و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثانية من المختار فى باب الخطب
و شرحها في فصلين:
الفصل الاول
أنظروا إلى الدّنيا نظر الزّاهدين فيها، الصّادفين عنها، فإنّها و اللّه عمّا قليل تزيل الثّاوي السّاكن، و تفجع المترف الا من، لا يرجع ما تولى منها فأدبر، و لا يدرى ما هو آت منها فينتظر، سرورها مشوب بالحزن، و جلد الرّجال فيها إلى الضّعف و الوهن، فلا تغرّنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها، رحم اللّه امرء تفكّر فاعتبر، و اعتبر فأبصر، فكأنّ ما هو كائن من الدّنيا عن قليل لم يكن، و كأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل، و كلّ معدود منقض، و كلّ متوقّع آت، و كلّ آت قريب دان.
اللغة
(صدفت) عنه أصدف من باب ضرب اعرضت و صدفت المرأة فهي صدوف و هي التي تعرض وجهها عليك ثمّ تصدق عنك و (ثوى) بالمكان و فيه و ربّما يتعدّى بنفسه من باب رمى يثوى ثواء بالمدّ أقام فهو ثاو قال تعالى: وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ.
و (فجعه) يفجعه من باب منع وجعه كفجّعه أو الفجع أن يوجع الانسان بشي ء يكرم عليه فيعدمه و (اترفته) النعمة أطغته و المترف وزان مكرم المتروك يصنع ما يشاء و لا يمنع و (الجلد) محركة الشّدة و القوّة فهو جلد و جليداى شديد قوىّ و (النّقض) كالانتقاض ضد الابرام و في بعض النسخ منتقض بدل منقض
الاعراب
الفاء في قوله فأدبر عاطفة للجملة على جملة الصّلة و في قوله فلا تغرّنّكم فصيحة، و جملة رحم اللّه امرء دعائية لا محلّ لها من الاعراب، و عن في قوله عن قليل بمعنى بعد، و كذلك في قوله عليه السّلام عمّا قليل و ما زايدة على حدّ قوله سبحانه: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة متضمّن للتّزهيد عن الدّنيا و التّنفير منها بالتنبيه على عيوبها المرغّبة عنها، و قد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفا في الخطبة الثانية و العشرين و شرحها و في غيرها من الخطب السّالفة و قال عليه السّلام هنا: (انظروا إلى الدّنيا نظر الزّاهدين فيها الصّادفين عنها) قد مرّ تحقيق معنى الزّهد و بيان مراتبه و اقسامه بما لا مزيد عليه في شرح الخطبة التاسعة و السبعين و قدّمنا هنالك بعض الأخبار الواردة فيه و نورد هنا بعض ما لم نروه فأقول:
روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن عليّ بن محمّد القاساني عمّن ذكره عن عبد اللّه بن القاسم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال إذا أراد اللّه بعبد خيرا زهّده في الدّنيا و فقّهه في الدّين و بصّر عيوبها و من اوتيهنّ فقد أوتى خير الدّنيا و الآخرة و قال عليه السّلام: لم يطلب أحد الحقّ من باب أفضل من الزّهد في الدنيا، و هو ضدّ لما طلب أعداء الحقّ قلت: جعلت فداك ممّاذا قال: من الرغبة فيها.
و قال عليه السّلام ألا من صبّار كريم فانّما هي أيّام قلائل إلّا أنّه حرام عليكم أن تجدوا طعم الايمان حتّى تزهدوا في الدّنيا.
قال: و سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول إذا تخلّى المؤمن من الدّنيا سما و وجد حلاوة حبّ اللّه و كان عند أهل الدّنيا كأنّه قد خولط و انّما خالط القوم حلاوة حبّ اللّه فلم يشتغلوا بغيره.
قال: و سمعته يقول إنّ المؤمن إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو.
و باسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ من أعون الأخلاق على الدّين الزّهد في الدّنيا، هذا.
و لما أمر عليه السّلام بالنّظر إلى الدّنيا نظر الزّاهدين المعرضين من الأنبياء و المرسلين و الأئمة المعصومين و غيرهم من عباد اللّه الصّالحين، و أوجب اقتفاء آثارهم و التأسّي بهم علل ذلك بقوله (فانّها و اللّه عمّا قليل تزيل الثاوى السّاكن و تفجع المترف الآمن) مؤكدا بالقسم البارّ تنزيلا للمخاطبين منزلة المنكر لما شاهد منهم رغبتهم إليها و اعتمادهم بها، يعني أنّ من شأنها نقل المقيمين السّاكنين بها إلى دار الآخرة و افجاع المنعمين الآمنين بحيلولتها بينهم و بين ما يحبّونه، فاذا كان شأنها ذلك فكيف الأمن بها و الرّكون إليها شعر:
- هب الدّنيا إليك تساق عفواأليس مصير ذاك إلى انتقال
- و ما دنياك إلّا مثل في ءأظلّك ثمّ آذن بالزّوال
(لا يرجع ما تولّى منها فأدبر و لا يدرى ما هو آت منها فينتظر) يعنى ما كنت
مبتهجا به فيها من الشّباب و القوّة و النعمة و العزّة و اللّذة قد أدبر و تولّى و مضى و انقضى فلا رجوع له اخرى، و ما يأتي بعد ذلك فهو غير معلوم لك اذ لا تدرى أنّه نعمة أو نقمة، عزّة أو ذلّة، ثروة أو مسكنة، حياة أم ممات، ضيق أو سعة، و بالجملة لا تدرى انه ملايم لطبعك فتنتظر أو مناف له فتنفر، قال الشّاعر:
- واضيعة العمر لا الماضي انتفعت بهو لا حصلت على علم من الباقي
(سرورها مشوب بالحزن و جلد الرّجال فيها إلى الضّعف و الوهن) و هذا مدرك بالوجدان مشاهد بالعيان إذ قلّ ما ترى مسرورا فيها و مبتهجا بها إلّا و مبتلا في كلّ لمحة و آن بفوت مطلوب أو فقد محبوب، و نرى بضاضة الشّباب مبدلة بحوانى الهرم، و غضارة الصحّة موهونة بنوازل السّقم (فلا يغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها) من عزّ و سلطان و جنود و أعوان و حصون و مقاصر و ضياع و دساكر و نساء و بنين و عشيرة و أقربين و القناطير المقنطرة من الذّهب و الفضّة و الانعام و الخيل المسوّمة (لقلّة ما يصحبكم منها) اذ ليس الّا كفن و حنوط و قطن و عود قال الشاعر:
- فما تزوّد ممّا كان يجمعهإلّا حنوطا غداة البين في خرق
- و غير نفحة أعواد شببن له و قل ذلك من زاد لمنطلق
ثمّ دعا عليه السّلام و ترحّم لاولى الفكر بقوله (رحم اللّه امرء تفكر) في أمر نفسه و مبدئه و معاده (فاعتبر) أى فكان ذا اعتبار و اتّعاظ (و اعتبر فابصر) أى أوجب اعتبار حاله نور بصيرة و ذلك إنّما يحصل بالانقطاع من الشّهوات و التّجافي عن الامنيات.
قال أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام لهشام بن الحكم: يا هشام من سلّط ثلاثا على ثلاث فكأنّما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله، و محى طرايف حكمته بفضول كلامه، و أطفأ نور عبرته بشهوات نفسه فكأنّما أعان هواه على هدم عقله. و من هدم عقله أفسد عليه دينه و دنياه.
ثمّ نبّه على سرعة انقضاء متاع الدّنيا بقوله: (فكأنّ ما هو كائن من الدّنيا عن قليل لم يكن) يعني أنّ ما هو كائن من الدّنيا من زبرجها و زخارفها و لذايذها سيصير بعد زمان قليل معدوما فكأنّه لم يكن موجودا أصلا و لم يكن شيئا مذكورا.
و نبّه على سرعة لحوق الآخرة بقوله (و كأنّ ما هو كائن من الآخرة عما قليل لم يزل) يعنى أنّ ما هو كائن من شدايد الآخرة و أحوالها و أهوالها بعد زمان قليل قصير يكون موجودا ثانيا، و الاتيان بلفظ كأنّ في المقامين للتقريب و تشبيه وجود الدّنيا بعدمه في الأوّل و تنزيل عدم الآخرة منزلة الوجود في الثاني تأكيدا و مبالغة في قصر زمان تصرم الدنيا و قلّة زمان لحوق الآخرة.
ثمّ قال (و كلّ معدود منقض) أراد أنّ أيّام العمر و لياليه و ساعاته و أنفاس الحياة معدودة محصاة، و كلّ ما هى معدودة فهى منقضة منصرمة و منقضية منتهية (و كلّ متوقع آت و كلّ آت قريب دان) فكلّ متوقّع قريب دان، و أراد بالمتوقّع الموت.
و نظير هذه الفقرة من كلامه عليه السّلام قول قس بن ساعدة الأيادي: مالى أرى النّاس يذهبون ثم لا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا اقسم قس قسما إنّ فى السماء لخبرا، و في الأرض لعبرا، سقف مرفوع، و مهاد موضوع خطبه 103 نهج البلاغه بخش 1 و نجوم تمور، و بحار لا تغور، اسمعوا أيّها النّاس وعوا، من عاش مات، و من مات فات، و كلّ ما هو آت هذا، قال السّيد (ره)
|