و من كلام له عليه السّلام يعني به الزبير فى حال اقتضت ذلك و هو ثامن المختار في باب الخطب
يزعم أنّه قد بايع بيده و لم يبايع بقلبه، فقد أقرّ بالبيعة، و ادّعى الوليجة، فليأت عليها بأمر يعرف، و إلّا فليدخل فيما خرج منه.
اللغة
(ولج) يلج ولوجا و لجة دخل، و الوليجة الدّخيلة و البطانة و خاصّتك من الرّجال و من تتّخذه معتمدا من غير أهلك، و هو وليجتهم اى لصيق بهم، و المراد هنا ما أضمره الإنسان في قلبه.
الاعراب
الفاء في قوله عليه السّلام: فقد أقرّ، و قوله: فليأت، فصيحة و في قوله: فليدخل جواب للشّرط
المعنى
اعلم أنّ الزّبير بعد نكثه بيعته عليه السّلام كان يعتذر عن ذلك، فيدّعي تارة أنّه اكره على البيعة و (يزعم) اخرى أنّه ورّى في ذلك تورية و نوى دخيلة و (أنّه قد بايع بيده و لم يبايع بقلبه) فأجاب عليه السّلام عنه و ردّ ادّعائه بأنّه (قد أقرّ بالبيعة) بتسليمه البيعة بيده ظاهرا و (ادّعى) أنّه أضمر في باطنه ما يفسد بيعته من (الوليجة) و البطانة و هذه دعوى لا تسمع منه و لا تقبل شرعا ما لم ينصب عليها دليلا و لم يقم عليها برهانا (فليأت) على اثباتها (بأمر يعرف) صحّته و دليل يتّضح دلالته (و إلّا) أى إن لم يقم عليها برهانا كما أنّ الشّأن ذلك (فليدخل فيما خرج منه) من طاعته عليه السّلام و انقياد حكمه و ليمض على بيعته.
قال الشّارح المعتزلي: لمّا خرج طلحة و الزّبير من المدينة إلى مكة لم يلقيا أحدا إلّا و قالا: ليس لعليّ في أعناقنا بيعة و إنّما بايعناه مكرهين فبلغ عليّا عليه السّلام قولهما فقال عليه السّلام: أبعدهما اللّه و أعزب دارهما و أنا و اللّه لقد علمت أنّهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل و يأتيان من وردا بأشام يوم و لقد أتياني بوجهي فاجرين و رجعا بوجهي غادرين ناكثين، و اللّه لا يلقيانني بعد هذا اليوم إلّا في كتيبة خشناء يقتتلان فيها أنفسهما فبعدا لهما و سحقا.
و في الاحتجاج عن نصر بن مزاحم أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام حين وقع القتال و قتل طلحة تقدم على بلغة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشّهباء بين الصّفين، فدعا الزّبير، فدنا إليه حتّى إذا اختلفت أعناق دابتيهما، فقال: يا زبير انشدك أسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّك ستقاتل عليّا و أنت له ظالم، قال، اللّهم نعم، قال: فلم جئت قال: جئت لا صلح بين النّاس فأدبر الزّبير و هو يقول:
- ترك الامور التي يخشى عواقبهاللّه أجمل في الدّنيا و في الدّين
- أتى عليّ بأمر كنت أعرفه قد كان عمر أبيك الخير مذ حين
- فقلت حسبك من عدل أبا حسنفبعض ما قلته ذا اليوم يكفيني
- فاخترت عارا على نار مؤجّجةأنّى يقوم لها خلق من الطين
- نبّئت طلحة وسط النّقع منجدلامأوى الضّيوف و مأوى كل مسكين
- قد كنت أنصره أحيانا و ينصرني في النّائبات و يرمى من يراميني
- حتّى ابتلينا بأمر ضاق مصدرهفأصبح اليوم ما يعنيه يعنيني
قال: و أقبل الزّبير إلى عايشة فقال: يا أمّه و اللّه ما لي في هذا بصيرة و أنا منصرف، فقالت عايشة: يا أبا عبد اللّه أ فررت من سيوف ابن أبي طالب فقال: انّها و اللّه طوال حداد تحملها فتية أنجاد ثمّ خرج راجعا فمرّ بوادي السّباع و فيه الأحنف ابن قيس قد اعتزل في بني تميم فأخبر الأحنف بانصرافه فقال: ما أصنع به إن كان الزّبير قد القي (الف خ) بين غارين من المسلمين و قتل أحدهما بالآخر ثمّ هو يريد اللحاق بأهله فسمعه ابن جرموز فخرج هو و رجلان معه و قد كان لحق بالزبير رجل من كلب و معه غلامه.
فلمّا أشرف ابن جرموز و صاحباه على الزّبير فحرّك الرّجلان رواحلهما و خلّفا الزّبير وحده، فقال الزّبير: ما لكما هم ثلاثة و نحن ثلاثة فلمّا أقبل ابن جرموز قال له الزّبير: مالك إليك عنّي فقال ابن جرموز: يا أبا عبد اللّه إنّني جئتك لأسألك عن امور النّاس قال: تركت النّاس على الرّكب يضرب بعضهم وجوه بعض بالسّيف.
قال ابن جرموز: يا أبا عبد اللّه أخبرني عن أشياء أسألك عنها قال: هات، فقال أخبرني عن خذلك عثمان و عن بيعتك عليّا و عن نقضك بيعته و عن إخراجك عايشة أمّ المؤمنين و عن صلاتك خلف ابنك و عن هذه الحرب التي جئتها و عن لحوقك بأهلك فقال: أمّا خذلي عثمان فأمر قدّم اللّه فيه الخطيئة و أخّر فيه التّوبة، و أمّا بيعتي عليّا فلم أجد منها بدّا إذ بايعه المهاجرون و الأنصار، و أمّا نقضي بيعته فانّما بايعته بيدي دون قلبي، و أمّا إخراجي أمّ المؤمنين فأردنا أمرا و أراد اللّه غيره، و أمّا صلاتي خلف ابني فانّما خالته قد متني، فتنحّى ابن جرموز عنه، و قال قتلني اللّه إن لم أقتلك.
و في شرح المعتزلي بعد ما ذكر سؤال ابن جرموز و جواب الزّبير قال: فسار ابن جرموز معه و كلّ واحد منهما يتقي الآخر فلمّا حضرت الصّلاة فقال الزّبير يا هذا إنّا نريد أن نصلّي، فقال ابن جرموز: أنا اريد ذلك فقال الزّبير: فتؤمنّي و اؤمّك، قال: نعم فثنى الزّبير رجلا و أخذ وضوئه، فلمّا قام إلى الصّلاة شدّ ابن جرموز عليه فقتله و أخذ رأسه و خاتمه و سيفه و حثا عليه ترابا يسيرا و رجع إلى
الأحنف فأخبره، فقال: و اللّه ما أدري أسأت أم أحسنت، اذهب إلى عليّ عليه السّلام فاخبره فجاء إلى عليّ فقال للآذن: قل له: عمرو بن جرموز بالباب و معه رأس الزّبير و سيفه فادخله.
و في كثير من الرّوايات أنّه لم يأت بالرّأس بل بالسّيف فقال له: أنت قتلته قال: نعم قال: و اللّه ما كان ابن صفيّة جبانا و لا لئيما و لكن الحين و مصارع السّوء، ثمّ قال ناولني سيفه فناوله فهزّه، و قال: سيف طال ما جلى به الكرب عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فقال ابن جرموز: الجائزة يا أمير المؤمنين، فقال عليه السّلام: أما انّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول بشّر قاتل ابن صفيّة بالنّار، فخرج ابن جرموز خائبا و قال:
- أتيت عليّا برأس الزّبيرأبغي به عنده الزّلفة
- فبشّر بالنّار يوم الحساب فبئست بشارة ذي التّحفة
- فقلت له إنّ قتل الزّبيرلو لا رضاك من الكلفة
- فإن ترض ذاك فمنك الرّضاو إلّا فدونك لي حلفة
- و ربّ المحلّين و المحرمينو ربّ الجماعة و الالفة
- لسيّان عندي قتل الزّبيرو ضرطة عنز بذي الجحفة
ثمّ خرج ابن جرموز على عليّ عليه السّلام مع أهل النّهر، فقتله معهم فيمن قتل.
فان قيل: أليس ما رواه ذلك صريحا في توبة الزّبير حيث إنّه لو لم يكن تائبا لما استحقّ قاتله النّار بقتله، فيدل ذلك على صحة ما ذهب إليه الشّارح المعتزلي وفاقا لساير المعتزلة من صحّة توبة الزبير.
قلت: قد اجيب عنه تارة بأنّ بشارة القاتل بالنّار لا ينافي كون المقتول فيها أيضا، و لا يلازم توبته، و ذلك لأنّ ابن جرموز قتل الزّبير على وجه الغيلة و المكر و هذه منه معصية لا شبهة فيها فإنّما استحقّ ابن جرموز النّار بقتله ايّاه غدرا لا لأنّ المقتول في الجنّة.
و اجيب اخرى بأنّ جرموز كان من جملة الخوارج كما ذكره الشّارح في آخر كلامه و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد كان خبّره بحالهم و دلّه على جماعة منهم بأعيانهم و أوصافهم، فلمّا جاءه ابن جرموز برأس الزّبير أشفق أمير المؤمنين عليه السّلام من أن يظنّ به لعظيم ما فعله الخير و يقطع له على سلامة العاقبة و يكون قتله الزّبير شبهة فيما يصير إليه من الخارجيّة قطع عليه بالنّار لتزول الشّبهة في أمره و ليعلم أنّ هذا الفعل الذي فعله لا يساوى شيئا مع ما يرتكبه في المستقبل.
و الذي يدلّ على أنّ بشارته بالنّار لم تكن لكون الزّبير تائبا بل لبعض ما ذكرناه هو أنّه لو كان الأمر كما ادّعوه لأقاده أمير المؤمنين عليه السّلام به ففى عدوله عليه السّلام من ذلك دلالة على ما ذكرنا كما هو واضح لا يخفى، مضافا إلى أنّه لو كان تائبا لم يكن مصرعه مصرع سوء لا سيّما و قد قتله غادرا، و يأتي إنشاء اللّه تحقيق هذا المعنى في شرح الكلام المأة و السّابعة و الثلاثين بما لا مزيد عليه فانتظر.
|