و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثانية و التسعون من المختار فى باب الخطب
و هي مرويّة في الكافي في باب علامات المؤمن و صفاته باختلاف كثير تطلع عليه بعد الفراغ، من شرح ما أورده السيّد «ره» في المتن.
قال «قده» روى أنّ صاحبا لأمير المؤمنين عليه السّلام يقال له همّام: كان رجلا عابدا فقال له: يا أمير المؤمنين صف لى المتّقين حتّى كأنّي أنظر اليهم، فتثاقل عليه السّلام عن جوابه ثمّ قال عليه السّلام يا همّام: إتّق اللّه و أحسن فإنّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذينهم محسنون، فلم يقنع همّام بذلك القول حتّى عزم عليه فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم قال:
أمّا بعد فإنّ اللّه سبحانه خلق الخلق حين خلقهم غنيّا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه، و لا تنفعه طاعة من أطاعه، فقسّم بينهم معيشتهم، و وضعهم من الدّنيا مواضعهم. فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصّواب، و ملبسهم الإقتصاد، و مشيهم التّواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم، و وقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالّذي نزلت في الرّخاء، و لو لا الأجل الّذي كتب اللّه لهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثّواب و خوفا عن العقاب. عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم و الجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، و هم و النّار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون، قلوبهم محزونة، و شرورهم مأمونة، و أجسادهم نحيفة، و حاجاتهم خفيفة، و أنفسهم عفيفة، صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم، أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها، و أسرتهم ففدوا أنفسهم منها.
اللغة
(عزم) على الأمر يعزم من باب ضرب عزما و معزما و عزمانا و عزيما و عزيمة و عزمة أراد فعله و قطع عليه أوجدّ فيه فهو عازم و عزم الأمر نفسه عزم عليه و عزم على الرّجل اقسم و (الاقتصاد) ضدّ الافراط و (صغر) من باب شرف و فرح صغارة و صغرا و صغرا و صغرانا أى حقر و انحطّ قدره فهو صغير كحقير لفظا و معنا و (ثار) ثورا و ثورانا أى هاج و أثار الغبار و استثاره هيّجه.
الاعراب
قوله: حين خلقهم ظرف زمان، و في بعض النسخ حيث خلقهم بدله، و قوله: نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالّذي نزلت في الرّخاء، اختلف الشّراح في اعراب قوله كالذي، فقال الشارح المعتزلي تقدير الكلام من جهة الاعراب: نزلت أنفسهم منهم في حال البلاء نزولا كالنزول الذي نزلت منهم في حال الرّخاء، فموضع كالّذي نصب لأنّه صفة مصدر محذوف، و الذي الموصول قد حذف العايد اليه و هو الهاء في نزلته كقولك: ضربت الّذي ضربت أى ضربت الذي ضربته.
و تبعه على ذلك الشّارح البحراني حيث قال: و الّذي خلقه مصدر محذوف و الضمير العايد إليه محذوف أيضا، و التقدير: نزلت كالنّزول الّذى نزلته في الرّخاء ثمّ احتمل وجها آخر و قال: و يحتمل أن يكون المراد بالذي الذين فحذف النّون كما في قوله تعالى كَالَّذِي خاضُوا و يكون المقصود تشبيههم حال نزول أنفسهم منهم في البلاء بالّذين نزلت أنفسهم منهم في الرّخاء.
و قال بعضهم: إنّه لا بدّ من تقدير مضاف لأنّ تشبيه الجمع بالواحد لا يصحّ، أى كلّ واحد منهم إذا نزلت في البلاء يكون كالرّجل الذي نزلت نفسه في الرّخاء و نحوه قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ.
أقول: و أنت خبير بأنّ هذه كلّها تكلّفات يأبي عنها الذّوق السّليم مضافا إلى ما فى الوجه الاخر الذي احتمله البحراني و كذلك الوجه الأخير الذي حكيناه عن بعضهم أنّ المنساق من ظاهر كلامه عليه السّلام تشبيه إحدى حالتى المتّقين بحالتهم الاخرى لا تشبيههم بغيرهم من أهل الرّخاء.
ثمّ بعد الغضّ عن ذلك و البناء على ما ذكر فلا حاجة في تصحيح تشبيه الجمع بالمفرد إلى تأويل ما هو المفرد ظاهرا بالجمع و المصير إلى حذف النون كما تمحّله الأوّل، أو تأويل الجمع بالمفرد بالمصير إلى تقدير المضاف كما تجشّمه الاخر، لجواز تقدير موصوف الذي لفظ الرّهط و الجمع و نحوهما ممّا يكون مفردا لفظا و جمعا في المعنى، و يكون المعنى نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالرّهط أو الجمع الذي نزلت نفسهم منهم في الرّخاء.
قال نجم الأئمة بعد ما قال بأنه قد يحذف نون الذين مستشهدا بقول الشاعر:
- و إنّ الّذي حانت بفيح دمائهمهم القوم كلّ القوم يا امّ خالد
و يجوز في هذا أن يكون مفردا وصف به مقدّر مفرد اللّفظ مجموع المعني أى و انّ الجمع الّذى و انّ الجيش الّذى كقوله تعالى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ فحمل على اللّفظ أى الجمع الّذى استوقد نارا، ثمّ قال: بنورهم فحمل على المعني و لو كان في الاية مخفّفا من الّذين لم يجز إفراد الضّمير العايد إليه و كذا قوله تعالى وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ و هذا كثير أعني ذكر الّذي مفردا موصوفا به مقدّر مفردا للّفظ مجموع المعنى و أمّا حذف النّون من الّذين فهو قليل، انتهى.
و بعد ذلك كلّه فالأقرب عندي أن يجعل الّذى مصدريّا بأن يكون حكمه حكم ماء المصدريّة كما ذهب اليه يونس و الأخفش في قوله سبحانه ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا أى ذلك تبشير اللّه و كذلك قالا في قوله تعالى كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا و على هذا فيكون المعني: نزلت أنفسهم منهم فى البلاء مثل نزولها في الرّخاء و هذا لا تكلّف فيه أصلا.
و قوله: تجارة مربحة، بالرّفع على أنّه خبر محذوف المبتدأ، أى تجارتهم تجارة مربحة، و في بعض النسخ بالنصب على المصدر أى اتّجروا تجارة.
المعنى
اعلم أنه قد (روى أنّ صاحبا لأمير المؤمنين) أى رجلا من أصحابه و شيعته و مواليه (يقال له همام) بالتشديد، و هو كما في شرح المعتزلي همام بن شريح بن يزيد بن مرّة بن عمر بن جابر بن يحيى بن الأصهب بن كعب بن الحارث بن سعد ابن عمرو بن ذهل بن سيف بن سعد العشيرة.
و في البحار و الأظهر أنه همام بن عبادة بن خثيم ابن أخ الرّبيع بن خثيم أحد الزّهاد الثمانية كما رواه الكراجكي في كنزه.
و كيف كان فقد (كان رجلا عابدا) زاهدا ناسكا (فقال له يا أمير المؤمنين صف لى المتّقين) و اشرح لي حالهم (حتّى كأنى أنظر إليهم) و ابصر بهم لأقتفي آثارهم و أقتبس أنوارهم.
(فتثاقل عليه السّلام عن جوابه) قال الشارح المعتزلي تثاقله عليه السّلام عن الجواب لعلمه بأنّ المصلحة فى تأخير الجواب، و لعلّه كان فى مجلسه عليه السّلام من لا يحبّ أن يجيب و هو حاضر، فلما انصرف أجاب، أو لأنّه رأى أنّ تثاقله عنه يزيد شوق همام إلى سماعه فيكون أنجع فى موعظته، أو أنه تثاقل عنه لترتيب المعاني و نظمها فى ألفاظ مناسبة ثمّ النطق بها كما يفعله المتروّي في الخطبة و القريض.
و الأولى ما قاله الشارح البحرانى: من أنه عليه السّلام تثاقل عنه لما رأى من استعداد نفسه لأثر الموعظة و خوفه عليه أن يخرج به خوف اللّه إلى انزعاج نفسه و صعوقها.
(ثمّ) إنه عليه السّلام بعد تثاقله عن الجواب و وصف حال المتّقين تفصيلا لما رآه من المصلحة المقتضية لترك التفصيل أجابه بجواب إجمالى و (قال) له (يا همام اتّق اللّه و أحسن) يعنى أنّ الفرض عليك القيام بالتقوى و الأخذ بها على قدر ما حصل لك المعرفة به من معناها و حقيقتها من الكتاب و السنة، و تبين لك إجمالا من ماهيّتها كما يعرفها جميع المؤمنين، و الزائد عن ذلك غير مفروض عليك و لا يجب البحث عنه و قد تقدّم شرح معناها و حقيقتها و بعض ما يترتّب عليها من الثمرات الدنيويّة و الاخرويّة في شرح الخطبة الرّابعة و العشرين، و قد روينا هناك عن الصّادق عليه السّلام انّه قال في تفسيرها: أن لا يفقدك اللّه حيث أمرك و لا يراك حيث نهاك، هذا.
و المراد بقوله: و أحسن هو الاحسان في العمل، يعني أنّ اللازم عليك الأخذ بالتقوى و القيام بالحسنى من الأعمال الصّالحة.
و هذا الّذى قلنا أولى ممّا قاله الشارح البحراني من أنّ معني كلامه أنّه أمره بتقوى اللّه أى في نفسه أن يصيبها فادح بسبب سؤاله، و أحسن أى أحسن إليها بترك تكليفها فوق طوقها.
و كيف كان فلمّا أمره بالتّقوى و الاحسان علّله بقوله (فانّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذين هم محسنون) ترغيبا له إلى القيام بهما، و هو اقتباس من الاية الشريفة خاتمة سورة النحل، يعني أنّه سبحانه مع الّذين اتّقوا ما حرّم عليهم و أحسنوا فيما فرض عليهم أى معين لهم و ناصر لهم و هو وليّهم فى الدّنيا و الاخرة.
(فلم يقنع همّام بذلك القول) و لم يكتف بالاجمال (حتّى عزم عليه عليه السّلام) و أقسم و ألحّ في السؤال.
(ف) أجاب عليه السّلام مسئوله و أنجح مأموله و (حمد اللّه) عزّ و جلّ (و أثنى عليه) بما هو أهله (و صلّى على النبيّ و آله ثمّ قال أما بعد فانّ اللّه سبحانه خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم).
و انما مهّد هذه المقدّمة لأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما كان بصدد شرح حال المتقين تفصيلا حسبما اقترحه همام و كان ربما يسبق إلى الأوهام القاصرة أنّ ما يأتي به المتّقون من مزايا الأعمال و الصالحات و ما كلّفهم اللّه سبحانه به من محامد الخصال و القربات من أجل حاجة منه تعالى عن ذلك إليها، قدّم هذه المقدّمة تنبيها على كونه سبحانه منزّها عن ذلك، متعاليا عن صفات النقص و الحاجة في الأزل كما في الأبد، و أنه لم يكن غرضه تعالى من الخلق و الايجاد تكميل ذاته بجلب المنفعة و دفع المضرّة كما فى ساير الصناع البشرية يعملون الصنائع لافتقارهم إليها و استكمالهم بها بما في ذاتهم من النقص و الحاجة، و أمّا اللّه الحيّ القيّوم فهو الغنىّ الكامل المطلق في ذاته و صفاته و أفعاله و لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان و لا تخوّف من عواقب زمان و لا استعانة على ندّ مثاور و لا شريك مكائر و لا ضدّ منافر حسبما عرفته في الخطبة الرّابعة و الستّين و شرحها بما لا مزيد عليه.
و هذا معنى قوله (لأنه لا تضرّه معصية من عصاه و لا تنفعه طاعة من أطاعه) و قد تقدّم فى شرح الخطبة المأة و الخامسة و الثمانين أنّ غرضه من الخلق و الايجاد و من الأمر بالطاعة و الانقياد هو ايصال النفع إلى العباد و إكمالهم بالتكاليف الشرعيّة و رفعهم بالعمل بها إلى حظاير القدس و محافل الانس.
و قوله (فقسّم بينهم معايشهم و وضعهم من الدّنيا مواضعهم) تفريع على قوله: خلق الخلق لا تقرير و تاكيد، لغناه المطلق كما قاله الشارح البحراني.
و المراد أنه تعالى أعطى كلّ شي ء خلقه ثمّ هدى و قسّم بينهم معيشتهم أى ما يعيشون به فى الحياة الدّنيا من أنواع الرّزق و الخير و المنافع و النعماء، و وضع كلا منهم موضعه اللّايق بحاله من الفقر و اليسار و الغنى و الافتقار و السعة و الاقتار على ما يقتضيه حكمته البالغة و توجبه المصلحة الكاملة كما اشير اليه فى قوله عزّ و جلّ أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هذا.
و انما فرّع عليه السّلام هذه الجملة على ما سبق و عقّبه بها لتكون توطئة و تمهيدا بقوله (فالمتّقون فيها هم أهل الفضايل) يعني أنّ معايش الخلق فى الدّنيا لما كانت بحسب تقسيم اللّه سبحانه و اقتضاء حكمته اقتضى العناية الالهية و النظم الأصلح فى حقّ المتّقين بمقتضى كونهم من أهل السبق و القربى أن يكون عيشهم فى الدّنيا بخلاف معايش ساير الخلق و يكون حركاتهم و سكناتهم و حالاتهم وراء حالات أبناء الدّنيا، فاتّصفوا بالفضايل النفسانية و تزيّنوا بمكارم الأخلاق و محامد الأوصاف الّتي فصّلها عليه السّلام بالبيان البديع و التفصيل العجيب.
اولها أنّ (منطقهم الصواب) و هو ضدّ الخطاء يعنى أنهم لا يسكتون عما ينبغي أن يقال فيكونون مفرّطين، و لا يقولون ما ينبغي أن يسكت عنه فيكونون مفرطين و يحتمل أن يراد به خصوص توحيد اللّه تعالى و تمجيده و الصّلاة على نبيّه و به فسّر في قوله سبحانه لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً.
(و) الثاني أنّ (ملبسهم الاقتصاد) أى التوسّط بين الافراط و التفريط، و في الاسناد توسّع يعنى أنّ لباسهم ليس بثمين جدا مثل لباس المترفين المتكبّرين، و لا بذلة كلباس أهل الابتذال و الخسّة و الدّنائة بل متوسّط بين الأمرين.
(و) الثالث أنّ (مشيهم التواضع) و فى الاسناد أيضا توسّع، يعنى أنهم لا يمشون على وجه الأشر و البطر و الخيلاء لنهى اللّه سبحانه عن المشى على هذا الوجه فى قوله «وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا و أمره بخلافه فى قوله «وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ».
و قد روى فى الكافي عن عمرو بن أبي المقدام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: فيما أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى داود: كما أنّ أقرب الناس من اللّه المتواضعون كذلك أبعد الناس من اللّه المتكبّرون.
(و) الرابع أنهم (غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم) امتثالا لأمره تعالى به فى قوله قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أى يغضّوا أبصارهم عما لا يحلّ لهم النظر اليه.
و فى الوسائل من الكافى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام كلّ عين باكية يوم القيامة إلّا ثلاثة أعين: عين غضّت عن محارم اللّه، و عين سهرت في طاعة اللّه، و عين بكت في جوف اللّيل من خشية اللّه.
(و) الخامس أنّهم (وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم) في الدّنيا و الاخرة الموجب لكمال القوّة النظرية و الحكمة العمليّة، و أعرضوا عن الاصغاء إلى اللّغو و الأباطيل كالغيبة و الغناء و الفحش و الخناء و نحوها، و قد وصفهم اللّه سبحانه بذلك في قوله «وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» و في قوله «وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً».
و السادس أنّهم (نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالّذى نزلت في الرّخاء) يعني أنّهم موطّنون أنفسهم على ما قدّره اللّه في حقّهم من الشدّة و الرّخاء و السّراء و الضّراء و الضّيق و السّعة و المنحة و المحنة و محصّله وصفهم بالرّضاء بالقضاء.
روى في الكافي عن ابن سنان عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: بأيّ شي ء يعلم المؤمن بأنّه مؤمن قال عليه السّلام: بالتسليم للّه و الرّضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط.
و فى رواية أخرى فيه عنه عليه السّلام قال: رأس طاعة اللّه الصّبر و الرّضا عن اللّه فيما أحبّ العبد أو كره، و لا يرضى عبد عن اللّه فيما أحبّ أو كره إلّا كان خيرا له فيما أحبّ أو كره.
و عن محمّد بن عذافر عن أبيه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض أسفاره إذ لقيه ركب فقالوا: السّلام عليك يا رسول اللّه، فقال: ما أنتم فقالوا: نحن المؤمنون يا رسول اللّه، قال: فما حقيقة ايمانكم قالوا: الرّضا بقضاء اللّه، و التفويض الى اللّه، و التسليم لأمر اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، فان كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون، و لا تجمعوا ما لا تأكلون، و اتّقوا اللّه الّذى إليه ترجعون.
(و) السابع أنه (لو لا الأجل الّذى كتب اللّه لهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب و خوفا من العقاب) و هو إشارة إلى غاية نفرتهم عن الدّنيا و فرط رغبتهم إلى الاخرة لما عرفوا من عظمة وعده و وعيده، يعني أنّهم بكليّتهم متوجّهون إلى العقبى مشتاقون إلى الانتقال إليها شدّة الاشتياق، لا مانع لهم من الانتقال إلّا الاجال المكتوبة و عدم بلوغها غايتها.
روى في الوسائل من الكافي عن أبي حمزة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من عرف اللّه خاف اللّه و من خاف اللّه سخت نفسه عن الدّنيا.
و الثامن أنّه (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم) علما منهم بأنّه سبحانه موصوف بالعظمة و الكبرياء و الجلال غالب على الأشياء كلّها، قادر قاهر عليها، و انّ كلّ من سواه مقهور تحت قدرته داخر ذليل في قيد عبوديّته، فهو سبحانه عظيم السلطان عظيم الشأن و غيره أسير في ذلّ الامكان مفتقر اليه لا يقدر على شي ء إلّا باذنه.
و أشار عليه السّلام بهذا الوصف إلى شدّة يقين المتّقين و غاية توكّلهم و أنّ اعتصامهم في جميع امورهم به و توكلهم عليه و أنهم لا يهابون معه ممّن سواه.
روى في الكافي عن أبى بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ليس شي ء إلّا و له حدّ قال: قلت: جعلت فداك فما حدّ التوكّل قال: اليقين، قلت: فما حدّ اليقين قال: ألّا تخاف مع اللّه شيئا.
و عن مفضل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى داود: ما اعتصم بي عبد من عبادى دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته ثمّ تكيده السماوات و الأرض و من فيهنّ الّا جعلت له المخرج من بينهنّ، و ما اعتصم عبد من عبادى بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته إلّا قطعت أسباب السماوات من يده و أسخت الأرض من تحته و لم ابال بأيّ واد هلك، هذا.
و لما ذكر في الوصف السابع شدّة اشتياق المتّقين إلى الجنّة و خوفهم من العقاب أتبعه بقوله (فهم و الجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون و هم و النار كمن قد رآها و هم فيها معذّبون) إشارة إلى أنهم صاروا فى مقام الرّجاء و الشوق إلى الثواب و قوّة اليقين بحقايق وعده سبحانه بمنزلة من رأى بحسّ بصره الجنّة و سعادتها، فتنعّموا فيها و التذّوا بلذائذها، و فى مقام الخوف من النار و العقاب و كمال اليقين بحقايق وعيده تعالى بمنزلة من شاهد النّار و شقاوتها فتعذّبوا بعذابها و تألّموا بالامها.
و محصّله جمعهم بين مرتبتي الخوف و الرّجاء و بلوغهم فيه إلى الغاية القصوى، و هي مرتبة عين اليقين كما قال عليه السّلام مخبرا عن نفسه. لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، و هذه المرتبة أعني مرتبة عين اليقين مقام جليل لا يبلغه إلّا الأوحدي من النّاس.
و قد روى في الكافي عن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى بالنّاس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد و هو يخفق و يهوى برأسه مصفرّا لونه قد نحف جسمه و غارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كيف أصبحت يا فلان قال: أصبحت يا رسول اللّه موقنا، فعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قوله و قال: إنّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك فقال: إنّ يقيني يا رسول اللّه هو الّذى أحزنني و أسهر ليلى و أظمأ هو اجرى فعزفت نفسي عن الدّنيا و ما فيها حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي و قد نصب للحساب و حشر الخلايق لذلك و أنا فيهم، و كانّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة و يتعارفون على الأرائك يتكئون، و كأنّى أنظر إلى أهل النّار و هم فيها معذّبون مصطرخون، و كأنّى الان أسمع زفير النّار يدور فى مسامعى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالايمان ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له: الزم ما أنت عليه، فقال الشّاب: ادع اللّه لى يا رسول اللّه أن ارزق الشهادة معك، فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النّبي فاستشهد بعد تسعة نفر و كان هو العاشر.
و قد مرّ هذا الحديث فى شرح الخطبة المأة و الثالثة عشر، و رويناه هنا أيضا لاقتضاء المقام كما هو ظاهر.
و التاسع أنّ (قلوبهم محزونة) لما غلب عليهم من الخوف.
روى فى الكافى عن معروف بن خربوز عن أبي جعفر عليه السّلام قال: صلّى أمير المؤمنين عليه السّلام بالناس الصبح بالعراق فلما انصرف و عظهم فبكى و أبكاهم من خوف اللّه ثمّ قال: أما و اللّه لقد عهدت أقواما على عهد خليلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنهم ليصبحون و يمسون شعثا غبرا خمصا بين أعينهم كركب المعزى يبيتون لربّهم سجّدا و قياما، يراوحون بين أقدامهم و جباههم، و يناجون فى فكاك رقابهم من النار، و اللّه لقد رأيتهم مع هذا و هم خائفون مشفقون.
و فيه عن أبى حمزة عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: صلّى أمير المؤمنين عليه السّلام الفجر و لم يزل فى موضعه حتّى صارت الشمس على قدر رمح و أقبل على الناس بوجهه فقال: و اللّه لقد أدركت أقواما يبيتون لربّهم سجدا و قياما يخالفون بين جباههم و ركبهم كأنّ زفير النار فى آذانهم، إذا ذكر اللّه عندهم مادوا كما يميد الشجر كأنّما القوم باتوا غافلين، قال عليه السّلام: ثمّ قام فما رئي ضاحكا حتّى قبض.
(و) العاشر أنّ (شرورهم مأمونة) لأنّ مبدء الشرور و المفاسد كلّها و رأس كلّ خطيئة هو حبّ الدّنيا، و المتّقون زاهدون فيها معرضون عنها مجانبون عن شرّها و فسادها.
(و) الحادى عشر أنّ (أجسادهم نحيفة) لا تعاب أنفسهم بالصيام و القيام و قناعتهم بالقدر الضرورى من الطعام.
(و) الثاني عشر أنّ (حاجاتهم خفيفة) لاقتصارهم من حوائج الدّنيا على ضروريّاتها و عدم طلبهم منها أكثر من البلاغ.
(و) الثالث عشر أنّ (أنفسهم عفيفة) أى مصونة عن المحرّمات لكسرهم سورة القوّة الشهويّة.
روى في الوسائل من الكافى عن منصور بن حازم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ما من عبادة أفضل عند اللّه من عفّة فرج و بطن.
و عن عبد اللّه بن ميمون القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: ما من عبادة أفضل من عفّة بطن و فرج و الرابع عشر أنّهم (صبروا أياما قصيرة أعقبتهم) تلك الأيّام القصيرة (راحة طويلة) يعنى أنهم صبروا فى دار الدّنيا على طوارق المصائب و على مشاق الطاعات و عن لذّات المعاصى بل احتملوا جميع مكاره الدّنيا و استعملوا الصبر فى جميع أهوالها فأوجب ذلك السعادة الدائمة فى الدّار الاخرة.
و يدلّ على ذلك ما رواه فى الكافى عن حمزة بن حمران عن أبى جعفر عليه السّلام قال: الجنّة محفوفة بالمكاره و الصبر، فمن صبر على المكاره فى الدّنيا دخل الجنّة، و جهنّم محفوفة باللّذات و الشهوات فمن أعطى نفسه لذّتها و شهوتها دخل النار.
و فيه عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد.
و فيه عن العزرمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سيأتي على النّاس زمان لا ينال فيه الملك إلّا بالقتل و التّجبّر، و لا الغنى إلّا بالغصب و البخل، و لا المحبّة إلّا باستخراج الدّين و اتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزّمان فصبر على الفقر و هو يقدر على الغنى، و صبر على البغضة و هو يقدر على المحبّة، و صبر على الذّل و هو يقدر على العزّ آتاه اللّه ثواب خمسين صدّيقا ممّن صدّق بي، هذا و في وصف أيّام الصبر بالقصر و الرّاحة بالطول تحريص و ترغيب اليه، و أكّد ذلك بقوله (تجارة مربحة) استعار لفظ التجارة لاكتسابهم الرّاحة في مقابل الصبر، و رشّح بلفظ الرّبح.
و كونها مربحة باعتبار قصر مدّة الصّبر على المكاره و طول مدّة الرّاحة و فناء الشّهوات الدّنيويّة و اللّذائذ النّفسانيّة و بقاء السّعادات الاخرويّة مضافة إلى خساسة الاولى في نفسها و حقارتها، و نفاسة الثّانية و شرافتها.
و أكّد ثالثا بقوله (يسّرها لهم ربّهم) يعني أنّ فوزهم بتلك النّعمة العظمى و السّعادة الدّائمة قد حصل بتوفيق اللّه سبحانه و تأييده و لطفه، ففيه ايماء إلى توجّه العناية الرّبانيّة إليهم و شمول الألطاف الالهيّة عليهم و إلى كونهم بعين رحمة اللّه و كرامته و الخامس عشر أنّهم (أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها) أى أرادت عجوزة الدّنيا أن تفتنهم و تغرّهم و أن يتزوّجوا بها، فأعرضوا عنها و زهدوا فيها بما كانوا يعرفونه من حالها و أنّها قتّالة غوّالة ظاهرة الغرور كاسفة النّور يونق منظرها و يوبق مخبرها قد تزيّنت بغرورها و غرّت بزينتها لا تفي بأحد من أزواجها الباقية كما لم تف بأزواجها الماضية.
(و) السادس عشر أنّ الدّنيا (أسرتهم ففدوا أنفسهم منها) الأشبه أن يكون المراد بقوله: أسرتهم، هو الاشراف على الاسر، يعني أنّهم بمقتضى المزاج الحيواني و القوى النّفسانيّة الّتي لهم كاد أن تغرّهم الدّنيا فيميلوا إليها و يقعوا في قيد اسره و سلسلة رقيّته، لكنّهم نظروا إليها بعين البصيرة و عرفوها حقّ المعرفة و غلب عقلهم على شهوتهم فرغبوا عنها و زهدوا فيها و أعرضوا عن زبرجها و زخارفها، فالمراد بفداء أنفسهم منها هو الاعراض عن الزّخارف الدّنيويّة، فكأنّهم بذلوا تلك الزّخارف لها و خلصوا أنفسهم منها.
و إنّما أتى بالواو في قوله: أرادتهم الدّنيا و لم يريدوها، و بالفاء في قوله: و أسرتهم ففدوا أنفسهم منها، لعدم التّرتيب بين الجملتين المتعاطفتين فى القرينة السّابقة، بخلاف هذه القرينة فانّ الفدية مترتّبة على الاسر كما لا يخفى.
|