الحمد للّه المتجلّي لخلقه بخلقه، و الظّاهر لقلوبهم بحجّته. خلق الخلق من غير رويّة، إذ كانت الرّويّات لا تليق إلّا بذوي الضّمائر و ليس بذي ضمير في نفسه. خرق علمه باطن غيب السّترات، و أحاط بغموض عقائد السّريرات
اللغة:
السترات: جمع سترة من ستر الشي ء حجبه و غطاه.
الإعراب:
بذي الباء زائدة، و ذي خبر ليس، و اسمها مستتر أي ليس هو ذا ضمير
المعنى:
(الحمد للّه المتجلي لخلقه بخلقه). لقد كشف سبحانه عن وجوده بالتناسق العجيب بين قوانين الطبيعة و وحدتها، التي تسود كل كبير و صغير من الكون: «وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ- 88 النمل». (و الظاهر لقلوبهم بحجته).
ان اللّه سبحانه في قلب كل انسان، و لكن ربما شغله عن خالقه التقليد، أو شبهة من الشبهات، أو شأن من شئون الحياة، فيتناسى ربه أو ينكره حتى إذا نزلت به نازلة هرع اليه يسأله العون و النجاة، و من أجل هذا يؤكد العارفون بأن ضمير المجرم يؤنبه و ينكر عليه جرأته و معصيته، و يراه خارجا على الحق و العدل سواء أشعر بهذا أم لم يشعر، و مثله عقل الكافر الجاحد، انه يراه مخالفا و معاندا للشواهد و الدلائل على وجود اللّه، و انه قد عمي عنها لغفلة عن العقل و حكمه، و بمعنى آخر لا فرق بين من كفر و أجرم، فكل منهما ناكب عن الطريق لظلمات و شبهات.
للمنبر- أين من يخلق من لا شي ء
(خلق الخلق من غير روية إلخ).. المراد بالروية إعمال الفكر، و استخراج المجهول من المعلوم، و اللّه سبحانه- بموجب كماله من كل وجه- عالم بالذات بلا واسطة و أداة، و لا يخفى عليه من شي ء في الأرض و لا في السماء.
و أشير بهذه المناسبة الى ان العلماء حاولوا أن يكتشفوا سر الحياة، ليتسنى لهم أن يخلقوا ما يشاءون و في وقت من الأوقات أرادت جريدة النهار البيروتية أن تملأ صفحات الملحق الذي تصدره في كل يوم من أيام الآحاد، فرغبت الى جماعة- أنا منهم- أن يجيبوا عن هذا السؤال: «إذا توصل العلم يوما الى خلق خلية فما ذا يكون مصير اللّه». و لعل واضع السؤال يريد مصير الإيمان باللّه.
و قد تطوع للإجابة كثيرون، منهم المتعلم الأصيل، و منهم المتطفل الدخيل.. و ما وجدت من نفسي آنذاك أية رغبة في المشاركة، و أحسست الآن بالميل الى الكلام حول هذا الموضوع خطبه 108 نهج البلاغه بخش 1، و أنا أشرح قول الإمام: «من غير روية».
و أوجز ما أريد بيانه فيما يلي: لقد تقدم العلم خطوات تدعونا الى الايمان به ايمانا نعجز عن وصفه و تحديده.. لأن ما من أحد في وسعه- بالغا ما بلغ من العلم- ان يضع معادلات يتنبأ بسببها عن كل ما يصل اليه العلم من مكتشفات و مخترعات، كيف. و كلما بلغ العلم أفقا بدت آفاق لا حد لها و لا نهاية.. انه يرى المجهول على الدوام من خلال ما يخترع و يكتشف.. و اذن فمن الجائز أن يكتشف العلماء سر الحياة، بل من الجائز أن يخترعوا في يوم من الأيام انسانا في أحسن تقويم، و لكن هذا لا يقدم و لا يؤخر في ايماننا باللّه حتى و لو كان الانسان المخترع- بفتح الراء- كأرسطو في فلسفاته، و اينشتاين في نظرياته، و شكسپير في شعره و مسرحياته.. ذلك لأن العلماء لا يخترعون شيئا و لو كان تافها إلا بمعونة الأسباب التالية: 1- أن يكون لهم عقول يخططون بها، و يجهدونها في التفكر و الروية، لأن العقل أصل، و العلم فرع و ثمرة من ثمراته.
2- أن تتهيأ للعلماء المادة التي يحولونها الى انسان، سواء أ كانت نباتا أم جمادا أم نطفة حيوان، إذ يستحيل على العلم أن يوجد شيئا من لا شي ء، و ليس من شك ان المادة التي يكيفها العلماء و يحولونها الى شي ء آخر- ليست من صنعهم.
3- أن تتوافر لديهم المختبرات و الأدوات الفنية، لأنها الوسيلة لايجاد أي شي ء فضلا عن ايجاد انسان بعقله و طاقاته.
هذه الأسباب أو الشروط الثلاثة لا بد منها لكل من حاول او يحاول غزو الطبيعة و تسخيرها لحاجة من حاجاته، أو غاية من غاياته، و اللّه الذي نؤمن به و نعبده غني عن كل شي ء، و كامل من كل جهة، و لو احتاج الى شي ء لا يمكن أن يستقل بإحداث شي ء، بل لا بد أن يستعين بغيره، و معنى هذا انه ناقص و محدود و مفتقر الى شي ء خارج عن ذاته يتم به و يكمل، و من البداهة ان الفقير و الناقص و المحدود يستحيل أن يكون إلها.. إن ذات الإله الحق الذي نؤمن به- تمنح الوجود لغيرها بطبيعتها و بما هي بلا واسطة شي ء على الاطلاق.. انها تريد فيوجد المراد بالفعل، كما شاءت و أرادت.
ان الإله الذي نؤمن به يقول للشي ء: كن فيكون بلا جولة فكر، و لا هندسة و تخطيط، و علاج آلات، و أذرع و حركات، و إذن فإيمان العارفين باللّه لا يزعزعه شي ء إلا اذا استطاع علماء الطبيعة أن يوجدوا شيئا من لا شي ء، و بمجرد أن يريدوا إيجاده بلا روية و تفكير، و أدوات و مختبرات، و أذرع و أعين، و متى تم لهم ذلك «فأنا أول العابدين».
و بكلام آخر: يجب قبل كل شي ء أن ننظر الى نفس الإله الذي آمن به من آمن، ننظر الى حقيقته و هويته، فإن كان من جنس الطبيعة المادية المنفعلة التي لا تستقل بإحداث شي ء، أو كان عبارة عن فكرة مجردة، و نظرية ذهنية كالشرف و الكرامة- مثلا- ان كان من هذا النوع أو ذاك يكون مصير الإيمان به الى فناء و زوال لا محالة سواء اكتشف علماء الطبيعة سر الحياة، أم عجزوا عن اكتشافه، أما إذا كان الإله المعبود هو قوة فعالة، لها جميع صفات الكمال من كل الجهات و تؤثر و لا تتأثر، و اليها يفتقر كل شي ء، و لا تفتقر الى شي ء و ليس كمثلها شي ء، و هي المبدأ الأول للخلق و التدبير، أما الإيمان بهذا الإله فهو أرسخ من الراسيات حتى و لو اكتشف العلم سر الحياة، و اخترع ألف إنسان و إنسان: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ، إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً- 73 الحج».
|