الفصل السابع
أنشأ الخلق إنشاء و ابتدئه ابتداء، بلا روية أجالها و لا تجربة استفادها و لا حركة أحدثها و لا همامة نفس اضطرب فيها، أجال الأشياء لأوقاتها و لائم بين مختلفاتها و غرّز غرايزها و ألزمها أشباحها عالما بها قبل ابتدائها محيطا بحدودها و انتهائها عارفا بقرائنها و أحنائها.
اللغة
(الانشاء و الابتداء) لغة بمعنى واحد قال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أى ابتدئكم و خلقكم، و كلّ من ابتدء شيئا فقد أنشأه، قال الفيومي: نشأ الشّي ء نشاء مهموز من باب نفع: حدث و تجدّد و أنشأته أحدثته هذا.
و قد يفرّق بينهما حيث اجتمعا صونا للكلام عن التكرار تارة بأنّ الانشاء هو الايجاد لا عن مادّة، و الابتداء هو الايجاد لا لعلّة، ففي الأوّل إشارة إلى نفى العلّة المادية، و في الثّاني إشارة إلى نفى العلة الغائية في فعله سبحانه و اخرى بأن الانشاء هو الايجاد الذي لم يسبق غير الموجد إلى ايجاد مثله، و الابتداء هو الايجاد الذي لم يوجد الموجد قبله مثله و ثالثة بأن الانشاء هو الايجاد من غير مثال سابق، و الابتداء هو الايجاد من غير صور الهاميّة فائضة على الموجد (و الروية) الفكر و التّدبر، قال في المصباح: و هي كلمة جرت على ألسنتهم بغير همز تخفيفا، و هي من روأت في الأمر بالهمز إذا نظرت فيه (و الاجالة) من الجولان يقال: أجاله و أجال به إذا أداره، كما يقال: جال يجول جولا و جولانا إذا ذهب و جاء، و منه الجولان في الحرب، و في بعض النّسخ أحالها بالمهملة، و هو من الاحالة بمعنى النّقل و الصّرف (و التّجربة) على وزن التّكملة و التّبصرة، بمعنى الاختبار يقال جرّبه تجريبا و تجربة أى اختبره مرّة بعد اخرى (و الحركة) محركة اسم من التحريك بمعنى الانتقال، و هو خلاف السّكون و هي عند المتكلمين حصول الجسم في مكان بعد حصوله في مكان اخرى، يعنى أنّها عبارة عن مجموع الحصولين، و عند الحكماء هي الخروج من القوّة إلى الفعل على سبيل التّدريج (و الهمامة) بهذه الهيئة لم أجدها في كتب اللغة إلّا المجمع، قال: و الهمامة التردّد، و الموجود في كتب اللغة همام، قال في الاوقيانوس: لا همام بحرف النّفى على وزن قطام اسم فعل بمعنى لا اهم يقال لا همام أى لا اهم و لا أفعله.
قال بعض شراح الكافي«» عند شرح قول الامام عليه السلام: مريد لا بهمامة: أى مريد للأشياء لا بهمامة النّفس و هي اهتمامها بالامور و ترديد عزمها مع الهمّ و الغم بسبب فوتها، مأخوذ من الهمهمة و هي ترديد الصّوت الخفي و هو سبحانه منزّه عنها.
و بنحوه فسّره الشّارح البحراني في شرح الخطبة هذه، و قريب منه عبارة الرّاوندي على ما حكي عنه، قال: يقال: ما له في الأمر همّة و لا همامة أى لا يهتم به، و الهمامة التردّد كالعزم انتهى.
و قال الشّارح المعتزلي: قوله عليه السلام: و لا همامة نفس اه فيه ردّ على المجوس و الثّنوية القائلين بالهمامة، و لهم فيها خبط طويل يذكره أصحاب المقالات، و قال أيضا: و لهم في الهمامة كلام مشهور، و هي لفظة اصطلحوا عليها، و اللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمّة، إلى أن قال: و لكنها لفظة اصطلاحيّة مشهورة عند أهلها انتهى.
(و أجال) إن كان بالجيم المعجمة فمن الجولان، و إن كان بالحاء كما في بعض النّسخ فمن الاحالة بمعنى التّحويل و الصّرف، أو بمعنى الايثاب، يقال: حال في ظهر دابّته إذا وثب و استوى، و أحاله غيره أو ثبه.
قال الشّارح المعتزلي كانّه سبحانه لما أقرّ الأشياء في أحيانها و أوقاتها، صار كمن أحال غيره على فرسه هذا، و لا يخلو ارادته عن بعد فافهم.
و في بعض النّسخ أجل بالجيم، أي وقت، و في بعضها أحلّ بالحاء من الحلول يقال: أحلّه المكان و بالمكان إذا جعله يحلّ به (و لائم) ملائمة إذا أصلح (و الغريزة) الطبيعة المجبولة يقال: هو حسن الغريزة أى الطبيعة (و الاشباح) جمع الشبح بمعنى الشّخص (و الاحاطة) بالشّي ء الاستدارة به من جوانبه، يقال: أحاط القوم بالبلد إذا أحد قوابه و استداروا بجوانبه، ثم استعمل تارة في شمول الحفظ، و تارة في شمول العلم، و تارة في استيلاء القدرة و شمولها (و القرائن) جمع القرينة، و المراد بها هنا النّفس النّاطقة كالقرونة قال في الاقيانوس: يقال: أسمحت قرينة و قرينته و قرونه و قرونته أى ذلت نفسه، و منه يعلم ما في كلام الشّارح المعتزلي حيث جعلها جمع قرونة من الضّعف و الفساد (و الاحناء) جمع حنو بمعنى الجانب كما في المجمع، و في الاوقيانوس أنّه يقال: على العضو المعوج، كالحاجب و نحوه، و على كلّ شي ء معوج من الشّجر و غيره، و لم يذكر مجيئه بمعنى الجانب، و إرادة كلّ من المعنيين صحيحة في المقام، و لا بأس بهما.
الاعراب
كلمة لا في قوله عليه السلام بلا رويّة نافية معترضة بين الخافض و المخفوض، على حدّ قولهم جئت بلا زاد، و غضب من لا شي ء، و اختلف علماء الأدبيّة في أنّها هل هي اسم أو حرف.
فذهب الكوفيون إلى أنّها اسم، و الجار داخل عليها نفسها، و جرّ ما بعدها بها نفسها لكونها بمعنى غير.
و غيرهم إلى أنّها حرف، و يسمونها زائدة، و الظاهر أنّهم أرادوا بالزّيادة الزّيادة من حيث اللفظ من أجل اعتراضها بين شيئين متطالبين، و إلّا فلا يصحّ المعنى باسقاطها، لأنّ حذف لا في الأمثلة المذكورة يوجب فوات المعنى المقصود من الكلام، أعني النّفى، و ذلك مثل تسميتهم لاء المقترنة بالعاطف في نحو ما جائني زيد و لا عمرو، زائدة، مع أنّ إسقاطها يوجب اختلال المعنى، لانك إذا قلت: ما جائني زيد و عمرو، احتمل نفى اجتماعهما في المجي ء، كما احتمل نفى مجي ء كلّ منهما على كلّ حال، و إذا قلت: ما جائني زيد و لا عمرو، كان نصّا في الثّاني.
و ممّا ذكرنا ظهر حكم لا في الجملات المتعاطفه: من قوله عليه السلام: و لا تجربة استفادها، و لا حركة أحدثها اه، و اللام في قوله عليه السلام لأوقاتها على رواية أجال بالجيم بمعنى إلى، كما في قوله تعالى: أَوْحى لَها و كذلك على روايته بالحاء و جعله بمعنى التّحويل و الصّرف، و على جعله بمعنى الايثاب فبمعنى على كما في قوله تعالى: وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ أى عليه، و أمّا على رواية أجل بالجيم فللتعليل، و بالحاء فبمعنى في، على حدّ قوله سبحانه: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ و الضميران في قوله عليه السلام و ألزمها أشباحها راجعان إلى الغراير، و يحتمل رجوعهما إلى الأشياء و انتصاب عالما، و محيطا، و عارفا، على الحاليّة من الفاعل، و العامل فيها: ألزم إعمالا للأقرب على ما هو مذهب البصريين.
المعنى
اعلم أنّه عليه السلام لما ذكر في الفصل السّابق جملة من نعوت الجلال و الجمال، عقّبه بهذا الفصل، و نبّه فيه على كيفيّة خلقه تعالى للأشياء، و على جملة من صفات فعله و كماله، فقال: (أنشأ الخلق إنشاء) أى خلقهم خلقا من غير مادّة، أو من غير سبق موجد غيره سبحانه إلى ايجاد مثله، أو بلا مثال سابق (و ابتدئهم ابتداء) أى أوجدهم ايجاد الا لعلّة غائية، كالاستيناس بهم و الوحشة لفقدهم، أو من غير أن يوجد سبحانه مثلهم، أو من دون إفاضة صورة الهاميّة عليه سبحانه.
ففي هاتين الفقرتين إشارة إلى نفى المشابهة بين صنعه سبحانه و صنع البشر، و ذلك لأن الصّنايع البشريّة إنّما تحصل بعد أن ترسم في الخيال صورة المصنوع و تلك الصّورة تارة تحصل عن مثال خارجيّ يشاهده الصّانع و يحذو حذوه، و اخرى تحصل بمحض الالهام و الاختراع، فانّه كثيرا ما يفاض على أذهان الأذكياء صور الأشكال لم يسبقهم إلى تصوّرها غيرهم، فيتصوّرونها و يبرزونها في الخارج، و كيفيّة صنعه تعالى للعالم منزّهة عن الوقوع بأحد الوجهين.
أمّا الأوّل فلأنّه سبحانه قبل القبل بلا قبل، و كان و لم يكن معه شي ء، فلا يكون مصنوعاته مسبوقة بأمثلة من صانع آخر عمل هو تعالى بمثل صنع ذلك الصّانع.
و أمّا الثّاني فلأنّ الفاعل على وفق ما الهم به و إن كان مبتدأ في العرف و مخترعا عندهم، لكنّه مفتقر إلى الملهم و المفيض، و الافتقار محال عليه سبحانه، بل هو غني في فعله و صنعه عن غيره، كما أنّه مقدّس عن مشابهة خلقه في ايجاده و خلقه، حيث إنه خلقهم (بلا رويّة أجالها) و لا فكر أداره أو صرفه إليهم (و لا تجربة) معينة له على خلق هذه الأجسام (استفادها) أى اكتسبها لنفسه من قبل، بمعنى أن يكون خالقا من قبل أجساما مجرّبا له مرّة بعد اخرى، فحصلت له تلك التّجربة، و يأتي إن شاء اللَّه تحقيق هاتين الفقرتين في شرح الفصل الثّالث من خطبة الأشباح.
(و لا حركة أحدثها) كما أنّا نحتاج في أفعالنا الاختياريّة بعد التّصور و الشّوق و الارادة إلى إحداث حركة في العضلات، ليقع الفعل في الخارج و هو سبحانه تعالى شأنه عن ذلك، لكون الحركة من خواصّ الجسم، و هو تعالى منزّه عن الجسميّة و لواحقها (و لا همامة نفس اضطرب فيها) أى تردّد نفس موجب للاضطراب له تعالى، كالتردّد و الاضطراب الحاصلين لنا عند إقدامنا على فعل من أفعالنا.
و أمّا على ما ذهب إليه الشّارح المعتزلي من كون الهمامة من الاصطلاحات المخصوصة للمجوس و الثنويّة، ففهم معناها موقوف على نقل ما حكاه عنهم.
قال: حكى زرقان في كتاب المقالات، و أبو عيسى الورّاق، و الحسن بن موسى، و ذكره شيخنا أبو القاسم البلخي في كتابه المقالات أيضا عن الثنويّة: أنّ النور الأعظم اضطربت عزائمه و إرادته في غزو الظلمة و الاغارة عليها، فخرجت من إرادته قطعة و هي الهمامة المضطربة في نفسه فخالطت الظلمة غازية لها، فاقتطعتها الظلمة من النّور الأعظم و حالت بينها و بينه، و خرجت همامة الظلمة غازية للنّور الأعظم، فاقتطعها النّور الأعظم عن الظلمة، و مزجها بأجزائه و امتزجت همامة النّور بأجزاء الظلمة أيضا، ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان و تتدانيان و هما ممتزجتان بأجزاء هذا و هذا، حتّى ابتنى منهما هذا العالم المحسوس انتهى.
أقول: الثّنوية أثبتوا أصلين قديمين مدبرين يقسمان الخير و الشر، و النفع و الضرّ، و الصّلاح و الفساد، يسمّون أحدهما النّور، و الثّاني الظلمة، و بالفارسية يزدان و أهرمن، و لهم تفصيل مذهب موكول إلى محلّه، و المجوس قسم منهم إلّا أنّهم قالوا بحدوث الظلمة، و لهم قاعدتان عمدتان.
إحداهما بيان سبب امتزاج النّور بالظلمة، و ذكروا في ذلك وجوها كثيرة يطول الكلام بذكرها، و لا باس بالاشارة إلى واحد منها، و هو أنّ يزدان فكر في نفسه أنّه لو كان لي منازع كيف يكون، و هذه الفكرة كانت رديّة غير مناسبة بطبيعة النّور، فحدثت الظلمة من هذه الفكرة، و سمّي أهرمن، و كان مطبوعا على الشرّ و الضّرر و الفساد.
و القاعدة الثّانية في سبب خلاص النّور من الظلمة، و لهم فيها أيضا وجوه كثيرة منها أنّه وقعت المحاربة بين عسكر النّور و عسكر الظلمة مدّة كثيرة من الوف سنة، ثم يظفر عاقبة الأمر يزدان و جنوده، و عند الظفر و إهلاك جنود أهرمن أجمعين يكون القيامة، فيرتفع هؤلاء إلى عالم النّور و السّماء، و ينحط هؤلاء إلى دار الظلمة و الجحيم و منها أنّ الملائكة و توسّطوا بعد المحاربة إلى أنّ العالم السّفلي لجنود أهرمن، و العالم العلوى خالصا لجنود يزدان، إلى غير ذلك من الأباطيل و الخرافات التي ذكروها في سبب الامتزاج و الخلاص، خذ لهم اللَّه أجمعين و لعنهم إلى يوم الدّين.
(أجال الأشياء لاوقاتها) أى أدارها و نقلها إليها على وفق ما اقتضاه القضاء اللّازم، و القدر الحتم.
هذا على رواية أجال بالجيم أو بالحاء و جعله من الاحالة بمعنى التّحويل و النّقل، و على المعنى الآخر فالمعنى أنّه أوثب الاشياء و سواه على أوقاتها بحسب ما تقتضيه الحكمة و المصلحة.
و أمّا على رواية أجل بالجيم فالمعنى أنّه وقّتها لاوقاتها لا تتقدم عليها و لا تتأخّر عنها قال سبحانه: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ و على روايته بالحاء فمعناه أنّه أحلها في أوقاتها، و على أيّ تقدير كان، فالمقصود انه سبحانه جعل لكلّ شي ء وقتا معيّنا، و زمانا مخصوصا، بحسب اقتضاء النظام الاكمل، و النّظم الاصلح، لا يتقدم عليه و لا يتأخر عنه.
(و لائم بين مختلفاتها) كما أصلح بين العقل الذي هو من عالم الأمر و الغيب و بين البدن الذي هو من عالم الخلق و الشّهادة، مع عدم احتياجه في نفسه و فعله إليه أصلا، و كتوفيقه بين العناصر مع اختلافها و تباينها، و كجمعه بين النار و الثّلج في بعض الملائكة مع التضاد بينهما و تعاندهما (و غرّز غرايزها) أى جعل غرائز الأشياء غريزة لها، كما يقال، سبحان من ضوّء الأضواء، و المقصود به أنّ طبيعة كلّ من الأشياء مجبولة عليه، مطبوعة فيه، كالفطانة للانسان، و البلادة للحمار مثلا (و ألزمها أشباحها) أى جعل غريزة كلّ شي ء، و سجيّته لازمة على شبحه، و شخصه، غير منفكة عنه، كالشّجاعة، لبعض الاشخاص، و الجبن للآخر، و السّخاء لشخص، و البخل لغيره، و كالحرارة للعسل، و البرودة للكافور، إلى غير ذلك من الطبايع اللّازمة على الأشخاص الغير المنفكة عنها، فانّ الشجاع لا يكون جبانا، و لا الجبان شجاعا، و لا البخيل سخيّا، و لا بالعكس.
هذا كله على تقدير رجوع الضميرين إلى غرائزها، و أما على تقدير رجوعهما إلى الاشياء كما يقتضيه سياق سوابقهما فالمعنى أنه تعالى ألزم الاشياء على الأشخاص يعنى أنّ الأشياء بعد ما كان في علمه و قضائه سبحانه على نحو العموم و الكليّة، جعلها لازمة على التشخّصات الجزئية، و أوجدها في العين في ضمن تلك التشخّصات، ضرورة أنّ ما لم يتشخص لم يوجد، و إليه اشير في قوله عزّ و جلّ.
وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ هذا و في بعض النّسخ أشباحها أى اصولها (عالما بها قبل ابتدائها) كما أنّه عالم بها بعد الابتداء و الايجاد، من غير تفاوت بين الحالتين (محيطا بحدودها و انتهائها) أى بأطرافها و نهاياتها. قال سبحانه في حم السّجدة: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ و فسّره بعضهم بشمول الحفظ، قال الرّاغب أى حافظ له من جميع جهاته، و بعضهم بشمول العلم، فقال: أى عالم به ظاهرا و باطنا جملة و تفصيلا، و قيل، بل المراد به إحاطته علما و قدرة معا.
و أمّا قوله تعالى: أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً فالتمييز بالعلم معيّن، قيل: و الاحاطة بالشّي ء علما هو أن يعلم وجوده، و جنسه، و قدره، و كيفيّته، و غرضه المقصود به و بايجاده، و ما يكون هو منه، و ليس ذلك إلّا اللَّه (عارفا بقرائنها و أحنائها) أى نفوسها و جوانبها أو نفوسها و أعضائها و المعرفة هنا مجاز عن العلم، لما قد مرّ فيما سبق من الفرق بينهما، و أنّه لا يجوز اطلاقها في اللَّه سبحانه، فاذا وقع في كلام الامام عليه السلام لا بدّ من أن يراد بها معناها المجازي، فيكون عارفا بمعنى عالما، و علاقة التجوز واضحة. تنبيه و تحقيق
و هو أنّ قوله: عالما بها قبل ابتدائها يفيد علمه بجميع الأشياء، كلياتها و جزئياتها، و فيه ردّ على من نفاه رأسا فضلّ ضلالا بعيدا، و على من نفى علمه بالجزئيات، و خسر خسرانا مبينا، و يفيد أيضا علمه بالموجودات قبل ايجادها و تكوينها، و الشّاهد على ذلك مضافا إلى كلامه عليه السلام الآيات و الأخبار المتواترة، و البراهين العقليّة.
و توضيح المقام و تفصيله يتمّ برسم امور.
الاول في بيان الأدلة النّقليّة
فمن الكتاب آيات كثيرة لا تحصى و لنكتف منها بثلاث آيات قال سبحانه في سورة البقرة:
وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و في سورة النّساء: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً و فيها أيضا: وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً و من السّنة أخبار كثيرة بالغة حدّ التّواتر.
فمنها ما في التّوحيد باسناده عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سمعته يقول: كان اللَّه و لا شي ء غيره و لم يزل عالما بما كوّنه، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد ما كوّنه.
و منها ما رواه فيه أيضا عن أيوب بن نوح، أنّه كتب إلى أبي الحسن عليه السلام يسأله عن اللَّه أ كان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء و كوّنها أو لم يعلم ذلك حتى خلقها و أراد خلقها و تكوينها، فعلم ما خلق عند ما خلق، و ما كوّن عند ما كوّن فوقع عليه السلام بخطه لم يزل اللَّه عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء.
و منها ما رواه أيضا عن منصور بن حازم، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال. قلت له: أ رأيت ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة أ ليس كان في علم اللَّه قال: فقال: بلى قبل أن يخلق السّماوات و الأرض.
و منها ما رواه عن منصور أيضا، قال سألته: يعني أبا عبد اللَّه عليه السلام، هل يكون اليوم شي ء لم يكن في علم اللَّه عزّ و جلّ قال عليه السلام لا بل كان في علمه قبل أن ينشى ء السّماوات و الأرض.
و منها ما رواه عن حمّاد بن عيسى، قال سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام، فقلت: لم يزل اللَّه يعلم قال: أنّ يكون يعلم و لا معلوم قال: قلت: فلم يزل يسمع قال: أنّى يكون ذلك و لا مسموع قال قلت: فلم يزل يبصر قال: أنّى يكون ذلك و لا مبصر قال ثم قال: لم يزل اللَّه عليما سميعا بصيرا ذات علّامة سميعة بصيرة.
أقول: لعل ردعه عليه السلام للرّاوي من جهة أنّه علم من حاله أنّه اعتقدان علمه و سمعه و بصره سبحانه، مثل العلم و السمع و البصر الموجود في غيره سبحانه، بأن تكون أوصافا زايدة على الذّات، و مستلزمة للمتعلّقات، من حيث كونها امورا نسبية غير قائمة إلّا بمتعلقاتها، و يشهد بذلك آخر الرّواية، و رواية الحسين بن خالد الآتية و غيرها.
و منها ما رواه عن الحسين بن بشار، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليهما السّلام، قال: سألته أ يعلم اللَّه الشّي ء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون أو لا يعلم إلّا ما يكون فقال: إنّ اللَّه تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء، قال عز و جلّ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و قال لأهل النار: وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فقد علم اللَّه عزّ و جلّ بأنّهم لوردّهم لعادوا لما نهوا عنه، و قال للملائكة لما قالت: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ، قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ فلم يزل اللَّه عزّ و جلّ علمه سابقا للأشياء، قديما قبل أن يخلقها، فتبارك ربّنا و تعالى علوّا كبيرا، خلق الأشياء و علمه سابق لها كما شاء كذلك لم يزل ربّنا عليما سميعا بصيرا.
و منها ما رواه أيضا عن عبد اللَّه بن مسكان، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن اللَّه تبارك و تعالى أ كان يعلم المكان قبل أن يخلق المكان أو علمه عند ما خلقه و بعد ما خلقه فقال تعالى اللَّه بل لم يزل عالما بالمكان قبل تكوينه كعلمه به بعد كونه، و كذلك علمه بجميع الأشياء كعلمه بالمكان.
و منها ما رواه عن الحسين بن خالد، قال سمعت الرّضا علي بن موسى عليه السلام يقول: لم يزل اللَّه تبارك و تعالى عليما قادرا حيّا قديما سميعا بصيرا، فقلت له يا بن رسول اللَّه: إنّ قوما يقولون: إنّه عزّ و جلّ لم يزل عالما بعلم، و قادرا بقدرة، و حيّا بحياة، و قديما بقدم، و سميعا بسمع، و بصيرا ببصر، فقال عليه السلام: من قال ذلك و دان به فقد اتّخذ مع اللَّه آلهة اخرى، و ليس من ولايتنا على شي ء، ثم قال: لم يزل اللَّه عزّ و جلّ عليما قادرا حيّا قديما سميعا بصيرا لذاته، تعالى عمّا يشركون و يقولون المشبّهون علوّا كبيرا.
و منها ما في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه قال: أحاط بالأشياء علما قبل كونها، فلم يزدد بكونها علما علمه بها قبل أن يكوّنها، كعلمه بها بعد تكوينها.
و منها ما فيه أيضا كما في التّوحيد عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: لم يزل اللَّه عزّ و جلّ ربّنا و العلم ذاته و لا معلوم، و السّمع ذاته و لا مسموع، و البصر ذاته و لا مبصر، و القدرة ذاته و لا مقدور، فلما أحدث الأشياء و كان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم، و السمع على المسموع، و البصر على المبصر، و القدرة على المقدور، قال: قلت: فلم يزل اللَّه متكلما قال: إنّ الكلام صفة محدثة، و ليست بأزليّة، كان اللَّه و لا يتكلّم، إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا الباب ممّا يقف عليها المتتبع المجدّ.
بيان
قال الفاضل المازندراني في شرح الكافي في شرح الحديث الأخير: قوله عليه السلام وقع العلم منه على المعلوم اه، يعني وقع العلم على ما كان معلوما في الأزل، و انطبق عليه، لا على أمر يغايره و لو في الجملة، و المقصود أن علمه قبل الايجاد، هو بعينه علمه بعد الايجاد، و المعلوم قبله هو المعلوم بعينه بعده، من غير تفاوت و تغيّر في العلم أصلا، و ليس هناك تفاوت إلّا تحقّق المعلوم في وقت و عدم تحققه قبله، و ليس المراد بوقوع العلم على المعلوم تعلّقه به تعلقا لم يكن قبل الايجاد، لأنّ علمه متعلّق به قبل الايجاد و بعده، و هذا الذي ذكره عليه السلام هو المذهب الصحيح الذي ذهب إليه الفرقة النّاجية الاماميّة و أكثر المخالفين.
قال قطب المحققين في درّة التّاج: ذهب جمهور مشايخ أهل السّنة و المعتزلة- إلى أن العلم بأنّ الشي ء سيوجد نفس العلم بذلك الشّي ء إذا وجد، لأنّ من علم علما قطعيّا بأن زيدا يدخل البلد غدا عند طلوع الشّمس مثلا، يعلم بذلك العلم بعينه عند طلوع الشمس أنه دخل البلد، و لو احتاج أحدنا إلى تعلّق علم آخر به فانّما احتاج إليه بطريان الغفلة عن العلم الأول و الغفلة على البارى ممتنعة انتهى كلام الفاضل المذكور طاب ثراه.
و أوضح منه ما ذكره المحدث العلّامة المجلسي قده في مرآة العقول عند شرح الفقرة المذكورة حيث قال: قوله: وقع العلم منه على المعلوم، أى وقع على ما كان معلوما في الأزل و انطبق عليه و تحقّق مصداقه، و ليس المقصود تعلّقه به تعلقا لم يكن قبل الايجاد، إذ المراد بوقوع العلم على المعلوم: العلم به على أنّه حاضر موجود كان قد تعلّق العلم به قبل ذلك على وجه الغيبة و أنّه سيوجد، و التّغير يرجع إلى المعلوم لا إلى العلم.
و تحقيق المقام أنّ علمه تعالى بأنّ شيئا وجد هو عين العلم الذي كان له تعالى بأنّه سيوجد، فان العلم بالقضية إنّما يتغير بتغيرها، و هو بتغير موضوعها أو محمولها و المعلوم هاهنا هي القضيّة القائلة بأن زيدا موجود في الوقت الفلاني، و لا يخفى أنّ زيدا لا يتغيّر معناه بحضوره و غيبته، نعم يمكن أن يشار إليه إشارة خاصّة بالموجود حين وجوده، و لا يمكن في غيره، و تفاوت الاشارة إلى الموضوع لا يؤثر في تفاوت العلم بالقضية، و نفس تفاوت الاشارة راجع إلى تغيّر المعلوم لا العلم.
الثاني
أنّه قد تحقّق من الاخبار السّالفة علمه تعالى بجميع الاشياء كلياتها و جزئياتها و هذا ممّا اتّفق عليه جمهور العقلاء، و أقام عليه المتكلمون و الحكماء البراهين السّاطعة، و الادلة القاطعة، كما أنّهم أقاموا الدّليل على علمه سبحانه بذاته، و قد خالف في ذلك جماعة ممّن لا يعبأ بخلافهم، و لا باس بالاشارة إلى بعض البراهين العقليّة التي أسّسوها في المقام، اقتفاء بالاعلام، و توضيحا لكلام الامام عليه السلام.
فاقول: قال في التّجريد: و الاحكام، و التّجرد، و استناد كلّ شي ء إليه، دلايل العلم و الاخير عام انتهى.
توضيحه أنّ كونه سبحانه فاعلا للأشياء المحكمة، و مجرّدا في ذاته عن المادّة، و كون جميع الاشياء مستندا إلى ذاته المقدّسة، أدلة على كون الباري سبحانه عالما، إلا أنّ الاوّل مفيد لعلمه بما سواه، و الثّاني لعلمه بذاته، و الثّالث لعلمه بذاته و بما سواه.
أمّا الاوّل فتفصيله أنّه سبحانه فاعل فعلا محكما متقنا، و كلّ من كان كذلك فهو عالم، أمّا الكبرى فضروريّة، و ينبّه عليه أنّ من رأى خطوطا مليحة، و ألفاظا فصيحة، مشتملة على نكات دقيقة، و أسرار خفيّة، علم علما قاطعا بأنّ موجدها عالم، و أمّا الصّغرى فلما ثبت و تحقّق، من أنّه خالق للأفلاك و العناصر و الأعراض و الجواهر و الأنهار و الأشجار و الأزهار و الأثمار و الحيوان و الانسان على أحسن نظام و أتقن انتظام، بما لا يقدر على ضبطه الدّفاتر و الأقلام، و تحيّر فيه العقول و الأفهام، و كفى بذلك شهيدا صنعة الانسان، حيث خَلَقَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طينٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكينٍ، ثُمَّ خَلَقَ النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقَ الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقَ الْمُضْغَةَ عِظاماً، فَكَسَا الْعِظامَ لَحْماً، ثُمَّ أَنْشَأَهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.
و أمّا الدّليل الثّاني فتحقيقه يستدعي رسم مقدمات الاولى أنّ واجب الوجود مجرّد غاية التجرّد إذ المراد بغاية التجرّد كون الشي ء قائما بذاته، غير متعلّق الهوية و الوجود بمادّة أو موضوع، و واجب الوجود كذلك«» الثانية أنّ كلما هو قائم بذاته غير متعلّق الهوية بشي ء آخر، فهو موجود لذاته، حاضر عند ذاته غير غائبة و لا منفكة ذاته عن ذاته الثالثة أنّ العلم هو حضور المعلوم بعينه أو بصورته عند المجرّد الموجود بالفعل القائم بذاته، و انكشافه لديه و ثبوته بين يديه، و هذا أيضا ظاهر و إذا لاحظت هذه المقدمات ظهر لك أنّ واجب الوجود لكونه مجرّدا غاية التجرد، و لكونه قائما بذاته، و موجودا لذاته، و حاضرا عند ذاته، غير غائب عن ذاته، و منكشفا لذاته غير محجوب عنها، فهو عالم لذاته بذاته، لا بأمر آخر غير ذاته، فذاته عقل و عاقل و معقول، و الاختلاف اعتباريّ من جهة التّعبير و أمّا الدّليل الثّالث فتقريره أنّ وجود جميع الموجودات مستند إلى ذاته و هو ليس مستندا إلى شي ء من الأشياء، فهو تعالى لكونه غير متعلق بشي ء من الأشياء، موجود لذاته، قائم بذاته، و ذاته حاضرة عند ذاته، و جميع الأشياء لكونه معلولة له تعالى موجودة له حاضرة عنده، غير غائبة، لوجوب كون العلّة موجودة مع المعلول، فان حصول المعلول للعلّة أشد من حصول الصّورة لنا، كما صرّح به المحقّق الطوسي في شرح الاشارات فقد تحقّق بما ذكرناه علمه بذاته و بما سواه.
و لنعم ما قال المحقّق الشّيرازي في الأسفار: كيف يسوغ عند ذي فطرة عقلية أن يكون واهب كمال مّا و مفيضه قاصرا عن ذلك الكمال فيكون المستوهب أشرف من الواهب، و المستفيد أكرم من المفيد، و حيث ثبت استناد جميع الممكنات إلى ذاته تعالى التي هي وجوب صرف، و فعليّة محضة، و من جملة ما يستند إليه هى الذّوات العالمة، و الصّور العلميّة، و المفيض لكل شي ء أو في بكلّ كمال لئلا يقصر معطي الكمال عنه، فكان الواجب عالما، و علمه غير زايد على ذاته.
الثالث في كيفيّة علمه سبحانه بالأشياء قبل تكوينها و ايجادها
و هذا المقام ممّا زلت فيه أقدام العلماء، و تحيّرت فيه أفهام الحكماء، و لنهاية غموضه و صعوبته اختلفوا فيه على أقوال شتّى، و غاية اشكاله و دقّته تفرقوا فيه أيدى سبا و أيادي سبا.
فمنهم من نفاه رأسا كالاشراقيين تبعا لمعلمهم أفلاطن على ما حكي«» عنهم حيث ذهبوا إلى أنّ علمه بالأشياء مع الأشياء، و أنّ إضافة علمه هي بعينها إضافة فاعليّته، و أنّ معلوميّة الشّي ء ليس إلّا حضور ذاته الموجودة عند العالم، و قبل الوجود لا حضور، فلا علم.
و منهم من ذهب إلى إثباته و أنّ علمه بالأشياء متقدّم عليها، و هم المشّاؤون تبعا لمعلمهم أرسطاطاليس، قالوا: إنّ عالميّته بالأشياء بتقرّر صورها العقلية، و ارتسام رسومها الادراكية في ذاته تعالى، و اعتذروا عن ذلك بأنّ تلك الصّورة و إن كانت اعراضا قائمة بذاته: إلّا أنّها ليست بصفاته، و ذاته لا ينفعل عنها، و لا يستكمل بها، لأنّها بعد الذّات و هي من قبيل اللوازم المتأخّرة و الآثار، لا من قبيل الصّفات و الاحوال، و أيضا لا تخل كثرتها بوحدة الذّات، لأنّها كثرة على ترتيب السّببيّة و المسبّبية، و كترتيب الواحد و الاثنين و الثّلاثة و ما بعدها، فلا تنثلم بها وحدة الذّات، كما لا تنثلم وحدة الواحد بكونه مبدءا للأعداد الغير المتناهية إذ التّرتيب يجمع الكثرة في وحدة.
توضيحه ما ذكره الصّدر الشّيرازي في شرح الهداية، حيث قال: و اعلم أنّ المصنّف اختار في علم الواجب بالأشياء الكلية و الجزئية، مذهب الحكماء القائلين بارتسام صور الموجودات في ذاته تعالى، كالكسيمائيس الملطي و أرسطا طاليس، و هو الظاهر من كلام الشّيخين أبي نصر و أبي علي و تلميذه بهمنيار، و بالجملة جمهور أتباع المعلّم الأوّل من المشاءين.
و تقريره على ما يستفاد من كتبهم هو، أنّ الصّورة العقليّة قد تؤخذ عن الصّورة الموجودة كما يستفاد من السّماء بالرّصد و الحس صورتها المعقولة، و قد لا يستفاد الصّورة المعقولة من الموجود، بل ربّما يكون الأمر بالعكس من ذلك، كصورة بيت أبدعها البنّاء أوّلا في ذهنه، ثم تصير تلك الصّورة العقولة علّة محرّكة لأعضائه إلى أن يوجدها في الخارج، فليست تلك الصّورة وجدت فعقلت بل عقلت فوجدت.
و لمّا كانت نسبة جميع الأشياء الممكنة إلى اللَّه تعالى نسبة المصنوع إلى النّفس الصّانعة لو كانت تامّة الفاعليّة، فقياس عقل واجب الوجود للأشياء هو قياس افكار للعلوم التي نستنبطها ثم نوجدها في الخارج، من حيث إنّ المعقول منها سبب للموجود و الفرق بين الأمرين أنّنا لكوننا ناقصين في الفاعليّة، نحتاج في أفاعيلنا الاختياريّة إلى انبعاث شوق، و استخدام قوّة محرّكة، و استعمال آلة تحريكيّة من العضلات و الرّباطات و غيرها، ثم إلى انقياد مادة لقبول تلك الصّورة، و الأول تعالى لكونه تامّ الفاعليّة لا يحتاج في فاعليّته إلى أمر خارج عن ذاته بل إنّما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون، فانه يعقل ذاته و ما يوجب ذاته، و يعلم من ذاته كيفيّة الخيريّة في الكلّ فيتبع صور الموجودات الخارجة الصّور المعقولة عنده على نحو النّظام المعقول عنده و على حذائه، فالعالم الكنائي بازاء العالم الرّبوبي، و العالم الرّبوبي عظيم جدّا.
و أيضا لو كان الباري يعقل الأشياء من الأشياء، لكانت وجوداتها متقدّمة على عاقليته لها، فلا يكون واجب الوجود، و قد سبق أنّه واجب الوجود من جميع الوجوه، و يكون في ذاته و قوامه أن يقبل ماهيات الأشياء، و كان فيه عدمها باعتبار ذاته، فيكون في ذاته جهة إمكانية، و لكان لغيره مدخل في تتميم ذاته، و هو محال، فيجب أن يكون من ذاته ما هو الأكمل، لا من غيره، فقد بقى أن يكون علمه بالممكنات حاصلا له تعالى قبل وجودها، لا من وجودها، هذا حاصل كلام المشّائين في علم اللَّه بما سواه انتهى كلامه.
أقول: هذا القول لمّا كان فاسدا جدا شنع عليه المتأخرون و منهم المحقّق الطوسي في شرح الاشارات حيث قال في محكي كلامه: لا شك في أنّ القول بتقرير لوازم الأوّل في ذاته تعالى، قول بكون الشّي ء الواحد فاعلا و قابلا، و قول بكون الأوّل موصوفا بصفات غير إضافية و لا سببيّة، و قول بكونه محلا لمعلولاته الممكنة المتكثرة، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا اه.
و قيل في المقام أقوال اخر يرتقى إلى ستّة، و لكنّها كلها غير خالية عن الفساد، و النّقض و الايراد، و من أراد الاطلاع عليها فليراجع إلى كتاب المبدأ و المعاد، و السّفر الالهي من الاسفار للصّدر الشيرازي، و باضافة ما اختاره هناك إليها يرتقى الأقوال إلى سبعة هذا.
و الذي ينبغي أن يصار إليه هو أن يقال: لمّا ثبت كون الواجب عالما بذاته، لزم كونه عالما بجميع الموجودات، فانّ ذاته علة موجبة لجميع ما عداه، و مبدء لفيضان كلّ إدراك حسيّا كان أو عقليّا، و منشأ لكل ظهور، ذهنيّا كان أو عينيّا، إمّا بدون واسطة، أو بواسطة هي منه، و العلم التّام بالعلة الموجبة يستلزم العلم التّام بمعلولها، لأنّ المعلول من لوازم ذات العلة التّامة، فيلزم من تعقلها بكنهه، أو بالوجه الذي ينشأ منه المعلول: تعقله، فلزم كونه عالما بجميع المعلومات، و أما معرفة كنه هذا الحضور و العلم فلا سبيل لنا إليه كما لا سبيل لنا إلى إدراك ذاته.
و لنعم ما قال المدقق السّابق في كتاب المبدأ، حيث قال: و أمّا كيفيّة علمه بالأشياء بحيث لا يلزم منه الاتّحاد، و لا كونه فاعلا و قابلا، و لا كثرة في ذاته بوجه غير ذلك، تعالى عنه علوّا كبيرا، فاعلم أنّها من أغمض المسائل الحكميّة، قل من يهتدي إليه سبيلا، و لم يزل قدمه فيها، حتّى الشّيخ الرّئيس«» أبي علي بن سينا، مع براعته و ذكائه الذي لم يعدل به ذكاء، و الشّيخ الالهي صاحب الاشراق مع صفاء ذهنه و كثرة ارتياضه بالحكمة، و مرتبة كشفه، و غيرهما من الفايقين في العلم، و إذا كان هذا حال أمثالهم فكيف من دونهم من اسراء عالم الحواس، مع غشّ الطبيعة و مخالطتها.
و لعمرى إن إصابة مثل هذا الأمر الجليل على الوجه الذي يوافق الاصول الحكميّة، و يطابق القواعد الدّينيّة، متبرّءا عن المناقشات، و منزّها عن المؤاخذات، في أعلى طبقات القوى الفكريّة البشريّة، و هو بالحقيقة تمام الحكمة الحقّة الالهية انتهى.
أقول: و لصعوبة ذلك لم يأتوا عليهم السلام في الجواب عن هذه المسألة في الأحاديث السّالفة و غيرها مع كثرتها، إلّا بكلام مجمل من غير تفصيل، لما رأوا قصور الأفهام و المدارك عن دركها«» تفصيلا، فسبحان من عجز عن إدراك ذاته الأفهام و تحيّر في بلوغ صفاته عقول الأنام.
الترجمة
ايجاد كرد مخلوقات را ايجاد كردنى، بدون مادّة يا بدون سبق مثال از غير او يا از خود او، و بيافريد آنها را آفريدنى نه بجهت علت و غرضى از قبيل استيناس و رفع استيحاش، در حالتى كه آن آفريدن بى فكرى بود كه جولان داده باشد آن را، يا مصروف بدارد آن فكر را به مخلوقات، و بدون تجربه كه فايده گرفته باشد از آن، و بدون حركت ذهنيّة و بدنيّة كه احداث نموده باشد آن را، و بى تردّد نفسى كه مضطرب بوده باشد در آن، گردانيد اشياء را از براى وقت هاى آنها، و اصلاح كرد در ميان مختلفات آنها، و مطبوع نمود طبايع أشياء را در اشياء، و لازم غير منفك گردانيد آن طبايع را به اشخاص خود، عالم بود به اشياء پيش از آفريدن آنها، و احاطه كننده بود به اطراف آن ها و نهايات آن ها، و دانا بود بنفوس آنها و جوانب آنها.
الفصل الثامن
ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء، و شقّ الأرجاء، و سكائك الهواء، فأجرى فيها ماء متلاطما تيّاره، متراكما زخّاره، حمله على متن الرّيح العاصفة، و الزّعزع القاصفة، فأمرها بردّه، و سلّطها على شدّه، و قرنها إلى حدّه، الهواء من تحتها فتيق، و الماء من فوقها دقيق، ثمّ أنشأ سبحانه ريحا أعقم مهمّا، و أدام مربّها، و أعصف مجريها، و أبعد منشأها، أمرها بتصفيق السماء الزّخار، و إثارة موج البحار، فمخضته مخض السّقاء، و عصفت به عصفها بالفضاء، تردّ أوّله على آخره، و ساجيه على ماثره، حتّى عبّ عبابه، و رمى بالزّيد ركامه، فرفعه في هواء منفتق، و جوّ منفهق، فسوّى منه سبع سموات، جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا، و علياهنّ سقفا محفوظا، و سمكا مرفوعا، بغير عمد يدعمها، و لا دسار ينتظمها، ثمّ زيّنها بزينة الكواكب، و ضياء الثّواقب، و أجرى فيها سراجا مستطيرا، و قمرا منيرا، في فلك دائر، و سقف سائر، و رقيم مآثر.
اللغة
(الفتق) الشّق و الفصل (و الاجواء) جمع جوّ و هو ما بين السّماء و الأرض، و قيل الفضاء الواسع (و الارجاء) جمع رجا بالقصر و هي النّاحية (و السكائك) جمع سكاكة مثل ذوابة و ذوائب، و هي الهواء الملاقي عنان السّماء كالسّكاك تقول: لا أفعل ذلك و لو نزوت في السّكاكة، قيل: و في لسان الحكمة عبارة عن الطبقة السّابعة من الهواء، و ربّما فسّرت بالهواء المطلق، و يحتاج حينئذ إلى التّأويل لئلّا يلزم إضافة الشّي ء إلى نفسه.
و اصل (اللّطم) الضّرب على الوجه بباطن الرّاحة، و تلاطم الأمواج: ضرب بعضها بعضا كأنّه يلطمه (و التيّار) الموج و قيل: شدّة الجريان، و هو فيعال، أصله تيوار، فاجتمعت الواو و الياء فادغم بعد القلب، و بعضهم جعله من تير، فهو فعال، و الرّمل (المتراكم) الذي بعضه فوق بعض (و الزّخار) مبالغة في الزاخر يوصف به البحر يقال: بحر زاخر أى طام ممتلى (و المتن) الظهر (و العاصفة) الشّديدة الهبوب و ريح (زعزع) و زعزعان و زعزاع إذا كانت تزعزع الاشياء و تحرّكها بشدّة.
(و القاصفة) من القصف، يقال: قصف الرّعد و غيره قصيفا، إذا اشتدّ صوته (و سلّطته) على الشّي ء تسليطا مكّنته، فتسلط أى تحكم و تمكن (و الدّفيق) المندفق (أعقم مهبّها) أى جعل هبوبها عقيما، و الرّيح العقيم خلاف اللّاقح و هي التي لا تثير سحابا، و لا تلقح شجرا (و المهبّ) مصدر بمعنى الهبوب، او اسم مكان و (أدام مربّها) أى جعل ملازمتها دائمة، و هو من الأرباب يقال: أربّ بالمكان إذا لزم و أقام به و (أعصف مجريها) أى جريانها، أو اسند إلى المحلّ توسّعا.
(و التّصفيق) من صفقه إذا قلبه أو بمعنى الضّرب الذي له صوت، أو من صفق الشّراب إذا حوله ممزوجا من إناء إلى آخر ليصفوا و (الاثارة) من الثوران و هو الهيجان و (المخض) التّحريك، يقال: مخضت اللّبن إذا حركته لاستخراج ما فيه من الزّبد و (السّقاء) مثل كساء ما يوضع فيه الماء و اللّبن و نحوهما من جلد الغنم و نحوه ليخرج زبده، و هو قريب من القربة و البحر (السّاجي) السّاكن.
و (مار) الشّي ء مورا من باب قال، تحرّك بسرعة و (المآثر) المتحرّك و (عب) الماء ارتفع و (عباب) كغراب معظم الماء و كثرته و طغيانه (و الرّكام) بالضمّ المتراكم و (الجوّ المنفهق) المفتوح الواسع و (المكفوف) الممنوع من السّقوط و السّيلان و (سقف) البيت عرشه و (السّمك) البناء، قال سبحانه: رفع سمكها، أى بنائها.
و (العمد) بفتحتين جمع عماد و هو ما يسند به (و دعم) الشّي ء دعما من باب علم إذا مال فأقامه، و منه الدّعامة بالكسر، و ما يستند به الحائط إذا مال يمنعه من السّقوط و (الدسار) ككتاب المسمار و الحبل الذي يشدّ به الأخشاب و يرتّب و (الثواقب) جمع الثاقب، قال سبحانه: النّجم الثاقب، و سيأتي تفسيرها و اختلاف الأقوال فيها.
و (المستطير) المنتشر يقال: استطار الفجر إذا انتشر ضوئه و (قمرا منيرا) من أنار الشّي ء إذا أضاء، و قيل: إن النّور أقوى من الضياء، لقوله سبحانه:
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و ربّما يفرق بأن النّور الذاتي يسمّى ضياء، و ما بالعرض يسمّى نورا اخذا من قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً (و الرّقيم المائر) هو اللوح المتحرك، كنى به عن الفلك لأنّه مسطّح كاللوح، و في المجمع: و الرّقيم من أسماء الفلك، سمّي به لرقمه بالكواكب، كالثّوب المنقوش.
الاعراب
الأصل في كلمة ثمّ العاطفة أن تكون مفيدة للتّشريك و التّرتيب و المهلة، و لا يمكن كون ثم في قوله عليه السلام: ثم أنشأ سبحانه فتق الاجواء، على وفق ذلك الأصل، من حيث استلزامها حينئذ خلق الفضاء و السّماوات بعد خلق كلّ شي ء مع التّراخي، كما هو ظاهر، فلا بدّ إمّا من جعلها بمعنى الواو، على حدّ قوله سبحانه: وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى أو من المصير إلى ما ذهب إليه الفرّاء و بعض النّحويين، من تخلّف المهلة و التّرتيب عنها أحيانا، مستدلّا بقول العرف: أعجبني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت امس أعجب، حيث إنّه لا تراخي بين المعطوف و المعطوف عليه، كما لا ترتيب بينهما، و بقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها و قوله سبحانه: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً حيث لا ترتيب في الاية الاولى، و لا تراخي في الثّانية.
و أجاب الشّارح المعتزلي بأن قوله: ثم هو تعقيب و تراخ، لا في مخلوقات الباري سبحانه بل في كلامه عليه السلام، كأنّه يقول: ثم أقول الان بعد قولي المتقدّم: إنّه تعالى أنشأ فتق الأجواء انتهى.
و أنت خبير بما فيه، ضرورة أنّه لا تراخي بين الاخبارين، و الأولى أن يعتذر بذلك عن اشكال افادتها التّرتيب بأن يقول: إنّ ثم في كلامه لترتيب الاخبار، لا لترتيب الحكم، كما اعتذر به جماعة عن الاية الاولى، و استدلوا عليه بالمثال السّابق، و قالوا: إنّ معناه ثم اخبرك بأن ما صنعت أمس أعجب.
و إضافة الفتق و الشّق و السّكائك إلى تالياتها، من قبيل الاضافة بمعنى اللّام، و يحتمل كون إضافة الأوّلين من قبيل إضافة الصّفة إلى الموصوف، أى الأجواء الفاتقه بين السّماء و الارض، و الأرجاء الفاصلة بينهما، و هو الأقرب معنى، لكن الأوّل أنسب بالقواعد الأدبيّة، كما هو ظاهر.
و قوله عليه السلام: متلاطما و متراكما، صفتان لماء، كما أنّ جملة حمله كذلك أو أنّها استينافيّة بيانية، و إلى، في قوله: قرنها الى حدّه، بمعنى اللّام كما في قولهم و الأمر إليك.
و قوله عليه السلام: في فلك دائر، بدل من قوله عليه السلام: فيها، أو حال عن المنصوبين أو ظرف لغو متعلق بقوله منيرا.
المعنى
لما أشار عليه السلام إلى كيفيّة ايجاده سبحانه الخلق في الفصل السّابق إجمالا، أشار إلى كيفيّة الخلقة تفصيلا، فقال عليه السلام: (ثم أنشأ سبحانه فتق الاجواء، و شق الارجاء، و سكائك الهواء) هذه الجملات الثلاث متّحدة المفاد، و جمع الاجواء و الارجاء و السّكائك باعتبار تعدد طبقات الهواء، و قيل: إنّ المراد بالاجواء: هو الفضاء الظاهر على أطراف الأرض، و بالأرجاء: الفضاء المتّصل بأطراف الأرض الذي أدنى من الأوّل، و بالسّكائك الفضاء المرتفع عن الأرض، و كيف كان ففيها دلالة على كون الفضاء مخلوقا، و أمرا موجودا، لأنّ المخلوق لا يكون عدما محضا.
قال الشّارح المعتزلي: و ذلك ليس ببعيد، فقد ذهب إليه قوم من أهل النّظر، و جعلوه جسما لطيفا خارجا عن مشابهة هذه الأجسام، و منهم من جعله مجردا هذا.
و قال العلّامة المجلسي في البحار: المراد بفتق الأجواء ايجاد الأجسام في الأمكنة الخالية، بناء على وجود المكان بمعنى البعد، و جواز الخلاء، أو المراد بالجوّ البعد الموهوم، أو أحد العناصر، بناء على تقدّم خلق الهواء، و قوله عليه السلام: و شقّ الأرجاء كالتّفسير لفتق الأجواء، أو المراد بالأرجاء الافضية و الأمكنة، و بالأجواء عنصر الهواء، و قوله عليه السلام: و سكائك الهواء بالنّصب كما في كثير من النّسخ، معطوف على فتق الأجواء، أى أنشأ سبحانه سكائك الهواء، و الجرّ كما في بعض النّسخ أظهر، عطفا على الأجواء، أى أنشأ فتق سكائك الهواء، انتهى كلامه رفع مقامه.
و في شرح ابن ميثم فان قلت: إنّ الأجواء و الأرجاء و السكائك امور عدميّة، فكيف يصحّ نسبتها إلى الانشاء عن القدرة قلت إن هذه الأشياء عبارة عن الخلاء و الأحياز، و الخلاف في أنّ الخلاء و الحيّز و المكان هل هي امور وجوديّة أو عدميّة مشهور، فان كانت وجوديّة كانت نسبتها إلى القدرة ظاهرة، و يكون معنى فتقها و شقّها شق العدم عنها، و إن كانت عدميّة كان معنى فتقها و شقّها و نسبتها إلى القدرة: تقديرها، و جعلها أحيازا للماء، و مقرّا، لأنّه لما كان تمييزها عن مطلق الهواء و الخلاء بايجاد اللَّه فيها الماء، صار تعيّنها بسبب قدرته، فتصحّ نسبتها إلى إنشائه، فكانه سبحانه شقّها و فتقها بحصول الجسم فيها و هذا قريب ممّا ذكره المجلسي أوّلا.
و الحاصل أنّه سبحانه أنشأ أحيازا و أمكنة خالية (فأجرى فيها ماء متلاطما تيّاره) أى موجه و لجّته (متراكما زخاره) أى طمومه و امتلائه، و لمّا خلق سبحانه الماء (حمله على متن الرّيح العاصفة) الشديدة العصف و الهبوب (و الزّعزع القاصفة) الشّديدة الصّوت، فاستقلّ الماء عليها و ثبت، و صارت مكانا له، و المراد بهذه الرّيح إمّا المتحرّك من الهواء الذى ذكره عليه السلام أوّلا على ما هو المشهور، أو غيره: كما يستفاد من رواية الاحتجاج، عن هشام بن الحكم، عن الصّادق عليه السلام في جواب الزّنديق، قال عليه السلام: و الرّيح على الهواء، و الهواء تمسكه القدرة، و على هذا فيمكن أن تكون الرّيح مقدّمة في الخلقة على الهواء، أو متأخّرة عنه، أو مقارنة له.
ثم لمّا كان الماء المحمول على الرّيح جاريا في الهواء على مقتضى طبعه (أمرها) سبحانه (بردّه، و سلطها على شدّه، و قرنها إلى حدّه) أى أمر الرّيح أن تحفظ الماء و تردّه، بالمنع عن الجرى الذي سبقت الاشارة إليه في قوله عليه السلام: فأجرى فيها ماء اه، فكان قبل الرد قد خلى و طبعه، ثم أمر الرّيح بردّه، و قوّاها على ضبطه، كالشّي ء المشدود، و جعلها مقرونة لحدّة، أى محيطة بنهايته، و عن الكيدري، قوله فأمرها، مجاز، لأن الحكيم لا يأمر الجماد.
و في البحار و لعلّ المراد بالأمر هنا، الأمر التكويني، كما في قوله: كن فيكون، و قوله كونوا قردة.
ثم أشار عليه السلام إلى كمال قدرته سبحانه بقوله: (الهواء من تحتها فتيق) أى مفتوح منبسط من تحت الرّيح الحاملة للماء (و الماء من فوقها دفيق) أى مصبوب مندفق.
قال المجلسي: و الغرض أنّه سبحانه بقدرته ضبط الماء المصبوب بالرّيح الحاملة له، كما ضبط الرّيح بالهواء المنبسط، و هو موضع العجب (ثم أنشأ سبحانه) فوق ذلك الماء (ريحا) اخرى (أعقم مهبّها) أى جعل هبوبها عقيما، و في كثير من النّسخ اعتقم مهبها، بالتاء، فاللّازم حينئذ رفع مهبها، للزوم الفعل فالمعنى حينئذ صار مهبها عقيما لا يلقح، من العقيم الذي لا يولد له ولد، أو صار مهبّها ضيّقا، لأنّ الاعتقام هو أن تحفر البئر، فاذا قربت من الماء احتفرت بئرا صغيرا بقدر ما تجد طعم الماء، فان كان عذبا حفرت بقيتها، فاستعير هنا من حيث ضيق المهب كما يحتفر البئر الصّغير.
و أما ما قيل«» من أنّ معنى اعتقم مهبّها: جعل مهبّها عقيما، ففاسد، لأنّه إنّما يصحّ لو كان اعتقم متعديا (و أدام مربّها) أى ملازمتها لتحريك الماء، و عن بعض النّسخ مدبها بالدّال، أى حركتها. (و أعصف مجريها) أى جريانها أو اسند إلى المحلّ مجازا، من قبيل سال الميزاب (و أبعد منشأها) أى جعل مبدئها بعيدا لا يعرف، ثم سلّطها على ذلك الماء.
(فامرها بتصفيق الماء الزّخار) أى تحويله و قلبه و ضرب بعضه ببعض بشدّة (و إثارة موج البحار) و تهييجه (فمخضته) مثل (مخض السّقاء) الذي يمخض فيه اللبن ليخرج ما فيه من الزّبد و التّشبيه للاشارة إلى شدّة التّحريك (و عصفت به) أى بهذا الماء العظيم مثل (عصفها بالفضاء) أى عصفا شديدا، لأنّ العصف بالفضاء يكون أشدّ من حيث عدم المانع (تردّ أوّله على آخره و ساجيه على ماثره) أى ساكنه على متحركه (حتّى عب عبابه) أى ارتفع معظمه (و رمى بالزّبد ركامه) أى متراكمه و ما اجتمع منه بعضه فوق بعض.
(فرفعه في هواء منفتق) أى رفع اللَّه ذلك الزّبد في هواء مفتوق مفتوح (و جوّ منفهق) أى متّسع و منفتح (فسوّى منه سبع سموات) أى خلقهنّ من الزّبد، و عدلهن مصونة من العوج و التّهافت، و السّبع لا ينافي التسع التي أثبتوها أصحاب الارصاد، إذ الثّامن و التّاسع مسميان في لسان الشّرع بالعرش و الكرسي، و سيأتي تحقيق الكلام فيها (جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا) أى موجا ممنوعا من السّيلان إمّا بامساكه بقدرته أو بأن خلق حوله و تحته جسما جامدا يمنعه عن السّيلان و الانتشار، أو بأن أجمدها بعد ما كانت سيّالة.
و كون السماء السّفلى موجا إما بعنوان الحقيقة، حسبما اختاره قوم، مستدلا بمشاهدة حركة الكواكب المتحيّرة، و كونها مر تعدة مضطربة في مرئى العين.
قالوا في محكي كلامهم في شرح المعتزلي إنّ المتحيّرة متحرّكة في أفلاكها و نحن نشاهدها بالحسّ البصرى و بيننا و بينها أجرام الأفلاك الشّفافة، و نشاهدها مر تعدة حسب ارتعاد الجسم السّاير في الماء، و ما ذاك لنا إلّا لأنّ سماء الدّنيا ماء متموّج، فارتعاد الكواكب المشاهدة حسّا إنّما هو بحسب ارتعاد أجزاء الفلك الأدنى.
ثم قالوا فأمّا الكواكب الثّابتة فانّما لم نشاهدها كذلك، لأنّها ليست بمتحرّكة، و القمر و إن كان في الدّنيا، إلّا أنّ فلك تدويره من جنس الأجرام الفوقانيّة، و ليس بماء متموّج كالفلك الممثّل التّحتاني، و كذلك القول في الشّمس.
أقول: و ما ذكروه في الشّمس و القمر غير خال عن الاشكال و الفساد، كما هو واضح فافهم.
و إما بعنوان التّشبيه و هو الأظهر، قال الكيدرى: شبّه السّماء الدنيا بالموج لصفائها و ارتفاعها، أو اراد أنها كانت في الأوّل موجا ثم عقدها، و قال الشّارح البحراني و استعار لفظ الموج للسّماء، لما بينهما من المشابهة في العلوّ و الارتفاع، و ما يتوهّم من اللّون، و يأتي فيه وجه آخر من العلامة المجلسي طاب ثراه (و علياهنّ سقفا محفوظا) عن النقض و الهدم و السّقوط و الخرق إلّا بأمره.
قال البحراني: أى من الشّياطين، ثم نقل عن ابن عبّاس كيفيّة حجب الشّياطين عن السّماوات، و أنّهم كانوا يدخلونها، و يتخبرون أخبارها إلى زمن عيسى عليه السلام، فلمّا ولد منعوا من ثلاث سماوات، فلمّا ولد محمد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم منعوا من جميعها، إلى آخر ما روى.
و قال المحدث العلّامة المجلسي طاب ثراه بعد أن حكى عن أكثر الشّارحين كون الحفظ بالنّسبة إلى الشّياطين ما لفظه: و هو لا يناسب العليا، بل السّفلى، فيناسب أن يكون المراد بقوله تعالى: وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً السماء العليا انتهى أقول: و أنت خبير بما فيه، لأن محفوظيّة السّفلى إنّما هو بعد ولادة النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلم كما دل عليه رواية ابن عبّاس و تظافرت به أخبار أهل البيت عليهم السّلام، و أمّا السّماء العليا فلما لم يختص محفوظيّتها بوقت دون وقت، بل كانت الشّياطين ممنوعين منها قبل ولادته صلّى اللَّه عليه و آله و سلم أيضا حسبما يستفاد من الأخبار، فهي أولى و أنسب بأن تتّصف بالحفظ.
و بما ذكرنا ظهر ما في كلام البحراني السّابق أيضا، حيث إنّ سوق كلامه يفيد أن ذكره لرواية ابن عبّاس للاستشهاد به على مدّعاه من كون الحفظ في كلامه عليه السلام بالنّسبة إلى الشّياطين، مع أنّها غير وافية به، إذ حاصل الرّواية أنّ حفظ السّماوات إنّما حصل بعد الولادة، و هذا مما لا نفع فيه، و إنما المثمر إقامة الدّليل على تخصيصه عليه السلام العليا بخصوصها بالحفظ كما عرفت، فافهم جيّدا هذا.
و قال المجلسي: يخطر بالبال وجه آخر و هو أن يكون المراد أنه تعالى جعل الجهة السّفلى من كلّ من السّماوات موّاجة متحرّكة واقعا أو في النّظر، و الجهة العليا منها سقفا محفوظا تستقرّ عليه الملائكة، و لا يمكن الشّياطين، خرقها، فيكون ضمير زينها و ساير الضّماير راجعة إلى المجموع، فيناسب الاية المتقدّمة و قوله سبحانه: وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ و قد يمرّ بالخاطر وجه آخر، و هو أنّه عليه السلام شبّه السّماء الدّنيا بالموج المكفوف، لكون الحركة الخاصّة للقمر أسرع من جميع الكواكب، فكأنّه دائما في الموج، و مع ذلك لا تسقط، و وصف العليا بالمحفوظيّة، لأنّه أبطأها بالحركة الخاصّة، فكانّها محفوظة ثابتة، و على الطريقة السّابقة يمكن أن يكون المراد بالسّفلى من كلّ منها خوارج مراكزها و تداويرها، و بالعليا منها ممثلاتها، فالاول موّاجة لسرعة حركتها، و الثّواني محفوظة لبطوئها، لكن هذان الوجهان بعيدان عن لسان أهل الشّرع و مقاصد أهله انتهى كلامه رفع مقامه.
(و سمكا مرفوعا) أى سقفا أو بناء مرفوعا و يجي ء بمعنى الرفع قال الشّاعر: إنّ الذى سمك السماء بنى لنا أى رفعه، و هو غير مناسب للمقام، و الأنسب ما قلناه، و هو أحد معانيه كما في القاموس و غيره، و الضّميران المنصوبان في قوله عليه السلام: (بغير عمد يدعمها، و لا دسار ينتظمها) راجعان إلى العليا بملاحظة القرب، أو الى السّفلى بقرينة الضّمير الاتي في قوله: ثم زيّنها، الرّاجع إليها لما سيأتي، أو إلى السّماوات، و هو الأظهر ليكون أوفق بقوله سبحانه: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها و اختلف المفسّرون في أنّه هل هناك عمد غير مرئي أولا عمد أصلا، فعن ابن عبّاس و الحسن و قتادة و الجبائي و أبي مسلم الثّاني، و أن المراد رفعها بغير عمد و أنتم ترونها كذلك، قال ابن عبّاس: يعنى ليس من دونها دعامة يدعمها، و لا فوقها علاقة تمسكها، قال الطبرسي و هو الأصحّ، و عن مجاهد و عزي إلى ابن عبّاس أيضا الأوّل: و أن ترونها من نعت العمد بغير عمد مرئية.
أقول: و يشهد به ما عن القمّي و العياشي عن الرضا عليه السلام، قال فثم عمد و لكن لا ترونها.
قال الفخر الرّازي: إنّ العماد ما يعتمد عليه، و قد دللنا على أنّ هذه الأجسام إنّما بقيت واقفة في الجوّ العالى بقدرة اللَّه فحينئذ يكون عمدها هو قدرة اللَّه، فصحّ أن يقال: رفع السّماوات بغير عمد ترونها، أى لها عمد في الحقيقة إلّا أن تلك العمد هي إمساك اللَّه و حفظه و تدبيره، و إبقائه إيّاها في الجوّ العالي و أنتم لا ترون ذلك التّدبير، و لا تعرفون كيفيّة ذلك الامساك انتهى (ثم زيّنها بزينة الكواكب) أى السّماء السّفلى ليكون أوفق بقوله سبحانه: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ و يحتمل رجوعه إلى السّماوات كما هو الأظهر، و تزيين البعض تزيين الجميع.
قال في الكشاف في تفسير الاية: الدّنيا القربى منكم، و الزينة مصدر كالنّسبة أو اسم لما يزان به الشّي ء كالليقة لما تلاق به الدّواة، و يحتملهما قوله: بزينة الكواكب، فان أردت المصدر فعلى إضافته إلى الفاعل، أى بان زانتها الكواكب«» و أصله بزينة الكواكب، أو على إضافته إلى المفعول، أى بأن زان اللَّه الكواكب و حسّنها، لانّها إنّما زيّنت السّماء بحسنها في أنفسها، و أصله بزينة الكواكب و إن أردت الاسم فللاضافة وجهان أن تقع الكواكب بيانا للزينة«»، لأنّ الزينة مبهمة في الكواكب و غيرها ممّا يزان به، و أن يراد به ما زينت به الكواكب انتهى و كون الكواكب زينة إمّا لضوئها كما عن ابن عبّاس، أو للأشكال المختلفة الحاصلة كالشكل الثّريا و بنات النّعش و الجوزاء و غير ذلك، أو لاختلاف أوضاعها بحركتها، أو لرؤية النّاس إيّاها مضيئة في الليلة الظلماء، و يوضحه قوله تعالى: بمصابيح، في الموضع الاخر، و إمّا محال الكواكب فستطلع عليه إن شاء اللَّه (و ضياء الثّواقب) المراد بها إمّا الكواكب فيكون كالتّفسير لزينة الكواكب و الكواكب ثواقب أى مضيئة كأنّها تثقب الظلمة بضوئها، أو الشّهب التي ترمى بها الشّياطين، قال سبحانه: النّجم الثّاقب.
قيل: وصف بكونه ثاقبا لوجوه: أحدها أنّه يثقب الظلام بضوء ينفذ فيه.
و ثانيها أنّه يطلع من المشرق نافذا في الهواء كالشّي ء الذي يثقب الشّي ء.
و ثالثها أنّه الذي يرمى به الشّيطان فيثقبه أى ينفذ فيه و يحرقه.
و رابعها قال الفرّاء: هو النجم المرتفع على النّجوم و العرب تقول للطائر إذا لحق ببطن السماء ارتفاعا: فقد ثقب.
أقول: و هنا وجه خامس و هو أن وصفه به لكونه مضيئا كأنّه يثقب الأفلاك بضوئه.
و يشهد به ما عن الخصال عن الصّادق عليه السلام، أنّه قال لرجل من أهل اليمن: ما زحل عندكم في النّجوم فقال اليماني: نجم نحس، فقال عليه السلام: لا تقولن هذا، فانّه نجم أمير المؤمنين عليه السلام، و هو نجم الأوصياء، و هو النّجم الثّاقب الذي قال اللَّه في كتابه، فقال له اليماني فما يعني بالثاقب قال عليه السلام: لأن مطلعه في السّماء السّابعة، و أنّه ثقب بضوئه حتّى أضاء في السّماء الدّنيا، فمن ثم سمّاه اللَّه النّجم الثّاقب.
(فأجرى) و في بعض النّسخ، و أجرى بالواو (فيها سراجا مستطيرا) أى منتشر الضوء (و قمرا منيرا) و المراد بالسّراج الشمس فانّها سراج لمحفل العالم، قال سبحانه في سورة الفرقان: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً، وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً و في سورة نوح أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً، وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً و تشبيه الشّمس بالسّراج من حيث إنّها تزيل ظلمة اللّيل عن وجه الأرض كما يزيلها السّراج عمّا حوله.
قيل: كان الميل عبارة عن ظل الأرض، و كانت الشّمس سببا لزواله، فكان شبيها بالسّراج في ارتفاع الظلمة به، و الضمير في قوله: فيها، راجع الى السماوات كما هو الأظهر، أو إلى السّفلى كما عزّاه المجلسي طاب ثراه إلى الأكثر، و يحتاج حينئذ إلى نوع تأويل بالنّسبة إلى جريان الشّمس بناء على كونها في السّماء الرّابعة.
(في فلك دائر) قال العلّامة المجلسي (قد): الظرف إمّا بدل عن فيها، فيفيد حركة السّفلى أو العليا أو الجميع على تقادير ارجاع الضّمير بالحركة اليوميّة أو الخاصة أو الأعمّ، و إمّا في موضع حال عن المنصوبين فيمكن أن يكون المراد بالفلك الدّائر: الأفلاك الجزئيّة (و سقف سائر و رقيم مائر) قال العلّامة المجلسي: هاتان الفقرتان أيضا تدلّان على حركة السّماء لكن لا تنافي حركة الكواكب بنفسها أيضا هذا.
و ينبغي تذييل المقام بامور مهمة
الاول انّه لم يستفد من كلامه عليه السلام أن الصّادر الأوّل ما ذا
و قد اختلف فيه كلام العلماء كالأخبار.
فالحكماء يقولون: أوّل المخلوقات العقل الأوّل، ثمّ العقل الأوّل خلق العقل الثّانى و الفلك الأوّل و هكذا إلى أن انتهى إلى العقل العاشر، فهو خلق الفلك التّاسع و هيولى العناصر، و جماعة منهم يقولون: بأنّ تلك العقول وسايط لايجاده تعالى، و لا مؤثر في الوجود إلّا اللَّه، و كلّ ذلك مخالف للآيات و الأخبار.
و أمّا غيرهم فقيل: أولها الماء، و يدل عليه رواية الرّوضة الآتية عن أبي جعفر عليه السلام في جواب الشّامي، و نقل عن تاليس الملطي و هو من مشاهير الحكماء أنّه بعد أن وحّد الصّانع الأوّل للعالم و نزهه قال: لكنّه أبدع العنصر الذي فيه صور الموجودات و المعلومات كلها و سمّاه المبدع الأوّل، ثم نقل عنه إنّ ذلك العنصر هو الماء، قال: و منه أنواع الجواهر كلها من السّماء و الأرض و ما بينهما، و هو علّة كلّ مبدع، و علّة كلّ مركب من العنصر الجسماني، فذكر أنّ من جمود الماء تكوّنت الأرض، و من انحلاله تكوّن الهواء، و من صفوته تكوّنت النّار، و من الدّخان و الأبخرة تكوّنت السّماء، قال البحراني: و قيل إنّه اخذ ذلك من التّوراة، انتهى.
و قيل: أوّل المخلوقات الهواء، و روي عن عليّ بن ابراهيم في تفسيره، قال المجلسي قده، و الظاهر أنّه أخذه من خبر، و لكنّه لا تكافؤ الأخبار الكثيرة المسندة، و مع صحّته يمكن الجمع بحمل أوّليّة الماء على التّقدم الاضافي بالنّسبة إلى الأجسام المشاهدة المحسوسة التي يدركها جميع الخلق، فاذا الهواء ليس منها، و لذا أنكر وجوده جماعة.
و قيل: أول المخلوقات النّار و في بعض الأخبار انّ أوّل ما خلق اللَّه النّور كما في العيون و العلل في خبر الشّامي عن الرّضا عليه السلام أنه سأل رجل من أهل الشّام أمير المؤمنين عليه السلام عن مسائل، فكان فيما سأله ان سأله عن أوّل ما خلق اللَّه قال عليه السلام: خلق النّور، الحديث.
و في بعضها نور النّبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم، و في بعضها نوره مع أنوار الائمة عليهم السلام كما في رواية جابر، قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم: أوّل ما خلق اللَّه نوري، ففتق منه نور علي عليه السلام ثم خلق العرش و اللوح و الشّمس و ضوء النّهار و نور الأبصار و العقل و المعرفة الخبر.
و في بعض الأخبار العاميّة أوّل ما خلق اللَّه روحي، و في بعضها أيضا أوّل ما خلق اللَّه العقل، و في بعضها أوّل ما خلق اللَّه القلم.
أقول: و يمكن الجمع بينها، بأن تكون أوّلية الماء بالنّسبة إلى العناصر و الأفلاك، و أوّلية القلم بالنّسبة إلى جنسه من الملائكة، و باوّليّة نور النبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلم و روحه الأوليّة الحقيقيّة، بل يمكن أن يقال: إنّ المراد بالعقل و النّور و القلم في تلك الأخبار هو نوره سلام اللَّه عليه.
قال بعض العارفين«» في شرح الحديث الأوّل من اصول الكافي و هو ما رواه عن أبي جعفر عليه السلام: قال: لمّا خلق اللَّه العقل استنطقه ثم قال له: أقبل، فأقبل ثم قال له: أدبر، فأدبر الحديث ما لفظه.«» اعلموا أيّها الاخوان السّالكون إلى اللَّه بقدم العرفان، أن هذا العقل أول المخلوقات و أقرب المجعولات إلى الحقّ الأوّل و أعظمها، و أتمّها و ثاني الموجودات في الموجوديّة، و إن كان الأوّل تعالى لا ثاني له في حقيقته، لأن وحدته ليست عدديّة من جنس الوحدات، و هو المراد فيما ورد في الأحاديث عنه صلّى اللَّه عليه و آله و سلم من قوله في رواية: أوّل ما خلق اللَّه العقل، و في رواية أوّل ما خلق اللَّه نوري، و في رواية أوّل ما خلق اللَّه روحي، و في رواية أوّل ما خلق اللَّه القلم، و في رواية أوّل ما خلق اللَّه ملك كروبيّ، و هذه كلها أوصاف و نعوت لشي ء واحد باعتبارات مختلفة، فبحسب كلّ صفة يسمى باسم آخر، فقد كثرت الأسماء و المسمّى واحد ذاتا و وجودا، إلى أن قال: و هذا الموجود حقيقته حقيقة الرّوح الأعظم المشار إليه بقوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي و قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ و إنّما سمّي بالقلم لأنّه واسطة الحقّ في تصوير العلوم و الحقائق على الألواح النّفسانية القضائية و القدريّة، و لكونه وجودا خالصا عن ظلمة التّجسم و التحجّب، و عن ظلمات النّقايص و الاعدام يسمّى نورا، إذ النّور هو الوجود، و الظلمة هي العدم، و هو ظاهر لذاته مظهر لغيره. و لكونه أصل حياة النّفوس العلوية و السّفليّة يسمّى روحا و هو الحقيقة المحمدية عند أعاظم الصّوفيّة و محقّقيهم، لكونه كمال وجوده الذي منه يبتدء و إليه يعود انتهى كلامه ملخصا.
فقد تحقّق ممّا ذكره، و ما ذكرناه أنّ الصّادر الأوّل هو نور النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلم و قد استفاض به الأخبار عن النّبي و أهل البيت عليهم السّلام.
فمنها ما في البحار عن الكافي باسناده عن محمّد بن سنان، قال كنت عند أبي جعفر الثّاني عليه السلام، فاجريت اختلاف الشّيعة، فقال يا محمّد إنّ اللَّه تبارك و تعالى لم يزل متفرّدا بوحدانيّته، ثم خلق محمّدا و عليا و فاطمة فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء و أشهدهم خلقها و أجرى طاعتهم عليها و فوّض امورها إليهم، فهم يحلّون ما يشاءون، و يحرّمون ما يشاءون، و لن يشاءوا إلّا أن يشاء اللَّه تبارك و تعالى، ثمّ قال يا محمّد: هذه الدّيانة التي من تقدّمها مرق، و من تخلّف عنها محق، و من لزمها لحق، خذها إليك يا محمّد.
و منها ما في البحار أيضا عن مصباح الأنوار باسناده عن أنس عن النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلم، قال: إنّ اللَّه خلقني و خلق عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين قبل أن يخلق آدم، حين لاسماء مبنيّة و لا أرض مدحيّة و لا ظلمة و لا نور و لا شمس و لا قمر و لا جنّة و لا نار، فقال العبّاس: فكيف كان بدو خلقكم يا رسول اللَّه فقال يا عمّ: لمّا أراد اللَّه خلقنا تكلّم بكلمة خلق منها نورا، ثم تكلم بكلمة اخرى فخلق منها روحا، ثم خلط النّور بالرّوح فخلقني و خلق عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين، فكنّا نسبّحه حين لا تسبيح، و نقدّسه حين لا تقديس.
فلما أراد اللَّه أن ينشأ خلقه فتق نوري فخلق منه العرش، فالعرش من نوري، و نوري من نور اللَّه، و نوري أفضل من نور العرش.
ثم فتق نور أخي عليّ فخلق منه الملائكة، فالملائكة من نور علي، و نور عليّ من نور اللَّه، و علي أفضل من الملائكة.
ثم فتق نور ابنتي فاطمة فخلق منه السّماوات و الأرض، فالسّماوات و الأرض من نور ابنتي فاطمة، و نور ابنتي فاطمة من نور اللَّه، و ابنتي فاطمة أفضل من السّماوات و الأرض.
ثم فتق نور ولدي الحسن، و خلق منه الشّمس و القمر، فالشّمس و القمر من نور ولدي الحسن، و نور الحسن من نور اللَّه، و الحسن أفضل من الشّمس و القمر.
ثم فتق نور ولدي الحسين، فخلق منه الجنّة و الحور العين، فالجنّة و الحور العين من نور ولدي الحسين، و نور ولدي الحسين من نور اللَّه، و ولدي الحسين أفضل من الجنّة و الحور العين.
و منها ما فيه أيضا عن أبي الحسن البكرى استاد الشّهيد الثّاني طاب ثراه في كتاب الأنوار عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: كان اللَّه و لا شي ء معه، فأوّل ما خلق اللَّه نور حبيبه محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم قبل خلق الماء و العرش و الكرسي و السماوات و الأرض و اللوح و القلم و الجنّة و النّار و الملائكة و آدم و حوّاء بأربعة و عشرين و أربعمائة ألف عام.
فلمّا خلق اللَّه نور نبيّنا محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم بقي ألف عام بين يدي اللَّه عزّ و جلّ واقفا يسبحه و يحمده و الحقّ تبارك و تعالى ينظر إليه و يقول: يا عبدي أنت المراد و المريد و أنت خيرتي من خلقي و عزّتي و جلالي لولاك ما خلقت الأفلاك، من أحبك أحببته، و من أبغضك أبغضته، فتلأ لا نوره و ارتفع شعاعه فخلق اللَّه منه اثنى عشر حجابا.
اولها حجاب القدرة ثم حجاب العظمة ثم حجاب العزّة ثم حجاب الهيبة ثم حجاب الجبروت ثم حجاب الرّحمة ثم حجاب النّبوة ثم حجاب الكبرياء (الكرامة خ) ثم حجاب المنزلة ثم حجاب الرّفعة ثم حجاب السّعادة ثم حجاب الشّفاعة، ثم إنّ الله أمر نور رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلم أن يدخل في حجاب القدرة، فدخل و هو يقول: سبحان العليّ الأعلى، و بقى ذلك اثنا عشر ألف عام.
ثم أمره أن يدخل في حجاب العظمة، فدخل و هو يقول: سبحان عالم السر و أخفى أحد عشر ألف عام.
ثم دخل في حجاب العزّة و هو يقول: سبحان الملك المنّان عشرة آلاف عام.
ثم دخل في حجاب الهيبة و هو يقول: سبحان من هو غني لا يفتقر تسعة آلاف عام.
ثم دخل في حجاب الجبروت و هو يقول: سبحان الكريم الأكرم ثمانية آلاف عام.
ثم دخل في حجاب الرّحمة و هو يقول: سبحان ربّ العرش العظيم سبعة آلاف عام.
ثم دخل في حجاب النّبوة و هو يقول: سبحان ربّك رب العزّة عمّا يصفون ستّة آلاف عام.
ثم دخل في حجاب الكبرياء و هو يقول: سبحان العظيم الأعظم خمسة آلاف عام.
ثم دخل في حجاب المنزلة و هو يقول: سبحان العليم الكريم أربعة آلاف عام.
ثم دخل في حجاب الرّفعة و هو يقول: سبحان ذي الملك و الملكوت ثلاثة آلاف عام.
ثم دخل في حجاب السّعادة و هو يقول: سبحان من يزيل الأشياء و لا يزال ألفي عام.
ثم دخل في حجاب الشّفاعة و هو يقول: سبحان اللَّه و بحمده سبحان اللَّه العظيم ألف عام.
قال الامام عليّ بن أبي طالب عليه السلام: ثم إنّ اللَّه خلق من نور محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم عشرين بحرا من نور، في كلّ بحر علوم لا يعلمها إلّا اللَّه، ثم قال لنور محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم: انزل في بحر العزّ، ثم في بحر الخشوع، ثم في بحر التواضع، ثم في بحر الرّضا، ثم في بحر الوفاء، ثم في بحر الحلم، ثم في بحر التّقى، ثم في بحر الخشية، ثم في بحر الانابة، ثم في بحر العمل، ثم في بحر المزيد، ثم في بحر الهدى، ثم في بحر الصّيام، ثم في بحر الحياء، حتّى تقلب في عشرين بحرا.
فلمّا خرج من ذلك الأبحر قال اللَّه: يا حبيبي و يا سيّد رسلي و يا أول مخلوقاتي و يا آخر رسلي أنت الشّفيع يوم المحشر، فخر النّور ساجدا، فقطرت منه قطرات كان عددها مأئة ألف و أربعة و عشرين ألف قطرة، فخلق اللَّه من كلّ قطرة من نوره نبيّا من الأنبياء.
فلمّا تكاملت الأنوار صارت تطوف حول نور محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم كما تطوف الحجاج حول بيت اللَّه الحرام، و هم يسبحون اللَّه و يحمدونه و يقولون: سبحان من هو عالم لا يجهل، سبحان من هو حليم لا يعجل، سبحان من هو غني لا يفتقر.
فناداهم اللَّه تعرفون من أنا فسبق نور محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم قبل الأنوار، و نادى أنت اللَّه الذي لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك ربّ الأرباب و ملك الملوك، فاذا بالنّداء من قبل اللَّه الحق أنت صفيّي و أنت حبيبي و خير خلقي امّتك خير امة اخرجت للنّاس.
ثم خلق من نور محمّد جوهرة و قسّمها قسمين، فنظر إلى القسم الأوّل بعين الهيبة فصار ماء عذبا، و نظر إلى القسم الثّاني بعين الشفقة فخلق منه العرش فاستوى على وجه الماء، فخلق الكرسي من نور العرش، و خلق من نور الكرسي اللّوح، و خلق من نور اللّوح القلم، و قال له اكتب توحيدي فبقى القلم ألف عام سكران من كلام اللَّه، فلمّا أفاق قال: اكتب قال: يا رب و ما أكتب قال: اكتب لا إله الا اللَّه محمّد رسول اللَّه فلمّا سمع القلم اسم محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم خرسا جدا و قال: سبحان الواحد القهار سبحان العظيم الأعظم، ثم رفع رأسه من السّجود و كتب لا إله إلا اللَّه محمّد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلم، ثم قال: يا ربّ و من محمّد الذي قرنت اسمه باسمك و ذكره بذكرك قال اللَّه تعالى: يا قلم فلولاه ما خلقتك و لا خلقت خلقي إلّا لأجله فهو بشير و نذير و سراج منير و شفيع و حبيب، فعند ذلك انشق القلم من حلاوة ذكر محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم و قال القلم: السّلام عليك يا رسول اللَّه، فقال اللَّه تعالى: و عليك السّلام منّي و رحمة اللَّه و بركاته، فلأجل هذا صار السّلام سنّة و الرّد فريضة.
ثم قال اللَّه تعالى: اكتب قضائي و قدري و ما أنا خالقه إلى يوم القيامة، ثم خلق اللَّه ملائكة يصلّون على محمّد و آل محمّد و يستغفرون لامّته إلى يوم القيامة، ثم خلق الله من نور محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم الجنّة و زيّنها بأربعة أشياء: التعظيم، و الجلالة، و السخاء، و الامانة، و جعلها لأوليائه و أهل طاعته.
ثم نظر إلى باقي الجوهرة بعين الهيبة، فذابت فخلق من دخانها السّماوات،
منهاج البراعةفي شرح نهج البلاغة(الخوئي)، ج 1 ، صفحه ى 388
و من زبدها الأرضين، فلمّا خلق اللَّه تعالى الأرض صارت تموج بأهلها كالسّفينة فخلق اللَّه الجبال فأرساها بها.
ثم خلق ملكا من أعظم ما يكون في القوّة، فدخل تحت الأرض، ثم لم يكن لقدمي الملك قرار، فخلق اللَّه تعالى صخرة عظيمة و جعلها تحت قدمي الملك، ثم لم يكن للصّخرة قرار، فخلق لها ثورا عظيما لم يقدر أحد أن ينظر إليه لعظم خلقته و بريق عيونه، حتّى لو وضعت البحار كلها في إحدى منخريه ما كانت إلّا كخردلة ملقاة في أرض فلاة، فدخل الثور تحت الصّخرة و حملها على ظهره و قرونه و اسم ذلك الثور لهوتا، ثم لم يكن لذلك الثور قرار، فخلق اللَّه حوتا عظيما و اسم ذلك الحوت بهموت، فدخل الحوت تحت قدمي الثّور فاستقرّ الثّور على ظهر الحوت.
فالأرض كلّها على ظهر الملك، و الملك على الصّخرة، و الصّخرة على الثّور، و الثّور على الحوت، و الحوت على الماء، و الماء على الهواء، و الهواء على الظلمة ثم انقطع علم الخلائق عمّا تحت الظلمة.
ثم خلق اللَّه تعالى العرش من ضيائين: أحدهما الفضل، و الثّاني العدل، ثم أمر الضّيائين فانتفسا بنفسين، فخلق منهما أربعة أشياء: العقل، و الحلم و العلم، و السّخاء.
ثم خلق من العقل الخوف، و خلق من العلم الرّضا، و من الحلم المودّة، و من السّخاء المحبّة، ثم عجن هذه الاشياء في طينة محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم. ثم خلق من بعدهم أرواح المؤمنين من امّة محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم، ثم خلق الشّمس و القمر و النّجوم و اللّيل و النّهار و الضّياء و الظلام و ساير الملائكة من نور محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلم.
فلمّا تكاملت الأنوار سكن نور محمّد تحت العرش ثلاثة و سبعين ألف عام، ثم انتقل نوره إلى الجنّة فبقى سبعين ألف عام، ثم انتقل إلى سدرة المنتهى فبقى سبعين ألف عام، ثم انتقل نوره إلى السّماء السّابعة، ثم إلى السّماء السادسة، ثم إلى السّماء الخامسة، ثم إلى السّماء الرّابعة، ثم إلى السّماء الثّالثة، ثم إلى السّماء الثّانية، ثم إلى السّماء الدّنيا، فبقى نوره في السّماء الدّنيا إلى أن أراد اللَّه أن يخلق آدم الحديث.
أقول: دلالة هذا الحديث على كون نور النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلم أوّل المخلوقات ظاهرة، و أمّا الفقرات الباقية فأكثرها من قبيل المتشابهات، و اللّازم ردّ علم ذلك إلى الائمة عليهم السّلام.
و منها ما رواه أيضا من رياض الجنان باسناده إلى جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال لي يا جابر: كان اللَّه و لا شي ء غيره، و لا معلوم و لا مجهول، فأوّل ما ابتدء من خلق خلقه أن خلق محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلم، و خلقنا أهل البيت معه من نور عظمته، فأوقفنا أظلّة خضراء بين يديه حيث لا سماء و لا أرض و لا مكان و لا ليل و لا نهار و لا شمس و لا قمر، يفصل نورنا من نور ربّنا كشعاع الشّمس من الشّمس، نسبّح اللَّه و نقدّسه و نحمده و نعبده حق عبادته.
ثم بدء اللَّه أن يخلق المكان، فخلقه و كتب على المكان: لا إله إلا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، علي أمير المؤمنين و وصيّه، به أيّدته و نصرته، ثم خلق اللَّه العرش، فكتب على سرادقات العرش مثل ذلك، ثم خلق اللَّه السماوات، فكتب على أطرافها مثل ذلك، ثم خلق اللَّه الجنّة و النّار فكتب عليهما مثل ذلك.
ثم خلق الملائكة و أسكنهم السّماء، ثم خلق الهواء فكتب عليه مثل ذلك ثم خلق الجن و أسكنهم الهواء، ثم خلق الأرض فكتب على أطرافها مثل ذلك، فبذلك يا جابر قامت السّماوات بغير عمد، و ثبتت الأرض.
ثم خلق اللَّه آدم من أديم الأرض إلى أن قال عليه السلام: فنحن أول خلق اللَّه و أوّل خلق عبد اللَّه و سبّحه، و نحن سبب الخلق و سبب تسبيحهم و عبادتهم من الملائكة و الادميين.
و منها ما فيه عنه أيضا عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قلت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلم: أوّل شي ء خلق اللَّه ما هو فقال نور نبيّك يا جابر، خلقه اللَّه، ثم خلق منه كلّ خير الحديث.
إلى غير ذلك من الأخبار ممّا يطلع عليها المتتبّع المجدّ و يأتي بعضها في تضاعيف الكتاب عند شرح بعض الخطب المناسبة لذلك، و اللَّه الموفق.
الثاني
أنّه لم يذكر عليه السلام كيفية خلقة الأرض و لم يعلم أن خلقها هل هو قبل السّماء أو بعدها، و لعلّ عدم ذكره عليه السلام له نظرا إلى أنّ مقصوده عليه السلام إظهار عظمته سبحانه و بيان رشحات قدرته و كماله.
و لما كان أمر عالم الأمر و الملكوت أظهر في الدّلالة على ذلك المقصود و أو في بالنّسبة إلى عالم العناصر و النّاسوت، خصّصها بالذّكر لذلك و إن كان في عالم العنصر و الشّهادة أيضا في نفسه من شواهد الرّبوبيّة و أدلة القدرة ما لا يحيط بها حدّ و لا يضبطها عدّ، بل في جزئي من جزئيات ذلك العالم من الأسرار الالهيّة ما يعجز عنه إدراك القوى البشريّة قال سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و يأتي الاشارة إلى بعض آيات القدرة و آثار التّدبير في الحكمة في عالم العناصر من الأرض و غيرها في شرح خطبة الأشباح، و هي الخطبة التّسعون.
و كيف كان فيشهد بما ذكرنا من عظم ملكوت السّماوات و كونها من أعظم الآيات أنّ الأرض و البحار و الجبال و كلّ جسم من عالم الشّهادة بالاضافة إلى السّماوات كقطرة في بحر، لا بحسب الكمية و المساحة فقط، بل بحسب الكيفيّة أيضا أعني شرافة الوجود و قوّة الفعليّة كما بحسب الكميّة على النّسبة المذكورة.
و لذلك ذكر الامام عليه السلام أمر السّماوات في كثير من كلماته الآتية، و عظم اللَّه أمرها و أمر النّجوم في الآيات القرآنية، فكم من آية ذكرها اللَّه فيها، بل قيل: ما من سورة من الطوال و أكثر القصار إلّا و يشتمل على تفخيمها في مواضع، و كم من قسم أقسم اللَّه بها في القرآن كقوله: وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ، وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ و قوله: وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها، وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها و قوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ،... وَ النَّجْمِ إِذا هَوى ،... فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ فكيف ظنك بما أقسم اللَّه به و أخال الأرزاق إليها، فقال: وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ و أثنى على المتفكرين فيه فقال: وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و أمر بالنظر إليه و التفكر فيه في كثير من الآيات، و ذمّ المعرضين عنه، فقال: وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فاىّ نسبة لجميع البحار و الأرض و الهواء إلى السّمآء، و هذه متغيّرات على القرب و هي صلاب شداد محفوظات إلى أن يبلغ الكتاب أجله، و لذلك سمّاها اللَّه تعالى محفوظا، و قال: وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً و قال: وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ و قال أيضا: وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً و قال: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ ثم إنّ اللَّه زيّنها بمصابيح: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ و بالقمر وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً و بالشّمس وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً و بالعرش رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ و بالكرسي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و باللّوح فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ و بالقلم ن وَ الْقَلَمِ و بالقضاء فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ و بالقدر وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ و بالوحي و الأمر وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها و بالحكمة حيث ذكر أنّ خلقها مشتمل على غايات صحيحة و أغراض عظيمة: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا،... وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا و جعلها أيضا مصعد الأعمال، و مهبط الأنوار، و قبلة الدّعاء، و محل الضّياء و السّناء، و جعل ألوانها أحسن الألوان، و هو المستنير، و أشكالها أحسن الأشكال و هو المستدير، و نجومها رجوما للشّياطين، و علامات يهتدى في ظلمات البرّ و البحر.
وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ و قيّض للشّمس طلوعها، فسهّل معه التّقلب بقضاء الأوطار في الأقطار، و غروبا يصلح معه الهدوّ و القرار في الأكناف لتحصيل الرّاحة و انبعاث القوّة و تنفيذ الغذاء إلى الاعضاء.
و أيضا لو لا طلوع الشّمس لانجمدت المياه، و غلبت البرودة و الكثافة، فاورثت جمود الحرارة الغريزية، و لو لا الغروب لحميت الأرض حتّى تحترق كلّ من عليها من إنسان و حيوان، فهي بمنزلة سراج واحد يوضع لأهل كلّ بيت بمقدار حاجتهم، ثم يرتفع عنهم ليستقرّوا و يستريحوا، فصار النّور و الظلمة على تضادّهما متظاهرين، على ما فيه صلاح قطان الأرض.
و أمّا ارتفاع الشّمس و انحطاطها، فقد جعله اللَّه سببا لاقامة الفصول الأربعة.
و أمّا القمر فهو تلو الشّمس و خليفتها، و به يعلم عدد السّنين و الحساب، و يضبط المواقيت الشّرعية، و منه يحصل النّماء و الرّواء، و قد جعل اللَّه في طلوعه و غروبه مصلحة، و كذا في تشكلاته المختلفة و ساير أحواله من الاستقامة و السّرعة و البطوء كما فصّل في محلّه.
و كيف كان فالمقصود الأصلى في المقام بيان كيفيّة خلقة الأرض، و أنّها ممّ خلقت، و أنّ ايجادها هل هو قبل السّماء أو بعدها.
اما الاول فالمستفاد من الأخبار أن أصلها زبد الماء الذي خلقه اللَّه في الهواء، و هو الزّبد الذي أشار إليه الامام عليه السلام بقوله: فرمى بالزّبد ركامه، و الاخبار في هذا المعنى كثيرة قريبة من التّواتر و يأتي جملة منها في ذيل المقام.
و يشهد به أيضا ما عن تفسير الامام عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: قال: رسول الله صلى اللَّه عليه و آله و سلم في قوله عزّ و جل: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً إنّ اللَّه عزّ و جلّ لمّا خلق الماء فجعل عرشه عليه قبل أن يخلق السّماوات و الأرض و ذلك قول اللَّه عزّ و جل: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ يعني و كان عرشه على الماء قبل أن يخلق السّماوات و الأرض، فارسل الرّياح على الماء فبخر (فتبخرخ ل) الماء من امواجه، فارتفع عنه الدّخان و علا فوق الزّبد، فخلق من دخانه السّماوات السّبع، فخلق من زبده الأرضين السّبع، فبسط الأرض على الماء، و جعل الماء على الصّفاء، و الصّفاء على الحوت، و الحوت على الثور، و الثور على الصخرة التي ذكرها لقمان لابنه، فقال: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ و الصّخرة على الثّرى، و لا يعلم ما تحت الثّرى إلا اللَّه.
فلمّا خلق اللَّه الأرض دحاها من تحت الكعبة، ثم بسطها على الماء، فأحاطت بكلّ شي ء.
فخرت الأرض، و قالت: أحطت بكلّ شي ء فمن يغلبني و كان في كلّ اذن من آذان الحوت سلسلة من ذهب مقرونة الطرف بالعرش، فأمر اللَّه الحوت فتحركت، فتكفأت الأرض بأهلها كما تكفى ء السّفينة على الماء قد اشتدّت أمواجه، و لم تستطع الأرض الامتناع.
ففخرت الحوت و قالت: غلبت الأرض التي أحاطت بكلّ شي ء فمن يغلبني فخلق اللَّه عزّ و جلّ الجبال، فأرساها و ثقل الأرض بها، فلم تستطع الحوت أن تتحرك.
ففخرت الجبال و قالت: غلبت الحوت التي غلبت الأرض فمن يغلبني فخلق اللَّه عزّ و جلّ الحديد، فقطعت به الجبال و لم يكن عندها دفاع و لا امتناع.
ففخر الحديد و قال: غلبت الجبال التي غلبت الحوت فمن يغلبني فخلق اللَّه عزّ و جلّ النّار فألانت الحديد و فرّقت أجزائه و لم يكن عند الحديد دفاع و لا امتناع.
ففخرت النّار و قالت: غلبت الحديد الذي غلبت الجبال فمن يغلبني فخلق اللَّه عزّ و جلّ الماء فأطفأ النّار و لم يكن عندها دفاع و لا امتناع.
ففخر الماء و قال: غلبت النّار التي غلبت الحديد فمن يغلبني فخلق اللَّه عزّ و جلّ الرّيح، و غلبت الماء فأيبست الماء.
ففخرت الرّيح و قال: غلبت الماء الذي غلب النّار فمن يغلبني فخلق اللَّه عزّ و جلّ الانسان، فصرف الرّيح عن مجاريها بالبنيان.
ففخر الانسان و قال: غلبت الرّيح التي غلبت الماء فمن يغلبني فخلق اللَّه عزّ و جلّ ملك الموت فأمات الانسان.
ففخر ملك الموت و قال: غلبت الانسان الذي غلب الرّيح فمن يغلبني فقال اللَّه عزّ و جلّ أنا القّهار الغلّاب الوهاب أغلبك و أغلب كلّ شي ء فذلك قوله: إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فان قيل: المذكور في هذه الرّواية و كذا الرّوايات الآتية من خلق الأرض من الزّبد ينافي ظاهرا رواية الكافي التي رواها عن محمّد بن مسلم، قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: كان كلّ شي ء ماء، و كان عرشه على الماء، فأمر اللَّه عزّ و جلّ الماء فاضطرم نارا، ثم أمر النار فخمدت فارتفع من خمودها دخان، فخلق اللَّه السّماوات من ذلك الدّخان و خلق الأرض من الرّماد، ثم اختصم الماء و النّار و الرّيح فقال الماء: أنا جند اللَّه الأكبر، و قال الرّيح: أنا جند اللَّه الأكبر، و قالت النّار أنا جند اللَّه الأكبر، فأوحى اللَّه عزّ و جلّ إلى الرّيح أنت جندي الأكبر. فانّ المذكور في هذه الرّواية خلقة الأرض من الرّماد.
قلت: يمكن الجمع بينها بما قاله المجلسي و هو أن يكون الرّماد أحد أجزاء الأرض مزج بالزّبد، و وقي الزّبد بذلك المزج و تصلّب، أو يكون المراد بالأرض المخلوق من الرّماد بقيّة الأرض التي حصلت بعد الدّحو، و اللَّه العالم و اما الثاني فالأشهر الأظهر هو أنّ خلق الأرض قبل السّماء، و قيل بالعكس و لا يعبأ به مع دلالة ظواهر الآيات و قيام الاخبار المستفيضة على خلافه.
اما الايات فقد قال تعالى في سورة البقرة: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و في سورة السّجدة: قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ، وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ الآية.
قال الزّمخشري في تفسيره: قوله: ثم استوى إلى السّماء و المعنى دعاه داعي الحكمة إلى خلق السّماء بعد خلق الأرض و ما فيها من صارف يصرفه عن ذلك و هي دخان، قيل: كان عرشه قبل خلق السّماوات و الأرض على الماء، فاخرج من الماء دخانا، فارتفع فوق الماء و علا عليه، فأيبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها و جعلها أرضين، ثم خلق السّماء من الدّخان المرتفع انتهى.
و روى في مجمع البيان عن عكرمة، عن ابن عبّاس، عن النّبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم قال: إن اللَّه خلق الأرض في يوم الأحد و الاثنين، و خلق الجبال يوم الثّلثاء، و خلق الشّجر و الماء و العمران و الخراب يوم الأربعاء، فتلك أربعة أيّام، و خلق يوم الخميس السّماء، و خلق يوم الجمعة الشّمس و القمر و النّجوم و الملائكة و آدم هذا.
و أمّا قوله تعالى في سورة النّازعات: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فلا يدل على خلقة الأرض بعد السّماء كما توهّمه بعض الملاحدة و أورد عليها بأنّها منافية للآيات السّابقة، إذ المستفاد منها كون دحو الأرض بعد خلق السّماء، و هو لا ينافي تقدّم خلق أصل الأرض على السماء.
قال الطبرسي قال ابن عباس: إنّ اللَّه تعالى دحى الأرض بعد السّماء، و إن كانت الأرض خلقت قبل السّماء، و كانت ربوة مجتمعة تحت الكعبة فبسطها و ربّما اجيب بأن كلمة بعد ليست للتأخّر الزّماني، و إنّما هو على جهة تعداد النّعم و الاذكار لها، كما يقول القائل: أ ليس قد أعطيتك و فعلت بك كذا و كذا، و بعد ذلك وددتك، و ربّما يكون بعض ما تقدّم في اللّفظ متأخرا بحسب الزّمان، لأنّه لم يكن الغرض الاخبار عن الأوقات و الأمكنة، بل المراد ذكر النّعم و التّنبيه عليها، و ربّما اقتضت الحال ايراد الكلام على هذا الوجه.
و اما الاخبار فهي كثيرة منها ما في البحار عن الكافي باسناده عن سلام بن المستنير، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إنّ اللَّه عزّ و جلّ خلق الجنّة قبل أن يخلق النّار و خلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية، و خلق الرّحمة قبل الغضب، و خلق الخير قبل الشّر و خلق الأرض قبل السّماء، و خلق الحياة قبل الموت، و خلق الشّمس قبل القمر، و خلق النّور قبل أن يخلق الظلمة، قال المجلسي قده بعد ذكر الحديث: لعلّ المراد بخلق الطاعة تقديرها، بل الظاهر في الأكثر ذلك الخلق بمعنى التّقدير و هو شايع و المراد بخلق الشّر خلق ما يترتّب عليه الشر ظاهرا و إن كان خيره غالبا و وجوده صلاحا.
و منها ما فيه أيضا كالصّافي عن عليّ بن إبراهيم القميّ عن الصّادق عليه السلام في جواب الأبرش حيث سأله عن قول اللَّه عزّ و جلّ: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما و قال: أخبرني فما كان رتقهما و ما كان فتقهما فاجاب عليه السلام بقوله: هو كما وصف نفسه، كان عرشه على الماء و الماء على الهواء، و الهواء لا يحد، و لم يكن يومئذ خلق غيرهما، و الماء يومئذ عذب فرات، فلمّا أراد اللَّه أن يخلق الأرض أمر الرّياح فضربت الماء حتّى صار موجا، ثم أزبد فصار زبدا واحدا، فجمعه في موضع البيت، ثم جعله جبلا من زبد، ثم دحى الأرض من تحته، فقال اللَّه تبارك و تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً ثمّ مكث الرّب تبارك و تعالى ما شاء، فلمّا أراد أن يخلق السّماء أمر الرّياح فضربت البحور حتّى أزبدتها، فخرج من ذلك الموج و الزّبد من وسطه دخان ساطع من غير نار، فخلق اللَّه منه السّماء، و جعل فيها البروج و النّجوم و منازل الشّمس و القمر، و أجراها في الفلك و كانت السّماء خضراء على لون الماء الأخضر، و كانت الأرض غبراء على لون الماء العذب، و كانتا مرتوقتين ليس لهما أبواب و هو النّبت و لم تمطر السّماء عليها فتنبت، ففتق السّماء بالمطر، و فتق الأرض بالنّبات، و ذلك قوله: أ و لم ير الذين كفروا الآية، و نسب الشّارح البحراني هذه الرّواية إلى الباقر عليه السلام، و لعلّه اطلع على سند آخر عنه عليه السلام لم نقف عليه.
و منها رواية الرّوضة الآتية.
الثالث
أنّ المستفاد من كلامه عليه السلام أنّ السّماء مخلوقه من الزّبد حيث قال: و رمى بالزّبد ركامه، فسوى منه سبع سماوات اه، لكن المستفاد من آية السّجدة السّالفة و من تفسير الامام عن أمير المؤمنين عن النّبي صلوات اللَّه عليهم في قوله: الذي جعل لكم الأرض فراشا إلى آخر ما مرّ سابقا، و من رواية الكافي عن محمّد بن مسلم التي أسلفناها أيضا، و من ساير الرّوايات الواردة في باب الخلقة: أنّ السّماء مخلوقة من الدّخان.
و جمع بينهما الشّارح البحراني بقوله: فنقول: وجه الجمع بين كلامه عليه السلام و بين لفظ القرآن الكريم ما ذكره الباقر عليه السلام، و هو قوله فخرج من ذلك الموج و الزّبد دخان ساطع من وسطه من غير نار، فخلق منه السّماء، و لا شك أنّ القرآن الكريم لا يريد بلفظ الدّخان حقيقته، لأن ذلك إنّما يكون عن النّار، و اتفق المفسّرون إلى أنّ هذا الدّخان لم يكن عن نار، بل عن تنفّس الماء و تبخيره بسبب تموّجه، فهو إذن استعارة للبخار الصّاعد من الماء و إذا كان كذلك فنقول: إن كلامه عليه السلام مطابق للفظ القرآن، و ذلك أنّ الزّبد بخار يتصاعد على وجه الماء عن حرارة حركته، إلّا أنّه ما دامت الكثافة غالبة عليه و هو باق على وجه الماء لم ينفصل، فانّه يخصّ باسم الزّبد، و ما لطف و غلبت عليه الأجزاء الهوائية فانفصل خصّ باسم البخار و إذا كان الزّبد بخارا و البخار هو المراد في القرآن الكريم كان مقصده و مقصد القرآن الكريم واحدا، فكان البخار المنفصل هو الذي تكوّنت عنه السّماوات، و الذي لم ينفصل هو الذي تكوّنت عنه الأرض.
و أمّا وجه المشابهة بين الدّخان و البخار الذي صحت لأجله استعارة لفظه فهو أمر ان احدهما حسّي و هو الصّورة المشاهده من الدّخان و البخار حتّى لا يكاد يفرق بينهما في الحسّ البصري و الثاني معنويّ و هو كون البخار اجزاء مائية خالطت الهواء بسبب لطافتها عن حرارة الحركة، كما أنّ الدّخان كذلك و لكن عن حرارة النار، فانّ الدّخان أيضا أجزاء مائية انفصلت من جرم المحترق بسبب لطافتها عن حرّ النّار، فكان الاختلاف بينهما ليس إلّا بالسّبب، فلذلك صحّ استعارة اسم أحدهما للآخر انتهى كلامه قده.
أقول: هذا التّوجيه وجيه جدا إلّا أنّه ينافيه ما رواه الكليني في روضة الكافي باسناده عن محمّد بن عطية، قال: جاء رجل إلى أبي جعفر عليه السلام من أهل الشّام من علمائهم، فقال: يا أبا جعفر جئت أسألك عن مسألة قد أعيت علىّ أن أجد أحد يفسّرها، و قد سألت عنها ثلاثة أصناف من الناس، فقال كلّ صنف منهم شيئا غير الذّي قال الصّنف الآخر، فقال له أبو جعفر عليه السلام: ما ذاك قال: فانّي أسألك عن أوّل ما خلق اللَّه من خلقه، فانّ بعض من سألته قال: القدر، و قال بعضهم: القلم و قال بعضهم: الرّوح، فقال أبو جعفر عليه السلام: ما قالوا شيئا اخبرك أنّ اللَّه تبارك و تعالى كان و لا شي ء غيره، و كان عزيزا و لا أحد كان قبل عزّه، و ذلك قوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ و كان الخالق قبل المخلوق، و لو كان أوّل ما خلق من خلقه الشّي ء من الشّي ء إذا لم يكن انقطاع أبدا، و لم يزل اللَّه إذا و معه شي ء ليس هو يتقدّمه و لكنّه كان إذ لا شي ء غيره، و خلق الشي ء الذي جميع الأشياء منه و هو الماء الذي خلق الاشياء منه، فجعل نسب كلّ شي ء إلى الماء و لم يجعل للماء نسبا يضاف إلى شي ء، و خلق الرّيح من الماء ثم سلط الرّيح على الماء فشققت الرّيح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور، فخلق من ذلك الزّبد أرضا بيضاء نقيّة ليس فيها صدع و لا ثقب و لا صعود و لا هبوط و لا شجرة، ثم طواها فوضعها فوق الماء، ثم خلق النّار من الماء فشققت النّار متن الماء حتّى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء اللَّه أن يثور فخلق من ذلك الدّخان سماء صافية نقيّة ليس فيها صدع و لا ثقب، و ذلك قوله: السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها، وَ أَغْطَشَ«» لَيْلَها، وَ أَخْرَجَ ضُحاها.
قال عليه السلام: و لا شمس و لا قمر و لا نجوم و لا سحاب، ثم طويها فوضعها فوق الماء ثم نسب الخليقتين«» فرفع السّماء قبل الأرض، فذلك قوله عزّ ذكره: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يقول: بسطها قال: فقال له الشّامي: يا أبا جعفر قول اللَّه عزّ و جلّ: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما
منهاج البراعةفي شرح نهج البلاغة(الخوئي)، ج 1 ، صفحه ى 401
فقال له أبو جعفر عليه السلام: فلعلك تزعم أنهما كانتا رتقا ملتزقتان ملتصقتان ففتقت احداهما عن الاخرى، فقال: نعم، فقال أبو جعفر عليه السلام: استغفر ربّك، فانّ قول اللَّه عزّ و جل كانتا رتقا يقول كانت السّماء رتقا لا تنزل المطر، و كانت الأرض رتقا لا تنبت الحبّ، فلما خلق اللَّه تبارك و تعالى الخلق و بثّ فيها من كلّ دابة، فتق السّماء بالمطر، و الارض بنبات الحبّ، فقال الشامي: أشهد أنّك من ولد الانبياء، و أن علمك علمهم عليهم السلام.
فان المستفاد من الرّواية هذه أنّ الدخان متكون من النّار، و هو المستفاد أيضا من رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام التي سبقت، حيث قال فيها: فأمر اللَّه عزّ و جلّ الماء فاضطرم نارا، ثم أمر النّار فخمدت فارتفع من خمودها دخان، فخلق السّماوات من ذلك الدّخان، إلى آخر ما مرّ، فدعوى الشّارح اتّفاق المفسّرين على عدم كون ذلك الدّخان من نار مع قيام الأخبار على خلافه مما لا يلتفت إليها.
فان قلت: فما تقول في رواية القمي المتقدّمة عن الصّادق عليه السلام حيث قال فيها: فخرج من ذلك الموج و الزّبد دخان ساطع من وسطه من غير نار.
قلت: لا بد من تأوليها إمّا بأن يكون المراد بالنّار غير النّار المتعارفة المسبوقة إلى الأذهان، أو بوجه آخر من وجوه التّأويل حتّى تلايم الرّوايتين، و إلّا فلا بدّ من طرحها، لأنّ الروايتين مضافا إلى كونهما أكثر عددا معتضدتان بالاعتبار العقلي و ظواهر«» آية السّجدة و الأخبار، فلا تكافؤهما الرّواية المذكورة هذا.
و المقام بعد ذلك محتاج إلى التأمّل لتوجيه الجمع بين كلامه عليه السلام الدّالّ على خلق السّماء من الزّبد، و بين الآية و الأخبار الاخر، و يمكن التوجيه بارجاع الضّمير في قوله عليه السلام فسوّى منه راجعا إلى الماء، لأنّ النّار التي ثار منها الدّخان لمّا كانت مخلوقه من الماء حسبما دلت عليه الرّوايتان، حسن استناد تسوية السّماوات إليه فكان من قبيل استناد الشّي ء إلى علّته البعيدة، كما اسندت في غيره إلى الدّخان استنادا الى العلّة القريبة، فتأمّل جيّدا.
الرابع
أنّ المستفاد من قوله عليه السلام: فسوّى منه سبع سماوات كون السماوات سبعا، و هو ممّا لا ريب فيه و لا خلاف، و يطابقه قوله تعالى في سورة البقرة، فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ و في سورة السّجدة فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ و في سورة النّبأ وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً.
و إنّما خالف بعض من لا يعبأ به في الأرض و أنكر كونها سبعا، و هو شاذّ ضعيف لا يلتفت إليه بعد دلالة ظاهر الآية على خلافه، قال سبحانه في سورة الطلاق: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ.
و تأويلها بالأقاليم السّبعة لا حاجة إليه، قال الطبرسي في تفسير الآية: أى و في الأرض خلق مثلهنّ في العدد لا في الكيفيّة، لأنّ كيفيّة السّماء مخالفة لكيفيّة الأرض، و ليس في القرآن آية تدلّ على أنّ الأرضين سبع مثل السّماوات إلّا هذه الآية، و لا خلاف في السّماوات و أنّها سماء فوق سماء، و أمّا الأرضون فقال قوم: إنّها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض كالسّماوات، لأنّها لو كانت مصمتة لكان أرضا واحدة و في كلّ أرض خلق خلقهم اللَّه كما شاء، و روى أبو صالح عن ابن عبّاس أنّها سبع أرضين ليس بعضها فوق بعض يفرق بينهنّ البحار، و يظل جميعهن السّماء، و اللَّه أعلم بصحّة ما استأثر بعلمه و خفي على خلقه انتهى، هذا.
و روي في الأخبار المستفيضة أن غلظ كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام، و من بين السّماء إلى السّماء كذلك، و من هنا إلى السّماء الدّنيا مثلها، و هذه الأخبار صريحة في بطلان قول الحكماء بنفي الخلاء و ذهابهم إلى أنّ الأفلاك ليس بينهما فرجة بل مقعّر كلّ فلك مماس لمحدّب الفلك الآخر، لأنّه. إذا كان بين كلّ منهما مسيرة خمسمائة عام فكيف يتصوّر الملاصقة و المماسة، فلا يلتفت إلى براهينهم العقليّة التي أقاموها على ذلك.
و قد مرّ في رواية الرّوضة قول أبي جعفر عليه السلام للشّامي: استغفر ربّك، فانه لمّا كان معتقدا بمثل ما قاله الحكماء بالأخذ عن كتبهم أمره بالاستغفار، فيدل على تحريم هذا الاعتقاد و أمثاله، فابطل الملاصقة و الالتزاق بينهما.
الخامس
أن قوله عليه السلام: ثُمَّ زَيَّنَها بِزينَةٍ الكَواكِبِ.
قد بيّنا سابقا أن الضّمير فيه محتمل الرّجوع إلى السّفلى و الرّجوع إلى السّماوات باعتبار أن تزيين البعض تزيين الجميع، و اللّازم في المقام تحقيق محلّ الكواكب و تعيينه.
فأقول: الذي ذهب إليه أصحاب الهيئة بل ادّعي اتفاقهم عليه هو أنّ الثّوابت كلها في الفلك الثّامن، و أمّا السّيارات فالمشهور أن القمر في الفلك الذي هو أقرب الينا، ثم عطارد، ثم زهرة، ثم الشّمس، ثم المرّيخ، ثم المشتري، ثم زحل، و فوقها فلك الثّوابت المسمّى بلسان الشّرع بالكرسي، ثم فلك الأطلس الذي هو غير مكوكب و يسمّى في لسان الشّرع بالعرش، و اختار هذا المذهب في المقام الشّارح البحراني.
و ذهب طائفة و منهم السّيد الجزايري و الشّارح المعتزلي إلى أنّها في السّماء الدّنيا، و مال إليه شيخنا البهائي على ما عزي إليه، و يظهر من كلام الفخر الرّازي ميله إليه أيضا، و هو الأظهر.
لنا ظاهر قوله سبحانه في سورة الصّافات: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ، وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ و في سورة السّجدة وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ و في سورة الملك وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ و أما الأوّلون فقد استدلوا على مذهبهم في الثّوابت و أنّها في الفلك الثّامن بما حكاه عنهم الرّازي في التفسير، قال عند الكلام على تفسير الآية الثّالثة: و اعلم أن أصحاب الهيئة اتفقوا على أنّ هذه الثّوابت مركوزة في الفلك الثّامن الذي هو فوق اكر«» السّيارات، و احتجوا عليه بأنّ بعض هذه الثّوابت في الفلك الثامن فيجب أن تكون كلّها هناك، و إنّما قلنا: إن بعضها في الفلك الثّامن، و ذلك لأن الثّوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بهذه السّيارات، فوجب أن تكون الثّوابت المنكسفة فوق السّيارات الكاسفة، و إنّما قلنا: إن هذه الثوابت لمّا كانت في الفلك الثامن وجب أن تكون كلّها هناك، لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مأئة سنة درجة واحدة فلا بدّ و أن تكون مركوزة في كرة واحدة، و على مذهبهم في السّيارات بأن زحل ينكسف بالمشتري فيكون فوقه، و المشترى ينكسف بالمرّيخ فهو فوقه، و أمّا كون الشّمس تحتها فلأن لها اختلاف منظر دون العلوية، و أمّا الزّهرة و عطارد فلا جرم بكونهما تحت الشّمس أو فوقها، إذ لا يكسفها غير القمر، و لا يدرك كسفها لشي ء من الكواكب، لاحتراقها عند مقارنتها، و لا يعرف لهما اختلاف منظر أيضا لأنّهما لا يبعدان عن الشّمس كثيرا و لا يصلان إلى نصف النّهار، و الآلة التي يعرف بها اختلاف المنظر إنّما تنصب في سطح دائرة نصف النّهار، فحكموا بكونهما تحت الشّمس استحسانا، لتكون متوسطة بين الستة بمنزلة شمسة القلادة.
و روي عن الشّيخ و من تقدّمه أنّه رأى الزّهرة كشامة على وجه الشّمس و بعضهم ادّعى أنّه رآها و عطارد كشامتين عليها، و سمّيتا سفليّين لذلك كما يسمّى ما فوق الشّمس علويّة، و الزّهرة منها فوق عطارد لانكسافها به، و القمر تحت الكلّ لانكساف الكلّ به. أقول: أمّا دليلهم في الثّوابت فمضافا إلى مخالفته لظواهر الآيات ضعيف في نفسه قال الرّازى في تفسير الآية الاولى بعد ذكر مذهب الحكماء: إنّا قد بيّنا في علم الهيئة أنّ الفلاسفة لم يتم لهم دليل في بيان أنّ هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثّامن، و لعلّنا شرحنا هذا الكلام في تفسير قوله تعالى: و لقد زينا السّماء الدنيا بمصابيح، و قال عند تفسيره بعد ذكر مذهبهم و دليلهم الذي حكيناه عنه آنفا: و اعلم أنّ هذا الاستدلال ضعيف، فانّه لا يلزم من كون بعض الثّوابت فوق السّيارات كون كلّها هناك، لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر و تكون في البطؤ مساوية لكرة الثّوابت، و تكون الكواكب المركوزة فيما يقارن القطبين مركوزة في هذه الكرة السّفليّة، إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصّغر و الكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة، و على هذا التّقدير لا يمتنع أن تكون هذه المصابيح مركوزة في السّماء الدّنيا، فثبت أنّ مذهب الفلاسفة في هذا الباب ضعيف انتهى.
و انت بعد ما عرفت ضعف دليلهم فيما ذهبوا إليه مع عدم قيام برهان عقلي أو نقلي آخر عليه، تعرف أنّه لا وجه لتأويل الآيات الشّريفة على ما يطابق مذهبهم، كما أوّلها الشّارح البحراني حيث إنه بعد اختياره مذهب الحكماء و ذكره الاشكال فيه بتنافيه لظاهر الآية، أجاب بأنه لا تنافي بين ظاهر الآية و بين ما ذكرناه، و ذلك أنّ السّماء الدنيا لمّا كانت لا تحجب ضوء الكواكب، و كانت أوهام الخلق حاكمة عند النظر إلى السّماء و مشاهدة الكواكب بكونها مزيّنة بها، لا جرم صحّ قوله تعالى: إنّا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب، لأنّ الزّينة بها إنّما هي بالنّسبة إلى أوهام الخلق للسّماء الدّنيا انتهى كلامه.
و الحاصل أنّ ظواهر الأدلة حجة لو لم يقم دليل على خلافه، و مع عدمه فالظاهر حجّة، و لا وجه لرفع اليد عنه، و لذلك قال الشّارح المعتزلي، و الواجب التّصديق بما في ظاهر لفظ الكتاب العزيز.
و أمّا دليلهم في السّيارات فقد عرفت أنّه غير واف بتمام مدّعاهم، لما ذكرنا من أنّ التّرتيب الذي ادّعوه في عطارد و زهرة و كونهما سفليين بالنسبة إلى الشّمس و ما فوقها مستند إلى مجرّد الاستحسان، إلّا أنّه لا بأس به، لعدم قيام دليل على خلافهم هنا، و إن هو إلّا كسائر أدلتهم المستندة إلى الحدس و الرّياضة في أبواب النّجوم و الهيئة، لكن السّيد الجزائري ادّعى قيام الأخبار على خلاف ما ادّعوه من التّرتيب، و لكنّا بعد لم نظفر على تلك الأخبار الدّالة على الخلاف صريحا، بل قد مضى في شرح قوله: و ضياء الثّواقب، عن الصّادق عليه السلام ما يفيد كون زحل في السّماء السّابعة، نعم في بعضها تلويح إلى ذلك، و لعله يأتي شطر منها في مقامها المناسب.
فان قيل: على تقدير كون كلّ من السّيارات في كلّ من السّماوات يكون كلّ واحد منها مزيّنة بكوكبها المركوزة فيها، فما وجه التّخصيص للزّينة بالسّماء الدّنيا في الآية قلت: لمّا كان الموجود على هذا التّقدير في كلّ واحد منها واحد من الكواكب، و هو نادر في جنب ساير الكواكب الكثيرة الثّابتة في السّماء الدّنيا التي لا يعلم عددها إلّا اللَّه سبحانه، لا جرم حسن تخصيصها بالذكر.
و يمكن الجواب بنحو آخر أولى، و هو أنّ المقصود في الآيات بيان كون الكواكب زينة و سببا للحفظ من الشياطين معا، و الحفظ لمّا كان بهذه الكواكب الثّابتة في هذه السّماء، حسن التخصيص، و القول بتأتّي الحفظ بالسّيارات أيضا ممّا يأبى عنه العقول المستقيمة، إذ مع وجود هذه الكواكب على قربها و كثرتها في هذه السّماء و حصول حفظها بها لا يحكم العقل السّليم بأن ينقض كوكب من الفلك السّابع مثلا مع بعده و وحدته، فيوجب الحفظ كما هو ظاهر.
فان قيل: المستفاد ممّا ذكرت أنّ الشّهب التي جعلت رجوما للشّياطين هي تلك الكواكب المزيّنة بها السّماء، و هذا مشكل جدّا لأنّ هذه الشّهب تبطل و تضمحلّ، فلو كانت هذه الشّهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السّماء، و معلوم أنّ هذا المعنى لم يوجد ألبتّة فانّ أعداد كواكب السّماء باقية على حالة واحدة من غير تغير البتّة، و أيضا جعلها رجوما ممّا يوجب وقوع النّقصان في زينة السّماء، و الجمع بين هذين المقصودين كالجمع بين المتنافيين.
قلنا: ليس معنى رجم الشّياطين بالكواكب هو أنّهم يرمون بأجرام الكواكب، بل يجوز أن ينفصل من الكواكب شعل ترمى الشّياطين بها، و تلك الشّعل هي الشّهب، و ما ذاك إلّا كقبس يؤخذ من نار، و النّار باقية بحالها.
و العجب أنّ الشّارح البحراني أجاب عن الاشكال المذكور باختيار أنّ الشّهب غير تلك الثّوابت الباقية، ثم قال: فأمّا قوله: و زيّنا السّماء الدّنيا بمصابيح و جعلناها رجوما للشّياطين، فنقول: كلّ مضي ء حصل في الجوّ العالى أو في السّماء فهو مصباح لأهل الارض، إلّا أن تلك المصابيح منها باقية على طول الزّمان و هو الثّوابت، و منها متغيّرة و هي هذه الشّهب التي يحدثها اللَّه و يجعلها رجوما للشّياطين، و يصدق عليها أنّها زينة للسّماء أيضا بالنّسبة إلى أوهامنا انتهى، و بمثل هذا أجاب الفخر الرّازي أيضا عند تفسير الآية الاولى.
و لكنّك خبير بمنافاته لظواهر الآيات خصوصا الآية الثّالثة، حيث إنّ الضّمير في قوله: و جعلناها رجوما، راجع إلى المصابيح، و الظاهر من المصابيح هي الكواكب بشهادة الآيتين الاوليين، و لا داعي إلى التّاويل و رفع اليد عن الظاهر مع اندفاع الاشكال بما ذكرناه. هذا ما أدّى إليه الفهم القاصر في المقام، و تكلمنا على ما يقتضيه عقولنا القاصرة، و اللَّه العالم بحقايق ملكوت سمائه.
السادس في الاشارة إلى بعض ما يتعلّق بالنيرين أعني الشّمس و القمر
اللّتين أشار عليه السلام إليهما بقوله: فأجرى فيها سراجا مستطيرا، و قمرا منيرا، فانّ لهما أحوالا كثيرة من حيث القطر و الحركة، و سرعتها و بطؤها، و الخسوف و الكسوف العارضين لهما، و الكلف الحاصل في وجه القمر، و زيادة نور الشّمس عليه، و الحرارة الموجودة لها دون القمر، إلى غير هذه من الحالات التي بحث عنها علماء الهيئة بحسب ما وصل إليها أوهامهم القاصرة، و مقصودنا في المقام بيان بعض الأحوال الطارية عليهما حسب ما يستفاد من الآيات و الأخبار الماثورة عن أهل العصمة و الطهارة سلام اللَّه عليهم.
فنقول: إنّهما من أجل كونهما من أعظم الآيات و لعظم ما يترتّب عليهما من الثّمرات من اصلاح الأثمار و النّباتات و مدخليّتهما في ضبط السّنين و الحساب و الأوقات و غير ذلك من المنافع الحاصلة منهما للعنصريات، كرّر اللَّه سبحانه ذكرهما في كثير من السّور و الآيات، و ببالي أنّه ينيف على عشرين قال سبحانه في سورة البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ إشارة إلى بعض منافع القمر الحاصلة فيه من حيث الزّيادة و النّقصان و الطلوع و الافول، و هو أنّ الحكمة في ذلك أن يعرف النّاس معالم امورهم، و أوقات عباداتهم الموظفة في حقّهم، و قال في سورة يونس: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أى قدّر مسير كلّ واحد منهما منازل، و الضّمير راجع إلى خصوص القمر، و تخصيصه بالذّكر لسرعة سيره و معاينة منازله و إناطة أحكام الشّرع به، و لذلك علّله بقوله: لتعلموا عدد السّنين و الحساب، أى حساب الأوقات من الأشهر و السّاعات في التّصرفات و المعاملات.
قيل: إنّ الحساب يبنى على أربع مراتب: السّاعات، و الأيام، و الشهور، و السّنون، فالعدد«» للسّنين، و الحساب لما دون و هي الشّهور، و الأيام، و السّاعات، و بعد هذه المراتب الأربع لا يحصل إلا التكرار، كما أنّهم رتّبوا العدد على أربع مراتب: الآحاد، و العشرات، و المات، و الالوف، و ليس بعدها إلّا التكرار و معنى قوله: ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ إلّا متلبّسا بالحقّ مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة: يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فانّهم المنتفعون بذلك، و قريب منه قوله في سورة الاسرى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أى جعلنا اللّيل و النّهار دلالتين يدلّان على القادر الحكيم، فمحونا آية اللّيل أى الآية التي هي اللّيل و جعلناها مظلمة، و الاضافة بيانيّة، و جعلنا آية النّهار مبصرة، أى مضيئة أو مبصرة للناس من أبصره فبصر، لتبتغوا فضلا من ربكم، أى لتطلبوا في بياض النّهار أسباب معاشكم و تتوصلوا به إلى استبانة أعمالكم.
و قيل: إن المراد بالآيتين الشّمس و القمر، و تقدير الكلام و جعلنا نيّري اللّيل و النّهار آيتين، و المراد بمحو آية الليل التي هي القمر نقص نورها شيئا فشيئا إلى المحاق، أو المراد بمحوها كونها مظلمة في نفسها مطموسة النّور بما جعل فيها من السّواد.
أقول: و هذا هو الأظهر و يدلّ عليه الأخبار المستفيضة.
فمنها ما في البحار عن العيون في خبر يزيد بن سلام، أنّه سأل النّبى صلى اللَّه عليه و آله و سلم، ما بال الشّمس و القمر لا يستويان في الضوء و النّور قال: لمّا خلقهما اللَّه أطاعا و لم يعصيا شيئا، فأمر اللَّه عزّ و جلّ جبرئيل أن يمحو ضوء القمر فمحاه، فأثّر المحو في القمر خطوطا سودا، و لو أنّ القمر ترك على حاله بمنزلة الشّمس لم يمح، لما عرف اللّيل من النّهار، و لا النّهار من الليل، و لا علم الصّائم كم يصوم، و لا عرف النّاس عدد السّنين، و ذلك قول اللَّه عزّ و جلّ: و جعلنا الليل و النّهار الآية، قال: صدقت يا محمّد، فأخبرني لم سمّي الليل ليلا قال: لأنّه يلايل«» الرّجال من النّساء، جعله اللَّه عزّ و جلّ الفة و لباسا، و ذلك قول اللَّه عزّ و جل: و جعلنا الليل لباسا، و جعلنا النّهار معاشا، قال: صدقت يا محمّد. و روى في الصافي عن العلل مثله إلى قوله و ذلك قول اللَّه و جعلنا الليل اه.
و منها ما فيه أيضا عن كتاب النّجوم لابن طاوس نقلا من كتاب ابن أبي جمهور باسناده أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا صعد المنبر و قال سلوني قبل أن تفقدوني قال: فقام إليه رجل فسأله عن السّواد الذي في وجه القمر، فقال عليه السلام أعمى«» سأل عن عمياء«»، أما سمعت اللَّه عزّ و جل يقول: فمحونا آية الليل و جعلنا آية النّهار مبصرة، و السّواد الذي تراه في القمر أنّ اللَّه عزّ و جل خلق من نور عرشه شمسين، فأمر جبرئيل، فأمر جناحه الذي سبق من علم اللَّه جلت عظمته لما أراد أن يكون من اختلاف الليل و النّهار و الشّمس و القمر، و عدد السّاعات و الأيّام و الشّهور، و السّنين و الدّهور، و الارتحال و النّزول، و الاقبال و الادبار، و الحج و العمرة، و محلّ الدّين و أجر الأجير، و عدد أيّام الحبل و المطلقة، و المتوفى عنها زوجها، و ما أشبه ذلك. قال المجلسي قده بعد نقل الحديث «بيان» الذي أى على الذي سبق في علم اللَّه أن يكون قمرا، و الظاهر أنه كان هكذا على أحدهما للذي سبق انتهى.
و منها ما رواه أيضا عن العياشي عن أبي بصير، عن الصّادق عليه السلام في قوله تعالى: فمحونا آية الليل، قال: هو السّواد الذي في جوف القمر، إلى غير ذلك ممّا يقف عليها المتتبع هذا.
و بما ذكرنا عرفت سبب السّواد في القمر و أنّه من فعل جبرئيل و أمر اللَّه سبحانه، و ليس سببه ما توهمه الفلاسفة، و أرباب الهيئة و اختلفوا فيه على أقوال تبلغ إلى سبعة: الأول أنّه خيال لا حقيقة له، و ردّ بأنّه لو كان كذلك لاختلف فيه النّاظرون، لاستحالة موافقة الكلّ على خيال واحد.
الثّاني أنّه شبه ما ينطبع فيه من السّفليّات من الجبال و البحار و غيرها، و ردّ بأنّه يلزم حينئذ أن يختلف القمر في قربه و بعده و انحرافه عمّا ينطبع فيه الثالث أنّه السّواد الكاين في الوجه الآخر، و ردّ بأنّه يجب على ذلك أن لا يرى هذا متفرقا.
الرّابع أنّ سببه التّأذّي من كرة النّار، لقرب ما بينهما، و ردّه الشّيخ الرّئيس بأنّ هذا لا يلايم الاصول الحكميّة، فانّ الأجسام الفلكيّة لا ينفعل عن الأجسام العنصريّة، و أيضا أنّ الفلك غير قابل للتسخن عندهم.
الخامس أنّ جزء منه لا يقبل النّور كما يقبله غيره، و ردّ بأنّه يلزم على هذا عدم اطراد القول ببساطة الفلكيّات، و في هذا هدم لقواعدهم المبنيّة على بساطتها.
السّادس أنّ وجه القمر مصوّرة بصورة وجه الانسان، فله عينان و حاجبان و أنف و فم، و ردّ بأنّه يلزم أن يبطل فعل الطبيعة عندهم، و ذلك لأنّ لكلّ عضو طلب نفع و دفع ضرر، فانّ الفم لدخول الغذاء، و الأنف للاستشمام، و الحاجبين لدفع العرق عن العينين، و ليس القمر قابلا لشي ء من ذلك، فيلزم التّعطيل الدّائم فيما زعمتم أنه على أحسن النظام و أبلغه.
السابع أنّ هذا السواد أجسام سماوية مختلفة معه في تدويره غير قابلة للانارة بالتساوي حافظة لوضعها معه دائما. هذه أقوالهم التي حكيت عنهم في المقام، و قد عرفت فساد الجميع في أنفسها، مضافا إلى قيام الأخبار على خلافها، و ظهر لك أنّ السبب فيه أمر القادر المختار المسخر تحت قدرته الشمس و القمر و الليل و النهار هذا.
و أما ما رواه في الصافي عن الصادق عليه السلام: لما خلق اللَّه القمر كتب عليه لا إله الا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ أمير المؤمنين، و هو السواد الذي ترونه في القمر، فلا ينافي الأخبار السالفة، لجواز أن يكون المحو الواقع في الأحاديث السابقة بهذه الكتابة الواقعة في هذا الحديث، و تمام هذا الحديث ما رواه الطبرسي في الاحتجاج و المحدّث الجزايري (ره) في الأنوار عن قاسم بن معاوية قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: هؤلاء يروون حديثا في معراجهم أنه لما اسرى برسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله سلم رأى على العرش لا إله الّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، أبو بكر الصديق، فقال: سبحان اللَّه غيّر و اكلّ شي ء حتى هذا قلت: نعم، قال: إنّ اللَّه عزّ و جلّ لما خلق العرش كتب عليه: لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ أمير المؤمنين، و لما خلق الماء كتب في مجراه: لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ أمير المؤمنين، و لما خلق اللَّه عزّ و جلّ الكرسي كتب على قوائمه: لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ أمير المؤمنين، و لما خلق اللَّه عزّ و جلّ اللوح كتب فيه: لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ أمير المؤمنين، و لما خلق اللَّه إسرافيل كتب على جبهته: لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، علي أمير المؤمنين، و لما خلق اللَّه السماوات كتب في أكنافها: لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ أمير المؤمنين، و لمّا خلق اللَّه الأرضين كتب في أطباقها: لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ أمير المؤمنين، و لمّا خلق اللَّه عزّ و جلّ الجبال كتب على رءوسها: لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه عليّ أمير المؤمنين، و لمّا خلق اللَّه عزّ و جلّ الشّمس كتب اللَّه عزّ و جلّ عليها: لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ أمير المؤمنين، و لما خلق اللَّه عزّ و جلّ القمر كتب عليه: لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، عليّ أمير المؤمنين، و هو السّواد الذي ترونه في القمر، فاذا قال أحدكم: لا إله إلّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، فليقل عليّ أمير المؤمنين.
فان قيل: إنّ الكتابة المكتوبة على وجه القمر، الموجبة للكلف و السّواد فيه على ما دلت عليه الرّواية، مكتوبة بعينها على الشّمس أيضا، فلم لم توجب السّواد فيها حيث إنّه لو كان فيها سواد لشاهدناه قلت: أجاب عنه الجزايري بأنّ عدم المشاهدة لشدّة النّور و زيادة الضّياء المانع عنها.
و لكنّك خبير بما فيه لما قد عرفت في الاخبار السّالفة أنّ نوريهما كانا على حدّ سواء، و كان سبب قلّة نور القمر هو المحو الحاصل بالكتابة، فلم تكن الشّمس في الأصل أشد نورا حتّى لا يظهر فيها أثر الكتابة، و الأولى أن يجاب بأنّ المقصود لمّا كان تمايز اللّيل و النّهار، و معرفة السّنين و الحساب، كانت الكتابة على وجه القمر بخط جليّ لحصول ذلك الغرض، بخلاف الشّمس، و العلم عند اللَّه هذا و قد تحقق ممّا ذكرنا سبب اختلاف نوري الشّمس و القمر، بما لا مزيد عليه.
و أما سبب اختلافهما في الحرارة، فهو ما بيّنه الامام عليه السلام في رواية الكافي باسناده عن محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: جعلت فداك لأيّ شي ء صارت الشّمس أشدّ حرارة من القمر فقال: إنّ اللَّه خلق الشّمس من نور النّار و من صفو الماء طبقا من هذا و طبقا من هذا حتّى إذا كانت سبعة أطباق ألبسها لباسا من نار، فمن ثمّ صارت أشدّ حرارة من القمر، قلت جعلت فداك، و القمر، قال: إنّ اللَّه تعالى ذكره خلق القمر من ضوء نور النّار و صفو الماء طبقا من هذا و طبقا من هذا حتّى إذا كانت سبعة أطباق ألبسها لباسا من نار فمن ثم صار القمر أبرد من الشّمس.
و رواه في البحار عن العلل و الخصال أيضا و قال بعد ذكر الحديث توضيح قوله: حتّى إذا كانت سبعة أطباق، يحتمل أن يكون المعنى أنّ الطبقة السّابعة فيها من نار، فيكون حرارتها لجهتين، لكون طبقات النّار أكثر بواحدة، و كون الطبقة العليا من النّار، و يحتمل أن يكون لباس النّار طبقة ثامنة، فتكون الحرارة للجهة الثّانية فقط، و كذا في القمر يحتمل الوجهين، ثم إنّه يحتمل أن يكون خلقهما من النّار و الماء الحقيقتين من صفوهما و ألطفهما، و أن يكون المراد جوهرين لطيفين مشابهين لهما في الكيفيّة، و لم يثبت امتناع كون العنصريات في الفلكيّات، و قد دلّ الشّرع على وقوعه في مواضع شتّى هذا.
و بقي الكلام في حركتي الشّمس و القمر.
فأقول: لم نظفر في الأخبار بما يفيد التّعيين، نعم في بعضها ما يدل على سرعة الحركة، مثل ما روى عن سؤال النّبي صلى اللَّه عليه و آله سلم عن الرّوح الأمين، من زوال الشّمس و جوابه بقوله: لا، نعم، فقال صلى اللَّه عليه و آله سلم له: كيف تقول: لا، نعم، فقال من حيث قلت: لا، إلى قلت: نعم، سارت الشّمس مسيرة خمسمائة عام و ما رواه المجلسي قده عن قصص الرّاوندي باسناده عن الصّدوق، باسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّ موسى عليه السلام سأل ربه أن يعلمه زوال الشّمس، فوكل اللَّه بها ملكا، فقال يا موسى: قد زالت الشّمس، فقال موسى: متى فقال: حين أخبرتك، و قد سارت خمسمائة عام و عن الكافى عن عليّ بن إبراهيم باسناده عن أبي الصّباح الكناني، عن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ للشّمس ثلاثمأة و ستين برجا، كلّ برج منها مثل جزيرة من جزاير العرب، فتنزل كل يوم على برج منها، فاذا غابت انتهت إلى حدّ بطنان العرش، فلم تزل ساجدة إلى الغد، ثم ترد إلى موضع مطلعها و معها ملكان يهتفان معها، و انّ وجهها لأهل السّمآء، و قفاها لأهل الأرض، و لو كان وجهها لأهل الأرض لاحترقت الأرض و من عليها من شدة حرّها، و معنى سجودها: ما قال سبحانه و تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قال المجلسي «ره» بعد رواية الحديث توضيح- ثلاثمأة و ستّين برجا- لعل المراد بالبرج الدرجات التي تنتقل إليها بحركتها الخاصّة، أو المدارات التي تنتقل إلى واحد منها كلّ يوم، فيكون هذا العدد مبنيّا على ما هو الشّايع بين النّاس من تقدير السّنة به، و إن لم يكن مطابقا لشي ء من حركتي الشّمس و القمر- مثل جزيرة من جزاير العرب- أى نسبتها إلى الفلك مثل نسبة جزيرة من الجزائر إلى الأرض، أو الغرض التّشبيه في أصل العظمة لا خصوص المقدار، و المقصود بيان سرعة حركتها و إن كانت بطيئة بالنّسبة إلى الحركة اليوميّة، قال الفيروز آبادي: جزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند و بحر الشّام ثم دجلة و الفرات و ما بين عدن ابين الى اطراف الشّام طولا و من جدّة إلى ريف العراق عرضا- فاذا غابت- أى بالحركة اليوميّة- إلى حدّ بطنان العرش- أى وسطه- و لعل المراد وصولها إلى دائرة نصف النّهار من تحت الأرض، فانّها بحذاء أوساط العرش بالنّسبة إلى أكثر المعمورة، إذ ورد في الأخبار أنّ العرش محاذ للكعبة- فلم تزل ساجدة- أى مطيعة خاضعة منقادة جارية بأمره تعالى حتى تردّ إلى- مطلعها- و المراد بمطلعها ما قدّر أن تطلع منه في هذا اليوم، أو ما طلعت فيه في السّنة السّابقة في مثله و قوله:- و معنى سجودها- يحتمل أن يكون من تتمة الخبر لبيان أنّه ليس المراد بالسّجود ما هو المصطلح، و لعل الأظهر أنّه من كلام الكليني أو غيره انتهى.
هذا في حركة الشّمس.
و أمّا القمر فهو أسرع حركة من الشّمس، كما قال سبحانه: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ أي في سرعة سيره، لأنّ الشّمس تقطع بروج الفلك في ثلاثمأة و خمسة و ستّين يوما و شي ء، و القمر في ثمانية و عشرين يوما.
و في الصّحيفة السّجادية على صاحبها أفضل الصلاة و التحية في دعائه إذا نظر إلى الهلال: (الخلق المطيع الدّآئب السّريع المتردّد في منازل التّقدير المتصرّف في فلك التّدبير) قال بعض شرّاح«» الصّحيفة: وصفه عليه السلام القمر بالسّرعة إشارة إلى سرعة حركته العرضيّة التي تكون بتوسط فلك تدويره، فانّه أسرع عن ساير الكواكب بهذا الاعتبار، أمّا الثّوابت فظاهر، لكون حركتها من أبطأ الحركات حتّى أن القدماء لم يدركوها، فقيل: إنّها تتمّ الدّورة في ثلاثين ألف سنة، و قيل: في ستة و ثلاثين ألف سنة، و أمّا السّيارات فلأنّ زحل يتمّ الدّورة في ثلاثين سنة، و المشتري في اثنتى عشرة سنة، و المرّيخ في سنة و عشرة أشهر و نصف شهر، و كلّا من الشّمس و الزّهرة و عطارد في قريب سنة، و أمّا القمر فيتمّ الدّورة في نحو من ثمانية و عشرين يوما، فكان أسرعها حركة، و أمّا حركته الذاتية و إن قال بهاجم غفير من أساطين الحكماء، حيث أثبتوا لجميع الكواكب حركة ذاتية و تدور بها على أنفسها، فهي على تقدير ثبوتها غير محسوسة و لا معروفة، فحمل وصف القمر بالسرعة على هذه الحركة بعيد، نعم لا يبعد حمله على حركته المحسوسة على أنّها ذاتيّة له، كما ذهب إليه بعضهم من جواز كون بعض حركات السّيارات في أفلاكها من قبيل حركة السابح في الماء، و يؤيده ظاهر قوله تعالى: وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ انتهى و اورد صاحب شرح الاشارات على القول بالحركة الذّاتيّة، بأنّ هذه تقتضي أن يكون المحو المرئى في وجه القمر شيئا غير ثابت في جرمه و إلّا لتبدّل وضعه.
هذا مجمل الكلام فيما يتعلق بالأجسام العلويّة و عالم الملكوت، و قد تكلمنا فيه بحسب ما ساعدنا الوقت و المجال، و أما تفصيل حالاتها على ما تعرضوا له بحسب الوسع و الطاقة البشرية فليطلب من مظانه و مواقعه، و العلم عند اللَّه و النبيّ و أوصيائه الكرام عليهم السلام.
|