سبيل اللّه، قوم أذلّة عند المتكبّرين، في الأرض مجهولون، و في السّماء معروفون، فويل لك يا بصرة عند ذلك من جيش من نقم اللّه لا رهج له و لا حسّ، و سيبتلى أهلك بالموت الأحمر، و الجوع الأغبر.
اللغة
(و القطع) قطعة كسدر و سدرة و هى الطائفة من الشي ء قال الشارح المعتزلي: قطع اللّيل جمع قطع و هو الظّلمة قال تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ و لعلّه سهو و (زممت) البعير زمّا شددت عليه زمامه فهو مزموم و (الرّحل) كلّ شي ء يعد للرّحيل من وعاء المتاع و مركب البعير و الحلس و الرّسن و جمعه رحال و أرحل مثل سهام و أفلس و (جهدت) الدّابة و أجهدتها حملت عليها في السّير فوق طاقتها و (الكلب) محرّكة الشر و الاذى و (السّلب) محركة أيضا ما يأخذه أحد القرنين في القتال من قرنه ممّا يكون عليه من ثوب أو سلاح أو درع أو غيرها و (النقم) جمع نقمة و هى العقوبة و (الرهيج) محرّكة الغبار.
الاعراب
جملة لا تقوم مرفوعة المحلّ على أنّها وصف لفتن، و جملة تأتيكم استينافيّة أو حال من مفعول تقوم و جملة يحفزها آه حال من فاعل تأتيكم، و مجهولون وصف ثان لقوم.
المعنى
منها قوله عليه السّلام (فتن كقطع اللّيل المظلم) في عدم الاهتداء فيها إلى النهج الحقّ و الصّراط المستقيم (لا تقوم لها قائمة) أى لا تنهض لدفعها فئة قائمة أولا تقوم لها قائمة من قوائم الخيل، و هو كناية عن عدم امكان مقابلتها بالحرب و عدم التمكن من قتال أهلها، أو لا تقوم لها بنية أو قلعة قائمة، بل تخرب و تنهدم فيكون كناية عن قوّتهم و كذلك قوله عليه السّلام (و لا تردّ لها راية) أى لا تنهزم راية من راية تلك الفتنة و لا تفرّ بل تكون غالبة دائما، أو لا ترجع لحربها راية من الرّايات التي هربت عنها.
ثمّ شبّهها بناقة تامّة الأدوات كاملة الآلات و استعار لها أوصافها فقال (تأتيكم مزمومة مرحولة) أى كناقة معدّة للركوب عليها زمامها و رحالها (يحفزها قائدها) أى يسوقها بشدّة، و أراد بالقائد أعوانها (و يجهدها راكبها) أى يوقعها فى الجهد و المشقّة و يحمل عليها في السّير فوق الطّاقة، و أراد بالرّاكب أرباب تلك الفتنة و كنّى بالحفز و الجهد عن سرعتهم و مبادرتهم إليها (أهلها قوم شديد كلبهم قليل سلبهم) أى شديد شرّهم و أذاهم و قليل ما سلبوه من الخصم إذ همّتهم القتل لا السّلب كما قال الشاعر:
- هم الأسود أسود الغاب همّتهايوم الكريهة في المسلوب لا السّلب
و اختلف في تلك الفتنة و أهلها: فقال الشّارح المعتزلي: إشارة إلى ملحمة تجرى فى آخر الزمان و لم يأت بعد، و استقربه المحدّث المجلسى «ره» في البحار، و قال الشارح البحراني: اشارة إلى فتنة صاحب الزنج لا تضافهم بشدّة الكلب و قلّة السّلب إذ لم يكونوا أصحاب حرب و عدّة و خيل كما يعرف ذلك من قصتهم المشهورة و سيذكر طرف منها في شرح بعض الخطب الآتية و هى الخطبة المأة و الثامنة و العشرون.
و استبعده في البحار بأنّ مجاهديهم لم يكونوا على الأوصاف التي أشار إليها بقوله (يجاهدهم في اللّه قوم أذلّة عند المتكبّرين في الأرض مجهولون و في السّماء معروفون) إلّا أن يقال: لشقاوة الطّرف الآخر أمدّهم اللّه بالملائكة، و هم مجهولون في الأرض لعدم كونهم من أبناء الدنيا المشهورين بنعيمها، و معروفون فى السماء لكونهم من أهل العلم و العرفان يعرفهم ربّهم بالطّاعة و يعرفهم ساير الملائكة بالعبادة و لا يخفى بعده، و قال الشّارح المعتزلي: كونهم مجهولين في الأرض لخمولهم قبل هذا الجهاد.
ثمّ خاطب عليه السّلام البصرة على سبيل انذار أهلها و قال (فويل لك يا بصرة عند ذلك من جيش من نقم اللّه لا رهج له و لا حسّ) قال الشّارح البحراني و هو اشارة إلى فتنة الزنج و ظاهر أنّهم لم يكن لهم غبار و لا أصوات إذ لم يكونوا أهل خيل و لا قعقعة لجم فاذا لا رهج لهم و لا حسّ، و ظاهر كونهم من نقم اللّه للعصاة و ان عمت الفتنة اذ قلما تخصّ العقوبة النّازلة بقوم بعضهم كما قال تعالى: وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً.
و فيه أنّ ظاهر عبارته عليه السّلام مشعر بكون هذا الجيش غير ما اخبر به أوّلا فاذا كان الأول اشارة إلى صاحب الزّنج و جيشه حسبما زعمه الشارح فكيف يمكن جعل ذلك اشارة إليهم أيضا و ان كانوا بالأوصاف المذكورة، و قال الشارح المعتزلي كنّى عليه السّلام بهذا الجيش عن طاعون يصيبهم حتى يبيدهم.
أقول: و الأولى و كول علم ذلك إليهم عليهم السّلام لأنّ أهل البيت أدرى بما فيه ثمّ قال (و سيبتلى أهلك بالموت الأحمر و الجوع الأغبر) الموت الأحمر امّا كناية عن الوباء و وصفه بالحمرة لشدّته و وصف الجوع بانه أغبر لأنّ الجايع يرى الآفاق كانّ عليها غبرة و ظلاما كما في شرح المعتزلي، أو الأول كناية عن قتلهم بالسيف كما قيل، أو عن هلاكهم بالغرق كما في شرح البحراني، قال و وصف الجوع بالأغبر لأنّ شدة الجوع ما اغبر معه الوجه لقلة مادّة الغذاء أو ردائته أو لأنّه يلصق بالغبراء و هي الأرض.
أقول: و يمكن أن يكون وصف الجوع به من حيث كونه ناشئا من كثرة اغبرار الأرض و جدبها بقلّة الأمطار، و اللّه العالم.
تنبيه
قد تقدّم في أوّل تنبيهات الكلام الثالث عشر خطبة طويلة له عليه السّلام خطب بها بعد الفراغ من قتال أهل البصرة و هى متضمّنة لأكثر فقرات هذه الخطبة و مشتملة على زيادات كثيرة فعليك بالرجوع اليها فانه لا يخلو من منفعة.
|