و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و الثانية و السبعون من المختار في باب الخطب أمين وحيه، و خاتم رسله، و بشير رحمته، و نذير نقمته، أيّها النّاس إنّ أحقّ النّاس بهذا الأمر أقوايهم عليه و أعلمهم بأمر اللّه فيه فإن شغب شاغب أستعتب و إن أبى قوتل و لعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة النّاس ما إلى ذلك سبيل و لكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثمّ ليس للشاهد أن يرجع و لا للغائب أن يختار. ألا و إنّي أقاتل رجلين: رجلا ادّعى ما ليس له و آخر منع الّذي عليه. أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه فإنّها خير ما تواصى العباد به، و خير عواقب الأمور عند اللّه، و قد فتح باب الحرب بينكم و بين أهل القبلة و لا يحمل هذا العلم إلّا أهل البصر و الصّبر، و العلم بمواقع الحقّ، فامضوا لما تؤمرون به، و قفوا عند ما تنهون عنه، و لا تعجلوا في أمر حتّى تتبيّنوا فإنّ لنا مع كلّ أمر تنكرونه غيرا.
اللغة
(خاتم رسله) بفتح التاء و كسرها
المعنى
اعلم أنّ مدار هذه الخطبة الشريفة على فصول:
الفصل الاول في نبذ من ممادح الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم
و هو (أمين وحيه) أى مأمون على ما اوحى إليه من الكتاب الكريم و شرايع الدّين القويم من التحريف و التبديل فيما امر بتبليغه لمكان العصمة الموجودة فيه صلوات اللّه و سلامه عليه و آله (و خاتم رسله) أى آخرهم ليس بعده رسول كما قال سبحانه: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ قال في الصّافي: آخرهم الذي ختمهم أو ختموا به على اختلاف القرائتين.
و في مجمع البحرين: و محمّد خاتم النّبيّين يجوز فيه فتح التاء و كسرها فالفتح بمعنى الزينة مأخوذ من الخاتم الذي هو زينة للابسه و بالكسر اسم فاعل بمعنى الاخر (و بشير رحمته و نذير نقمته) أى مبشّر برحمته الواسعة، و الثواب الجزيل و مخوّف من عقوبته الدّائمة و العذاب الوبيل كما قال عزّ من قائل: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً.
الفصل الثاني في الاشارة إلى بعض وظايف الخلافة
و هو قوله عليه السّلام (أيّها النّاس إنّ أحقّ النّاس بهذا الأمر) أى أمر الخلافة و الامامة (أقواهم عليه) أى أكملهم قدرة و قوّة على السياسة المدنيّة و على كيفيّة تدبير الحرب (و أعلمهم بأمر اللّه فيه) أى أكثرهم علما بأحكامه سبحانه في هذا الأمر و في بعض النّسخ «و أعملهم بأمر اللّه» بدله هذا و يدلّ على ذلك أعني كون الأقوى و الأعلم أحقّ بالرياسة من غيره صريحا قوله سبحانه أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فقد ردّ استبعادهم لتملّكه بفقره بأنّ العمدة في ذلك اصطفاء اللّه و قد اختاره عليكم و هو أعلم بالمصالح و بأنّ الشرط فيه وفور العلم ليتمكّن به من معرفة الامور السياسية، و جسامة البدن، ليكون أعظم وقعا في القلوب و أقوى على مقاومة العدوّ و مكايدة الحروب، لا ما ذكرتم.
و كيف كان فقد دلّت هذه الاية الشريفة كقول الامام عليه السّلام على بطلان ملك المفضول و خلافته مضافين إلى قوله تعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ و قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ.
فانقدح من ذلك فساد ما توهّمه الشارح المعتزلي من أنّ قوله عليه السّلام لا يدلّ على بطلان امامة المفضول لأنّه عليه السّلام ما قال إنّ امامة غير الأقوى فاسدة و لكنه قال إنّ الأقوى أحقّ و أصحابنا لا ينكرون أنه عليه السّلام أحقّ ممن تقدّمه بالامامة مع قولهم بصحّة امامة المتقدّمين لأنه لا منافاة بين كونه أحقّ و بين صحّة إمامة غيره.
وجه انقداح الفساد أنّ أحقّيته و إن كانت لا تنافي بحسب الوضع اللّغوي حقيقيّة غيره كما هو مقتضى وضع أفعل التفضيل إلّا أنّ الظاهر عدم إرادة الأفضليّة هنا بل نفس الفضل كما في قوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ حيث يستدلّون به على حجب الأقرب للأبعد و كذلك في قوله أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ و إلّا لما استحقّ متبعو غير الأحقّ بالتوبيخ و الملام المستفاد من ظاهر الاستفهام، مضافا إلى تشديد التقريع بقوله عقيب الاية فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
فان قلت: حمل أفعل على غير معناه اللّغوي مجاز لا يصار إليه إلّا بقرينة تدلّ عليه فما القرينة عليه قلت: القراين المنفصلة من العقل و النقل فوق حدّ الاحصاء و أمّا القرينة المتّصلة فهي قوله: (فان شغب شاغب) أي أثار الشرّ و الفساد (استعتب) و طلب عتباه و رجوعه إلى الحقّ (فان أبى قوتل) فانّ جواز قتال الابي و قتله ليس إلّا لعدم جواز عدوله عن الأحقّ إلى غيره فيعلم منه أنّ غيره غير حقيق للقيام بالأمر كما لا يخفى، فافهم و تدبّر هذا.
و لما كان معاوية و أهل الشّام و أكثر من عدل عنه عليه السّلام و نكث عن بيعته قادحين في خلافته طاعنين في امامته بأنّه لم يكن عقد بيعته برضا العامّة و حضورها أشار إلى بطلان زعمهم و فساده بقوله: (و لعمري لئن كانت الامامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة النّاس) كما يزعمه هؤلاء و يحتجّون به علىّ (ما) كان (إلى ذلك سبيل) لتعذّر اجتماع المسلمين على كثرتهم و انتشارهم في مشارق الأرض و مغاربها (و لكن أهلها) أى أهل الامامة أو البيعة الحاضرون من أهل الحلّ و العقد يعقدون البيعة و (يحكمون على من غاب عنها ثمّ ليس للشاهد أن يرجع) عن بيعته كما رجع زبير و طلحة (و لا للغائب) كمعاوية و أتباعه (أن يختار) أى يكون لهم اختيار بين التسليم و الامتناع.
قال الشّارح المعتزلي و هذا الكلام أعنى قوله عليه السّلام و لعمرى إلى آخره تصريح بمذهب أصحابنا من أنّ الاختيار طريق إلى الامامة و مبطل لما يقوله الامامية من دعوى النّص عليه و من قولهم لا طريق الى الامامة سوي النصّ أو المعجز انتهى.
و فيه نظر أمّا أوّلا فلأنّه عليه السّلام إنّما احتجّ عليهم بالاجماع إلزاما لهم لاتّفاقهم على العمل به في خلافة أبي بكر و أخويه و عدم تمسّكه عليه السّلام بالنصّ لعلمه بعدم «ج 10» التفاتهم إليه كيف و قد أعرضوا عنه في أوّل الأمر مع قرب العهد بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سماعهم منه عليه السّلام و أمّا ثانيا فلأنّه عليه السّلام لم يتعرّض للنصّ نفيا و لا إثباتا فكيف يكون مبطلا لما ادّعاه الاماميّة من النصّ.
و العجب أنّه جعل هذا تصريحا بكون الاختيار طريقا إلى الامامة و نفى الدلالة في قوله عليه السّلام: إنّ أحقّ النّاس بهذا الأمر اه، على نفى إمامة المفضول مع أنّه لم يصرّح بأنّ الامامة تنعقد بالاختيار بل قال لا يشترط في انعقاد الامامة حضور العامة و لا ريب في ذلك نعم يدلّ بمفهومه على ذلك و هذا تقيّة منه عليه السّلام.
و لا يخفى على من تتبّع سيره أنّه لم يكن يمكنه إنكار خلافتهم و القدح فيها صريحا في المحافل فلذا عبّر بكلام موهم لذلك و قوله عليه السّلام: و أهلها يحكمون و إن كان موهما له أيضا لكن يمكن أن يكون المراد بالأهل الأحقّاء بالامامة و يكون الضمير فيه راجعا إليهم. و لا يخفى أنّ ما مهدّه عليه السّلام أولا بقوله: إنّ أحقّ النّاس أقواهم يشعر بأنّ عدم صحّة رجوع الشاهد و اختيار الغايب إنّما هو في صورة الاتفاق على الأحقّ دون غيره فتأمل.
ثمّ ذكر من يسوغ له عليه السّلام قتاله فقال: (ألا و إنّي اقاتل رجلين رجلا ادّعى ما ليس له و آخر منع الّذي عليه) يحتمل أن يكون الأوّل إشارة إلى أصحاب الجمل و الثاني إلى معاوية و أتباعه و يحتمل العكس.
فعلى الأوّل فالمراد من ادّعائهم ما ليس لهم الخلافة أو المطالبة بدم عثمان فانه لم يكن لهم ذلك و إنما كان ذلك حقّا لوارثه و من منعهم بما وجب عليهم هو البيعة و بذل الطاعة.
و على الثاني فالمراد من ما ليس له أيضا الخلافة أو دعوى الولاية لدم عثمان و المطالبة به و من منع ما وجب عليه هو المضيّ على البيعة و الاستمرار عليه أو ساير الحقوق الواجبة عليهم.
الفصل الثالث في الوصيّة بما لا يزال يوصى به و الاشارة إلى أحكام البغاة إجمالا و هو قوله عليه السّلام (اوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه) الّتي هي الزاد و بها المعاد (فانّها خير ما تواصى العباد به و خير عواقب الامور عند اللّه) يعني أنّها خير أواخر الامور لكونها خير ما ختم به العمل في دار الدّنيا أو أنّ عاقبتها خير العواقب (و قد فتح باب الحرب بينكم و بين أهل القبلة) أى الاخذين بظاهر الاسلام (و لا يحمل هذا العلم) أى العلم بوجوب قتال أهل القبلة و بشرايطه و في بعض النّسخ هذا العلم محرّكة فيكون إشارة إلى حرب أهل القبلة و القيام به أى لا يحمل علم الحرب و لا يحارب (إلّا أهل البصر و الصبر) أى أهل البصيرة و العقل و أهل الصّبر و التحمّل على المكاره (و العلم بمواقع الحقّ) و ذلك لأنّ المسلمين كانوا يستعظمون حرب أهل القبلة و من أقدم منهم عليه أقدم على خوف و حذر، فقال عليه السّلام إنّ هذا العلم ليس يدركه كلّ أحد و إنّما له قوم مخصّصون.
قال الشّافعي: لولا عليّ عليه السّلام لما علم شي ء من أحكام أهل البغى و هو كما قال (فامضوا لما تؤمرون به و قفوا عند ما تنهون عنه و لا تعجلوا في أمر) و لا تسرعوا في إنكاره و ردّه إذا استبعدتموه بأوهامكم (حتّى تتبيّنوا) و تثبّتوا و تسألوا عن فايدته و علّته (فانّ لنا مع كلّ أمر تنكرونه) و تستبعدونه (غيرا).
قال الشّارح المعتزلي أى لست كعثمان اصرّ على ارتكاب ما أنهى عنه بل أغير كلّ ما ينكره المسلمون و يقتضى الحال و الشرع تغييره.
و قال الشارح البحرانى: أى إنّ لنا مع كلّ أمر تنكرونه قوّة على التغيير إن لم يكن في ذلك الأمر مصلحة في نفس الأمر فلا تسرعوا إلى إنكار أمر لفعله حتى تسألوا عن فائدته فانه يمكن أن يكون انكاركم لعدم علمكم بوجهه.
قال العلّامة المجلسيّ «ره» و يمكن أن يكون المعنى أنّ لنا مع كلّ أمر تنكرونه تغييرا أى ما يغيّر إنكاركم، و يمنعكم عنه من البراهين السّاطعة أو الأعم منها و من السّيوف القاطعة إن لم ينفعكم البراهين.
أقول: و ذلك مثل ما وقع منه في أمر الخوارج فانّهم لمّا نقموا عليه ما نقموا روّعهم عن الانكار عليه بالبيانات الشافية و الحجج الوافية حتّى ارتدع منهم ثمانية آلاف و كانوا اثنى عشر ألفا و لمّا أصرّ الباقون و هم أربعة آلاف على اللّجاج، و لم ينفعهم الاحتجاج، قطع دابرهم بسيف يفلق الهام، و يطيح السواعد و الأقدام.
- تذر الجماجم ضاحيا هاماتهابله الأكفّ. كأنّها لم تخلق
حسب ما عرفته تفصيلا فى شرح الخطبة السادسة و الثلاثين و غيرها.
|