و من كلام له عليه السّلام
و هو المأة و الثامن و السبعون من المختار في باب الخطب و هو مروىّ في الأصول المعتبرة كالكافي و التوحيد و الاحتجاج و الارشاد بطرق مختلفة باجمال و تفصيل و اختلاف تطلع عليه بعد الفراغ من شرح ما أورده السيّد (ره).
و قد سئله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام: أ فأعبد ما لا أرى قال: و كيف تراه قال عليه السّلام: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، و لكن تدركه القلوب بحقايق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، متكلّم لا بروّية، مريد بلا همّة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء، بصير لا يوصف بالحاسّة، رحيم لا يوصف بالرّقّة، تعنو الوجوه لعظمته، و تجب القلوب من مخافته.
اللغة
(الذعلب) في الأصل الناقة السريعة ثمّ صار علما للانسان كما نقلوا بكرا عن فتى الابل إلى بكر بن وابل و (اليماني) منسوب إلى اليمن اقليم معروف سمّى به لكونه على يمين الكعبة و أصله يمنيّ بتشديد الياء ثمّ جعلوا الألف بدلا عن الياء الثانية فقالوا يماني بالتخفيف في يمنيّ و (جفوت) الرجل أعرضت عنه أو طردته و قد يكون مع بغض و جفا الثوب يجفو إذا غلظ فهو جاف، و منه جفاء اليد و هو غلظتهم و فظاظتهم و (عنا) يعنو عنوا من باب قعد ذلّ و خضع و الاسم العناء بالفتح و المدّ فهو عان و (وجب) الحائط و نحوه وجبة سقط و وجب القلب وجبا و وجيبا رجف.
الاعراب
قوله: أ فأعبد استفهام على سبيل الانكار و الابطال و قوله: قريب خبر لمبتدأ محذوف و قوله: غير ملامس بنصب غير كما في أكثر النسخ حال من فاعل قريب المستتر و في بعضها بالرّفع فيكون صفة لقريب، و كذلك قوله غير مباين، و مثلهما جملة لا يوصف تحتمل أن تكون في محلّ النصب على الحال، و في محلّ الرّفع على الوصف.
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام له عليه السّلام من كلماته المعروفة و قد ظهر لك في شرح الخطبة الثّانية و التسعين أنّه ملتقط من كلام طويل له عليه السّلام قدّمنا روايته هناك من توحيد الصّدوق كما ظهر أنّه عليه السّلام كلّم به مع ذعلب، فانه لما قال على المنبر غير مرّة: سلوني قبل أن تفقدوني، قام إليه ذعلب و كان رجلا ذرب اللّسان بليغا في الخطب شجاع القلب فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لاخجلنّه اليوم لكم في مسألتي إيّاه فقال له (هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين) و كان هذا السؤال منه من باب التعنّت و التقرير بقصد التعجيز عن الجواب لا الاستفهام الحقيقي كما يدلّ عليه أوّل كلامه الّذى حكيناه.
(فقال عليه السّلام أ فأعبد ما لا أرى) إنكار لعبادة ما لا يدرك، لأنّ العبادة متضمّنة للسؤال و المخاطبة و المكالمة و طلب الرحمة و المغفرة و غير ذلك من الخضوع و الخشوع و التضرّع و التملّق و الاستكانة و هذه كلّها تستدعى حضور المعبود و إدراكه و رؤيته.
و لما توهّم السائل من كلامه عليه السّلام أنّ مراده به رؤية البصر أعاد السؤال و (قال و كيف تراه) على سبيل الاستفهام التوبيخي يعني أنّ رؤيته غير ممكنة فكيف ادّعيتها.
فأجابه و (قال عليه السّلام لا تدركه العيون بمشاهدة العيان) يعنى أنّ رؤيته ليست بالعين و بمشاهدة القوّة البصرية الجسمانية، فانّ هذه غير جايزة كما عرفت تحقيقه في شرح الخطبة التاسعة و الأربعين، و هو صريح في بطلان مذهب الأشاعرة و المشبهة و الكراميّة المجوّزين للرؤية (و لكن تدركه القلوب بحقايق الايمان) أى تدركه العقول الصافية عن ملابسة الأبدان و غواشي الطبايع و الأجرام بحقايق الايمان أى بأنوار العقليّة الناشئة من الايمان و الاذعان الخالص كما مرّ تحقيقه في شرح الخطبة التاسعة و الأربعين أيضا.
و قال الشارح البحراني: أراد بحقايق الايمان أركانه و هى التصديق بوجود اللّه و وحدانيّته و ساير صفاته و اعتبارات أسمائه الحسنى.
و قال العلامة المجلسى ره في مرآت العقول: حقايق الايمان العقائد الّتى هى حقايق أى عقايد عقلية ثابتة يقينيّة لا يتطرّق إليها الزوال و التغير أى أركان الايمان أى الانوار و الاثار الّتي حصلت في القلب من الايمان او التصديقات و الاذعانات الّتى تحقّ أن تسمّى ايمانا.
أو المراد بحقايق الايمان ما ينتمى إليه تلك العقائد من البراهين العقليّة، فانّ الحقيقة ما يصير إليه حقّ الأمر و وجوبه ذكره المطرزى في الغريبين انتهى.
أقول: هذه المعاني كلّها صحيحة محتملة لكن الأظهر هو المعنى الثاني المطابق لما ذكرناه.
و يؤيّده ما في الاحتجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه سأله زنديق كيف يعبد اللّه الخلق و لم يروه قال عليه السّلام: رأته القلوب بنور الايمان و أثبتته العقول بيقظها إثبات العيان، و أبصرته الأبصار بما رأت من حسن التركيب و احكام التأليف، ثمّ الرّسل و آياتها و الكتب و محكماتها و اقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته قال: أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفوه فيعبد على يقين قال عليه السّلام: ليس للمحال جواب، هذا.
و لما نبّه على كونه سبحانه مدركا بالعقول عقّبه بذكر جملة من صفات كماله التي هى جهات ادراكه فقال (قريب من الأشياء غير ملامس) يعنى أنّ قربه منها بالاحاطة و القيوميّة لا بالالتصاق و الملامسة الّتى هى من عوارض الجسميّة (بعيد منها غير مباين) يعنى أنّ بعده منها بنفس ذاته المقدّسة لا بعنوان خطبه 179 نهج البلاغه التعاند و المضادّة، و قد مرّ تحقيق ذلك مع سابقه في شرح الفصل السادس من الخطبة الاولى عند شرح قوله عليه السّلام: مع كلّ شي ء لا بمقارنة و غير كلّشى ء لا بمزايلة.
(متكلّم لا بروية) يعنى أنّ تكلّمه تعالى ليس بالفكر و التروّى كساير آحاد الناس فانّ كلامهم تابع للتروّى و الافكار يتفكّرون أوّلا في نظم الألفاظ و ترتيبها و دلالتها على المعاني المقصودة ثمّ يتكلّمون و اللّه سبحانه منزّه عن ذلك.
قال الشارح البحراني: و كلامه تعالى يعود إلى علمه بصور الأوامر و النواهى و ساير أنواع الكلام عند قوم و إلى المعنى النفساني عند الأشعرى و إلى خلقه الكلام في جسم النبىّ عند المعتزلة. أقول: و ستعرف تحقيق معنى كلامه و تكلّمه سبحانه فانتظر.
(مريد بلا همّة) أى ليست إرادته كإرادتنا مسبوقة بالعزم و الهمّة.
قال الشارح المعتزلي قوله: بلا همّة، أى بلا عزم، و العزم عبارة عن إرادة متقدّمة للفعل تفعل توطينا للنفس على الفعل و تمهيدا للارادة المقارنة له، و إنما يصحّ ذلك على الجسم الّذي يتردّد فيها يدعوه إليه الدّواعى، فأمّا العالم لذاته فلا يصحّ ذلك فيه.
(صانع لا بجارحة) أى ليست صنعته بالاعضاء و الجوارح الّتى هى من لواحق الجسميّة و انماه أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (لطيف لا يوصف بالخفاء) قال الشارح البحرانىّ اللطيف يطلق و يراد به رقيق القوام و يراد به صغير الجسم المستلزمين للخفاء و عديم اللّون من الأجسام و المحكم من الصنعة، و هو تعالى منزّه عن اطلاقه بأحد هذه المعاني لاستلزام الجسميّة و الامكان فيبقى إطلاقها عليه باعتبارين: أحدهما تصرّفه في الذّوات و الصفات تصرّفا خفيّا يفعل الأسباب المعدّة لها لافاضة كمالاتها.
الثاني جلالة ذاته و تنزيهها عن قبول الادراك البصرى، يعنى لاستحالة رؤيته شابه الأجسام اللطيفة فاطلق عليه لفظ اللّطيف بهذا الاعتبار.
أقول: و هنا اعتبار ثالث ذكره الشارح المعتزلي و غيره، و هو أنه لطيف بعباده كما في الكتاب العزيز أى يفعل الألطاف المقربة لهم من الطاعة المبعدة لهم عن المعصية، أو لطيف بهم بمعنى أنه يرحمهم و يرفق بهم.
و اعتبار رابع و هو علمه بالأشياء اللطيف رواه في الكافى مرفوعا عن أبى جعفر الثاني عليه السّلام قال: و كذلك سمّيناه لطيفا لعلمه بالشى ء اللّطيف مثل البعوضة و أخفى من ذلك و موضع النشوء منها و العقل و الشهوة للسفاد و الحدب على نسلها و اقام بعضها على بعض و نقلها الطعام و الشراب إلى أولادها في الجبال و المفاوز و الأودية و القفار فعلمنا أنّ خالقها لطيف بلا كيف، و إنما الكيفيّة للمخلوق المكيّف.
و رواه أيضا فيه مع اعتبار خامس عن الفتح بن يزيد الجرجانى عن أبى الحسن عليه السّلام في حديث طويل سأل فيه عنه عليه السّلام عن تفسير معنى الواحد و وحدانيّته تعالى إلى أن قال قلت: جعلت فداك فرّجت عنى فرّج اللّه عنك فقولك اللّطيف الخبير فسّره لى كما فسّرت الواحد فانّى أعلم أنّ لطفه على خلاف لطف خلقه للفصل غير أنّى احبّ أن تشرح لي ذلك فقال عليه السّلام: يا فتح إنما قلنا اللّطيف للخلق اللّطيف لعلمه بالشى ء اللّطيف أو لا ترى وفّقك اللّه و ثبّتك إلى أثر صنعه في النّبات اللّطيف و غير اللّطيف و من الخلق اللّطيف و من الحيوان الصّغار و من البعوض و الجرجس و ما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الانثى و الحدث المولود من القديم، فلمّا رأينا صغر ذلك في لطفه و اهتدائه للسّفاد و الهرب من الموت و الجمع لما يصلحه و ما في لجج البحار و ما في لحاء الأشجار و المفاوز و القفار و افهام بعضها عن بعض منطقها و ما يفهم به أولادها عنها و نقلها للغذاء إليها ثمّ تأليف ألوانها حمرة مع صفرة و بياض مع حمرة و أنه ما لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها لا تراه عيوننا و لا تلمسه أيدينا علمنا أنّ خالق هذا الخلق لطيف بخلق ما سمّيناه بلا علاج و لا أداة و لا آلة، و أنّ كلّ صانع شي ء فمن شي ء صنع و اللّه خالق اللّطيف الجليل خلق و صنع لا من شي ء فقد قرّر عليه السّلام أنّ اطلاق اسم اللّطيف عليه سبحانه بوجهين.
أحدهما للخلق اللّطيف يعنى لخلقه الأشياء اللّطيفة و الاعتبار الأوّل الّذى حكيناه عن البحرانى يعود إلى ذلك أو قريب منه.
و ثانيهما لعلمه بالأشياء اللّطيفة (كبير لا يوصف بالجفاء) يعنى أنّه موصوف بالكبرياء و العظمة لجلالة شأنه و عظمة سلطانه، و منزّه عمّا عليه ساير الكبراء و الأعاظم من المخلوقين كالملوك و السلاطين من الفظاظة و غلظ الطبيعة و الجفاء لمن تحت ولايتهم من الرّعية.
و قال الشارح المعتزلي: لما كان لفظ الكبير إذا استعمل في الجسم أفاد تباعد افكاره ثمّ وصف البارى بأنه كبير، أراد أن ينزّهه عمّا تدلّ لفظة كبير عليه إذا استعمل في الأجسام، انتهى- و الأظهر ما قلناه. (بصير لا يوصف بالحاسة) أما أنه بصير فقد مرّ تحقيقه في شرح الفصل السادس من الخطبة الاولى، و أمّا تنزّهه عن الحواسّ فلأنّها من صفات الجسم (رحيم لا يوصف بالرقة) لما كان الرحمة في الخلق عبارة عن رقّة القلب و الانفعال النفساني و هما من أوصاف الممكن فحيثما يطلق عليه لفظ الرحيم يراد به ما هو لازم الرحمة من الانعام و الافضال، و كذلك ساير الأوصاف الّتي لا يصحّ اتّصافه تعالى بها باعتبار مباديها يوصف بها باعتبار غاياتها كالغضب في قوله: «غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ»، فيراد به الانتقام و العقوبة لاستلزامه له، و المكر في قوله: «وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» فيراد به جزائه سبحانه لمكرهم بالجزاء السوء.
(تعنو الوجوه لعظمته) أى تذلّ و تخضع لأنه الإله المطلق لكلّ موجود و ممكن و العظيم الذي كلّ مقهور تحت مشيّته و إرادته و داخر تحت جلاله و جبروته و عظمته (و تجب القلوب من مخافته) أى ترجف و تضطرب من هيبته عند ملاحظتها لعظمة سلطانه و علوّ شأنه.
تنبيه
قد وعدناك تحقيق الكلام في معنى متكلّميّته تعالى و أنّ كلامه سبحانه حادث أو قديم فنقول: قد تواترت الأنباء عن الأنبياء و الرّسل، و أطبقت الشرائع و الملل على كونه عزّ و جلّ متكلّما لا خلاف لأحد في ذلك، و إنما الخلاف في معنى كلامه تعالى و في قدمه و حدوثه.
فذهب أهل الحق من الامامية وفاقا للمعتزلة إلى أنّ كلامه تعالى مؤلّف من حروف و أصوات قائمة بجوهر الهواء، و معنى كونه متكلّما أنه موجد للكلام في جسم من الأجسام كالملك و الشجر و نحو ذلك، و على مذهبهم فالكلام حادث لأنه مؤلّف من أجزاء مترتّبة متعاقبة في الوجود، و كلّ ما هو كذلك فهو حادث.
و قالت الحنابلة: كلامه تعالى حروف و أصوات يقومان بذاته و أنه قديم، و قد بالغ بعضهم حتّى قال جهلا بقدم الجلد و الغلاف أيضا فضلا عن المصحف.
و الكرامية وافقهم في أنّ كلامه حروف و أصوات و أنها قائمة بذاته تعالى إلّا أنّهم خالفوهم في القول بقدمها و قالوا بأنها حادثة لتجويزهم قيام الحوادث بذاته تعالى.
و ذهبت الاشاعرة إلى أنّ كلامه تعالى ليس من جنس الحروف و الأصوات بل هو معنى قديم قائم بذاته تعالى يسمّى الكلام النفسي و هو مدلول الكلام اللّفظي المركب من الحروف.
قال الشارح الجديد للتجريد: و اختلاف الأحوال مبنىّ على قياسين متعارضين احدهما أنّ كلامه تعالى صفة له و كلّما هو صفة له فهو قديم فكلامه قديم و ثانيهما أنّ كلامه مؤلّف من أجزاء مترتّبة متعاقبة في الوجود، و كلّما هو كذلك فهو حادث فكلامه حادث، فاضطرّوا إلى القدح في أحد القياسين و منع بعض المقدّمات لاستحالة حقيّة المتناقضين.
فالمعتزلة صحّحوا القياس الثاني و قدحوا في صغرى القياس الأوّل و الحنابلة صحّحوا القياس الأوّل و منعوا كبرى القياس الثاني، و الكراميّة صحّحوا القياس الثاني و قدحوا في كبرى القياس الأوّل، و الأشاعرة صحّحوا القياس الأوّل و منعوا من صغرى القياس الثّاني.
اذا عرفت ذلك فنقول: الحقّ الموافق للتحقيق من هذه الأقوال كما قلنا هو القول الأوّل، لأنّ المتبادر إلى الفهم عند اطلاق لفظ الكلام هو المؤلّف من الحروف و الألفاظ دون المعنى، و التبادر علامة الحقيقة، و اطلاق لفظ المتكلّم عليه سبحانه على ذلك ليس باعتبار قيام الكلام به، لاستلزامه إثبات الجوارح، بل باعتبار خلقه الكلام في الأجسام النباتيّة و الجماديّة و ألسن الملائكة إمّا مجازا من باب اطلاق اسم المسبّب على السّبب، أو حقيقة كما هو الأظهر لأنّ المتكلّم مشتقّ من التكلّم أو من الكلام بمعناه المصدرى كالسّلام و نحوه، و التكلّم و الكلام بهذا المعنى بمعنى ايجاد اللّفظ، و لا شكّ أنّ ايجاده قائم بالموجد كما أنّ التأثير قائم بالمؤثّر فالمتكلّم بصيغة الفاعل عبارة عن منشي ء الكلام و موجده، و إنشاء الكلام و ايجاده لا قيام له إلّا بالفاعل، كما أنّه بصيغة المفعول عبارة عن نفس الكلام المؤلّف و لا قيام له إلّا بجوهر الهواء.
لا يقال: التكلّم بمعنى ايجاد الكلام لم يجي ء فى اللّغة.
لأنّا نقول: ذلك غير مسلّم كيف و التكلّم اللّفظي عند الأشاعرة ليس إلّا بهذا الاعتبار و هم قد صرّحوا بكون الكلام مشتركا لفظا بين اللّفظى و النفسى كما ستعرفه و على هذا فيكون إطلاق المتكلّم عليه بمعنى موجد الكلام حقيقة لا مجازا.
قال صدر المتألّهين في كتاب المبدأ و المعاد: المتكلّم عبارة عن محدث الكلام في جسم من الأجسام كالهواء و غيرها، فانّا إذا تكلّمنا أحدثنا الكلام في بعض الأجسام الّتى لنا قدرة على تحريكها، فالمتكلّم ما قام به التكلّم لا ما قام به الكلام كما توهّم، و التكلّم بمعنى ما به يحصل الكلام فينا ملكة قائمة بذواتنا بها نتمكّن من إفادة مخزوناتنا العلميّة على غيرنا، و في الواجب تعالى عين ذاته من حيث انّه يخلق الأصوات و الحروف في أىّ موضع كان من الأجسام لافادة ما في قضائه السابق على من يشاء من عباده.
و ما أثبته المتكلّمون من الكلام النفسى فان كان له معنى محصّل فيرجع إلى خطرات الأوهام، أو يحتمل ما يوجد من الكلام، و لا شكّ في براءته تعالى عنه و عن ساير ما يتخيّله العوام.
و استدل الحنابلة على أنّ كلامه مؤلّف من الحروف و الأصوات بأنّ كلامه مسموع و لا مسموع إلّا الحروف و الصّوت فكلامه ليس إلّا الحروف و الصّوت أما الصّغرى فلقوله تعالى: «وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ»، و أمّا الكبرى فظاهرة، ثمّ أثبتوا كونه قديما بأنه لو كان حادثا لكان إمّا قائما بذاته أو بغيره أو لا في محلّ و الأقسام الثلاثة كلّها باطلة أمّا الأوّل فلاستلزامه كون الذات محلّا للحوادث و هو حينئذ كما ستعرفه، و أمّا الثاني فلامتناع ان يقوم صفة الشي ء بغيره، و أمّا الثالث فلاستحالة قيام العرض في الوجود بلا محلّ فثبت أنّه صفة قديمة.
و الجواب أنّ كونه حرفا و صوتا يستلزم حدوثه بالضرورة و تعليل قدمه بأنّ حدوثه مستلزم لأحد الأقسام الثلاثة الباطلة فيه ان منع بطلان القسم الثاني لم لا يجوز أن يقوم بغيره و ان اشتق له منه خلقه و لا امتناع في ذلك حسبما عرفت.
و أما الكرامية فبطلان مذهبهم بعد بطلان جواز حلول الحوادث على الذات واضح، و جهة بطلانه أنّ وجوب الوجود ينافي ذلك، لأنّ حدوث الحوادث فيه يدلّ على تغيّره و انفعاله و ذلك ينافي الوجوب الذّاتي، و لأنّ المقتضى لذلك الحادث إن كان ذاته لم يكن حادثا و إن كان غيره يلزم الافتقار، و لأنّ الحادث إن كان صفة نقص استحال اتّصاف الذات بها و إن كان صفة كمال امتنع خلوّه عنها و المفروض أنها حادثة أى موجودة بعد العدم فحيث كانت معدومة كان الذات خالية عنها.
و أما الاشاعرة فبيّنوا مرادهم من الكلام النفساني أولا و استدّلوا على اثباته ثانيا و اثبتوا كونه قديما ثالثا، ثمّ قالوا إنه واحد مع أنه أمر و نهى و خبر و استخبار و غيرها.
قال الامدى: ليس المراد من إطلاق لفظ الكلام إلّا المعني القائم بالنفس، و هو ما يجده الانسان من نفسه إذا أمر غيره أو نهاه أو أخبره أو استخبر منه، و هذه المعاني هي الّتي يدلّ عليها بالعبارات و ينبّه عليها بالاشارات.
و قال عمر النسفى و هو من أعاظم الأشاعرة في عقايده: و هو أى اللّه سبحانه متكلّم بكلام هو صفة له أزليّة ليس من جنس الحروف و الأصوات، و اللّه متكلّم بها آمرناه مخبر و القرآن كلام اللّه غير مخلوق، و هو مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروّ بألسنتنا مسموع باذاننا غير حال فيها.
و قال التفتازانى في شرحه ما محصّله: إنّ الاجماع و التواتر قد قام على كونه تعالى متكلّما بكلام هو صفة له، ضرورة امتناع اثبات المشتقّ من غير قيام مأخذ الاشتقاق به، و هذه الصفة معنى قائم بالذات و قديمة، ضرورة امتناع قيام الحوادث بذات اللّه سبحانه، و ليس من جنس الحروف و الأصوات، ضرورة حدوثها لأنّ التكلّم ببعضها مشروط بانقضاء الاخر بل عبّر عنها بها و يسمّى المعبّر به بالقرآن المركّب من الحروف و هي صفة واحدة تتكثّر إلى الأمر و النهي و الخبر باختلاف التعلّقات كالعلم و القدرة و ساير الصفات، فهذه الصفة الواحدة باعتبار تعلّقها بشي ء على وجه مخصوص يكون خبرا، و باعتبار تعلّقها بشي ء آخر على وجه آخر يكون أمرا و هكذا.
و القرآن الّذى هو كلام اللّه سبحانه القائم بذاته غير حادث و مكتوب في مصاحفنا بأشكال الكتابة و صور الحروف الدّالة عليه محفوظ في قلوبنا بألفاظ المخيلة، مقروّ بألسنتنا بحروفه الملفوظة المسموعة، مسموع باذاننا بهذه أيضا.
و مع ذلك كلّه ليس حالا في المصاحف و لا في القلوب و الألسنة و الأذهان، بل معنى قديم قائم بذات اللّه سبحانه يلفظ و يسمع بالنظم الدالّ عليه و يحفظ بالنظم المخيل و يكتب بالنقوش و صور و أشكال موضوع خطبه 179 نهج البلاغهة للحروف الدالّة عليه كما يقال النار جوهر مجرّد يذكر باللّفظ و تكتب بالقلم و لا يلزم منه كون حقيقة النار صوتا و حرفا.
و تحقيقه انّ للشي ء وجودا في الأعيان، و وجودا في الأذهان و وجودا في العبارة و وجودا في الكتابة فالكتابة تدلّ على العبارة و هي على ما في الأذهان و هو على ما في الأعيان فحيث يوصف القرآن بما هو من لوازم القديم كما في قولنا: القرآن غير مخلوق، فالمراد حقيقته الموجودة في الخارج، و حيث يوصف بما هو من صفات المخلوقات و المحدثات يراد به الألفاظ المنطوقة المسموعة كما في قولنا قرأت نصف القرآن أو المخيّلة كما في قولنا حفظت القرآن أو الأشكال المنقوشة كما في قولنا يحرم للمحدث مسّ القرآن.
و لما كان دليل الأحكام الشرعيّة هو اللّفظ دون المعنى القديم عرّفه أئمة الاصول بالمكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر و جعلوه اسما للنظم و المعنى جميعا أى للنظم من حيث الدّلالة على المعنى لا لمجرّد المعنى.
ثمّ قال في آخر كلامه: و التحقيق انّ كلام اللّه اسم مشترك بين الكلام النّفسى القديم و معنى الاضافة كونه صفة له و بين اللّفظى الحادث و معنى الاضافة أنه مخلوق اللّه تعالى ليس من تأليفات المخلوقين فلا يصحّ نفى كونه كلام اللّه.
و ما في عبارة بعض المشايخ من أنّه مجاز فليس معناه أنه غير موضوع خطبه 179 نهج البلاغه للنظم المؤلّف، بل معناه أنّ الكلام في التحقيق و بالذات اسم للمعنى القائم بالنفس و تسمية اللفظ به و وضعه لذلك إنما هو باعتبار دلالته على معنى، انتهى ما أهمّنا نقله من محصّل كلامه بعد ردّ أوّله إلى آخره، و هذا القدر كاف في بيان مرادهم من الكلام النفسى.
و استدلّوا على إثباته بقول الأخطل:
- إنّ الكلام لفى الفؤاد و إنّماجعل اللّسان على الفؤاد دليلا
و قول القائل: في نفسى كلام أريد أن أذكره لك.
و بأنّ الألفاظ الذى تتكلّم بها مدلولات قائمة بالنفس، و هذه المدلولات هي الكلام النفساني و هو أمر غير العلم مدلول الخبر إذا أخبر بشى ء إذ ربما يخبر الرجل عما لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه، فالخبر عن الشي ء غير العلم به و غير الارادة أيضا عندنا أمر لأنه قد يأمر بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا و كالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه فانه قد يأمره و هو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه، فانّ مقصود المتكلّم في هذين الأمرين ليس الاتيان بالمأمور بل مجرد الاختبار و الاعتذار و غير الكراهة أيضا إذا نهى لأنّه قد ينهى الرجل عما لا يكرهه بل يريده في صورتى الاختبار و الاعتذار.
و اعترض على دليلهم الأوّل بمنع كون البيت من الأخطل، و على تسليمه فليس حجّة لأنّه مبنىّ على اعتقاده ثبوت الكلام النفسى تقليدا أو على أنه لما كان ما في الضمير مدلولا عليه بالكلام فاطلق عليه من باب اطلاق اسم الدّال على المدلول و حصره فيه تنبيها على أنه آلة يتوصّل بها إليه فكانّه المستحقّ لاسم تلك الالة.
و على دليلهم الثاني بمنع ما ذكروه من أنّ مدلول الخبر غير العلم معلّلا بأنه قد يخبر عما لا يعلمه، إذ لقائل إن يقول: إنّ المعني النفسى الذى يدّعون أنه غير العلم هو ادراك مدلول الخبر أعنى حصوله في الذّهن مطلقا يقينيّا كان أو مشكوكا فلا يكون مغايرا للعلم و بعبارة اخرى انّ هذا إنما يدلّ على مغايرته للعلم اليقينى لا للعلم المطلق، ضرورة أن كلّ عاقل تصدّى للاخبار يحصل في ذهنه صورة ما اخبر به و منع انه مغاير للارادة و الكراهة عند الأمر أو النهى، إذ ما تشبّثوا به من صورتى الاختبار و الاعتذار فيه إنّ الموجود في هاتين الصّورتين صيغة الأمر و النهى لا حقيقتها إذ لا طلب فيهما أصلا و لا إرادة و لا كراهة قطعا، و بالجملة فما يدّعونه غير معقول لأنه ليس له تعالى صفة زايدة على الذات أصلا و لو كان عين الذات فمرجعه الى العلم أو الارادة أو الكراهة أو ساير الصفات.
توضيح ذلك أنه اذا صدر عن المتكلّم خبر فهناك ثلاثة أشياء احدها العبارة الصادرة و الثاني علمه بثبوت النسبة أو انتفائها بين طرفى القضيّة و الثالث ثبوت تلك النسبة أو انتفائها في الواقع، و الأخيران ليسا كلاما حقيقيّا اتفاقا، فتعيّن الأوّل و إذا صدر عنه أمر أو نهى فهناك شيئان احدهما لفظ صادر عنه و الثاني إرادة أو كراهة قائمة بنفسه متعلّقة بالمأمور به أو بالمنهىّ عنه و ليستا أيضا كلاما حقيقيّا اتّفاقا فتعيّن الأوّل.
و استدلّوا على قدمه بمثل ما استدلّ به الحنابلة من الدّليل الّذى قدّمناه و الجواب الجواب.
و استدلّوا على اتّحاده بأنه اذا ثبت الكلام النفسى كان كساير الصفات مثل العلم و القدرة فكما أنّ العلم صفة واحدة تتعلّق بمعلومات متعدّدة و كذا القدرة كذلك الكلام صفة واحدة تنقسم إلى الأمر و النهى و الخبر و الاستفهام و النداء و هذا بحسب التعلّق فذلك الكلام باعتبار تعلّقه بشي ء على وجه مخصوص يكون خبرا، و باعتبار تعلّقه بشي ء آخر أو على وجه آخر يكون أمرا و كذا البواقي.
و فيه انّ وحدته متفرّعة على ثبوت أصله و حيث عرفت فساد الأصل ففساد الفرع ظاهر.
قال العلّامة الحلّي قدّس اللّه روحه: المعقول من الكلام على ما تقدّم أنّه الحروف و الأصوات المسموعة و هذه الحروف المسموعة إنّما تتمّ كلاما مفهوما إذا كان الانتظام على أحد الوجوه الّتى يحصل لها الافهام، و ذلك بأن يكون خبرا أو مرا أو نهيا أو استفهاما أو تنبيها و هو الشامل للتمنّى و الترجّى و التعجّب و القسم و النداء، و لا وجود له إلّا في هذه الجزئيات.
و الّذين اثبتوا قدم الكلام اختلفوا فذهب بعضهم إلى أنّ كلامه تعالى واحد مغاير لهذه المعاني، و ذهب آخرون إلى تعدّده، و الّذين أثبتوا وحدته خالفوا جميع العقلاء في اثبات شي ء لا يتصوّرونه هم و لا خصومهم، و من أثبت للّه وصفا لا يعقله لا يتصوّره هو و لا غيره كيف يجوز أن يجعل إماما يقتدى به و يناط بكلامه لأحكام.
تكملة
قد اشرنا إلى أنّ هذا الكلام مروىّ عنه عليه السّلام في غير واحد من الأصول المعتبرة من طرق مختلفة مع اختلاف في متنه، و ينبغي أن نروى ما فيها على ما جرى عليه ديدننا في هذا الشرح فأقول: روى ثقة الاسلام محمّد بن يعقوب الكلينيّ قدّس اللّه روحه في باب جوامع التوحيد عن محمّد بن أبي عبد اللّه رفعه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: بينا أمير المؤمنين عليه السّلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له ذعلب ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب فقال: أمير المؤمنين هل رأيت ربّك فقال عليه السّلام: ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربّا لم أره، فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته فقال: ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقايق الايمان، ويلك يا ذعلب إنّ ربّي لطيف الطافة لا يوصف باللّطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كلّ شي ء لا يقال شي ء قبله، و بعد كلّ شي ء لا يقال له بعد، شاء الأشياء لا بهمّة، درّاك لا بخديعة، في الأشياء كلّها غير متمازج بها و لا باين منها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلّ لا باستهلال رؤية، ناء لا بمسافة قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسّم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدّر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بالة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، و لا تضمنه الأوقات، و لا تحدّه الصّفات، و لا تأخذه السّنات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النّور بالظلمة، و اليبس بالبلل، و الخشن باللّين، و الصرد بالحرور، مؤلّف بين متعادياتها، مفرّق بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرّقها و بتأليفها على مؤلّفها، و ذلك قوله تعالى: «وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»، ففرّق بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد له، شاهدة بغرايزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه، كان ربّا إذ لا مربوب، و إلها إذ لا مألوه، و عالما إذ لا معلوم، و سميعا إذ لا مسموع.
و في الاحتجاج روى أهل السير أنّ رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن اللّه أرأيته حين عبدته فقال أمير المؤمنين: لم أك بالذى أعبد من لم أره فقال له: كيف رأيته يا أمير المؤمنين فقال له: ويحك لم تره العيون بمشاهدة العيان و لكن رأته العقول بحقايق الايمان، معروف بالدّلالات منعوت بالعلامات، لا يقاس بالناس، و لا يدرك بالحواسّ.
فانصرف الرّجل و هو يقول: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.
و في الارشاد للمفيد روى أهل السيرة و علماء النقلة أنّ رجلا جاء- و ساق الحديث إلى قوله حيث يجعل رسالته- نحو ما رويناه عن الاحتجاج.
و في الكافي في باب إبطال الرؤية عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبي الحسن الموصليّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته قال: فقال: ويلك ما كنت أعبد ربّا لم أره، قال: و كيف رأيته قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقايق الايمان.
|