فقال له بعض أصحابه: لقد اعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب فضحك عليه السّلام و قال للرّجل و كان كلبيّا يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب و إنّما هو تعلّم من ذي علم، و إنّما علم الغيب علم السّاعة و ما عدّده اللّه سبحانه بقوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية، فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، و قبيح أو جميل، و سخيّ أو بخيل، و شقيّ أو سعيد، و من يكون في النّار حطبا، أو في الجنان للنّبيّين مرافقا، فهذا علم الغيب الّذي لا يعلم أحد إلّا اللّه، و ما سوي ذلك فعلم علمه اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعلّمنيه، و دعا لي بأن يعيه صدري، و تضطمّ عليه جوانحي.
اللغة
(اضطمّ) الشّي ء جمعه إلى نفسه، و (الجوانح) الضّلوع تحت التّرائب مما يلي الصّدر و يروي جوارحي بدل جوانحي.
الاعراب
الاضافة في أخا كلب لانتسابه إلى تلك القبيلة و هي من الاضافات الشائعة في لهجة العرب و الرّابط إلى الموصول في قوله لا يعلم أحد محذوف
المعنى
فقال له بعض أصحابه لقد اعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب فضحك عليه السّلام) قال الشّارح المعتزلي: و سرّ هذا الضّحك أنّ النّبي و الوليّ إن تجدّدت عنده نعمة للّه سبحانه أو عرف النّاس و جاهته عند اللّه فلا بدّ أن يسرّ بذلك، و قد يحدث الضحك من السّرور و ليس ذلك بمذموم إذا خلا من التّيه و العجب و كان محض السّرور و قد قال سبحانه: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
اقول: و في هذا المعنى قوله سبحانه: وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ، فانّ التحدّث بالنّعمة أعنى إظهارها و إشاعتها قد يكون الدّاعي إليه هو العجب و الشّهرة و إظهار الكبر و النّخوة به على الخلق فهو قبيح محرّم مذموم، و قد يكون السّبب له محض إظهار أنها ممّا منّ اللّه سبحانه بها عليه فيشكر عليه و يحمد له، و هذا حسن ممدوح مأمور به في الآية و إليه الاشارة في الحديث بقوله: و التحديث بنعمة اللّه شكر و تركه كفر.
و قال الصّادق عليه السّلام في رواية الكافي: إذا أنعم اللّه بعبده بنعمة فظهرت عليه سمّى حبيب اللّه محدّثا بنعمة اللّه، و إذا أنعم اللّه على عبده بنعمة فلم تظهر عليه سمّى بغيض اللّه مكذّبا بنعمة اللّه.
(و قال عليه السّلام للرّجل و كان كلبيّا: يا أخا كلب ليس هو) أى ما أخبرت به من خبر الأتراك (بعلم غيب و إنّما هو تعلّم من ذى علم) أراد به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما سيصرّح به (و إنّما علم الغيب) هو العلم بامور خمسة أشار إليها سبحانه في سورة لقمان و هو (علم السّاعة و ما عدّده اللّه سبحانه بقوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
يعني عنده سبحانه علم وقت قيامها و استأثر به و لم يطلّع عليه أحد من خلقه، و يعلم نزول الغيث في مكانه و زمانه، و يعلم ما تحمله الحوامل (فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى و قبيح أو جميل و سخىّ أو بخيل و شقىّ أو سعيد و من يكون في النّار حطبا أو في الجنان للنّبييّن مرافقا) و ما تدري نفس ما ذا تكسب غدا من خير أو شرور بما تعزم على شي ء فتفعل خلافه و قيل ما يعلم بقائه غدا فكيف يعلم تصرّفه، و ما تدري نفس في أىّ أرض تموت و قيل انّه إذ ارفع خطوة لم يدر انّه يموت قبل أن يضع الخطوة أم لا.
(فهذا) أى ما ذكر من العلم بالامور الخمسة المعدودة (علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلّا اللّه سبحانه و ما سوى ذلك فعلم علّمه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعلّمنيه) رسول اللّه باذن من اللّه (و دعا لى بأن يعيه) أى يحفظه (صدري و تضطم عليه جوانحي) أى تضبطه قلبي و يشتمل عليه، و كنّى بالجوانح عن القلب لاشتمالها عليه.
اقول: و محصّل ما استفيد من كلامه أنّ ما أخبر به من خبر الأتراك و نحوه ممّا يكون و يحدّث به في غابر الزّمان فليس هو من علم الغيب و إنّما علم الغيب هو العلم بالامور الخمسة المعدودة في الآية الشّريفة إلّا أنه يشكل بوجهين.
أحدهما انّه كيف يمكن نفي علم الغيب عمّا أخبر به مع أنّك قد عرفت في شرح الفصل الثّاني من الخطبة التّسعين أنّ الغيب عبارة عمّا غاب عن الخلق علمه و خفى مأخذه، و من المعلوم أنّ الحوادث التي تحدث و الملاحم التي تقع في غابر الزّمان ممّا هو غائب عن نظر الخلق و هو اسّهم.
و ثانيهما أنّه كيف يصلح حصر علم الغيب في الامور الخمسة فانّه بعد ما كان المدار على التعلّم من ذيعلم فلا تفاوت حينئذ بين تلك الامور و غيرها، لا مكان العلم بها بتعليم ذى العلم، بل هو واقع، و تحقيق المقام يحتاج إلى بسط في الكلام لكونه من مزالّ الأقدام.
فأقول بعد الاعتصام بالملك العلّام و التمسّك بذيل أئمّة الأنام عليهم الصّلاة و السّلام: إنّ مقتضى بعض الأدلّة هو اختصاص علم الغيب باللّه سبحانه و نفيه عمّن سواه تعالى، و مقتضي البعض الآخر إثباته لغيره تعالى من الأنبياء و الأئمة و الملائكة و الرّسل عليهم السّلام، و مفاد طائفة ثالثة من الأدلّة هو التّفصيل.
أمّا الأدلّة الأول فمنها قوله تعالى في سورة الأنعام: و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلّا هو، و في سورة الأعراف: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير و ما مسّني السّوء، و في سورة يونس إنّما الغيب للّه، و في سورة هو دو النّحل، و للّه غيب السّماوات و الأرض، و في سورة النّمل قل لا يعلم من في السماوات و الأرض الغيب إلّا اللّه، و بمعناها آيات و أخبار اخر.
و أمّا الأدلّة الثّانية فمثل ما دلّ بعلم المدبّرات من الملائكة بأوقات وقوع الحوادث، و ما دلّ بعلم ملك الموت بأوقات الآجال، و ما دلّ على اخبار الأنبياء بالمغيبات، و ما دلّ على علم النبيّ و الأئمة بما كان و ما يكون و ما هو كائن.
كما في البحار من بصائر الدّرجات عن ابن معروف عن حمّاد عن حريز عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سئل عليّ عليه السّلام عن علم النبيّ فقال: علم النبيّ علم جميع النّبيّين و علم ما كان و علم ما هو كائن إلى قيام السّاعة، ثم قال: و الّذي نفسي بيده إنّي لأعلم علم النبيّ و علم ما كان و علم ما هو كائن فيما بيني و بين قيام الساعة و فيه أيضا من البصائر عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن سنان عن يونس عن الحرث بن مغيرة و عدّة من أصحابنا فيهم عبد الأعلى و عبيدة بن عبد اللّه بن بشر الخثعميّ و عبد اللّه بن بشير سمعوا أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّي لأعلم ما في السماوات و أعلم ما في الأرضين و أعلم ما في الجنة و أعلم ما في النّار و أعلم ما كان و ما يكون، ثمّ مكث هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه فقال: علمت من كتاب اللّه إنّ اللّه يقول: فيه تبيان كلّشي ء.
و فيه من مصباح الأنوار باسناده إلى المفضّل قال: دخلت على الصّادق عليه السّلام ذات يوم فقال لي يا مفضّل هل عرفت محمّدا و عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام كنه معرفتهم قال: يا مفضّل من عرفهم كنه معرفتهم كان مؤمنا في السّنام الأعلى، قال: قلت: عرّفني ذلك يا سيّدي، قال: يا مفضّل تعلم أنّهم علموا ما خلق اللّه عزّ و جلّ، و ذراه و براه و أنّهم كلمة التّقوى و خزّان السماوات و الأرضين و الجبال و الرّمال و البحار، و علموا كم في السّمآء من نجم و ملك و وزن الجبال وكيل ماء البحار و أنهارها و عيونها، و ما تسقط من ورقة إلّا علموها و لا حبّة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس إلّا في كتاب مبين، و هو في علمهم، و قد علموا ذلك، فقلت: يا سيّدي قد علمت ذلك و أقررت به و آمنت، قال: نعم يا مفضّل، نعم يا مكرم، نعم يا محبور ، نعم يا طيّب طبت و طابت لك الجنّة و لكلّ مؤمن بها.
و في الكافي عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن عمر بن عبد العزيز، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لا و اللّه لا يكون عالم جاهلا أبدا، عالما بشي ء جاهلا بشي ء، ثمّ قال: اللّه أجلّ و أعزّ و أكرم من أن يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه و أرضه، ثمّ قال: لا يحجب ذلك عنه.
إلى غير ذلك من الأخبار المتظافرة بل المتواترة الدّالة على عموم علمهم عليهم السّلام بما في الآفاق و الأنفس، و على كونهم أعرف بطرق السّماء من طرق الأرض، و كونهم شهداء على النّاس و الشهادة فرع العلم و معرفتهم على النّاس لحقيقة الايمان و حقيقة الكفر و علمهم بعدد أهل الجنّة و أهل النّار، و غير ذلك ممّا كان أو يكون و قد مضى كثير من تلك الأخبار في شرح الخطب السّابقة، و لا حاجة إلى الاعادة المفضية إلى التكرار و الاطالة و أمّا الطائفة الثّالثة من الأدلّة فيستفاد منها التفصيل و به يجمع بين الأدلّتين المتقدّمتين و يقيّد اطلافهما أو يخصّص عمومهما و وجه الجمع امور ثلاثة:
الأول
أن يكون المراد بالأدلّة الاول الحاصرة للغيب في اللّه سبحانه النافية له عن غيره أنّه سبحانه عالم به بذاته لا يعلمه غيره كذلك فيكون المراد بالأدلّة الاخر أنّ غيره يعلم الغيب بعلم مستفاد منه سبحانه بوحى أو إلهام أو نكت في القلوب و نقر في الأسماع أو غير ذلك من جهات العلم و يدلّ على ذلك قوله سبحانه في سورة آل عمران: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ، و في سورة الجنّ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً.
روى في الصّبا في عن الخرائج عن الرّضا عليه السّلام في هذه الآية قال: فرسول اللّه عند اللّه مرتضى، و نحن ورثة ذلك الرّسول الذي اطّلعه اللّه على ما يشاء من غيبه، فعلمنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة و يأتي في رواية الكافي و البحار من البصائر عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال في هذه الآية، و كان محمّد ممّن ارتضاه، و مضى في شرح الفصل الثالث من فصول الخطبة السّادسة و الثّمانين في رواية البحار قول أمير المؤمنين لسلمان: يا سلمان أما قرأت قول اللّه عزّ و جلّ حيث يقول: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلّا من ارتضى من رسول، فقلت: بلى يا أمير المؤمنين، فقال أنا ذلك المرتضى من الرسول الذي أظهره اللّه عزّ و جلّ على غيبه.
أقول: و المستفاد من هذه الرّواية كون لفظة من في قوله من رسول اللّه ابتدائية، كما أنّ المستفاد من الروايتين السّابقتين كونها بيانيّة و لا منافاة لأنّ هذه تأويل للباطن و ما تقدّم تفسير للظّاهر كما هو ظاهر هذا.
و قال الطبرسيّ في تفسير هذه الآية: ثمّ استثنى فقال إلّا من ارتضى من رسول، يعني الرّسل، فانّه يستدلّ على نبوّتهم بأن يخبروا بالغيب فيكون آية و معجزة لهم، و معناه أنّ من ارتضاه و اختاره للنبوّة و الرسالة فانّه يطلعه على من شاء من غيبه على حسب ما يراه من المصلحة و هو قوله: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً.
و الرّصد الطريق أي يجعل له إلى علم ما كان من قبله من الأنبياء و السّلف و علم ما يكون بعده طريقا و قال (ره) في قوله تعالى: وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ: معناه و للّه علم ما غاب في السّموات و الأرض لا يخفى عليه شي ء منه، ثمّ قال (ره): وجدت بعض المشايخ ممّن يتّسم بالعدل و التّشيّع قد ظلم الشّيعة الاماميّة في هذا الموضع من تفسيره فقال: هذا يدلّ على أنّ اللّه تعالى يختصّ بعلم الغيب خلافا لما تقول الرّافضة: إنّ الأئمة عليهم السّلام يعلمون الغيب، و لا شكّ أنّه عنى بذلك من يقول بامامة الاثنى عشر و يدين بأنّهم أفضل الأنام بعد النبيّ عليهم السّلام، فإنّ هذا دأبه و ديدنه، فهو يشنّع في مواضع كثيرة من كتابه عليهم و ينسب القبايح و الفضائح اليهم و لا نعلم أحدا منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق، و إنّما يستحقّ الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا بعلم مستفاد، و هذه صفة القديم سبحانه، العالم لذاته لا يشركه فيه أحد من المخلوقين، و من اعتقد أنّ غير اللّه سبحانه يشركه في هذه الصّفة فهو خارج عن ملّة الاسلام و أمّا ما نقل عن أمير المؤمنين عليه السّلام و رواه عنه الخاصّ و العامّ من الاخبار بالغائبات في خطب الملاحم و غيرهما كاخباره عن صاحب الزّنج و عن ولاية مروان الحكم و أولاده و ما نقل من هذا الفنّ عن أئمة الهدى عليهم السّلام، فانّ جميع ذلك ملقّى من النّبي ممّا اطّلعه اللّه عليه، فلا معنى لنسبة ما روى عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنّه يعتقد كونهم عالمين بالغيب، و هل هذا إلّا سبّ قبيح و تضليل لهم بل تكفير و لا يرتضيه من هو بالمذهب خبير، و اللّه يحكم بينه و بينهم و إليه المصير.
و في البحار من بصائر الدرجات باسناده عن عبد الأعلى و عبيدة بن بشير قال: قال أبو عبد اللّه ابتداء منه: و اللّه إنّي لأعلم غيب السّموات و الأرض و ما في الجنّة و ما في النّار و ما كان و ما يكون إلى أن تقوم السّاعة، ثمّ قال: اعلمه من كتاب اللّه أنظر إليه هكذا ثمّ بسط كفّيه ثمّ قال: إنّ اللّه يقول: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ و فيه من مجالس المفيد باسناده عن أبي المغيرة قال: كنت أنا و يحيى بن عبد اللّه بن الحسين عند أبي الحسن عليه السّلام فقال له يحيى جعلت فداك إنّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب قال: سبحان اللّه ضع يدك على رأسي فواللّه ما بقيت شعرة فيه و لا جسدي إلّا قامت، ثمّ قال: لا و اللّه ما هى إلّا وراثة عن رسول اللّه و في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن معمّر بن خلّاد قال: سأل أبا الحسن عليه السّلام رجل من أهل فارس فقال له: أ تعلمون علم الغيب فقال قال أبو جعفر: يبسط لنا العلم فنعلم و يقبض عنّا فلا نعلم، و قال: سرّ اللّه عزّ و جلّ أسرّه إلى جبرئيل و أسرّه جبرئيل إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أسرّه محمّد إلى من شاء اللّه.
قال المفيد (ره) في محكيّ كلامه من كتاب المسائل: أقول: إنّ الأئمة من آل محمّد عليهم السّلام قد كانوا يعرفون ضمائر بعض عبادهم، و يعرفون ما يكون قبل كونه و ليس ذلك بواجب في صفاتهم، و لا شرط في إمامتهم، و إنّما أكرمهم اللّه تعالى به و علّمهم إيّاه للطف في طاعتهم و التبجيل بامامتهم، و ليس ذلك بواجب عقلا، و لكنّه وجب لهم من جهة السّماع، فأما اطلاق القول عليهم بأنّهم يعلمون الغيب فهو منكر بيّن الفساد، لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقّه من علم الأشياء بنفسه، لا بعلم مستفاد و هذا لا يكون إلّا للّه عزّ و جلّ، و على قولي هذا جماعة أهل الدهامة إلّا من شذّ عنهم من المفوّضة و من انتمى إليهم من الغلاة، هذا.
و أنت بعد ما أحطت خبرا بما ذكرنا تقدر على دفع ما استشكلناه في كلامه عليه السّلام من نفيه علم الغيب عمّا أخبر به عن خبر الأتراك، و محصّل دفعه أنّ قوله: يا أخا كلب إنّه ليس هو بعلم غيب، لم يرد به نفى علم الغيب عنه رأسا أراد به سلب علم الغيب على زعم الكلبي السّائل فانه عليه السّلام لما أخبر بما أخبر من الغيب توهّم السّائل أنه عليه السّلام علمه من تلقاء نفسه بدون توسّط معلم كما هو زعم الغلاة فرّده عليه السّلام بقوله: ليس هو بعلم غيب و انّما هو تعلّم من ذي علم فان قلت: قول السّائل لقد اعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ينافي ذلك، لظهوره في أنّ اعتقاده أنّ اللّه أعطاه العلم بذلك، لا أنّه علمه بنفسه قلنا: لفظ الاعطاء لا ينافيه، لامكان أن يكون مراده منه أنّه عليه السّلام آتاه اللّه قوّة يقتدر بها على علم الغيب من غير حاجة إلى وساطة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو إلهام إلهى أو توسّط الملائكة النّازلين في ليلة القدر و نحو ذلك و بالجملة من دون حاجة إلى تعليم معلّم فافهم و تأمّل و الحاصل أنّهم عليهم السّلام لا يعلمون إلّا ما علّمهم اللّه سبحانه، و تعليمه فيكلّ آن فلو لم يعلمهم في آن ما كان عندهم شي ء و لا يعلمهم اللّه إلّا بواسطة محمّد و هو قولهم الحقّ كما في الكافي عن زرارة قال سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لو لا أنّا نزاد لأنفدنا، قال: قلت: تزدادون شيئا لا يعلمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أما انّه إذا كان ذلك عرض على رسول اللّه ثمّ على الأئمة ثمّ انتهى الأمر إلينا.
و عن يونس بن عبد الرّحمن عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: ليس شي ء يخرج من عند اللّه عزّ و جلّ حتّى يبدء برسول اللّه، ثمّ بأمير المؤمنين، ثمّ بواحد بعد واحد لكيلا يكون آخرنا أعلم من أوّلنا فملخّص الكلام و فذلكة المرام ما ورد في الأخبار و ذكره علمائنا الأخيار من أنّهم لا يعلمون الغيب لا ينافي باخبارهم بأشياء كثيرة من الغيب، لأنّ ذلك كلّه من الوحى الذي نزل على رسول اللّه فعلّمهم رسول اللّه ذلك بأمر من اللّه، و لأنّ عندهم علم القرآن كلّه و فيه تبيان كلّ شي ء، و تفصيل كلّ شي ء و هو مستور محجوب عن الأغيار و قد كشفه اللّه سبحانه لمحمّد و آله الأطهار الأبرار، و ما أخبروا به من ذلك المستور عن غيرهم، و أيضا عندهم الاسم الأكبر و به يعلمون ما شاءوا كما ورد في أحاديثهم فعلى ما ذكر لو قيل انّهم لا يعلمون الغيب بمعنى من ذاتهم فهو حقّ، و أمّا لو قيل إنّهم لا يعلمونه أصلا فلا، بل قد علموا كثيرا منه بتعليم الرّسول و علموا بعضه بما عندهم من الاسم الأكبر و بعضه بما كتب في القرآن و مصحف فاطمة و الجامعة و الجفر، و بعضه بالملائكة الذين ينزلون إليهم ليلة القدر و بغيرهم من الملائكة المسخّرين لهم، و الجانّ الذين يخدمونهم و ينقلون إليهم علوم ما غاب عنهم و ما لم يكن مشاهدا و على هذه كلّها دلّت أخبارهم و هذه العلوم الغائبة هي المشار إليها في قوله: فلا يظهر على غيبه أحدا إلّا من ارتضى من رسول، و في قوله و لكنّ اللّه يجتبى من رسله من يشاء هى المراد بقوله في الزّيارة الجامعة: و اصطفاكم بعلمه و ارتضاكم لغيبه و اختاركم لسرّه
الوجه الثاني
أن يقال: إنّ الغيب على قسمين: قسم هو غيب عند الكلّ، و قسم هو غيب عند بعض شهادة عند آخر، و الأول قد يعبّر عنه بالعلم المكفوف و هو مختصّ باللّه سبحانه و عليه يحمل الأدلّة الدّالّة على أنّ الغيب للّه، و الثاني هو المعبّر عنه بالعلم المبذول و عليه يحمل الأدلّة المثبتة لعلهم بالغيب و هذه القسمة مستفادة من أخبار كثيرة مثل ما في البحار من بصائر الدّرجات باسناده عن بشير الدهان قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ للّه علما لا يعلمه أحد غيره، و علما قد علمه ملائكته و رسله فنحن نعلمه.
و عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال إنّ للّه علما علّمه ملائكته و أنبيائه و رسله فنحن نعلمه، و علما لم يطّلع عليه أحد من خلق اللّه و عن سدير قال: سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تبارك و تعالى: بديع السّموات و الأرض، قال أبو جعفر عليه السّلام إنّ اللّه ابتدع الأشياء كلّها على غير مثال كان، و ابتدع السّموات و الأرض و لم يكن قبلهنّ سموات و لا أرضون، أما تسمع لقوله تعالى: و كان عرشه على الماء، فقال حمران: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، فقال له أبو جعفر عليه السّلام: إلّا من ارتضى من رسول فانّه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا، و كان اللّه و محمّد ممّن ارتضاه، و أمّا قوله عالم الغيب فانّ اللّه تبارك و تعالى عالم بما غاب عن خلقه ممّا يقدّر من شي ء و يقضيه في علمه، فذلك يا حمران علم موقوف عنده إليه فيه المشيّة فيقضيه إذا أراد و يبدو له فلا يمضيه، فأمّا العلم الذي يقدّره اللّه و يقضيه و يمضيه فهو العلم الذي انتهى إلى رسول اللّه ثمّ إلينا و رواه في الكافي عن سدير نحوه إلّا أنّ فيه بعد قوله: و يقضيه في علمه، قبل أن يخلقه و قبل أن يفضيه إلى الملائكة و في البحار من البصائر أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ للّه علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلّا هو من ذلك يكون البداء، و علم علّمه ملائكته و رسله و أنبيائه و نحن نعلمه قال العلامة المجلسيّ: قوله: من ذلك يكون البداء، أى إنّما يكون البداء فيما لم يطّلع اللّه عليه الأنبياء و الرّسل حتما لئلّا يخبروا فيكذبوا هذا.
و ربما يظهر من بعض الأخبار أنّه قد يخرج من العلم المخزون إليهم عليهم السّلام ما لا يخرج إلى غيرهم، و هو ما رواه في البحار من البصائر عن ابن هاشم عن البرقي رفعه قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام إنّ للّه علمين، علم تعلمه ملائكته و رسله، و علم لا يعلمه غيره، فما كان ممّا يعلمه ملائكته و رسله فنحن نعلمه، و ما خرج من العلم الذى لا يعلم غيره فالينا يخرج و يدلّ على ذلك ما قدّمناه في تحقيق معنى السّر في شرح الفصل الرّابع من فصول الخطبة الثانية فليراجع إليه و قال بعض الأعلام في توضيح المرام: اعلم أنّ المراد بالغيب ما غاب عن الحسّ، فاذا قيل غيب اللّه يراد به ما غاب عن بعض خلقه أو عن كلّهم، لأنّ اللّه سبحانه لم يغب عنه غائبة فلا يكون عنده غيب، و أمّا خلقه فلهم غيب و شهادة، و قد يكون غيب في امكان عند بعض شهادة عند بعض آخر، و قد يكون غيب عند الكلّ أمّا الأوّل هو الغيب الذي ارتضاهم عليهم السّلام له، و هو غيب عند غيرهم و شهادة عندهم و أمّا الثّاني و هو ما كان غيبا عند كلّ الخلق فهو ما دخل في الامكان و أحاطت به المشية إلّا أنّه لم تتعلّق به تعلّق التكوين، و هذا لا يتناهى و لا ينفد أبد الآبدين و ذلك هو خزائنه التي لا تفنى و لا يتصوّر فيها نقص بكثرة الانفاق، فهو عزّ و جلّ ينفق منها كيف يشاء، و الذي ينفق منه في أوقات الانفاق و أمكنته ينزل من الغيب، إلى البيوت التي ارتضاهم لغيبه و ينزّل من أبوابها ما يشاء.
و ذلك المخزون منه محتوم، و منه موقوف فالمحتوم منه ما لا يمكن تغييره و هو كون ما كان فانّه لا يمكن بعد أن كان ألّا يكون، و منه ما يمكن تغييره و لكنّه وعد ألّا يغيّره و هو لا يخلف الميعاد و قال تعالى في محتوم الخير: فلا كفران لسعيه و إنّا له لكاتبون، و في محتوم الشرّ: و لكن حقّ القول منّى لأملئنّ جهنّم من الجنّة و النّاس أجمعين، و هذا المحتوم لو شاء غيّره و محاه و الموقوف مشروط فيكون كذا إن حصل كذا و إن لم يحصل كذا لكان كذا و كذا، و الشّرط هو السّبب و أما المانع فقد يكون في الغيب و الشّهادة، و قد يكون في الغيب و لا يكون في الشهادة، لأنّه إذا وجد في الشهادة وجد في الغيب و لا يلزم العكس.
فإذا وجد المقتضى فان وجد المانع منه فان اعتدلا فهو الموقوف كما ذكر و إن رجّح أحدهما فالحكم له فاذا وجد المقتضى و فقد المانع فان فقد في الغيب و الشّهادة حتم وجوده، فان تمّت قوابله وجد و وصل إليهم علمه لأنّه ممّا شاء، و إن انتظرت جاز في الحكمة الاخبار به فيخبر به على جهة الحتم و لا بدّ أن يكون إلّا أنّه قبل كونه في الصّفحة الثّانية من اللّوح، و هذا عندهم عليهم السّلام و منه ما كان و منه ما يكون، و إلى هذا القسم أشاروا في أخبارهم أنّ عندنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة و إن فقد المانع في الغيب خاصّة جاز في الحكمة الاخبار به فيخبر به من غير حتم، و هذا قد يكون و قد لا يكون، و الفائدة في الاخبار به مع أنّه سبحانه لا يكذّب نفسه و لا يكذّب أنبيائه و رسله و حججه هى اظهار التّوحيد بالخلق و الأمر و الاستقلال بالملك و إرشاد الخلق إلى اعتقاد البداء، لأنّه ما عبد اللّه شي ء أفضل من البداء أى إثبات البداء للّه تعالى، و هذا بجوز للحجج الاخبار به لا على سبيل الحتم بل عليهم أن يعرفوا من لا يعرفوا إنّ اللّه يفعل ما يشاء و إنّه يمحو ما يشاء و يثبت و عنده أمّ الكتاب و لهذا قالوا عليهم السّلام ما معناه إذا أخبرناكم بأمر فكان كما قلنا فقولوا: صدق اللّه و رسوله، و إن كان بخلاف ذلك فقولوا: صدق اللّه و رسوله توجروا مرّتين و ليس عليهم أن يعرفوا من لا يعرف هذا في خصوص الواقعة، لأنّ ذلك يوجب الشّك في تصديقهم عند أكثر النّاس، و قد يلزمهم من ذلك التقول على اللّه لانه سبحانه لم يأمر بذلك في كلّ واقعة، و إن كان قد يأمر بذلك كما في وعد موسى بين ثلاثين و أربعين في معرض التقرير و الهداية و البيان و قد يلزم من البيان خلاف المقصود من الاخبار، و هذا القسم قد يكون يوجد مانعة في الشهادة كالصدقة في دفع البلاء المبرم يعني الذي ابرم في الغيب لعدم المانع هناك و الدّعاء في ردّ البلاء و قد ابرم ابراما كذلك، و كبعض الأفعال بل و كلّ الطّاعات و تفصيل ذلك يطول.
الوجه الثالث
أن يحمل الأدلّة الحاصرة لعلم الغيب في اللّه سبحانه على الخمسة المذكورة في الآية، و الأدلّة المثبتة له على غيره تعالى على ما سوى الخمسة و يدلّ على هذا الجمع هذا الكلام لأمير المؤمنين عليه السّلام الذي نحن في شرحه و يدلّ عليه أيضا ما في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم القميّ (ره) بعد ذكر الآية قال الصّادق عليه السّلام: هذه الخمسة أشياء لم يطّلع عليه ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل و هى من صفات اللّه عزّ و جلّ و من الخصال عن ابن الوليد عن الصّفار عن ابن هاشم عن عبد الرحمن بن حمّاد عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي اسامة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال لي أبي: ألا اخبرك بخمسة لم يطلع اللّه عليه أحدا من خلقه قلت: بلى قال عليه السّلام: إنّ اللّه عنده علم السّاعة، الآية.
و من البصائر عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن سنان عن أبي الجارود عن الاصبغ ابن نباتة قال سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: إنّ للّه علمين: علم استأثر به في غيبه فلم يطلع عليه نبيّا من أنبيائه و لا ملكا من ملائكته و ذلك قول اللّه تعالى إنّ اللّه عنده علم السّاعة و ينزّل الغيث و يعلم ما في الأرحام و ما تدرى نفس ما ذا تكسب غدا و ما تدرى نفس بأىّ أرض تموت، و له علم قد اطلع عليه ملائكته فما اطلع عليه ملائكته فقد اطلع عليه محمّدا و آله، و ما اطلع عليه محمّدا و آله فقد اطلعني عليه بعلمه الكبير منّا و الصّغير. و بمعناها أخبار اخر مفيدة لتفرّد اللّه سبحانه بهذه الامور الخمسة إلّا أنّ هذا الجمع يشكل من وجهين: احدهما أنّ أشياء كثيرة أخبروا عليهم السّلام بأنّهم لا يعلمونها، و ليست من هذه الخمسة و ثانيهما أنّهم عليهم السّلام كثيرا ما أخبروا بكثير من هذه الامور الخمسة كما هو غير خفيّ على من تتبّع الأخبار و الآثار منها إخبار أمير المؤمنين بحمل الجارية التي اختصم فيها قومه و إعلامه بأنّ الجنين في بطنها علقة وزنها سبعمائة و خمسون درهما و دانقان، فوجدوها كما قال عليه السّلام حتى قال أبوها أشهد أنّك تعلم ما في الأرحام و الضمائر، و أنت باب الدّين و عموده في قصّة بيت الطست المعروفة و منها إخباره بوقت قتله و مقتله و قاتله و كذلك الحسين عليه السّلام و منها إخبارهم بآجال النّاس مثل ما في الكافي عن أحمد بن مهران عن محمّد بن عليّ عن سيف بن عميرة عن إسحاق بن عمّار قال: سمعت العبد الصّالح ينعى إلى الرّجل نفسه، فقلت في نفسي: و إنّه ليعلم متى يموت الرّجل من شيعته فالتفت إلىّ شبه المغضب و قال: يا اسحاق قد كان رشيد الهجرى يعلم علم المنايا و البلايا و الامام أولى بعلم ذلك، ثمّ قال: يا اسحاق اصنع ما أنت صانع فانّ عمرك قد فنا و انّك تموت إلى سنتين و إخوتك و أهل بيتك لا يلبثون إلّا يسيرا حتّى يتفرّق كلمتهم و يخون بعضهم بعضا حتّى يشمت بهم عدوّهم، فكان هذا في نفسك، فقلت فانّي استغفر اللّه ممّا عرض في صدري، فلم يلبث اسحاق بعد هذا المجلس إلّا يسيرا حتى مات، فما أتى عليهم إلّا قليل حتّى قام بنو عمّار بأموال النّاس فافلسوا و فيه عن إسحاق قال حدّثني محمّد بن الحسن بن شمّون قال حدّثني أحمد بن محمّد قال كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام حين أخذ المهتدي في قتل الموالي: يا سيّدي الحمد للّه الذي شغله عنّا، فقد بلغني أنّه يهدّدك و يقول و اللّه لا جلينّهم عن جديد الأرض فوقّع أبو محمّد بخطه عليه السّلام: ذاك أقصر لعمره، عد من يومك هذا خمسة أيّام و يقتل في اليوم السّادس بعد هوان و استخفاف يمرّ به، فكان كما قال عليه السّلام و في العيون عن سعد بن سعد عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام أنّه نظر إلى رجل فقال له يا عبد اللّه أوص بما تريد و استعدّ لما لا بدّ منه فكان فمات بعد ذلك بثلاثة أيّام.
و في الاحتجاج فيما خرج من التّوقيع إلى أبي الحسن السّمرى رابع الوكلاء الأربعة: بسم اللّه الرّحمن الرحيم يا عليّ بن محمّد السّمري أعظم اللّه أجر إخوانك فيك، فانّك ميّت ما بينك و بين ستّة أيام، فاجمع أمرك و لا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التّامة، فلا ظهور إلّا بعد إذن اللّه تعالى ذكره و ذلك بعد طول الأمد و قسوة القلوب و امتلاء الأرض جورا، و سيأتي من شيعتي من يدّعى المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السّفياني و الصّيحة فهو كاذب مفترى و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم. فنسخوا هذا التّوقيع و خرجوا من عنده فلمّا كان اليوم السّادس عادوا إليه و هو يجود بنفسه، فقال له بعض النّاس: من وصيّك بعدك، فقال: للّه أمر هو بالغه و قضى، فهذا آخر كلام سمع منه رضى اللّه عنه و أرضاه، هذا و الاخبار الدّالة على علمهم عليهم السّلام بالمنايا و البلايا و الانساب، و بعلمهم بأنّهم متى يموتون، و بعلمهم بما في الأرحام، و بما يصيبون و يكتسبون، و بنزول المطر فوق حدّ الاحصاء متجاوزة عن حدّ الاستقصاء روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: إنّ الامام لو لم يعلم ما يصيبه و إلى ما يصير فليس ذلك بحجّة اللّه على خلقه و إذا عرفت ذلك فأقول: و يمكن التفصّى عن هذين الاشكالين اما عن الاول فبحمل ما اخبروا بأنّهم لا يعلمونه على أنهم عليهم السّلام لا يعلمونه من تلقاء أنفسهم على ما تقدّم تفصيلا في أوّل وجوه الجمع و أما عن الثاني فبما في المجلد السّابع من البحار قال (ره) بعد ما عقد بابا على أنّ الأئمة عليهم السّلام لا يعلمون الغيب و أورد الآيات و الأخبار الدالّة لذلك:
تذكرة
قد عرفت مرارا أنّ نفى علم الغيب عنهم معناه أنّهم لا يعلمون ذلك من أنفسهم بغير تعليمه تعالى بوحى أو إلهام و إلّا فظاهر أنّ عمدة معجزات الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام من هذا القبيل و أحد وجوه إعجاز القرآن أيضا اشتماله على الاخبار بالمغيبات و نحن نعلم أيضا كثيرا من المغيبات باخبار اللّه تعالى و رسوله و الأئمة صلوات اللّه عليهم كالقيامة و أحوالها و الجنّة و النّار و الرجعة و قيام القائم و نزول عيسى عليه السّلام و غير ذلك من أشراط السّاعة و الكرسي و الملائكة و أمّا الخمسة التي وردت في الآية فتحتمل وجوها الأوّل أن يكون المراد أنّ تلك الامور لا يعلمها على التعيين و الخصوص إلّا اللّه تعالى، فانّهم إذا أخبروا بموت شخص في اليوم الفلاني فيمكن أن لا يعلموا خصوص الدقيقة التي تفارق الرّوح الجسد فيها مثلا، و يحتمل أن يكون ملك الموت لا يعلم ذلك.
الثاني أن يكون العلم الحتمى بها مختصّا به تعالى و كلّ ما أخبر اللّه به من ذلك محتمل للبداء الثالث أن يكون المراد عدم علم غيره تعالى إلّا من قبله فيكون كسائر الغيوب، و يكون التخصيص بها لظهور الأمر فيها أو لغيره أقول: و يؤيّد ذلك ما رواه سدير قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ أبي مرض مرضا شديدا حتّى خفنا عليه، فبكى بعض أهله عند رأسه، فنظر إليه فقال عليه السّلام إنّي لست بميّت من وجعى هذا إنّه أتاني اثنان فأخبرانى أنّي لست بميّت من وجعي هذا قال: فبرء و مكث ما شاء اللّه أن يمكث فبينما هو صحيح ليس به بأس قال عليه السّلام: يا بنيّ إنّ الذين أتياني من وجعي ذاك أتياني فأخبراني أنّي ميّت يوم كذا و كذا، قال: فمات في ذلك اليوم الرّابع ما أومأنا إليه سابقا، و هو أنّ اللّه تعالى لم يطّلع على تلك الامور كلّية أحدا من الخلق على وجه لابداء فيه، بل يرسل علمها على وجه الحتم في زمان قريب من حصولها، كليلة القدر أو أقرب من هذا، و هذا وجه قريب تدلّ عليه أخبار كثيرة، إذ لا بدّ من علم ملك الموت بخصوص الوقت كما ورد في الأخبار و كذا ملائكة السّحاب و المطر بوقت نزول المطر، و كذا المدبّرات من الملائكة بأوقات وقوع الحوادث، هذا و قد أطنبنا الكلام في هذا المقام لكونه من مزالّ الأقدام، و قد أتينا فيه ما يقتضيه التأمّل و يسوق إليه النّظر و التدبّر في أخبار الأئمة عليهم السّلام، و الأمر بعد ذلك موكول إليهم، فانّ أهل البيت أدرى بما فيه و سرّ الحبيب مع الحبيب ليس قلم يحكيه، و ما التوفيق إلّا باللّه، و الحمد للّه على ذلك
|