230: وَ قَالَ ع لِابْنِهِ الْحَسَنِ- لَا تَدْعُوَنَّ إِلَى مُبَارَزَةٍ فَإِنْ دُعِيتَ إِلَيْهَا فَأَجِبْ- فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَيْهَا بَاغٍ وَ الْبَاغِيَ مَصْرُوعٌ
مثل من شجاعة علي
قد ذكر ع الحكمة ثم ذكر العلة- و ما سمعنا أنه ع دعا إلى مبارزة قط- و إنما كان يدعى هو بعينه- أو يدعو من يبارز فيخرج إليه فيقتله- دعا بنو ربيعة بن عبد بن شمس بني هاشم إلى البراز يوم بدر- فخرج ع فقتل الوليد- و اشترك هو و حمزة ع في قتل عتبة- و دعا طلحة بن أبي طلحة إلى البراز يوم أحد- فخرج إليه فقتله- و دعا مرحب إلى البراز يوم خيبر فخرج إليه فقتله- . فأما الخرجة التي خرجها يوم الخندق إلى عمرو بن عبد ود- فإنها أجل من أن يقال جليلة- و أعظم من أن يقال عظيمة- و ما هي إلا كما قال شيخنا أبو الهذيل- و قد سأله سائل أيما أعظم منزلة عند الله علي أم أبو بكر- فقال يا ابن أخي و الله لمبارزة علي عمرا يوم الخندق- تعدل أعمال المهاجرين و الأنصار و طاعاتهم كلها- و تربي عليها فضلا عن أبي بكر وحده- و قد روي عن حذيفة بن اليمان ما يناسب هذا بل ما هو أبلغ منه-
روى قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن ربيعة بن مالك السعدي قال أتيت حذيفة بن اليمان فقلت يا أبا عبد الله- إن الناس يتحدثون عن علي بن أبي طالب و مناقبه- فيقول لهم أهل البصيرة- إنكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل- فهل أنت محدثي بحديث عنه أذكره للناس- فقال يا ربيعة و ما الذي تسألني عن علي- و ما الذي أحدثك عنه- و الذي نفس حذيفة بيده- لو وضع جميع أعمال أمة محمد ص في كفة الميزان- منذ بعث الله تعالى محمدا إلى يوم الناس هذا- و وضع عمل واحد من أعمال علي في الكفة الأخرى- لرجح على أعمالهم كلها- فقال ربيعة هذا المدح الذي لا يقام له و لا يقعد- و لا يحمل إني لأظنه إسرافا يا أبا عبد الله- فقال حذيفة يا لكع و كيف لا يحمل- و أين كان المسلمون يوم الخندق- و قد عبر إليهم عمرو و أصحابه فملكهم الهلع و الجزع- و دعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتى برز إليه علي فقتله- و الذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم- أعظم أجرا من أعمال أمة محمد ص إلى هذا اليوم- و إلى أن تقوم القيامة
- . و جاء في الحديث المرفوع أن رسول الله ص قال ذلك اليوم حين برز إليه- برز الإيمان كله إلى الشرك كله
- . و قال أبو بكر بن عياش- لقد ضرب علي بن أبي طالب ع- ضربة ما كان في الإسلام أيمن منها- ضربته عمرا يوم الخندق- و لقد ضرب علي ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها- يعني ضربة ابن ملجم لعنه الله- . و في الحديث المرفوع أن رسول الله ص لما بارز علي عمرا- ما زال رافعا يديه مقمحا رأسه نحو السماء- داعيا ربه قائلا- اللهم إنك أخذت مني عبيدة يوم بدر- و حمزة يوم أحد فاحفظ علي اليوم عليا- رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ
- . و قال جابر بن عبد الله الأنصاري و الله ما شبهت يوم الأحزاب- قتل علي عمرا و تخاذل المشركين بعده- إلا بما قصه الله تعالى من قصة طالوت و جالوت- في قوله فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ
- . و روى عمرو بن أزهر عن عمرو بن عبيد عن الحسن أن عليا ع لما قتل عمرا احتز رأسه- و حمله فألقاه بين يدي رسول الله ص- فقام أبو بكر و عمر فقبلا رأسه- و وجه رسول الله ص يتهلل- فقال هذا النصر أو قال هذا أول النصر
- . و في الحديث المرفوع أن رسول الله ص قال يوم قتل عمرو- ذهبت ريحهم و لا يغزوننا بعد اليوم- و نحن نغزوهم إن شاء الله
قصة غزوة الخندق
و ينبغي أن نذكر ملخص هذه القصة- من مغازي الواقدي و ابن إسحاق- قالا خرج عمرو بن عبد ود يوم الخندق- و قد كان شهد بدرا فارتث جريحا و لم يشهد أحدا- فحضر الخندق شاهرا سيفه معلما مدلا بشجاعته و بأسه- و خرج معه ضرار بن الخطاب الفهري- و عكرمة بن أبي جهل و هبيرة بن أبي وهب- و نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميون- فطافوا بخيولهم على الخندق إصعادا و انحدارا- يطلبون موضعا ضيقا يعبرونه- حتى وقفوا على أضيق موضع فيه- في المكان المعروف بالمزار- فأكرهوا خيولهم على العبور فعبرت- و صاروا مع المسلمين على أرض واحدة- و رسول الله ص جالس و أصحابه قيام على رأسه- فتقدم عمرو بن عبد ود فدعا إلى البراز مرارا- فلم يقم إليه أحد- فلما أكثر قام علي ع فقال أنا أبارزه يا رسول الله- فأمره بالجلوس و أعاد عمرو النداء- و الناس سكوت كان على رءوسهم الطير- فقال عمرو أيها الناس- إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة و قتلانا في النار- أ فما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة- أو يقدم عدوا له إلى النار فلم يقم إليه أحد- فقام علي ع دفعة ثانية و قال أنا له يا رسول الله- فأمره بالجلوس فجال عمرو بفرسه مقبلا و مدبرا- و جاءت عظماء الأحزاب- فوقفت من وراء الخندق و مدت أعناقها تنظر- فلما رأى عمرو أن أحدا لا يجيبه قال-
و لقد بححت من الندا بجمعهم هل من مبارز
و وقفت مذ جبن المشيع
موقف القرن المناجز
إني كذلك لم أزل متسرعا قبل الهزاهز
أن الشجاعة في الفتى
و الجود من خير الغرائز
فقام علي ع فقال- يا رسول الله ائذن لي في مبارزته- فقال ادن فدنا فقلده سيفه و عممه بعمامته- و قال امض لشأنك- فلما انصرف قال اللهم أعنه عليه- فلما قرب منه قال له مجيبا إياه عن شعره-
لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية و بصيرة
يرجو بذاك نجاة فائز
إني لآمل أن أقيم عليك نائحة الجنائز
من ضربة فوهاء يبقى
ذكرها عند الهزاهز
- فقال عمرو من أنت- و كان عمرو شيخا كبيرا قد جاوز الثمانين- و كان نديم أبي طالب بن عبد المطلب في الجاهلية- فانتسب علي ع له و قال أنا علي بن أبي طالب- فقال أجل لقد كان أبوك نديما لي و صديقا- فارجع فإني لا أحب أن أقتلك- كان شيخنا أبو الخير مصدق بن شبيب النحوي يقول- إذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع- و الله ما أمره بالرجوع إبقاء عليه بل خوفا منه- فقد عرف قتلاه ببدر و أحد- و علم أنه إن ناهضه قتله- فاستحيا أن يظهر الفشل- فأظهر الإبقاء و الإرعاء و إنه لكاذب فيهما- قالوا فقال له علي ع لكني أحب أن أقتلك- فقال يا ابن أخي إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك- فارجع وراءك خير لك- فقال علي ع إن قريشا تتحدث عنك أنك قلت- لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلا أجبت و لو إلى واحدة منها- قال أجل فقال علي ع فإني أدعوك إلى الإسلام- قال دع عنك هذه- قال فإني أدعوك- إلى أن ترجع بمن تبعك من قريش إلى مكة- قال إذن تتحدث نساء قريش عني أن غلاما خدعني- قال فإني أدعوك إلى البراز فحمى عمرو و قال- ما كنت أظن أن أحدا من العرب يرومها مني- ثم نزل فعقر فرسه و قيل ضرب وجهه ففر- و تجاولا فثارت لهما غبرة وارتهما عن العيون- إلى أن سمع الناس التكبير عاليا من تحت الغبرة- فعلموا أن عليا قتله- و انجلت الغبرة عنهما و على راكب صدره يحز رأسه- و فر أصحابه ليعبروا الخندق- فظفرت بهم خيلهم إلا نوفل بن عبد الله- فإنه قصر فرسه فوقع في الخندق- فرماه المسلمون بالحجارة- فقال يا معاشر الناس قتلة أكرم من هذه- فنزل إليه علي ع فقتله- و أدرك الزبير هبيرة بن أبي وهب- فضربه فقطع ثفر فرسه- و سقطت درع كان حملها من ورائه فأخذها الزبير- و ألقى عكرمة رمحه- و ناوش عمر بن الخطاب ضرار بن عمرو- فحمل عليه ضرار حتى إذا وجد عمر مس الرمح رفعه عنه- و قال إنها لنعمة مشكورة فاحفظها يا ابن الخطاب- إني كنت آليت ألا تمكنني يداي من قتل قرشي فأقتله- و انصرف ضرار راجعا إلى أصحابه- و قد كان جرى له معه مثل هذه في يوم أحد- و قد ذكر هاتين القصتين معا- محمد بن عمر الواقدي في كتاب المغازي
( شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد)، ج 19 ، صفحه ى 60-64)
|