الفصل الرابع منها و يعنى آل محمد صلّى اللّه عليه و آله
و هم موضع سرّه، و لجاء أمره، و عيبة علمه، و موئل حكمه، و كهف كتبه، و جبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، و اذهب ارتعاد فرائصه.
اللغة
(اللّجاء) محرّكة كالملجإ الملاذ من لجأ إليه كمنع و فرح لاذ و (العيبة) ما يجعل فيه الثّياب و من الرّجل موضع سرّه و (الموئل) المنجأ من وئل إليه يئل وئلا و وؤلا و وئيلا و وائل موائلة و وئالا لجأ و خلص و (الكهف) غار واسع في الجبل فان كان صغيرا قيل له الغار و البيت المنقور في الجبل، و فلان كهف لأنّه يلجأ إليه كالبيت على الاستعارة و (الانحناء) الاعوجاج و (الارتعاد) الاضطراب و (الفرايص) جمع الفريصة و هي اللحمة بين الجنب و الكتف لا تزال ترتعد.
الاعراب
الضمائر الثمانية راجعة إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله كما مرّ ذكره في أوائل الخطبة، و هذا هو الأظهر بقرينة المقام و الاوفق بنسق أجزاء الكلام، و استبعاده في كتبه لا وجه له بعد امكان التّأويل القريب حسبما نشير إليه.
و قيل: برجوع الجميع إليه إلّا الأخيرين فانّهما راجعان إلى الدّين و هو غير بعيد بل أنسب معنى.
و قيل: إنّ الجميع راجع إليه إلّا في كتبه، و قيل: برجوع الجميع إلى اللّه إلّا الأخيرين فانّهما للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و هذان و إن كانا سالمين عن التّأويل إلّا أنّ فيهما خروج الكلام عن النّسق كما في السابق عليهما و هو ظاهر.
المعنى
اعلم أنّه عليه السّلام قد وصف آل محمّد عليهم السّلام بثمانية أوصاف إشارة إلى علوّ مقامهم و سموّ مكانهم و رفعة درجاتهم و عظمة شئوناتهم، و المراد بآله صلّى اللّه عليه و آله هم الأئمة المعصومون سلام اللّه عليهم أجمعين حسبما تعرفه مفصّلا إن شاء اللّه في موقعه المناسب.
و من العجب العجاب أن الشّارح البحراني (ره) جعل الأمور المذكورة أوصافا لأهل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الأدنين من بني هاشم كالعبّاس و حمزة و جعفر و عليّ ابن أبي طالب عليهم السّلام.
أقول: أمّا عليّ عليه السّلام فمسلّم و أمّا العبّاس و حمزة و جعفر و نظراؤهم من ساير بني هاشم فأين لهم قابليّة لحفظ سرّ اللّه أم أنّى لهم استعداد لأن يكونوا لجاء أمر اللّه أم كيف لهم الاحاطة بكتب اللّه بل القابل لها و لساير الأوصاف المذكورة إنّما هو آل اللّه و آل رسوله سلام اللّه عليه و عليهم الذين هم العروة الوثقى و منار الهدى و أعلام التقى و كهف الورى، و هم الملجأ و المنجى.
و بالجملة فاول الاوصاف المذكورة
ما أشار عليه السّلام إليه بقوله: (هم موضع سرّه) و المراد بالسّرّ علم لا يجوز إظهاره للعموم و الأئمة عليهم السّلام موضعه و مأواه و مستقرّه و مقامه و خزّانه و حفّاظه لا يظهرونه أو لا يظهرون منه إلا ما يحتمل على من يتحمل إذ العموم لا يقدر على تحمل أسرار اللّه سبحانه، و لذلك قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله.
و في البحار من كتاب السّيد حسن بن كبش باسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أبا محمّد انّا «إنّ ظ» عندنا سرّا من سرّ اللّه و علما من علم اللّه لا يحتمله ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل و لا مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان و اللّه ما كلّف اللّه أحدا ذلك الحمل غيرنا، و لا استبعد بذلك أحدا غيرنا و إنّ عندنا سرّا من سرّ اللّه و علما من علم اللّه أمرنا اللّه بتبليغه فبلغنا عن اللّه عزّ و جلّ ما أمرنا بتبليغه ما «فلم خ ل» نجد له موضعا و لا أهلا و لا حمالة«» يحملونه حتى خلق اللّه لذلك أقواما خلقوا من طينة خلق منها محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ذريته و من نور خلق اللّه منه محمّدا و ذريته و صنعهم بفضل صنع رحمته التي منها محمّدا و ذريته «و آله خ ل» فبلغناهم عن اللّه عزّ و جلّ ما أمرنا بتبليغه فقبلوه و احتملوا ذلك عنّا فقبلوه و احتملوه و بلغهم ذكرنا فمالت قلوبهم إلى معرفتنا و حديثنا فلو لا أنّهم خلقوا من هذا لما كانوا كذلك و لا و اللّه ما احتملوه.
ثمّ قال عليه السّلام إنّ اللّه خلق قوما «أقواما خ ل» لجهنم و النّار، فأمرنا أن نبلغهم كما بلغناهم فاشمأزّوا من ذلك و نفرت قلوبهم و ردّوه علينا و لم يحتملوه.
و كذّبوا به و قالوا: ساحر كذّاب فطبع اللّه على قلوبهم و أنساهم ذلك، ثمّ أطلق اللّه لسانهم ببعض الحقّ فهم ينطقون به و قلوبهم منكرة ليكون ذلك دفعا عن أوليائه و أهل طاعته و لو لا ذلك ما عبد اللّه في أرضه فأمرنا اللّه بالكفّ عنهم و الكتمان منهم فاكتموا ممّن أمر اللّه بالكفّ عنهم و استروا عمّن أمر اللّه بالسّتر و الكتمان منهم.
قال: ثمّ رفع عليه السّلام يده و بكى، و قال: اللّهم إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون فاجعل محياهم محيانا و مماتهم مماتنا، و لا تسلّط عليهم عدوّا لك فتفجعنا بهم، فانّك إن فجعتنا بهم لم تعبد أبدا في أرضك، و رواه في الكافي عن أبي بصير مثله.
أقول: و بهذه الرّواية يحصل الجمع بين قولهم عليهم السّلام: إنّ حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان، و بين الخبر الخالي عن الاستثنآء، فانّ الثّاني محمول على السّر المختصّ بهم عليهم السّلام الذي لا يحتمله أحد غيرهم، و الأوّل محمول على السّر الذي هو أدنى من ذلك.
و هو السّر الذي تقدّم إليهم النّص من اللّه سبحانه لاظهاره لبعض خواصهم على مراتب استعدادهم، و هو الذي أشار إليه الصّادق عليه السّلام بقوله: لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان اه، فانّ أبا ذر لا استعداد له على احتمال السّر الذي احتمله سلمان، و كذلك كميل بن زياد مع كونه من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام لا يحتمل ما احتمله أبو ذر (ره)، فهو و إن كان صاحب سرّه عليه السّلام لكن بالنّسبة إلى غيره من ساير النّاس، و لذلك أنّه بعد ما سئل عنه عليه السّلام عن الحقيقة و أجاب عليه السّلام بقوله: مالك و الحقيقة، قال: أ و لست صاحب سرّك فلم يقرّره عليه السّلام على عموم ما ادّعاه، بل أجاب بقوله عليه السّلام: بلى و لكن«» يترشح عليك ما يطفح منّي، فانّ استدراكه عليه السّلام بقوله: و لكن اه، إشارة إلى أنّ ما يظهره من السّر عليه من قبيل نداوة الطفحان«» و رشحته الفايضة من جوانبه، و أنّه ليس صاحب السّر على نحو العموم.
و بالجملة فقد وضح و ظهر ممّا ذكرنا أنّ أسرار اللّه سبحانه هي علوم لا يجوز إظهار ما جاز إظهارها منها إلّا للكمّل على اقتضاء مراتب الاستعداد.
و قد روى في الخرائج باسناده عن عبد الرّحمان بن كثير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أتى الحسين عليه السّلام ناس فقالوا له: يا أبا عبد اللّه حدّثنا بفضلكم الذي جعل اللّه لكم، فقال: إنكم لا تحتملونه و لا تطيقونه، قالوا: بلى نحتمل، قال: إن كنتم صادقين فليتنحّ اثنان و أحدّث واحدا فان احتمله حدّثتكم، فتنحّى اثنان و حدّث واحدا فقام طاير العقل و مرّ على وجهه و ذهب، و كلّمه صاحباه فلم يردّ عليهما شيئا و انصرفوا.
و فيه بالاسناد المذكور قال أتى رجل الحسين بن عليّ عليهما السّلام فقال: حدّثنى بفضلكم الذي جعل اللّه لكم، فقال: إنّك لن تطيق حمله، قال: بل حدّثني يابن رسول اللّه إنّي أحتمله، فحدّثه بحديث فما فرغ الحسين عليه السّلام من حديثه حتّى ابيضّ رأس الرّجل و لحيته و أنسى الحديث، فقال الحسين عليه السّلام أدركته رحمة اللّه حيث أنسى الحديث.
و في البحار من كتاب المحتضر للحسن بن سليمان من كتاب ابن شريفة الواسطي يرفعه إلى ميثم التّمار، قال: بينما أنا في السّوق إذ أتى أصبغ بن نباتة فقال: ويحك يا ميثم لقد سمعت من أمير المؤمنين عليه السّلام حديثا صعبا شديدا، قلت: و ما هو قال: سمعته يقول: إنّ حديث أهل البيت صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان، فقمت من فورتي فأتيت عليّا عليه السّلام فقلت: يا أمير المؤمنين حديث أخبرنى به أصبغ عنك قد ضقت به ذرعا، فقال عليه السّلام: ما هو فأخبرته به، فتبسّم ثمّ قال: اجلس يا ميثم، أو كلّ علم يحتمله. عالم إنّ اللّه تعالى قال للملائكة: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» فهل رأيت الملائكة احتملوا العلم قال: قلت: و إنّ هذا أعظم من ذلك، قال: و الاخرى إنّ موسى بن عمران أنزل اللّه عليه التّوراة فظنّ أن لا أحد أعلم منه فأخبره أنّ في خلقه أعلم منه، و ذلك إذ خاف على نبيّه العجب قال: فدعا ربّه أن يرشده إلى العالم، قال: فجمع اللّه بينه و بين الخضر عليهما السّلام، فخرق السفينة فلم يحتمل ذلك موسى، و قتل الغلام فلم يحتمله، و أقام الجدار فلم يحتمله.
و أمّا النبيّون فانّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله أخذ يوم غدير خم بيدي فقال: اللّهم من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهل رأيت أحدا احتمل ذلك إلّا من عصم اللّه منهم، فأبشروا ثمّ ابشروا قد خصّكم بما لم يخصّ به الملائكة و النبيّين و المرسلين فما احتملتم ذلك في أمر رسول اللّه و علمه فحدّثوا عن فضلنا و لا حرج و لا عظيم أمرنا و لا اثم، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: امرنا معاشر الأنبياء أن نخاطب النّاس على قدر عقولهم.
قال المحدّث المجلسي (ره) بعد ذكر الحديث: لعلّ المراد بآخر الخبر أنّ كلّما رويتم في فضلنا دون درجتنا، لأنّا نكلم النّاس على قدر عقولهم، أو المعنى أنّا كلّفنا بذلك و لم تكلّفوا بذلك فقولوا في فضلنا ما شئتم و هو بعيد.
الثاني
ما نبّه عليه بقوله: (و لجأ أمره) قال البحراني و أشار بكونهم عليهم السّلام ملجأ أمره إلى أنّهم النّاصرون له و القائمون بأوامر اللّه و الذابّون عن الدّين فاليهم يلتجى و بهم يقوم سلطانه.
أقول: المستفاد من ظاهر كلامه أنّ المراد بالأمر هو الامور الدّينيّة و أنّهم ملجاء لنفس الأوامر، و الأظهر الأقوى عندي أن المراد أنّهم لجاء للعباد في الأوامر الدّينيّة بمعنى أنّ الخلق إذا تنازعوا في شي ء منها و عجزوا فيها عن النّيل إلى الواقع فهم الملجأ و الملاذ، لأنّهم اولو الأمر قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا» قال عليّ بن إبراهيم القميّ في تفسيره: حدّثني أبي عن حمّاد عن حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: نزل فان تنازعتم في شي ء فارجعوه إلى اللّه و إلى الرّسول و إلى اولي الأمر منكم.
و هو يدلّ على أن المنزل فارجعوه مكان فردّوه، و يحتمل أن يكون تفسيرا له و يدلّ أيضا على أنّ الموجود في مصحفهم قول و إلى أولي الأمر منكم، و على ذلك فالآية صريحة في الدّلالة على المطلوب من ردّ الامور الدّينيّة التي اختلف فيها إلى كتاب اللّه و إلى رسوله و الأئمة عليهم السّلام و أمّا على ما هو الموجود في هذه المصاحف التي بأيدينا فالدّلالة أيضا غير خفيّة على مذهبنا لأنّ الرّد إلى الأئمة القائمين مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد وفاته هو مثل الردّ إلى الرّسول في حياته، لأنهم الحافظون لشريعته و الخلفاء في أمّته فجروا مجراه فيه، و مثلها قوله تعالى: «وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»
روى في البحار من تفسير العياشي عن عبد اللّه بن عجلان عن ابي جعفر عليه السّلام في هذه الآية، قال: هم الأئمة عليهم السّلام.
و عن عبد اللّه بن جندب قال كتب إلىّ أبو الحسن الرّضا عليه السّلام: ذكرت رحمك اللّه هؤلاء القوم الذين وصفت انهم كانوا بالأمس لكم إخوانا و الذي صاروا إليه من الخلاف لكم و العداوة لكم و البراءة منكم و الذي تأفّكوا«» به من حيات أبي صلوات اللّه عليه و رحمته، و ذكر في آخر الكتاب انّ هؤلاء القوم سنح لهم شيطان اغترّهم بالشّبهة و لبّس عليهم أمر دينهم، و ذلك لما ظهرت فرينهم و اتّفقت كلمتهم و نقموا على عالمهم و أرادوا الهدى من تلقاء أنفسهم فقالوا: لم«» و من و كيف، فأتاهم الهلاك من مأمن احتياطهم، و ذلك بما كسبت أيديهم و ما ربّك بظلّام للعبيد، و لم يكن ذلك لهم و لا عليهم، بل كان الفرض عليهم و الواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحيّر و ردّ ما جهلوا من ذلك الى عالمه و مستنبطه، لأنّ اللّه يقول في محكم كتابه: «وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ».
يعني آل محمّد عليهم السّلام، و هم الذين يستنبطون من القرآن و يعرفون الحلال و الحرام و هم الحجّة للّه على خلقه هذا.
و قد ظهر ممّا ذكر أنّ الأئمة عليهم السّلام هم ولاة الأمر و أنّهم المقصودون بأولي الأمر في الآيتين، أمّا الآية الثّانية فلما ذكرنا، و أمّا الآية الاولى فللأخبار المستفيضة.
أمّا الأخبار فمنها ما رواه في البحار عن تفسير فرات بن ابراهيم عن عبيد ابن كثير معنعنا أنّه سأل جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن قول اللّه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ» قال: اولى الفقه و العلم، قلنا: أخاصّ أم عامّ قال عليه السّلام: بل خاصّ لنا.
و في الكافي عن جابر الجعفي قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الآية، قال: الأوصياء.
و فيه أيضا عن بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ ذكره: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ».
فقال عليه السّلام: إيّانا عنى أن يؤدّ الأوّل إلى الامام الذي بعده الكتب و العلم و السّلاح، و إذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل الذي في أيديكم، ثمّ قال للنّاس: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ».
ايّانا عنى خاصّة أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا فان خفتم تنازعا في أمر فردّوه إلى اللّه و إلى الرّسول و إلى أولي الأمر منكم، كذا نزلت و كيف يأمرهم اللّه عزّ و جلّ بطاعة ولاة الأمر و يرخص منازعتهم إنّما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول و اولي الأمر منكم، و الأخبار في هذا الباب كثيرة لا تحصى.
و أمّا دليل العقل فلأنّه سبحانه أمر بوجوب طاعة أولي الأمر على نحو العموم«» فلا بدّ من كونه معصوما و إلّا لزم أن يكون تعالى قد أمر بالقبيح لأنّ من ليس بمعصوم لا يؤمن صدور القبيح عنه، فاذا وقع كان الاقتداء به قبيحا و المعصوم بعد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله منحصر باجماع الامة في الأئمة، و سيأتي تمام الكلام في هذا المقام في مقدّمات الخطبة الشّقشقية إنشاء اللّه هذا.
و يحتمل أن يكون المراد بالأمر في قوله عليه السّلام: و لجاء أمره، الأعم من الأمور الدّينيّة، و ربّما فسّر به فى الآيتين أيضا، فالمراد به على ذلك جميع الأمور المقدرة المشار إليها في قوله سبحانه: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» و في قوله: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ».
و قد مضى في الفصل التّاسع من فصول الخطبة الاولى في شرح قوله عليه السّلام: و مختلفون بقضائه و أمره، ما يوجب زيادة البصيرة في المقام، و قد مضى هناك في رواية الكافي عن الباقر عليه السّلام أنّه لينزل في ليلة القدر إلى وليّ الأمر تفسير الأمور سنة سنة يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا و كذا و في أمر النّاس بكذا و كذا، إلى آخر ما مرّ هناك، و هذا الاحتمال أقرب بالنّظر إلى عموم وظيفتهم عليهم السّلام
الثالث
ما أشار عليه السّلام اليه بقوله: (و عيبة علمه) يعني أنّ علمه مودع عندهم كالثّياب النّفيسة المودعة في العيبة، و تشبيههم بالعيبة من حيث إنّهم كانوا حافظين و صائنين له عن الضّياعة و الاندراس حسن الاستعارة بالعيبة الحافظة للّباس عن الأدناس.
قال البحراني و كونهم عيبة علمه مرادف لكونهم موضع سرّه، إذ يقال في العرف فلان عيبة العلم إذا كان موضع أسراره.
و أقول أمّا تراد فهما في اللّغة و العرف فقد صرّح به بعض اللّغويين أيضا، و لكن الظاهر أنّ السّر أخصّ من العلم، لما قد عرفت سابقا من أن السّر هو العلم الذي يكتم و قد صرّح به غير واحد من اللّغويين و هو المتبادر منه أيضا، فيكون حقيقة فيه و على هذا فيكون العلم أعمّ منه و هو الأنسب بالمقام أيضا، من حيث أنّ التّأسيس أولى من التّأكيد.
و كيف كان فلا غبار على أنّ علم اللّه و علم رسوله المتلقّى منه سبحانه مودع عندهم و هم الحافظون له، و يدل عليه الأخبار المتواترة القطعية.
منها ما رواه في الكافي باسناده عن يونس بن رباط قال: دخلت أنا و كامل التّمار على أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال له كامل: جعلت فداك حديث رواه فلان، فقال: اذكره، فقال: حدّثني أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله حدث عليّا عليه السّلام بألف باب يوم توفى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّ باب يفتح له ألف باب فذلك ألف ألف باب، فقال لقد كان ذلك، قلت جعلت فداك فظهر ذلك لشيعتكم و مواليكم فقال عليه السّلام: يا كامل باب أو بابان، فقلت له جعلت فداك فما يروى من فضلكم من ألف ألف باب إلّا باب أو بابان قال: فقال: و ما عسيتم أن ترووا من فضلنا ما تروون من فضلنا إلا ألفا غير معطوفة.
و في البحار من كتاب المحتضر للحسن بن سليمان من نوادر الحكمة يرفعه إلى أبى بصير قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فدخل عليه المفضّل بن عمر فقال: مسألة يابن رسول اللّه، فقال عليه السّلام: سل يا مفضّل، قال: ما منتهى علم العالم قال عليه السّلام: قد سألت جسيما و لقد سألت عظيما ما السّماء الدّنيا في السّماء الثّانية إلّا كحلقة درع ملقاة في أرض فلاة، و كذلك كلّ سماء عند سماء اخرى، و كذلك السّماء السّابعة عند الظلمة، و لا الظلمة عند النّور و لا ذلك كلّه في الهواء و كا «لا ظ» لأرضين بعضها في بعض و لا مثل ذلك كلّه في علم العالم يعنى الامام إلّا مثل مدّ من خردل دققته دقّا ثمّ ضربته بالماء «ثم خ» حتّى إذا اختلط و رغا«» اظهر اخذت منه لعقة«» باصبعك، و لا علم العالم في علم اللّه إلّا مثل حبة من خردل دققته دقا ثمّ ضربته بالماء حتّى إذا اختلط و رغا انتهزت منه«» برأس ابرة نهزة ثمّ قال عليه السّلام: يكفيك من هذا البيان بأقلّه و أنت بأخبار الموت تصيب.
و من كتاب المحتضر أيضا نقلا من كتاب الأربعين رواية سعد الأوبلى عن عمار ابن خالد عن اسحاق الأزرق عن عبد الملك بن سليمان قال: وجد في ذخيرة أحد حواري المسيح رقّ مكتوب بالقلم السّرياني منقولا من التّوراة و ذلك لما تشاجر موسى و الخضر عليهما السّلام في قضيّة السّفينة و الغلام و الجدار و رجع موسى إلى قومه سأل أخوه هارون عمّا استعمله من الخضر و شاهد من عجايب البحر.
قال بينما أنا و الخضر على شاطي ء البحر اذ سقط بين أيدينا طائر أخذ في منقاره قطرة من ماء البحر و رمى بها نحو المشرق، ثمّ أخذ ثانية و رمى بها نحو المغرب، ثمّ أخذ ثالثة و رمى بها نحو السّماء، ثمّ أخذ رابعة و رمى بها نحو الأرض، ثمّ أخذ خامسة و ألقاها في البحر فبهت الخضر و أنا، قال موسى: فسألت الخضر عن ذلك فلم يجب، و إذا نحن بصيّاد يصطاد فنظر إلينا و قال: ما أريكما في فكر و تعجّب، فقلنا: في أمر الطائر، فقال: أنا رجل صيّاد و قد علمت إشارته و أنتما نبيّان لا تعلمان، قلنا: ما نعلم إلّا ما علّمنا اللّه عزّ و جلّ، قال: هذا طاير في البحر يسمّى مسلم، لأنّه إذا صاح يقول في صياحه مسلم، و أشار بذلك إلى انّه يأتي في آخر الزّمان نبيّ يكون علم أهل المشرق و المغرب و أهل السّماء و الأرض عند علمه مثل هذه القطرة الملقاة في البحر، و يرث علمه ابن عمّه و وصيّه، فسكن ما كنا فيه من المشاجرة و استقلّ كلّ واحد منّا علمه، بعد ان كنا به معجبين و مشينا ثمّ غاب الصياد فعلمنا انّه ملك بعثه اللّه إلينا يعرّفنا بنقصنا حيث ادّعينا الكمال.
أقول: و بهذه الأخبار يعرف المعيار إجمالا لعلومهم عليهم السّلام، و فيها كفاية لمن ألقى السّمع و هو شهيد، و أمّا تحقيق كيفيّة هذا العلم و أنّه هل هو على نحو الاحاطة الفعليّة أو الاراديّة فلعلّنا نشير إليه في الموقع المناسب إن شاء اللّه تعالى.
الرابع
ما أشار عليه السّلام إليه بقوله: (و موئل حكمه) و المراد بالحكم إمّا الأحكام الشرعية أى خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلفين من حيث الاقتضاء أو التّخيير و إمّاالقضاء الرّافع للخصومات، و على أيّ تقدير فهم موئله و منجاه، اليهم يلتجى فيه و بهم يحصل الخلاص و النّجاة لأنّ ما عندهم هو الحكم المتلقى من الوحى الالهي الذي هو مطابق للواقع و الواقع مطابق له، و هو كلّه صواب لا ريب فيه و هم المرشدون إليه و الأدلّاء عليه.
و يشهد به ما في البحار من مجالس المفيد باسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أما أنّه ليس عند أحد من النّاس حقّ و لا صواب إلّا شي ء أخذوه منا أهل البيت، و لا أحد من النّاس يقضي بحقّ و عدل إلّا و مفتاح ذلك القضاء و بابه و أوّله و سنّته أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فاذا اشتبهت عليهم الامور كان الخطاء من قبلهم إذا اختطئوا و الصّواب من قبل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
و في الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: قال اللّه عزّ و جلّ في ليلة القدر: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» يقول: ينزّل فيها كلّ أمر حكيم و المحكم ليس بشيئين إنّما هو شي ء واحد فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللّه عزّ و جلّ، و من حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت، و قد مضى بتمامه في الفصل التّاسع من فصول الخطبة الاولى عند شرح قوله و مختلفون بقضائه و أمره فتذكر.
و في البحار من بصائر الدّرجات عن المفضّل بن عمر قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: اعطيت خصالا ما سبقني إليها أحد، علمت المنايا و البلايا و الانساب و فصل الخطاب.
و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يا أبا بصير إنّا أهل بيت أوتينا علم المنايا و البلايا و فصل الخطاب و عرفنا شيعتنا كعرفان الرّجل أهل بيته.
و المراد بفصل الخطاب الحكم الفاصل بين الحقّ و الباطل، أو المفصول الواضح الدلالة على المقصود، أو ما كان من خصائصهم من الحكم المخصوص في كلّ واقعة و الجوابات المسكتة للخصوم في كلّ مسألة و سيأتي شطر من قضاياه أعني أمير المؤمنين عليه السّلام في شرح الخطبة الآتية عند قوله: و يكثر العثار فيها و الاعتذار منها.
إذا عرفت ما ذكرناه فنقول: إنّ اللّازم حينئذ أخذ الأحكام منهم و الرّجوع إليهم و لا يجوز الاستبداد بالعقول النّاقصة و الآراء الفاسدة في الأحكام الشّرعيّة و الاعتماد فيها على الاقيسة و الاستحسانات كما حقّقناه في شرح الفصل الحادى عشر من فصول الخطبة الاولى.
و قد قال أبو الحسن عليه السّلام فيما رواه في بصائر الدّرجات عن محمّد بن حكيم عنه عليه السّلام: إنّما هلك من كان قبلكم بالقياس و إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يقبض نبيه صلّى اللّه عليه و آله حتّى أكمل له جميع دينه في حلاله و حرامه، فجاءكم بما تحتاجون إليه في حياته و تستغنون به و بأهل بيته بعد موته و أنّها مخبيّة عند أهل بيته حتّى أنّ فيه لأرش الخدش، ثمّ قال عليه السّلام: إنّ أبا حنيفة ممّن يقول: قال عليّ عليه السّلام و قلت أنا.
و كذلك لا يجوز الرّجوع في المرافعات إلى القضاة السّوء فمن رجع اليهم كان بمنزلة الّذين قال اللّه عزّ و جلّ: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» الآية.
و يأتي تفصيل حالات هؤلاء القضاة و ما يترتّب على الرّجوع إليهم في الكلام السابع عشر و الثّامن عشر و شرحهما إن ساعدنا التّوفيق إن شاء اللّه.
الخامس
ما أشار عليه السّلام إليه بقوله: (و كهف كتبه) تشبيههم بالكهف باعتبار أنّهم يلتجى اليهم فيها، أو أنّهم المأوى لها و الحاوون لما فيها كالكهف الذي يحوي من يأوي إليه، و المراد بالكتب إمّا كتب اللّه و هو على تقدير رجوع الضّمير فيه إليه سبحانه، فالمراد بها القرآن و ما انزل قبلها من الصّحف و الكتب السّماوية.
أمّا كونهم كهف القرآن و مأويه و الحافظين له و العالمين به تأويله و تنزيله و ظهره و بطنه و بطن بطنه و هكذا إلى سبعة أبطن و كذلك ساير أوصافه من العموم و الخصوص و الاطلاق و التّقييد و الأحكام و التّشابه إلى غير ذلك، فواضح و قد مضى شطر من الكلام على هذا الباب في التّذييل الثّالث من تذييلات الفصل السّابع عشر من فصول الخطبة الاولى.
و أمّا ساير الكتب السّماوية ففي حديث أبي ذر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قلت: كم كتابا أنزل قال صلّى اللّه عليه و آله: مأئة كتب و أربعة كتب أنزل على شيث خمسين صحيفة، و على اخنوخ ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عشر صحايف، و انزل على موسى قبل التّوراة عشرة صحايف و انزلت التوراة و الانجيل و الزّبور و الفرقان و كانت صحف إبراهيم كلها أمثالا.
و روى في البحار من إرشاد القلوب بالاسناد إلى المفيد يرفعه إلى سلمان الفارسي رضي اللّه عنه قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام. يا سلمان الويل كلّ الويل لمن لا يعرف لنا حقّ معرفتنا و أنكر فضلنا، يا سلمان إيّما أفضل محمّد صلّى اللّه عليه و آله أم سليمان ابن داود عليه السّلام قال سلمان قلت: بلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله أفضل، فقال: يا سلمان فهذا آصف بن برخيا قدر أن يحمل عرش بلقيس من فارس إلى سبا في طرفة عين و عنده علم من الكتاب و لا أفعل أنا ذلك و عندي ألف كتاب اللّه، انزل اللّه على شيث بن آدم خمسين صحيفة، و على ادريس ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم الخليل عشرين صحيفة، و التوراة و الانجيل و الزّبور و الفرقان، فقلت: صدقت يا سيّدي، قال الامام عليه السّلام: إنّ الشّاك في امورنا و علومنا كالمستهزى ء في معرفتنا أو حقوقنا، و قد فرض اللّه و لا يتنافى كتابه في غير موضع و بيّن ما أوجب العمل به و هو مكشوف.
و من كتاب التّوحيد عن هشام بن الحكم في خبر طويل قال جاء بريهة جاثليق النّصارى فقال لأبي الحسن عليه السّلام: جعلت فداك أنّى لكم التّوراة و الانجيل و كتب الأنبياء، قال: هي عندنا وراثة من عندهم نقرئها كما قرءوها و نقولها كما قالوها إنّ اللّه لا يجعل حجّة في أرضه يسأل من شي ء يقول: لا أدري الخبر.
و من بصائر الدّرجات باسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أبا محمّد عندنا الصّحف التي قال اللّه صحف إبراهيم و موسى، قلت الصّحف هي الألواح قال: نعم.
هذا كله على احتمال أن يكون المراد بالكتب الكتب المنزلة من اللّه سبحانه و أمّا علي تقدير رجوع الضّمير في كتبه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فالمراد بالكتب القرآن و غيره ممّا اشير إليه في الأخبار.
مثل ما رواه في البحار من البصائر باسناده عن أبي الصّباح الكناني عن أبي جعفر عليه السّلام قال: حدّثني أبي عمّن ذكره، قال: خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في يده اليمنى كتاب و في يده اليسرى كتاب فنشر الكتاب الذي في يده اليمنى فقرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم كتاب لأهل الجنّة بأسمائهم و أسماء آبائهم لا يزاد فيهم واحد و لا ينقص منهم واحد، قال: ثمّ نشر الذي بيده اليسرى فقرأ: كتاب من اللّه الرّحمن الرّحيم لأهل النّار بأسمائهم و أسماء آبائهم و قبائلهم لا يزاد فيهم واحد و لا ينقص منهم واحد.
و من البصائر أيضا باسناده عن الأعمش قال: قال الكلبي: يا أعمش أيّ شي ء أشدّ ما سمعت من مناقب عليّ عليه السّلام قال: فقال حدّثني موسى بن طريف عن عباية قال: سمعت عليا عليه السّلام و هو يقول أنا قسيم النّار فمن تبعني فهو مني و من عصاني فهو من أهل النّار، فقال الكلبي عندي أعظم مما عندك، أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام كتابا فيه أسماء أهل الجنّة و أسماء أهل النّار، فوضعه عند أمّ سلمة فلما ولى ابو بكر طلبه فقالت: ليس لك، فلما ولى عمر طلبه، فقالت: ليس لك، فلما ولى عليّ عليه السّلام دفعته إليه.
و منه أيضا باسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أبا محمّد إنّ عندنا الجامعة و ما يدريهم ما الجامعة قال: قلت: جعلت فداك و ما الجامعة قال: صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أملاء من فلق«» فيه و خطه عليّ عليه السّلام بيمينه فيها كلّ حلال و حرام و كلّ شي ء يحتاج إليه النّاس حتّى الأرش في الخدش.
و في الاحتجاج في حديث طويل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: و كان عليه السّلام يقول: علمنا غابر و مزبور و نكت في القلوب و نقر في الأسماع و إنّ عندنا الجفر الأحمر، و الجفر الأبيض، و مصحف فاطمة عليها السّلام، و عندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج الناس إليه فسئل عن تفسير هذا الكلام فقال عليه السّلام: أمّا الغابر فالعلم بما يكون، و أمّا المزبور فالعلم بما كان، و أمّا النكت في القلوب فهو الالهام و امّا النّقر في الاسماع فحديث الملائكة نسمع كلامهم و لا نرى أشخاصهم، و أمّا الجفر الأحمر فوعاء فيه سلاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لن يخرج حتّى يقوم قائمنا أهل البيت، و أما الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسى و انجيل عيسى و زبور داود و كتب اللّه الاولى، و أمّا مصحف فاطمة ففيه ما يكون من حادث و أسماء من يملك و من لا يملك إلى أن يقوم الساعة و ليس فيه قرآن، و أمّا الجامعة فهو كتاب طوله سبعون ذراعا إملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من فلق فيه و خط عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بيده فيه و اللّه جميع ما يحتاج النّاس إليه إلى يوم القيامة حتّى أنّ فيه أرش الخدش و الجلدة و نصف الجلدة، الحديث.
و في البحار من بصائر الدّرجات عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن أحمد بن عمر عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: فقلت له: إنّي أسألك جعلت فداك عن مسألة ليس هاهنا احد يسمع كلامي، قال: فرفع أبو عبد اللّه عليه السّلام سترا«» بيني و بين بيت آخر فاطلع فيه، ثمّ قال: يا با محمد سل عمّا بدا لك قال قلت: جعلت فداك: إنّ الشّيعة يتحدّثون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله علّم عليّا عليه السّلام بابا يفتح منه ألف باب، قال: فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أبا محمّد علّم و اللّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا ألف باب يفتح له من كلّ باب ألف باب، قال: قلت: له هذا و اللّه العلم فنكت«» ساعة في الأرض ثمّ قال: إنّه لعلم و ما هو بذاك.
قال: ثمّ قال: يا أبا محمّد و إنّ عندنا الجامعة و ما يدريهم ما الجامعة، قال: قلت جعلت فداك: و ما الجامعة، قال: صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إملاه من فلق فيه و خطه عليّ عليه السّلام بيمينه، فيها كلّ حلال و حرام و كلّ شي ء يحتاج النّاس إليه حتّى الأرش في الخدش و ضرب بيده إلىّ فقال تأذن«» لي يا أبا محمّد قال: قلت جعلت فداك: إنّ «أناظ» لك اصنع ما شئت، قال: فغمزني بيده فقال حتّى أرش هذا فكأنه مغضب«» قال: قلت جعلت فداك: هذا و اللّه العلم، قال: إنّه لعلم و ليس بذاك، ثمّ سكت ساعة.
ثمّ قال: إنّ عندنا الجفر و ما يدريهم«» ما الجفر مسك«» شاة أو جلد بعير، قال: قلت جعلت فداك: ما الجفر قال: وعاء أحمر و أديم أحمر فيه علم النّبيّين و الوصيّين، قلت: هذا و اللّه هو العلم، قال: إنّه لعلم و ما هو بذاك، ثمّ سكت ساعة.
ثمّ قال: و إنّ عندنا لمصحف فاطمة عليها السّلام و ما يدريهم ما مصحف فاطمة، قال عليه السّلام فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات، و اللّه ما فيه من قرآنكم حرف واحد إنّما هو شي ء أملاء اللّه عليها أو أوحى إليها، قال: قلت: هذا و اللّه هو العلم، قال: إنّه لعلم و ليس بذاك، قال ثمّ سكت ساعة.
ثمّ قال: إنّ عندنا لعلم«» ما كان و ما هو كائن إلى أن تقوم السّاعة، قال: قلت: جعلت فداك: هذا و اللّه هو العلم، قال: إنّه لعلم و ما هو بذاك، قال: قلت جعلت فداك فأىّ شي ء هو العلم، قال: ما يحدث باللّيل و النّهار الأمر بعد الأمر و الشّي ء بعد الشّي ء إلى يوم القيامة.
قال في البحار: قوله عليه السّلام و اللّه ما فيه من قرآنكم حرف واحد أى فيه علم ما كان و ما يكون.
فان قلت: في القرآن أيضا بعض الأخبار، قلت: لعلّه لم يذكر فيه ما في القرآن.
فان قلت: يظهر من بعض الأخبار اشتمال مصحف فاطمة عليها السّلام أيضا على الأحكام، قلت: لعلّ فيه ما ليس في القرآن.
فان قلت: قد ورد في كثير من الأخبار اشتمال القرآن على جميع الأحكام و الأخبار ممّا كان أو يكون، قلت. لعلّ المراد به ما نفهم من القرآن لا ما يفهمون منه، و لذا قال: قرآنكم على أنّه يحتمل أن يكون المراد لفظ القرآن، ثمّ الظاهر من أكثر الأخبار اشتمال مصحفها عليها السّلام على الأخبار فقط فيحتمل أن يكون المراد عدم اشتماله على أحكام القرآن انتهى هذا.
و في المقام إشكال قويّ: و هو أنّ المستفاد من قوله عليه السّلام: إنّ عندنا لعلم ما كان و ما هو كائن إلى أن تقوم السّاعة، أنّهم عليهم السّلام يعلمون جميع الشّرايع و الأحكام و ما كان و ما يكون، و مثله ورد في الأخبار الكثيرة و على ذلك فأيّ شي ء يبقي حتّى يحدث لهم بالليل و النّهار كما يدلّ عليه آخر الحديث و يستفاد من الأخبار الاخر أيضا.
و قد اجيب عنه بوجوه الأوّل أنّ العلم ليس ما يحصل بالسّماع و قراءة الكتب و حفظها، فان ذلك تقليد و إنّما العلم يفيض من عند اللّه سبحانه على قلب المؤمن يوما فيوما و ساعة فساعة فيكشف به من الحقائق ما تطمئنّ به النّفس و ينشرح له الصّدر و يتنوّر به القلب، و الحاصل أنّ ذلك مؤكد و مقرّر لما علم سابقا يوجب مزيد الايمان و اليقين و الكرامة و الشّرف بافاضة العلم عليهم بغير واسطة المرسلين.
الثّاني أن يفيض عليهم عليهم السّلام تفاصيل عندهم مجملاتها و إن أمكنهم استخراج التّفاصيل ممّا عندهم من اصول العلم و موادّه.
الثّالث أنّهم عليهم السّلام في النّشأتين سابقا على الحياة البدني و لاحقا بعد وفاتهم يعرجون في المعارف الرّبانية الغير المتناهية على مدارج الكمال إذ لا غاية لعرفانه تعالى و قربه.
قال العلّامة المجلسى بعد تقويته هذا الوجه: و يظهر ذلك من كثير من الأخبار و ظاهر أنّهم إذا تعلموا في بدء إمامتهم علما لا يقفون في تلك المرتبة و يحصل لهم بسبب مزيد القرب و الطاعات زوايد العلم و الحكم و التّرقيات في معرفة الرّبّ تعالى، و كيف لا يحصل لهم و يحصل ذلك لساير الخلق مع نقص قابليتهم و استعدادهم، فهم عليهم السّلام أولى بذلك و أحرى.
ثمّ قال «قده» و لعل هذا أحد وجوه استغفارهم و توبتهم فيكل يوم سبعين مرّة و أكثر، إذ عند عروجهم الى كلّ درجة رفيعة من درجات العرفان يرون أنّهم كانوا في المرتبة السّابقة في النّقصان فيستغفرون فيها و يتوبون إليه تعالى.
السادس
ما أشار عليه السّلام إليه بقوله (و جبال دينه) قال الشّارح المعتزلي: لا يتحلحلون«» عن الدّين أو أنّ الدّين ثابت بوجودهم كما أنّ الأرض ثابتة بالجبال لولا الجبال لمادت بأهلها و قال البحراني و أشار بكونهم جبال دينه إلى أنّ دين اللّه سبحانه بهم يعتصم عن وصمات الشّياطين و تبديلهم و تحريفهم كما يعتصم الخائف بالجبل ممّن يؤذيه.
أقول: و المعنيان متقاربان و المقصود واحد و هو أنّ وجودهم سبب لبقاء الدّين و انتظام أمر المسلمين، و بهم ينفى عنه تحريف الغالين و انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين.
كما روى في البحار من كتاب قرب الاسناد عن هارون عن ابن صدقة عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام أن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: في كلّ خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ينفى عن الدّين تحريف الغالين و انتحال المبطلين و تأويل الجهال، و إنّ أئمتكم و فدكم إلى اللّه فانظروا من توفدون في دينكم و صلواتكم.
و من علل الشّرايع باسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ اللّه لم يدع الأرض إلّا و فيها عالم يعلم الزّيادة و النّقصان من دين اللّه عزّ و جلّ، فاذا زاد المؤمنون شيئا ردّهم، و إذا نقصوا أكمله لهم و لو لا ذلك لالتبس على المسلمين أمرهم و عن أبي حمزة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لن تبقى الأرض إلّا و فيها من يعرف الحقّ فاذا زاد النّاس فيه قال: قد زادوا، و إذا نقصوا منه قال: قد نقصوا، و إذا جاءوا به صدّقهم و لو لم يكن كذلك لم يعرف الحقّ من الباطل، و الأخبار في هذا المعنى كثيرة.
السابع و الثامن
ما أشار عليه السّلام إليه بقوله: (بهم أقام انحناء ظهره، و أذهب ارتعاد فرايصه) و المراد بذلك على تقدير رجوع الضّمير في ظهره و فرايصه إلى الدّين واضح، و هو أنّهم أسباب لقوام الدّين و رافعون لاضطرابه حسبما عرفت آنفا، و أمّا على تقدير رجوعهما إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فهو إشارة إلى أنّ اللّه سبحانه جعلهم اعضادا يشدّون ازره و يقوّمون ظهره، و انحناء ظهره كناية عن ضعفه في بدء الاسلام، و ارتعاد الفرايص كناية عن الشّي ء ببعض لوازمه إذ كان ارتعاد الفرايص من لوازم شدّة الخوف، يعنى أنّ اللّه ازال عنه صلّى اللّه عليه و آله بمعونتهم خوفه الذي كان يتوقّعه من المشركين على حوزة الدين، و اتصافهم عليهم السّلام بهذين الوصفين ظاهر لا ريب فيه لأنّهم لم يألوا جهدهم في نصرة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و تقوية دينه قولا أو فعلا، و قد قال تعالى: «وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ».
و قد روى العامة و الخاصّة عن أبي هريرة قال: مكتوب على العرش لا إله إلّا أنا وحدي لا شريك لي و محمّد عبدي و رسولي أيدته بعليّ عليه السّلام، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ» فكان النّصر عليّا عليه السّلام و دخل مع المؤمنين فدخل فى الوجهين جميعا، و بمضمونه أخبار اخر من الطريقين، و قال سبحانه أيضا: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» قال أبو هريرة. نزلت هذه الآية فى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و هو المعنيّ بقوله: المؤمنين و بالجملة فانتصار النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأمير المؤمنين عليه السّلام و حمايته له باليد و اللسان و جدّه في إعلاء كلمة الاسلام ممّا هو غنيّ عن البيان:
- بدر له شاهد و الشّعب من أحدو الخندقان و يوم الفتح إن علموا
و كفى بذلك شهيدا مبيته على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى باهى اللّه سبحانه بذلك على ملائكته و أنزل: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» و برازه«» يوم الخندق لعمرو بن عبدود حتّى أنزل فيه: «وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» بعليّ بن أبي طالب، و قتله عمروا على ما ورد فى الرّوايات الكثيرة، و فى ذلك اليوم قال صلّى اللّه عليه و آله: ضربة عليّ أفضل من عبادة الثّقلين.
و أمّا ساير الأئمة عليهم السّلام فقد كان هممهم مقصورة على حماية حمى الدّين و إحياء أحكام سيّد المرسلين، بعضهم بالقتال و الجدال كالحسين عليه السّلام، و بعضهم باللسان و البيان كساير المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين، و ذلك مع ما هم عليه من التّقية و الخوف، و لذلك انّ الصّادقين عليهما السلام لمّا تمكّنا من إظهار الأحكام و نشر الشّرايع و زالت عنهم التّقية التي كانت على غيرهم قصروا اوقاتهم فى إحياء الشّريعة و إقامة السّنة على ما هو معروف، و قد كان أربعة آلاف نفر من اهل العلم متلمذا عنده و قد صنّفوا من أجوبته فى المسائل أربعمائة كتاب، هى معروفة بكتب الاصول، فبوجودهم استقام امر الدّين و استحكم شريعة خاتم النّبيين، و بقائمهم يملاء اللّه الارض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا.
|