و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الخامسة و الثمانون من المختار في باب الخطب
و هي مروية في الاحتجاج من قوله عليه السّلام: لا يشمل بحدّ إلى آخرها مثل ما في المتن من دون اختلاف إلّا في ألفاظ يسيرة.
قال السيد (ره): و تجمع هذه الخطبة من اصول العلم مالا تجمعه خطبة.
ما وحّده من كيّفه، و لا حقيقته أصاب من مثّله، و لا إيّاه عنى من شبّهه، و لا صمده من أشار إليه و توهّمه، كلّ معروف بنفسه مصنوع، و كلّ قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدّر لا بجول فكرة، غنيّ لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، و لا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله. بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بمضادّته بين الامور عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النّور بالظّلمة، و الوضوح بالبهمة، و الجمود بالبلل، و الحرور بالصّرد، مؤلّف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها، لا يشمل بحدّ، و لا يحسب بعدّ و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، و تشير الالات إلى نظائرها، منعتها منذ القدمة، و حمتها قد الأزليّة، و جنّبتها لو لا التّكملة، بها تجلّى صانعها للعقول، و بها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السّكون و الحركة، و كيف يجري عليه ما هو أجراه، و يعود فيه ما هو أبداه و يحدث فيه ما هو أحدثه، إذا لتفاوتت ذاته، و لتجزّء كنهه، و لا امتنع من الأزل معناه، و لكان له وراء إذ وجد له أمام، و لالتمس التّمام إذ لزمه النّقصان، و إذا لقامت آية المصنوع فيه، و لتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، و خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره.
اللغة
(وضح) يضح من باب وعد إذا انكشف و انجلي و (البهمة) لعلّها مأخوذة من أبهم الأمر و استبهم إذا اشتبه (الحرور) بفتح الحاء في أكثر النسخ و هكذا ضبطه الشارح المعتزلي قال الفيومي: الحرور و زان رسول الريح الحارة، قال الفرّاء تكون ليلا و نهارا، و قال أبو عبيدة: أخبرنا روبة أنّ الحرور بالنهار و السّموم بالليل و قال أبو عمرو بن العلا: الحرور و السّموم باللّيل و النهار، و في القاموس: الحرور الريح الحارة بالليل و قد تكون بالنّهار و حرّ الشمس و الحرّ الدائم و النار، و في نسخة الشارح البحراني الحرور بالضمّ قال في القاموس: الحرّ ضدّ البرد كالحرور بالضّم و الحرارة
الاعراب
قوله: منعتها منذ القدمة و حمتها قد الأزليّة و جنبتها لو لا التكملة، المروىّ من نسخة الرضيّ نصب القدمة و التكملة و الأزليّة، و من بعض النسخ رفعها، فعلى الرواية الاولى الضمائر المتّصلة مفعولات اول للأفعال الثلاثة، و لفظة منذ و قد و لو لا في موضع الرّفع على الفاعل، و المنصوبات الثلاث مفعولات ثانية بالواسطة، و على الرواية الثانية فارتفاع الأسماء الثلاثة على الفاعليّة، و الضمائر المتّصلة مفاعيل و منذ و قد و لو لا مفاعيل ثوان.
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة كما قاله السيّد (ره) مشتملة على مطالب نفيسة و مباحث شريفة من العلم الالهي مع تضمّنها للفصاحة و البلاغة و انسجام العبارات و حسن الاسلوب و بديع النظم، و لعمرى أنها فصل من كلامه عليه السّلام في أرجائه مجال المقال واسع، و لسان البيان صادع، و ثاقب المطالب لامع، و فجر المدايح طالع، و مراح الامتداح جامع، فهو لمن تمسّك بهداه نافع، و لمن تعلّق بعراه رافع، فيا له من فصل فضل كؤوس ينبوعه لذّة للشاربين، و دروس مضمونه مفرحة للكرام الكاتبين يعظم للمحقّقين قدر وقعه، و يعم للمدقّقين شمول نفعه. كيف لا و الموصوف به الحقّ الأوّل ربّ العالمين، و ديّان الدّين، و خالق السّماوات و الأرضين، إله الخلق أجمعين.
و الواصف جامع علوم الأوّلين و الاخرين، خليفة اللّه في الأرضين، معلم الملائكة و النّبيّين، أمير المؤمنين الذي بحار علومه و ماثره لا ينال قعرها بغوص الأفهام و جبال فضايله و مفاخره لا يرتقى قلالها بطير العقول و الأوهام.
و تالي هذه الخطبة الشريفة خطبة أخرى لأبي الحسن الرّضا عليه السّلام يأتي إنشاء اللّه ذكرها في شرح المختار المأة و الثامن«» و هي أيضا تجمع من اصول علم التوحيد ما لا يحصى كما يعرفه الناقد البصير ذو الفهم الثاقب.
اذا عرفت ذلك فأقول: إنّه عليه السّلام قد وصف اللّه الملك العلّام في هذه الخطبة بأوصاف سلبيّة و اضافيّة.
أولها قوله عليه السّلام: (ما وحّده من كيّفه) أى من جعله مكيفا و وصفه سبحانه بالكيف فلم يجعله واحدا و لم يقل بوحدانيّته، لكنّه تعالى واحد و توحيده واجب لقيام الأدلة العقليّة و النقليّة عليه حسبما مرّ في تضاعيف المتن و الشرح غير مرّة فتكييفه مطلقا باطل.
و إنّما كان التكييف منافيا للتوحيد لأنّ الكيف بأقسامها الأربعة أعنى الكيفيات المحسوسة راسخة كانت كصفرة الذّهب و حلاوة العسل و تسمى انفعاليات أو غير راسخة كحمرة الخجل و صفرة الوجل و تسمّى انفعالات، و الكيفيّات الاستعداديّة سواء كانت استعدادا نحو الانفعال أى التهيؤ لقبول أثرها بسهولة أو سرعة كالمراضيّة و اللين، أو استعدادا نحو اللّا انفعال أى التهيؤ للمقاومة و بطوء الانفعال كالمصحاحيّة و الصّلابة، و الكيفيات النفسانيّة المختصّة بذوات الأنفس الحيوانيّة راسخة كانت و تسمّى ملكة كالعلم و الشجاعة و العدالة، أو غير راسخة و تسمّى حالا كغضب الحليم و مرض الصّحاح، و الكيفيات المختصّة بالكميّات متّصلة كانت كالاستقامة و الانحناء و الشكل و الخلقة، أو منفصلة كالزوجيّة و الفرديّة.
فهو بهذه الأقسام الثابتة له بالحصر العقلي أو الاستقرائي من أقسام العرض و العرض هو الموجود الحال في المحل على وجه الاختصاص الناعت أى يكون أحد الشيئين بالنسبة إلى الاخر بحيث يكون مختصّا به على وجه يوجب ذلك الاختصاص كون الأوّل نعتا و الثاني منعوتا كما في السواد بالنسبة إلى الجسم، فانّ اختصاصه به أوجب اتّصافه به فيقال جسم أسود فلو كان الحقّ الأوّل سبحانه موصوفا بالكيف بأيّ قسم من أقسامه لزم اقترانه به، و المقارنة بين الموصوف و الوصف مستلزم للتثنية لما قد مرّ في الفصل الرابع من المختار الأوّل من قوله عليه السّلام: فمن وصف اللّه فقد قرنه و من قرنه فقد ثناه، و التثنية مناف للتوحيد، هذا.
و قد مرّ دليل آخر على استحالة اتّصافه بالكيف في شرح الفصل الثّاني من المختار التسعين فليراجع هناك.
و توضيح ما قاله من جهة النقل ما رواه في البحار من كتاب كفاية النصوص لعليّ بن محمّد بن عليّ بن الخزاز الرازي عن أبي المفضّل الشّيباني عن أحمد بن مطوق ابن سوار عن المغيرة بن محمّد بن المهلب عن عبد الغفار بن كثير عن إبراهيم بن حميد عن أبي هاشم عن مجاهد عن ابن عبّاس قال: قدم يهوديّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقال له: نعثل.
فقال: يا محمّد إنّي سائلك عن أشياء تلجلج في صدرى منذ حين فان أنت أجبتني عنها أسلمت على يدك، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سل يا با عمارة.
فقال: يا محمّد صف لي ربّك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه و كيف يوصف الخالق الذي يعجز الحواس أن تدركه، و الأوهام أن تناله، و الخطرات أن تحدّه و الأبصار عن الاحاطة به، جلّ عمّا يصفه الواصفون، نأى في قربه، و قرب في نائه كيّف الكيفيّة فلا يقال له كيف، و أيّن الأين فلا يقال له أين، منقطع الكيفوفيّة و الأينونيّة، فهو الأحد الصّمد كما وصف نفسه، و الواصفون لا يبلغون نعته لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد.
قال: صدقت يا محمّد أخبرني عن قولك إنّه واحد لا شبيه له أليس اللّه واحد و الانسان واحد فوحدانيّته أشبهت وحدانيّة الانسان فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّه واحد واحدىّ المعني و الانسان واحد ثنوىّ المعني جسم و عرض و بدن و روح، فانما التشبيه في المعاني لا غير.
و الثاني قوله عليه السّلام (و لا حقيقته أصاب من مثّله) أى من أثبت له المثل فلم يعرفه حقّ معرفته، لأنّه سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شي ء فالجاعل له مثلا لم يعرفه بوجوب الوجود لأنّ وجوب الوجود ينفى المثل.
و المقصود بالكلام تنزيهه سبحانه عن المماثل و تحقيق أنّه سبحانه لا مثل له هو أنّ المثل هو المشارك في تمام الماهيّة و هو تعالى ليس له شريك فليس له مثل و أيضا قد تقرّر أنّه تعالى لا مهيّة له فلا يكون له مثل اذا الاشتراك في المهيّة فرع وجود المهيّة.
و قال الشارح البحراني: كلّ ما له مثل فليس بواجب الوجود لذاته، لأنّ المثليّة إمّا أن يتحقق من كلّ وجه فلا تعدّد إذا لأنّ التعدّد يقتضى المغايرة بأمر ما و ذلك ينافي الاتحاد و المثليّة من كلّ وجه هذا خلف، و إمّا أن يتحقّق من بعض الوجود.
و حينئذ ما به التماثل إما الحقيقة أو جزؤها أو أمر خارج عنها.
فان كان الأوّل كان به الامتياز عرضيا للحقيقة لازما أو زايلا لكن ذلك باطل لأنّ المقتضى لذلك العرضية إمّا المهيّة فيلزم أن يكون مشتركا بين المثلين لأنّ مقتضى الماهية الواحدة لا يختلف فما به الامتياز لأحد المثلين عن الاخر حاصل للاخر هذا خلف، أو غيرها فتكون ذات واجب الوجود مفتقرة في تحصيل ما تميّزها من غيرها إلى غير خارجي هذا محال.
و ان كان ما به التماثل و الاتّحاد جزءا من المثلين لزم كون كلّ منهما مركبا فكل منهما ممكن هذا خلف.
و بقى أن يكون التماثل بأمر خارج عن حقيقتهما مع اختلاف الحقيقتين لكن ذلك باطل.
أمّا أولا فلامتناع وصف واجب الوجود بأمر خارج عن حقيقته لاستلزام اثبات الصفة له تثنيته و تركيبه على ما مرّ.
و أمّا ثانيا فلأنّ ذلك الأمر الخارجي المشترك إن كان كمالا لذات واجب الوجود فواجب الوجود لذاته مستفيد للكمال من غيره هذا خلف، و إن لم يكن كمالا كان اثباته له نقصا، لأنّ الزيادة على الكمال نقص فثبت أنّ كلّ ماله مثل فليس بواجب الوجود لذاته.
و الثالث قوله عليه السّلام (و لا إيّاه عنى من شبّهه) و معناه مثل سابقه و الغرض به تنزيهه عن الشبيه.
و قال صدر المتألهين في شرح الكافي: الضابطة الكلّية في تنزيهه تعالى عن الاشتراك مع غيره في شي ء من الصّفات أو أمر من الأمور الوجوديّة أنّه يلزم عند ذلك إما المماثلة في الذات أو المشابهة في الصّفة، لأنّ ذلك الأمر المشترك إن كان معتبرا في ذاته تعالى فيلزم المثل، و إن كان زايدا عليه فأشبه و كلاهما محال.
أمّا الأوّل فللزوم التركيب المستلزم للامكان و الحاجة، و لما تقدّم من البرهان على نفى الماهية عن واجب الوجود، و أنّ كلّ ذي مهيّة معلول، و أيضا قد برهن على أنّ أفراد طبيعة واحدة لا يمكن أن يكون بعضها سببا للبعض مقدما عليه بالذات، و اللّه موجد كلّ ما سواه فلا مثل له في الوجود.
و أمّا الثاني فذلك الأمر الزائد إن كان حادثا لزم الانفعال و التغير الموجبين للتركيب تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، و إن كان أزليّا لزم تعدّد الواجب تعالى و هو محال.
و الرابع قوله عليه السّلام (و لا صمده من أشار إليه و توهّمه) أى لم يقصده سبحانه من أشار إليه بالاشارة الحسيّة أو العقليّة، لأنّ من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من عدّه فقد أبطل أزله حسبما عرفته في شرح الفصل الخامس من المختار الأوّل، و في شرح المختار المأة و الثّاني و الخمسين، فالموجّه قصده إلى من يشير إليه موجّه له إلى شي ء ممكن ليس بواجب، و كذلك من وجّه قصده إلى شي ء موهوم موجه له إلى مخلوق مصنوع مثله لا إلى المعبود بالحقّ الواجب لذاته، لتنزّهه سبحانه عن ادراك العقول و الأوهام، و تقدّسه عن درك الافهام حسبما عرفته في شرح الفصل الثاني من المختار الأوّل و غيره.
و قد قال الباقر عليه السّلام كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مثلكم و لعلّ النمل الصّغار تتوهّم أنّ للّه زبانين «زبانيين» فانّ ذلك كمالها و تتوهّم أنّ عدمهما نقصان لمن لا يتّصف بهما.
و الخامس قوله عليه السّلام (كلّ معروف بنفسه مصنوع) و الغرض منه نفى العلم به بحقيقته بيان ذلك أنه تعالى لو كان معروفا بنفسه أى معلوما بحقيقته لكان مصنوعا إذ كلّ معروف مصنوع لكن التالى باطل فالمقدّم مثله، أما بطلان التالى فلأنّ المصنوع مفتقر إلى الصانع و المفتقر ممكن لا يكون واجبا، و أما وجه الملازمة فلأنّ كلّ معلوم بحقيقته فانّما يعلم من جهة أجزائه و كلّ ذي جزء فهو مركب محتاج إلى مركّب يركّبه و صانع يصنعه، فثبت بذلك أنّ كلّ معلوم الحقيقة مصنوع فانقدح منه أنّه تعالى شأنه غير معروف بنفسه بل معروف باثاره و آياته.
و السادس قوله عليه السّلام (و كلّ قائم في سواه معلول) و الغرض منه نفى كونه قائما بغيره، إذ لو كان قائما بغيره لكان معلولا، لأنّ كلّ قائم في سواه معلول لكن التالى باطل لأنّ المعلولية ينافي وجوب الوجود فالمقدّم مثله، و وجه الملازمة أنّ القائم بغيره محتاج إلى محلّ و كلّ محتاج ممكن و كلّ ممكن معلول فظهر منه أنه تعالى لا يكون قائما بغيره، بل كلّ شي ء قائم به موجود بوجوده.
و يمكن تقرير الدليل بنحو آخر و هو أن يقال: كلّ قائم في سواه معلول و الواجب تعالى ليس بمعلول فينتج أنه ليس قائما بغيره، و يأتي مثل هذا التقرير في الفقرة السابقة أعنى قوله كلّ معروف اه.
السابع أنه تعالى (فاعل لا باضطراب آلة) يعنى أنه خالق الخلايق أجمعين جاعل السماوات و الأرضين موجد الأولين و الاخرين من دون حاجة في فعله و ايجاده إلى اكتساب الالات و تحصيل الأدوات، لأنّ الافتقار إليها من صفات الامكان و لوازم النقصان و إنما أمره تعالى إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
الثامن أنه (مقدّر لا بجول فكرة) يعنى أنه سبحانه قدّر لكلّ شي ء ما يستحقه من الوجود و أعطا كلّ موجود المقدار الذي يستعدّه من الكمال كما و كيفا في الأرزاق و الاجال و نحوها من دون افتقار في ذلك إلى جولان الفكر كما يفتقر إليه غيره من البشر، لأنّ الفكرة لا تليق إلّا بذوى الضمائر و هو تعالى منزّه عن الضمير و ساير الالات البدنية.
التاسع أنّه سبحانه (غنى لا باستفادة) يعنى أنّ غناه تعالى بنفس ذاته الواجب لا كالأغنياء منّا مستفيدا للغنى من الخارج و إلّا لزم كونه تعالى ناقصا في ذاته مستكملا بغيره و هو محال، و أيضا كلّ غنيّ غيره فقد صار موجودا بوجوده و حصل له الغنى من بحر كرمه وجوده، و معطى الشي ء لا يكون فاقدا له البتة.
العاشر أنه (لا تصحبه الأوقات) لأنه تعالى قديم و الوقت و الزمان حادث و الحادث لا يكون مصاحبا للقديم لاستلزام المصاحبة للمقارنة و المعيّة.
روى في البحار من التوحيد و الأمالى عن أبى بصير عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لا يوصف بزمان و لا مكان و لا حركة و لا انتقال و لا سكون بل هو خالق الزمان و المكان و الحركة و السكون و الانتقال، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
(و) الحادي عشر أنّه (لا ترفده الأدوات) أى لا تعينه الالات فيما يوجده و ايده لغنائه عن الحاجة إلى الاعانة و تنزّهه عن الاستعانة حسبما عرفته آنفا.
و الثاني عشر أنه (سبق الأوقات كونه) أى وجوده أى كان وجوده سابقا على الأزمنة و الأوقات بحسب الزمان الوهمى أو التقديرى و كان علّة لها و موجدا إيّاها.
(و) الثالث عشر أنه سبق (العدم وجوده) أى وجوده لوجوبه سبق و غلب العدم فلا يعتريه عدم أصلا.
و قال الشارح البحراني: المراد عدم الممكنات لأنّ عدم العالم قبل وجوده كان مستندا إلى عدم الداعى إلى ايجاده المستند إلى وجوده، فوجوده سبق على عدم الممكنات.
و قيل: اريد به اعدام الممكنات المقارنة لابتداء وجوداتها فيكون كناية عن أزليته و عدم ابتداء لوجوده.
(و) الرابع عشر أنه سبق (الابتداء أزله) أى سبق وجوده الأزلي كلّ ابتداء فليس لوجوده و لا شي ء من صفات ذاته ابتداء، أو أنّ أزليته سبق بالعلية كلّ ابتداء و مبتداء.
الخامس عشر أنه تعالى (بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له) أى بخلقه و ايجاده المشاعر الادراكية و الحواس و إفاضتها على الخلق عرف أن لا مشعر له، إما لما مرّ من أنه تعالى لا يتّصف بخلقه، أو لأنا بعد إفاضة المشاعر علينا علمنا حاجتنا في الادراك إليها فحكمنا بتنزّهه تعالى عنها لاستحالة الاحتياج عليه سبحانه.
و قال الشارح المعتزلي: لأنّ الجسم لا يصحّ منه فعل الأجسام و هذا هو الدّليل الذي يعول عليه المتكلّمون في أنه تعالى ليس بجسم.
و قال الشارح البحراني: و ذلك أنه تعالى لما تعالى خلق المشاعر و أوجدها و هو المراد بتشعيره لها امتنع أن يكون له مشعر و حاسة و إلّا لكان وجودها له إمّا من غيره و هو محال، أمّا أوّلا فلأنّه مشعر المشاعر و أمّا ثانيا فلأنه يكون محتاجا في كماله إلى غيره فهو ناقص بذاته هذا محال، و إمّا منه و هو أيضا محال لأنه إن كان من كمالات الوهيّته كان موجودا لها من حيث فاقد كمالا فكان ناقصا بذاته هذا محال، و إن لم يكن كما لا كان اثباتها له نقصا لأنّ الزيادة على الكمال نقصان فكان ايجاده لها مستلزما لنقصانه و هو محال انتهى.
و اعترض عليه صدر المتألّهين في شرح الكافى و قال فيه بحث من وجوه: أحدها بطريق النقض فانّ ما ذكره لو تمّ يلزم أن لا يثبت له تعالى على الاطلاق صفة كمالية كالعلم و القدرة و نحوهما بأن يقال امتنع أن يكون له علم مثلا و إلّا لكان وجوده له إما من غيره، إلى آخر ما ذكره.
و ثانيها بالحلّ و هو أنّ ههنا احتمالا آخر نختاره، و هو أن يكون ذلك المشعر عين ذاته كالعلم و القدرة فان بطلانه لو كان بديهيّا لم يحتج إلى الاستدلال إذ كلّ ما يحتمل قبل الدليل أن يكون عارضا له يحتمل أن يكون عينا له.
و ثالثها أنّ ما ذكره من الكلام على تقدير تمامه استدلال برأسه لم يظهر فيه مدخلية قوله بتشعيره المشاعر في نفى المشعر عنه تعالى، و إنما استعمله في إثبات مقدّمة لم تثبت به و قد ثبت بغيره كما لا يخفى على الناظر فيه.
فالأولى أن يقال: قد تقرّر أنّ الطبيعة الواحدة لا يمكن أن يكون بعضها علّة لبعض آخر لذاته بأن يقال: لو فرض كون نار مثلا علّة النار أخرى فعليّة هذه و معلولية هذه إمّا لنفس كونهما نارا فلا رجحان لإحداهما في العلّية و للأخرى في المعلوليّة لتساويهما في النارية، بل يلزم أن يكون كلّ نار علّة للاخرى بل علّة لذاتها و معلولا لذاتها و هو محال و إن كان العلية لانضمام شي ء آخر فلم يكن ما فرضناه علّة بل العلّة حينئذ ذلك الشي ء فقط لعدم الرجحان في إحداهما للشرطيّة و الجزئية أيضا لاتّحادهما من جهة المعنى المشترك و كذلك الحال لو فرض المعلوليّة لأجل ضميمة، فقد تبيّن أنّ جاعل الشي ء يستحيل أن يكون مشاركا لمجعوله.
و به يعرف أنّ كلّ كمال و كلّ أمر وجودى يتحقّق في الموجودات الامكانية فنوعه و جنسه مسلوب عنه تعالى و لكن يوجد له ما هو أعلى و أشرف منه.
أمّا الأوّل فلتعاليه عن النقص و كلّ مجعول ناقص و إلّا لم يكن مفتقرا الى جاعل و كذا ما يساويه في المرتبة و آحاد نوعه كاحاد جنسه.
و أمّا الثاني فلأنّ معطى كلّ كمال ليس بفاقد له بل هو منبعه و معدنه و ما في المجعول رشحه و ظلّه، انتهى.
(و) السادس عشر أنه سبحانه (بمضادّته بين الامور عرف أن لا ضدّ له) لأنّ الضدّ يطلق على معنيين.
أحدهما المعنى الاصطلاحى فيقال الضدّان في الاصطلاح على الأمرين الوجوديّين الذين يتعاقبان على موضوع خطبه 186 نهج البلاغه بخش 1 واحد و محلّ واحد.
و الثاني المعنى العرفي الذى هو المكافئ للشّي ء و المساوى له في القوّة و على أىّ معنى كان فليس يجوز أن يكون له سبحانه ضدّ.
أمّا على الأوّل فلأنّه لما خلق الأضداد في محالها وجدناها محتاجة إليها علمنا عدم كونه ضدّ الشي ء للزوم الحاجة إلى المحلّ المنافية لوجوب الوجود أو لأنّا لما رأينا كلّا من الضدّين يمنع وجود الاخر و يدفعه و يفنيه علمنا أنّه تعالى منزّه عن ذلك، أو أنّ التضاد إنما يكون للتحدّد بحدود معيّنة لا تجامع غيرها كمراتب الألوان و الكيفيات، و هو سبحانه منزّه عن الحدود، و أيضا كيف يضادّ الخالق مخلوقه و الفايض مفيضه.
و أما على الثاني فلأنّ المساوى للقوّة في الواجب يجب أن يكون واجبا فيلزم تعدد الواجب و هو باطل.
و قال الشارح البحراني: إنّه لما كان خالق الأضداد فلو كان له ضدّ لكان خالقا لنفسه و لضدّه و هو محال، و لأنّك لما علمت أنّ المضادّة من باب المضاف و علمت أنّ المضاف ينقسم إلى حقيقيّ و غير حقيقىّ فالحقيقىّ هو الّذى لا نعقل مهيّته إلّا بالقياس إلى غيره، و غير الحقيقى هو الذي له في ذاته مهيّة غير الاضافة تعرض لها الاضافة، و كيف ما كان لا بد من وجود الغير حتى يوجد المضاف من حيث هو مضاف، فيكون وجود أحد المضافين متعلّقا بوجود الاخر، فلو كان لواجب الوجود ضدّ لكان متعلق الوجود بالغير فلم يكن واجب الوجود لذاته هذا خلف انتهى.
أقول: و أنت خبير بأنّ ما ذكره أخيرا في علّة إبطال الضّد أعنى قوله: لو كان لواجب الوجود ضدّ لكان متعلّق الوجود بالغير اه إنما يتمشّى في القسم الأوّل أعنى المضاف الحقيقى، و أمّا في القسم الثاني فلا، إذ تعلّق وجوده بالغير ممنوع لأنّ له فى ذاته مهيّة موجودة كما صرّح به، و إنما إضافته موقوفة على الغير كما لا يخفى.
فالأولي أن يساق الدليل إلى قوله حتّى يوجد المضاف من حيث هو مضاف على النحو الذي ساقه ثمّ يقال: و هو محال عليه تعالى.
أما على التقدير الأول فظاهر إذ لا مكافى ء و لا مضادّ له في الوجود لما أشرنا إليه. و أمّا على الثاني فلأنّ صفاته عين ذاته و ليس له صفة عارضة فلا يتّصف بالاضافة العرضية، و هذا كلّه بعد الغضّ عما برهن عليه من أنّ الواجب سبحانه لا مهية له فافهم جيدا.
و به يظهر الجواب عما ربما يعترض في المقام بأنّه تعالى بذاته مبدء الأشياء و خالقها و موجدها، و كلّ هذه الامور إضافات فيكون مضافا حقيقيا.
وجه ظهور الجواب أنّ المضاف من أقسام المهية التي لها أجناس عالية، و الوجود ليس بمهية كلية و لا جنس له و لا فصل سيّما وجود الواجب الذى لا يشوبه عموم و لا مهيّة، ألا ترى أنّ كونه موجودا لا في موضوع خطبه 186 نهج البلاغه بخش 1 لا يوجب كونه جوهرا إذ الجواهر مهيّة حقّها في الوجود الخارجى أن لا يكون في موضوع خطبه 186 نهج البلاغه بخش 1، و الأوّل تعالى لا مهيّة له فلا يكون جوهرا و كذا لا يكون مضافا.
(و) السابع عشر أنّه (بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له) و الكلام فيه كما مرّ في سابقه حرفا بحرف.
بأن يقال: انه تعالى خلق المقترنات و مبدء المقارنة بها فلو كان مقارنا لغيره لكان خالقا لنفسه و لقرينه و هو محال، و أيضا المقارنة من باب المضاف و يمتنع أن يلحق الواجب لما تقدّم.
و قال صدر المتألهين في شرح الكافي: برهانه أنه خالق المقترنات و نحو وجودها الذى بحسبه يكون مقترنا بالذات، أو يصحّ عليه المقارنة.
فالأوّل ككون الشي ء عارضا لشي ء أو معروضا ملزوما له أو صورة شي ء أو مادّة شي ء أو جزء شي ء و الثاني ككون الشي ء معروضا بشي ء بعد ما لم يكن، أو مادّة ككون جسم ملاقيا لجسم آخر و هذه كلّها ممّا لا يجوز لحوقه لكلّ موجود اتفق، بل من الموجود ما يستحيل عليه لذاته الاقتران بشي ء كالمفارقات مثلا و كالاضداد بعضها لبعض.
و الغرض أنّ كون الشي ء بحيث يجوز عليه المقارنة شي ء آخر أمر يرجع إلى خصوصيّة ذاته و نحو وجوده، و قد علمت أنّ خالق كلّ موجود ليس من نوع ذلك الوجود، فلو كان ذاته مقارنا بشي ء آخر و انحاء المقارنات محصورة و كل منها قد وجد في المخلوقات فيلزم كونه من نوع المخلوقات بل يلزم كونه خالقا لنفسه كما مرّ.
الثامن عشر أنّه مضادّ بين الأمور المتضادّة و هو في الحقيقة تأكيد للوصف السّادس عشر، لأنه قد ذكر جملة من أقسام المتضادّات و المتفرّقات ليتبيّن أنّ مضادّها و مفرّقها ليس من جنسها، و يتّضح أنه ليس متّصفا بها و لا بالتضاد فقال: (ضاد النّور بالظلمة) و هو دليل بظاهره بصيغة الفاعل على كون الظلمة أمرا وجوديا مطابق لقوله تعالى: وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ إذ لو كان أمرا عدميّا لم يكن مجعولا مخلوقا، و هو مذهب المحقّقين من المتكلّمين حسبما عرفته في شرح الفصل الأوّل من المختار الرابع، خلافا للاشراقيّين و أتباعهم حيث ذهبوا إلى أنّها ليست إلّا عدم النّو فقط، من غير اشتراط الموضوع خطبه 186 نهج البلاغه بخش 1 القابل.
قال الصّدر الشيرازي: و الحقّ أنها ليست عدما صرفا بل هي عبارة عن عدم الضوء عما من شأنه أن يضي ء و إذا ليست بعدم صرف، و مع ذلك يتعاقب مع الضوء على موضوع خطبه 186 نهج البلاغه بخش 1 واحد كالهواء و نحوه، فصّح عليه إطلاق الضّد على اصطلاح المنطقيين حيث لا يشترط في اصطلاحهم المنطقى كون كلا الضدّين وجوديّين، بل الشرط عندهم التعاقب على موضوع خطبه 186 نهج البلاغه بخش 1 واحد انتهى.
و على ذلك أى كونها عبارة عن عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مضيئا تقابل الضّوء تقابل العدم و الملكة، و يكون اطلاق الضدّ عليها بحسب الاصطلاح الحكمي مجازا كما لا يخفى.
(و) ضاد (الوضوح بالبهمة) أى الظهور بالابهام و الجلاية بالخفاء، و فسّرهما الشارحان المعتزلي و البحراني بالبياض و السّواد و لا يخفى بعده (و الجمود بالبلل) أى اليبوسة بالرطوبة (و الحرور بالصرد) أى الحرارة أو حرارة الريح الحارة بالبرودة.
التاسع عشر أنّه تعالى (مؤلّف بين متعادياتها مقارن بين متبايناتها مقرّب بين متباعداتها) لا يخفى حسن الاسلوب و لطافة التطبيق في هذه الفقرات الثلاث و الفقرة الرابعة الاتية، حيث طابق بين التأليف و التعادى و التقارن و التباين و التقريب و التباعد و التفريق و التداني.
و المقصود أنّه جمع سبحانه بقدرته الكاملة و حكمته البالغة بين الامور التي في غاية التباين و التباعد، مثل جمعه بين العناصر المختلفة الكيفيّات و بين الروح و البدن، و القلوب المتشتّتة و الأهواء المتفرّقة، فبدّل ذلك الجمع و التأليف الواقع على خلاف مقتضى الطبايع على قاهر يقهرها عليه، و قاسر يقسر العناصر على الامتزاج و الالتيام و الاستحالة، حتّى يحصل بينها كيفيّة متوسّطة هي المزاج إذ لو كان كلّ منها في مكانه لم يحصل بينها امتزاج فلم يتحصّل منها مزاج.
العشرون أنّه (مفرّق بين متدانياتها) لا يخفى حسن المقابلة بين هذه القرينة و القراين الثلاث السابقة، حيث جعل التفريق في قبال التأليف و القرآن و التقريب و جعل التداني في مقابلة التباعد و التباين و التعادى.
و المراد أنه فرّق بين الأشياء على منتهى قربها مثل تفريقه بين أجزاء العناصر لبطلان تركيبها و بين الرّوح و البدن بالموت و بين أجزاء المركبات عند انحلالها و الأبدان بعد موتها، فدلّ ذلك التفريق على وجود المفرّق و قدرته، قال تعالى: «وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».
قيل في تفسيره: إنّ في خلق الزوجين دلالة على المفرّق و المؤلّف لهما، لأنّه خلق الزوجين من واحد بالنوع فيحتاج إلى مفرّق يجعلهما متفرّقين و جعلهما مزاوجين مؤتلفين ألفه بخصوصهما فيحتاج إلى مؤلّف يجعلهما مؤتلفين.
الحادى و العشرون أنّه (لا يشمل بحدّ) أي لا يشمله حدّ و لا يكون محدودا به، لا بالحدّ الاصطلاحي و لا بالحدّ اللّغوي، لما مرّ غير مرّة في تضاعيف الشرح من أنّ الحدّ الاصطلاحي و هو القول الشارح لمهيّة الشي ء المؤلف من المعاني الذاتية المختصّه به، فلا بدّ أن يكون المحدود به مركّبا ذا أجزاء، و الواجب تعالى ليس بمركب فلا يكون محدودا، و الحدّ اللّغوي عبارة عن نهاية الشي ء الذي يقف عندها و لا يتجاوز عنها، و هو من لواحق الكمّ المتّصل و المنفصل و الكمّ من الأعراض و لا شي ء من الواجب بعرض أو محلّ له فامتنع أن يوصف به.
(و) الثاني و العشرون أنّه (لا يحسب بعدّ) قال الشارح البحراني: أى لا يلحقه الحساب و العدّ فيدخل في جملة المحسوبات بالمعدودة و ذلك إنّ العدّ من لواحق الكمّ المنفصل الذي هو العدد كما هو معلوم في مظانه و الكمّ عرض، و قد ثبت أنه تعالى ليس بعرض و لا محلّ له.
و قال الشّارح المعتزلي: يحتمل أن يريد به أنّه لا تحسب أزليّته بعدّ أى لا يقال له منذ وجد كذا و كذا كما يقال للأشياء المتقاربة العهد و يحتمل أن يريد به أنّه ليس مماثلا للأشياء فيدخل تحت العدّ كما يعدّ الجواهر و كما تعدّ الامور المحسوسة.
و قال العلّامة المجلسي (ره): لا يحسب بالأجزاء و الصّفات الزائدة المعدودة.
أقول: و الكلّ صحيح محتمل لا غبار عليه و إن كان الأوّل أشبه، فالمقصود به أنّه ليس من جملة المعدودات كما ربما يسبق ذلك إلى الوهم إذا وصفناه سبحانه بأنه واحد فيتوهّم منه أنّه واحد ليس له ثان و أنّ وحدته وحدة عدديّة، و اندفاع ذلك الوهم بأن معنى كونه واحدا أنّه احدى الذات و أنّه ليس له مثل و نظير لا أنّه واحد بالعدد، لأنه لا يحسب بعد فيكون مساقه مساق قوله عليه السّلام في الخطبة السابقة واحد لا بعدد، هذا.
و لما نزّهه تعالى عن كونه محدودا بحدّ و معدودا بعدّ أكّد ذلك بقوله (و إنما تحدّ الأدوات أنفسها و تشير الالات إلى نظايرها) يعني أنّه سبحانه لو رام أحد أن يحدّه أو يعدّه فلا بدّ أن يكون تحديده و عدّه بالالات البدنيّة و القوى الجسمانيّة ظاهريّة كانت كالأصابع و اليد و اللّسان و غيرها، أو باطنية كالمتوهّمة و المتفكرة و المتخيّلة، لكن شيئا منها لا يقدر على ذلك.
أمّا الجوارح الظاهرة فلانحصار مدركاتها في عالم المحسوسات و الأجسام و الجسمانيات، فهي إنما تدرك و تحدّ أنفسها أى أجناسها و أنواعها و تعدّ نظايرها أي ذوات المقادير و تشير إلى ما هي مثل لها في الجسمية و الجسمانية، و صانع العالم ليس بجسم و لا جسماني و لا ذي مقدار فاستحال أن تحدّه الالات و تعدّه الأدوات.
و أمّا المشاعر الباطنة فانّ مدركاتها و إن لم تكن مقصورة في المحسوسات و الموجودات إلّا أنها إذا حملت على ما ليس بموجود في الخارج ترجع و تخترع صورة مماثلة للموجود حسبما عرفته في شرح الفصل الثاني من المختار الأوّل فهي أيضا لا تتعلّق إلّا بما يماثلها في الامكان و لا تحيط إلّا بما هو في صورة جسم أو جسماني.
فاتّضح بذلك أنّ أفعال الأدوات و الالات و آثارها إنما توجد في الأشياء الممكنة الّتي هي مثلها لا فيه تعالى، هذا.
و لما ذكر أنّه سبحانه أجلّ و أعظم شأنا و قدسا من دخوله في عداد المحدودات و أكّده باستحالة التحديد و الاشارة إليه سبحانه من الالات و الأدوات لكون مدركاتها مقصورة محصورة في أسناخها و أشباهها من الممكنات و المحسوسات و أكّده ثانيا بالتنبيه على أنّ الالات موصوفة بالحدوث و الامكان و النقص، و الحقّ الأوّل جلّ شأنه و عظم سلطانه موصوف بالقدم و الوجوب و الكمال، فكيف لها أن تحوم حوم حضرة القدس و أنّى للحادث أن يحدّ القديم و للممكن الاشارة إلى الواجب و للناقص الاحاطة بمن هو في غاية العظمة و الكمال و الجبروت و الجلال. و ذلك قوله (منعتها منذ القدمة و حمتها قد الأزلية و جنبتها لو لا التّكملة) فالمقصود بهذا الكلام التنبيه على حدوث الالات و الأدوات و نقصها صراحة و الاشارة إلى قدم الباري تعالى و كماله ضمنا أو بالعكس، و الأوّل مبنيّ على كون منذ و قد و لو لا مرفوعات المحل على الفاعلية، و الثاني على انتصابها بالمفعوليّة و كون الفاعل القدمة و الأزليّة و التكملة و الأوّل أولى و أنسب لمطابقته لنسخة الرضيّ كما روي و لكون قرب هذه الجمل بقوله و إنما تحدّ الأدوات آه مشعرا بكون عمدة النظر فيهما إلى بيان وصف الالات بالحدوث و إظهار نقصها و قصورها و ان كان المقصود بالذات منهما جميعا الدلالة على تنزيه الباري سبحانه من القصور و النقصان.
و كيف كان فتوضيح دلالة هذا الكلام على المرام يحتاج إلى تمهيد مقدّمة أو بيّنة و هي: أنّ لفظ منذ مثل اختها مذلها معنيان.
أحدهما أوّل المدّة أى ابتداء زمان الفعل الذي قبلها مثبتا أو منفيا تقول رأيته منذ يوم الجمعة أو ما رأيته منذ يوم الجمعة أى أوّل مدّة الرؤية أو انتفاؤها يوم الجمعة.
و ثانيها جميع مدّة الفعل الذي قبلها مثبتا أو منفيا، نحو صحبني منذ يومان أى مدّة صحبته يومان فيليها الزّمان الذي فيه معنى العدد، و يجب أن يليها مجموع زمان الفعل من أوّله الى آخره المتصل بزمان التكلّم.
و قد يقع بعدها مصدر أو فعل أو ان فيقدّر زمان مضاف الى هذه نحو ما رأيته منذ سفره أو منذ سافر أو منذ أنه سافر أى منذ زمان سفره و منذ زمان سافر و منذ زمان أنه سافر.
و لفظة قد اذا دخلت على الماضي تفيد التحقيق و تقريب الماضي من الحال تقول: قد ركب زيد أى حصل ركوبه عن قريب، فان قلت ركب زيد احتمل الماضي القريب و البعيد و لذلك لا تدخل على الفعل الغير المنصرف مثل نعم و بئس و عسى و ليس لأنّها ليست بمعنى الماضي حتى يقرّب معناها من الحال.
و لفظة لو لا موضوع خطبه 186 نهج البلاغه بخش 1ة للدخول على جملة اسمية ففعلية لربط امتناع الثانية بالاولى تقول لو لا زيد لأكرمتك أى لو لا زيد موجود، فهي تدلّ على امتناع الاكرام بسبب وجود زيد، و تقول في الأشياء البديعة المعجبة ما أحسنها و ألطفها لو لا ما فيها من عيب كذا، فتفيد انتفاء شدّة الحسن و الاعجاب بوجود العيب الموجود فيها.
و إذا مهّدت هذه المقدّمة الشريفة نقول: معنى كلامه عليه السّلام على رواية رفع منذ و قد و لو لا بالفاعلية أنّ صحّة إطلاق هذه الألفاظ الثلاثة بمعانيها المذكورة و اطراد استعمالها في الالات و الأدوات في نفسها و ما يتعلّق بها من أوصافها أو في أهلها أعنى من له تلك الالات تدلّ على حدوثها و نقصانها و ذلك لأنّ دخول لفظة منذ عليها في قولنا: هذه الالات وجدت منذ زمن طويل أو قصير أو أعوام كذا تمنعها من كون تلك الالات قديمة، إذ القديم متعال عن الزّمان و لا ابتداء لوجوده. و كذا دخول لفظة قد عليها في قولنا: قد وجدت تلك الالات في وقت كذا يمنعها من كونها أزليّة لافادتها تقريب زمان وجودها من الحال المنافي للأزليّة إذ الأزلي ما لا بداية لوجوده فكيف يكون الزمان الماضي ظرفا لوجوده فضلا عن القرب إلى الحال.
و كذا صحّة استعمال لو لا فيها في قولنا: ما أحسن تلك الالات و أكملها أو أحسن و أكمل أربابها لو لا فنائها يجنّبها أى تجعلها أجنبيّة من التكملة و الوصف بالكمال.
فملخّص المعنى أنها منعتها صحّة دخول منذ من قدمتها، و صحّة دخول قد من أزليتها و جعلها صحّة استعمال لو لا أجنبية من تكملتها أى من توصيفها بالكمال.
و أما على رواية النّصب و كون القدمة و الأزليّة و التكملة مرفوعات بالفاعلية فالمراد بيان قدم الباري و كماله سبحانه.
و معنى الكلام أن هذه الالات منعها كون الباري قديما من جواز استعمال لفظة منذ المربوط معناها بالزمان فيه تعالى و اطلاقها عليه سبحانه، لأنّ القديم سابق على الوقت و الزمان، و كذا منعها كونه سبحانه أزليا من جواز استعمال قد فيه عزّ شأنه، و جنّبها كونه على غاية العزّ و الكمال و منتهى العظمة و الجلال من دخول لفظة لو لا المفصحة عن القصور و النقصان على ذاته و صفاته تعالى هذا.
و لما ذكر عليه السّلام قدسه تعالى عن الاتّصاف بحدّ و الاحتساب بعدّ و ارتفاع ذاته عن تحديد الالات و المشاعر، و تعاليه عن إدراك الممكنات عن الأعراض و الجواهر و أشار إلى حدوث الالات و قصورها و نقصانها و قدمة الباري و أزليته و كماله أردفه بقوله (بها تجلى صانعها للعقول و بها امتنع عن نظر العيون) تنبيها على أنها على ما فيها من القصور و النقص غير عادم المدخلية في معرفته سبحانه، إذ بها عرفنا صفات جماله، و بها علمنا صفات جلاله.
فمعنى قوله عليه السّلام: بها تجلّي صانعها للعقول، أنّه بخلقه تلك المشاعر و الالات على وجه الاتقان و الاحكام، و تقديره إيّاها على النظام الأكمل و إفاضتها علينا و إهداء كلّ منها إلى ما خلق لأجلها من المصالح و المنافع التي لا تعدّ و لا تحصى، تجلّي سبحانه لعقولنا و علمنا علما لا يعتريه شكّ و ريب أنّ لها صانعا قادرا عالما مدبّرا حكيما و أيضا فانه سبحانه لما خلق تلك الالات و الحواس المدركة لبدايع ما في عالم الامكان عرفنا بإدراكها أنّ لذلك العالم مبدعا قادرا و صانعا قاهرا فكانت تلك الالات طرقا لعرفان العقل كما قال عزّ من قائل «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» و معنى قوله: و بها امتنع عن نظر العيون، أنّه بها استنبطنا استحالة كونه مرئيا بحاسة البصر، و ذلك لأنا بالمشاعر و الحواس كملت عقولنا استخرجنا الدّلالة على أنّه لا تصحّ رؤيته، و عرفنا أنه يستحيل أن يعرف بغير العقل و أنّ قول من قال إنّا سنعرفه رؤية و مشافهة بالحاسة باطل، هكذا قال الشارح المعتزلي.
و قال الشارح البحراني: إنّه بايجادها و خلقها بحيث تدرك بحاسّة البصر علم أنّه تعالى يمتنع أن يكون مرئيا مثلها، و ذلك لأنّ تلك الالات إنما كانت متعلّقة حسّ البصر باعتبار أنّها ذات وضع وجهة و لون و غيره من شرايط الرؤية، و لما كانت هذه الأمور ممتنعة في حقّه تعالى لا جرم امتنع أن يكون محلّا لنظر العيون.
و قال العلّامة المجلسي (ره): لما رأينا المشاعر انما تدرك ما كان ذا وضع بالنسبة إليها علمنا أنه لا يدرك بها، لاستحالة الوضع فيه.
و الثالث و العشرون أنه سبحانه (لا يجرى عليه السكون و الحركة) لأنّهما من أقسام الأعراض و أوصاف الأجسام فيستحيل جريانهما عليه سبحانه، و أوضح ذلك الدّليل بوجوه: أحدها ما أشار إليه بقوله (و كيف يجرى عليه ما هو أجراه و يعود فيه ما هو أبداه و يحدث فيه ما هو أحدثه) استفهام على سبيل الانكار و الابطال لجريهما عليه تعالى تقريره أنّه عزّ و جلّ هو جاعل الحركة و السّكون و مبدؤهما و موجدهما فهما من مجعولاته و آثاره سبحانه في الأجسام، و كلّ ما كان من آثاره فيستحيل اتّصافه به.
أمّا أنهما من آثاره سبحانه فواضح و أمّا استحالة اتّصافه بهما فلأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر فذلك الأثر: إمّا أن يكون معتبرا في صفات الكمال فيلزم أن يكون الواجب ناقصا بذاته مستكملا بغيره من آثاره، و النقص عليه محال.
و إمّا أن لا يكون معتبرا في صفات الكمال فله الكمال المطلق بدون ذلك الأثر فيكون إثباته له و توصيفه به نقصا في حقّه لأنّ الزيادة على الكمال المطلق نقصان و هو عليه محال.
ثانيها ما أشار إليه بقوله (اذا لتفاوتت ذاته) يعني أنّه لو جريا عليه لكان ذاته متفاوتة متغيّرة بأن يكون تارة متحرّكة و أخرى ساكنة و الواجب لا يكون محلّا للحوادث و المتغيّرات لرجوع التغيير فيها إلى الذات.
ثالثها ما أشار إليه بقوله (و لتجزّء كنهه) أى لو كان متّصفا بهما يلزم أن يكون ذاته و كنهه متجزّءا كما قد أفصح عنه في الفصل الرابع من الخطبة الاولى بقوله: فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه و من قرنه فقد ثنّاه و من ثنّاه فقد جزّاه.
و توضيحه أنّهما من الأعراض الخاصّة بالأجسام فلو اتّصف الواجب تعالى بهما لكان جسما و كلّ جسم مركب قابل للتجزئة و كلّ مركب مفتقر إلى أجزائه و ممكن، فيكون الواجب مفتقرا ممكنا و هو باطل.
و قيل في وجه الملازمة: إنّ اتّصافه بهما يستلزم شركته مع الممكنات فيلزم تركبه ممّا به الاشتراك و ممّا به الامتياز، و ما قلناه أولى.
رابعها ما أشار إليه بقوله (و لامتنع من الأزل معناه) و هو في الحقيقة تعليل لما سبق أى إذا استلزم اتصافه بهما للتركيب و التجزئة التي هي من خواصّ الأجسام فيمتنع استحقاقه للأزليّة لأنّه حينئذ يكون جسما و كلّ جسم حادث.
خامسها ما أشار إليه بقوله (و لكان له وراء إذ وجد له أمام) و هذا الدّليل مخصوص بنفى الحركة.
قال الشارح المعتزلي: يقول لو حلته الحركة لكان جرما و حجما و لكان أحد وجهيه غير وجهه الأخر لا محالة فكان منقسما.
و قال الشارح البحراني: لو جرت عليه الحركة لكان له أمام يتحرّك إليه و حينئذ يلزم أن يكون له وراء إذ له أمام لأنهما إضافتان لا تنفكّ إحداهما عن الاخرى لكن ذلك محال لأنّ كلّ ذي وجهين فهو منقسم، و كلّ منقسم ممكن.
و سادسها ما أشار إليه بقوله (و لالتمس التّمام إذ لزمه النقصان) و هذا الدليل أيضا مخصوص بنفى الحركة و يستفاد منه نفي السّكون بالأولويّة يقول عليه السّلام: إنّه سبحانه لو كان متحرّكا لكان ملتمسا بحركته كمالا لم يكن له حال سكونه لأنّ السكون كما قاله الحكماء عدم و نقص، و الحركة وجود و كمال، فلو كان الواجب تعالى متحرّكا لكان طالبا بالحركة الطارية على سكونه الكمال و التمام لكنه يستحيل أن يكون له حالة نقصان و أن يكون له حال بالقوّة و أخرى بالفعل.
قال الشارح البحراني في تقريره: إنّ جريان الحركة عليه مستلزم لتوجّهه بها إلى غاية إما جلب منفعة أو دفع مضرّة، إذ من لوازم حركات العقلاء ذلك، و على التقديرين فهما كمال مطلوب له لنقصان لازم لذاته، لكن النقصان بالذات و الاستكمال بالغير مستلزم للامكان فالواجب ممكن، هذا خلف.
أقول: و ان شئت مزيد توضيح لهذا الدليل فهو موقوف على تحقيق معنى الحركة و بسط الكلام في المقام فأقول: عرّفها أرسطو و من تابعه بأنها كمال أول لما هو بالقوّة من حيث هو بالقوّة و عرّفها المتكلّمون بأنها حصول الجسم في مكان بعد آخر، و تقييدهم الحصول بالمكان بناء على أنّهم لا يثبتون الحركة في ساير المقولات بل يخصّونها بمقولة الأين فقط، و أمّا الأوّلون فيحكمون بوقوعها في الأين و الوضع و الكمّ و الكيف، و تفصيل ذلك موكول إلى الكتب الكلاميّة، و المراد بالكمال في تعريفهم هو الحاصل بالفعل. قال الشارح القوشجي: و إنّما سمّى الحاصل بالفعل كمالا لأنّ في القوّة نقصانا و الفعل تمام بالنسبة إليها، و هذه التسمية لا يقتضي سبق القوّة بل يكفيها تصوّرها و فرضها.
و احترز بقيد الأوليّة عن الوصول، فانّ الجسم إذا كان في مكان مثلا و هو ممكن الحصول في مكان آخر كان له إمكانان إمكان الحصول في ذلك المكان و إمكان التوجّه إليه، و هما كمالان و التوجّه مقدّم على الوصول فهو كمال أوّل و الوصول كمال ثان.
ثمّ إنّ الحركة تفارق ساير الكمالات من حيث إنّها لا حقيقة لها إلّا التّوجه إلى الغير فالسّلوك إليه، فلا بدّ من مطلوب ممكن الحصول ليكون التوجّه توجّها إليه، و من أن لا يكون ذلك المطلوب حاصلا بالفعل، إذ لا توجّه بعد حصول المطلوب.
فالحركة إنما تكون حاصلة بالفعل إذا كان المطلوب حاصلا بالقوّة، لكن من حيث هو بالقوّة لا من حيث هو بالفعل و لا من حيثية اخرى كساير الكمالات فانّ الحركة لا تكون كمالا للجسم في جسميّته أو في شكله أو نحو ذلك، بل من الجهة التي هو باعتبارها كان بالقوّة أعنى الحصول في المكان الاخر.
و احترز بهذا القيد عن كمالاته التي ليست كذلك كالصّورة النوعيّة، فانّها كمال أوّل للمتحرّك الذى لم يصل إلى المقصود، لكن لا من حيث هو بالقوّة بل من حيث هو بالفعل.
و أنت إذا عرفت ذلك تعرف أنّ الحقّ الأوّل تعالى شأنه يمتنع جريان الحركة عليه سواء كانت بالمعنى الذى يقوله الفلاسفة أو بالمعنى الذى يقوله المتكلّمون.
أمّا على الثاني فواضح لأنها عندهم هو حصول الجسم في مكان بعد آخر و هو تعالى ليس بجسم و لا حاجة له إلى المكان.
و أمّا على الأوّل فأوضح.
أمّا أوّلا فلأنّ محلّها عندهم هو المقولات الأربع أعنى الكم و الكيف و الوضع و الأين و كلّها من أنواع العرض و اللّه سبحانه ليس بعرض و لا جوهر بل خالق الجوهر و العرض و جاعل الوضع و الكم و هو الذي أيّن الأين بلا أين و كيّف الكيف بلا كيف.
و أمّا ثانيا فلأنه تعالى ليس له كمال بالفعل و كمال بالقوّة بل جميع كمالاته فعلية.
و أمّا ثالثا فلأنه ليس عادما بشي ء من الكمالات حتّى يحتاج بحركته إلى تحصيل كمال بل هو كامل في ذاته و تمام في صفاته جامع لجميع الكمالات الذاتية و الصّفاتية، هذا.
و قد نبه على عدم جريان الحركة عليه سبحانه بمعنييه أبو إبراهيم موسى ابن جعفر عليه السّلام في الحديث المروى في الكافي عن يعقوب بن جعفر الجعفري قال: ذكر عند أبي إبراهيم عليه السّلام قوم يزعمون أنّ اللّه تبارك و تعالى ينزل إلى السّماء الدّنيا فقال عليه السّلام: إنّ اللّه لا ينزل و لا يحتاج إلى أن ينزل إنما منظره في القرب و البعد سواء، لم يبعد منه قريب و لم يقرب منه بعيد، و لم يحتج إلى شي ء بل يحتاج إليه و هو ذو الطول لا إله إلّا هو العزيز الحكيم أما قول الواصفين انّه ينزل تبارك و تعالى فانما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة و كلّ متحرّك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرّك به فمن ظنّ باللّه الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حدّ يحدّونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو تحرّك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود، فانّ اللّه جلّ و عزّ عن صفة الواصفين و نعت الناعتين و توهّم المتوهّمين و توكّل على العزيز الرّحيم الذى يراك حين تقوم و تقلّبك في الساجدين.
قال بعض الأفاضل«» في شرح الحديث: قوله عليه السّلام «إنّ اللّه لا ينزل و لا يحتاج إلى أن ينزل» لأنّ المتحرّك من مكان إلى مكان إنما يتحرّك لحاجة إلى الحركة إذ ليست نسبته إلى جميع الأمكنة نسبة واحدة بل إذا حضر له مكان أو مكانيّ غاب عنه مكان أو مكانيّ آخر، و إذا قرب من شي ء بعد عن شي ء آخر فاذا حصل في مكان و كان مطلوبه في مكان آخر فيحتاج في حصول مطلوبه إلى الحركة إلى مطلوبه أو حركة مطلوبه إليه، و اللّه سبحانه لما لم يكن مكانيا كان نسبته إلى جميع الأمكنة و المكانيّات نسبة واحدة و ليس شي ء أقرب إليه من شي ء آخر و لا أبعد و لا هو أقرب إلى شي ء من شي ء آخر و لا أبعد إلّا بمعنى آخر غير المكانى و هو القرب بالذات و الصّفات و نحو ذلك و البعد الذى بازائه، و إلى ذلك أشار عليه السّلام بقوله: «إنما منظره في القرب و البعد» يعنى المكانيّين «سواء».
و قوله عليه السّلام «و لم يحتج إلى شي ء» تعميم لقوله: و لا يحتاج إلى أن ينزل، فالأول إشارة إلى البرهان على نفى الحركة في المكان بما ذكره في تساوى منظره في القرب و البعد من الأحياز و الأمكنة، و هذا إشارة الى البرهان على نفى الحركة و التغيّر مطلقا بأنّ معنى الحركة الخروج من القوّة إلى الفعل، و بعبارة اخرى كمال ما بالقوّة من جهة ما هو بالقوّة و كلّ ما هو بالقوّة في شي ء فهو فاقد له محتاج إليه لأنّه كمال وجودى له، و إلّا لم يتحرّك إليه، و الحقّ تعالى غير محتاج إلى شي ء أصلا فهو غير متحرّك بوجه من الوجوه لا في المكان و لا في غيره و إنما قلنا إنه لم يحتج إلى شي ء لأنّ ما سواه من الأشياء كلّها إنما حصلت منه و هو أصلها و منبعها و منشاؤها، و هو المتطوّل عليها المتفضّل المنعم بالاحسان إليها، فهي المحتاجة إليه تعالى، فلو احتاج هو إلى شي ء يلزم افتقار الشي ء إلى ما يفتقر إليه من حيثية واحدة، و ذلك محال، لاستلزامه توقف الشي ء على نفسه و ذلك قوله عليه السّلام «بل يحتاج إليه و هو ذو الطول لا إله إلّا هو العزيز الحكيم».
و لما ذكر عليه السّلام القاعدة الكلّية بالبيان البرهانى على نفى الحركة المكانية أوّلا ثمّ على نفى الحركة و التغيّر على الاطلاق أراد أن يشير إلى المفاسد التي يلزم من القول بوصفه تعالى بنزوله من مكان إلى مكان فقال: «أما قول الواصفين أنه ينزل تبارك و تعالى فانما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة» يعني أنّ النزول ضرب من الحركة و أنّ كلّ ما يتحرّك سواء كانت الحركة في الأين أو في غيره فهو خارج من نقص إلى كمال فيلزم على هؤلاء الواصفين ربّهم بالنزول أن ينسبوه إلى نقص و ذلك قبل الحركة أو إلى زيادة و هي بعد الحركة و الخروج من القوّة إلى الفعل، و كلّ ما يوصف بنقص أو زيادة ففي ذاته إمكان أن ينفعل من غيره فيتركب ذاته من قوّة و فعل، بل من مادّة بها يكون بالقوّة، و من صورة بها يكون بالفعل و كلّ مركب فهو ممكن الوجود محتاج إلى غيره فيلزم أن لا يكون إله العالم واجب الوجود، و هذا محال و قوله «و كلّ متحرّك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرّك به» إشارة إلى حجّة أخرى على بطلان توهّم الحركة، و هى أنّ كلّ متحرّك لا بدّ له من محرّك غيره، سواء كان مباينا له كالحركات النفسانية و هو المعبّر عنه بقوله من يحرّكه، أو مقارنا له كالحركات الطبيعيّة و هو المعبّر عنه بقوله أو يتحرّك به، و ذلك لأنّ الحركة صفة حادثة لكون أجزائها غير مجتمعة في الوجود، و كلّ جزء منها مسبوق بجزء آخر فيكون جميعها حادثة و ما يتركب فهو أولى فهى لكونها صفة تحتاج إلى قابل و لكونها حادثه تحتاج إلى فاعل، و لا بدّ أن يكون فاعلها غير قابلها لأنّ المحرّك لا يحرّك نفسه بل بشي ء يكون متحرّكا بالقوّة و فاعلها امر بالفعل فكلّ متحرّك يحتاج إلى محرّك يغايره و المحتاج إلى الغير لا يكون واجبا فيلزم أن لا يكون إله العالم واجبا و هو محال و سابعها ما أشار إليه بقوله (و إذا لقامت آية المصنوع فيه) أى لو كان فيه الحركة و السّكون لقامت فيه علامة المصنوع لكونهما من صفات المصنوعات الحادثة، فيلزم أن لا يكون إله العالم صانعا بل مصنوعا مفتقرا إلي صانع كساير الممكنات و المصنوعات الموصوفة بالحدوث.
و ثامنها ما أشار إليه بقوله (و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه) يعنى أنا استدللنا على وجوده سبحانه بحدوث الأجسام و تغيراتها و حركاتها و انتقالاتها من حال إلى حال، فلو كان إله العالم متغيّرا متحرّكا منتقلا من حال إلى حال لاشتراك مع غيره في صفات الامكان و ما يوجب الافتقار إلى العلّة فكان دليلا على صانع صنعه و أحدثه لا مدلولا عليه بأنه صانع و هو باطل، هذا.
و لما ذكر المفاسد التي تترتب على جريان الحركة و السكون عليه سبحانه، و أبطل جوازهما عليه بالوجوه الثمانية عقّبه بقوله (و خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره) و اختلف شراح النهج فيما عطفت هذه الجملة عليه: فقال الشارح المعتزلي: إنها عطف على قوله عليه السّلام كان مدلولا عليه، و تقدير الكلام كان يلزم أن يتحوّل البارى دليلا بعد أن كان مدلولا عليه و بعد أن خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما اثر في غيره.
و قال الشارح البحراني: قد يسبق إلى الوهم أنها عطف على الأدلة المذكورة و ظاهر أنّه ليس كذلك بل هو عطف على قوله: امتنع أى بها امتنع عن نظر العيون و خرج بسلطان ذلك الامتناع أى امتناع أن يكون مثلها في كونها مرئية للعيون و محلّا للنظر إليها عن أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من المرئيات و هي الأجسام و الجسمانيات، و ظاهر أنه لما امتنع عن نظر العيون لم يكن جسما و لا قائما به فخرج لسلطان استحقاق ذلك الامتناع عن أن يكون يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من الأجسام و الجسمانيات و عن قبول ذلك.
و قال بعض الشارحين: إنها عطف على قوله: تجلّى، أى بها تجلّى صانعها للعقول و خرج بسلطان الامتناع عن كونه مثلا لها أى بكونه واجب الوجود ممتنع العدم عن أن يكون ممكنا فيقبل أثر غيره كما يقبله ساير الممكنات.
أقول: و أنت خبير بسخافة هذا القول كسابقه و إباء سوق كلامه عليه السّلام عنهما جميعا، لأنه عليه السّلام قد ذكر هذه الجملة في ذيل المفاسد المترتبة على جريان الحركة و السّكون لا في ذيل تجلّى الصانع للعقول و امتناعه عن نظر العيون، فلا ارتباط له بشي ء منهما مع طول الفصل بين المعطوف و المعطوف عليه بجملات أجنبيّة تنيف على عشر.
نعم ما قاله الشارح المعتزلي لا بأس به إلّا أنّ الأظهر الأولى أن تجعل الواو في هذه الجملة حالية لا عاطفة و تكون الجملة في محلّ النصب على الحال بتقدير قد على حدّ قوله تعالى «حصرت صدورهم» و ذو الحال هو الضمير المستتر في تحول الراجع إلى اللّه سبحانه، فيكون تحول عاملا فيها و لا غبار عليه عند المشهور من علماء الأدبية.
و أما على قول بعضهم من أنّ جميع العوامل اللفظية تعمل في الحال إلّا الأفعال الناقصة فاجعلها حالا من ضمير فيه في قوله: و لقامت آية المصنوع فيه فالعامل حينئذ قامت و حسن ارتباطها بالجملتين مضافا إلى قربهما غير خفىّ على صاحب الذّوق السّليم فانّه عليه السّلام لما ذكر استلزام جريان الحركة عليه سبحانه لقيام علامة الصنع و آثار الامكان فيه المفيد لتأثره من صانعه، و ذكر أيضا استلزامه لكونه تعالى دليلا على مدلوله المفيد لكونه معلولا منفعلا من علّته و فاعله، عقّبه بهذه الجملة تنبيها على بطلان اللّازمين كليهما المستلزم لبطلان ملزومهما، و هو جريان الحركة عليه.
فمحصّل نظم الكلام أنه تعالى لو جرى عليه الحركة و اتّصف بها لقام فيه أثر صانعه المحرك و ظهر عليه فعل علّته الفاعل له، و الحال أنه قد خرج بسلطنة الكلية على جميع من سواه و امتناع التأثر و استحالة الانفعال بما له من وجوب الوجود عن أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من الممكنات و أن يتأثر من غيره كساير الموجودات لأنّ غيره و من سواه جميعا بكونه دليلا في قيد الامكان مفتقر إلى المؤثر محتاج إلى العلّة فوجوده و افعاله مكتسب من الغير فهو لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرّا و لا موتا و لا حياتا و لا نشورا، و أما إله الحىّ القيّوم العزيز الشأن فوجوده و صفاته الذاتية عين ذاته و أفعاله الصّادرة بنفس ذاته المقدّسة فلا افتقار له إلى المؤثر و لا حاجة له إلى المدبّر بل هو المؤثر في جميع العالم، لا إله إلّا هو العزيز الحكيم.
|