و من خطبة له عليه السلام (بعد مقتل طلحة و الزبير خ) و هى الخطبة الرابعة
خطب بها أمير المؤمنين عليه السّلام بعد قتل طلحة و الزّبير كما في شرح
البحراني و المعتزلي و زاد في الأخير مخاطبا بها لهما و لغيرهما من
أمثالهما و فيه أيضا هذه الكلمات و الأمثال ملتقطة من خطبة طويلة منسوبة
إليه قد زاد فيها قوم أشياء حملتهم عليها أهوائهم لا يوافق ألفاظها طريقته
عليه السّلام في الخطب و لا تناسب فصاحتها فصاحته و لا حاجة إلى ذكرها فهى
شهيرة، و في البحار قال القطب الرّاوندي: أخبرنا بهذه جماعة عن جعفر
الدّوريستي عن أبيه محمّد بن العباس عن محمّد بن عليّ بن موسى عن محمّد بن
عليّ الاسترابادي عن عليّ بن محمّد بن سيار عن أبيه عن الحسن العسكري عن
آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام و هذا ما ظفرت بعد إلى تلك الخطبة
التقطت هذه منها على ما ذكره الشّارح المعتزلي، نعم رواها في كتاب الارشاد
للمفيد (ره) بادنى تغيير و اختلاف، قال: من كلامه عليه السّلام حين قتل
طلحة و انقض أهل البصرة: بنا تسنّمتم الشّرف، و بنا انفجرتم عن السّرار، و
بنا اهتديتم في الظلماء، و قر سمع لم يفقه الواعية، كيف يراعي النّبأة من
أصمّته الصّيحة، ربط جنان لم يفارقه الخفقان، ما زلت أنتظر بكم عواقب
الغدر، و أتوسّمكم بحلية المغترين، سترني عنكم جلباب الدّين و بصرنيكم صدق
النية أقمت لكم الحقّ حيث تعرفون و لا دليل و تحتقرون و لا تميهون، اليوم
أنطق لكم العجماء ذات البيان، عزب فهم امرء تخلّف عنّي، ما شككت في الحقّ
منذ رأيته، كان بنو يعقوب على المحجّة العظمى حتى عقّوا آبائهم و باعوا
أخاهم، و بعد الاقرار كانت توبتهم، و باستغفار أبيهم و أخيهم غفر لهم هذا، و
شرح ما ذكره الرضي قدّس سرّه في ضمن فصلين.
الفصل الاول
بنا اهتديتم في الظّلمآء، و تسنّمتم العلياء، و بنا انفجرتم عن السّرار،
و قر سمع لم يفقه الواعية، و كيف يراعي النّبأة من أصمّته الصّيحة، ربط
جنان لم يفارقه الخفقان، ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر، و أتوسّمكم بحلية
المغترّين، سترني عنكم جلباب الدّين، و بصّرنيكم صدق النّيّة.
اللغة
(الظلماء) كصحراء الظلمة و قد تستعمل و صفا يقال ليلة ظلماء أي شديدة
الظلمة و (التّسنّم) هو العلوّ و أصله ركوب السّنام و (العلياء) كصحراء
أيضا السّماء و رأس الجبل و المكان العالي و كلّ ما علا من شي ء و الفعلة
العالية المتضمنة للرفعة و الشّرف و (انفجرتم) أي دخلتم في الفجر و
(السّرار) اللّيلة و اللّيلتان يستتر فيهما القمر في آخر الشهر و روى
أفجرتم قال الشّارح المعتزلي: و هو أفصح و أصحّ لان انفعل لا يكون إلّا
لتطاوع فعل نحو كسرته فانكسر و حطمته فانحطم إلّا ما شذّ من قولهم: غلقت
الباب فانغلق، و أزعجته فانزعج، و أيضا فانّه لا يكون إلّا حيث يكون علاج و
تأثير نحو انكسروا نحطم و لهذا قالوا: إنّ قولهم: انعدم خطاء، و أمّا افعل
فيجي ء لصيرورة الشي ء على حال و أمر نحو أغدّ البعير أى صار ذاغدّة و
أجرب الرّجل إذا صار ذا إبل جربي و غير ذلك و أفجرتم أى صرتم ذوي فجر و
(الوقر) ثقل في الأذن أو ذهاب السّمع كله، و قد وقر كوعد و وجل و مصدره وقر
بالسكون و القياس بالتّحريك و وقر كعنى أيضا و وقرها اللّه يقرها.
و (الواعية) الصّراخ و الصّوت كما في القاموس لا الصّارفة كما ذكره
الشّارح البحراني و المعتزلي تبعا للجوهري، و في القاموس أنّه و هم، و عن
الاساس ارتفعت الواعية أى الصّراخ و الصّوت، و في الاقيانوس سمعت واعية
القوم أى أصواتهم و (النبأة) الصّوت الخفي و (خفقت) الرّاية كحسب خفقا و
خفقانا محرّكة اضطربت و تحركت و (توسّم) الشي ء تفرسه و تخيّله و المتوسّم
النّاظر في السّمة الدّالة و هي العلامة و توسم فيه الخير أو الشرّ أى عرف
سمة ذلك و (الجلباب) بفتح الجيم و كسرها القميص و في المصباح ثوب أوسع من
الخمار و دون الرّداء و قال ابن فارس: الجلباب ما يغطى به من ثوب و غيره و
الجمع الجلابيب.
الاعراب
الباء في قوله عليه السّلام بنا للسّببية، و كلمة عن في قوله عن السرار
على حقيقتها الأصليّة و هي المجاوزة أى منتقلين عن السّرار و متجاوزين له، و
وقر بفتح الواو و ضمّها على صيغة المعلوم أو المجهول و سمع فاعله على
الأوّل و على الثّاني الفاعل هو اللّه.
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة من أفصح كلامه عليه السّلام و هي على و جازتها
متضمّنة لمطالب شريفة و نكات لطيفة، و مشتملة على مقاصد عالية و إن لاحظتها
بعين البصيرة و الاعتبار وجدت كلّ فقرة منها مفيدة بالاستقلال مطابقة لما
اقتضاه المقام و الحال و سيجي ء الاشارة إلى بعض ذلك حسب ما ساعدته الوقت و
المجال إنشاء اللّه.
فاقول قوله: (بنا اهتديتم في الظلماء) أى بآل محمّد عليهم السلام
اهتديتم في ظلمات الجهل، و الخطاب لأهل البصرة و غيرهم من طلحة و زبير و
ساير حاضري الوقت و هو جار في حقّ الجميع و فيه إشارة إلى كونهم عليهم
السّلام سبب هداية الأنام في الغياهب و الظلام، و لمّا كان الظلمة عبارة عن
عدم الضّوء عمّا من شأنه أن يكون مضيئا فتقابل النّور تقابل العدم للملكة
على ما ذهب إليه محقّقو المتكلّمين و الفلاسفة، أو عبارة عن كيفيّة وجوديّة
تقابل التّضاد كما ذهب إليه آخرون و هو الأظهر نظرا إلى أنّها على الأوّل
لا تكون شيئا لأنّها عدم و كيف ذلك و اللّه سبحانه خالقها، و على أيّ تقدير
كان قوله دالّا بالمطابقة على كونهم الهداة إلى سبيل النجاة في المدلهمات و
الظلمات، و بالالتزام على كونهم نورا مضيئا و قمرا منيرا إذ الاهتداء في
الظلمة لا يكون إلّا بالنّور الظاهر في ذاته المظهر لغيره.
أمّا المدلول المطابقي فقد اشير إليه في غير واحدة من الآيات الكريمة و صرّح به في الأخبار البالغة حدّ التّظافر بل التّواتر.
منها ما رواه في الكافي باسناده عن عبد اللّه بن سنان قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» قال: هم الأئمة صلوات اللّه عليهم.
و منها ما في تفسير عليّ بن إبراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» فأمّا
من يهدي إلى الحقّ فهو محمّد صلّى اللّه عليه و آل محمّد صلّى اللّه عليه و
آله و سلّم من بعده، و أما من لا يهدي إلا أن يهدى فهو من خالف من قريش و
غيرهم أهل بيته من بعده.
و منها ما في البحار من تفسير العيّاشيّ بإسناده عن المعلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: «وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ» قال عليه السّلام هو من يتّخذ دينه برأيه بغير هدى إمام من اللّه من أئمة الهدى.
و منها ما في البحار أيضا من كنز جامع الفوائد و تأويل الآيات بالاسناد
عن عيسى بن داود النّجار عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام أنّه
سأل أباه عن قول اللّه عزّ و جلّ: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى » قال
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّها النّاس اتّبعوا هدى
اللّه تهتدوا و ترشدوا و هو هدى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فمن اتّبع
هداه في حياتي و بعد موتي فقد اتّبع هداى و من اتبع هداى فقد اتّبع هدى
اللّه فلا يضلّ و لا يشقى، إلى غير هذه ممّا لا نطيل بذكرها.
و أما المدلول الالتزامي و هو كونهم عليهم السّلام أنوارا يستضاء بها في
الليلة الظلماء و نجوما يهتدى بها في غياهب الدّجى فقد اشير إليه في قوله
سبحانه و تعالى: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا» روى
عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن عليّ بن الحسين عن البرقيّ عن ابن محبوب عن
أبي أيّوب عن أبي خالد الكابلي قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه
الآية فقال: يا أبا خالد النّور و اللّه الأئمة من آل محمّد إلى يوم
القيامة هم و اللّه نور اللّه الذي انزل و هم و اللّه نور اللّه في
السّماوات و الأرض، و اللّه يا أبا خالد لنور الامام في قلوب المؤمنين أنور
من الشّمس المضيئة بالنّهار و هم و اللّه ينوّرون قلوب المؤمنين و يحجب
اللّه نورهم عمّن يشاء فتظلم قلوبهم، و اللّه يا أبا خالد لا يحبّنا عبد و
يتولّانا حتّى يطهّر اللّه قلبه و لا يطهّر اللّه قلب عبد حتّى يسلم لنا و
يكون سلما لنا فإذا كان سلما سلمه اللّه من شديد الحساب و آمنه من فزع يوم
القيامة الأكبر.
و قال الصادق عليه السّلام في مرويّ العيّاشي إنّ اللّه قال في كتابه: «اللَّهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ،
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» فالنّورهم آل محمّد عليهم السّلام و الظلمات عدوّهم.
و في البحار من تفسير فرات بن إبراهيم عن جعفر بن محمّد الفزاري معنعنا عن ابن عبّاس في قول اللّه تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ» قال: الحسن و الحسين عليهما السّلام «وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ» قال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و في تفسير عليّ بن إبراهيم في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ» قال: النّجوم آل محمّد عليه و عليهم السّلام.
و فيه أيضا عن عبد الرّحمان بن محمّد العلوي بإسناده عن عكرمة، و سئل عن قول اللّه تعالى: «وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها» قال:
الشّمس و ضحيها هو محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و
القمر إذا تليها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و النّهار
إذا جلّيها آل محمّد الحسن و الحسين عليهما السّلام، و الليل إذا يغشيها
بنو اميّة.
و في البحار من تفسير العيّاشيّ عن معلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: «وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»
قال: هو أمير المؤمنين عليه السّلام، و فيه من المناقب لابن شهر آشوب عن أبي الورد عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله: «وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» قال:
نحن النّجم إلى غير هذه ممّا يطلع عليها العارف الخبير و المتتبع المجدّ و
بالجملة فقد ظهر و تحقق ممّا ذكرنا كله أنّهم عليهم السّلام نور اللّه في
السّماوات و الأرض و النّجوم التي يهتدى بها في ظلمات البرّ و البحر و
القمر الهادي في أجواز البلدان و القفار و غياهب الليالي و لجج البحار.
فإن قلت: سلمنا ذلك كله و لكنّك قد ذكرت أنّ الخطاب في قوله: بنا
اهتديتم في الظلماء لطلحة و الزبير و نظرائهما من أهل الجمل، و من المعلوم
أنّهم كانوا من المنافقين الناكثين فكيف يكونون من المهتدين مع أنّ
اعتقادنا أنّهم مخلدون في النّار بخروجهم على الامام العادل و نقضهم بيعته،
و المهتدون يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم يوم القيامة و لا خوف عليهم و
لا هم يحزنون كما قال تعالى: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى » قلت:
أوّلا إن اهتديتم بصيغة الماضي دالة على اهتدائهم فيما مضى فهو لا ينافي
بارتدادهم بعد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ الاهتداء تارة يكون
بالوصول إلى المطلوب و هو الموجب للأجر الجميل و هو الذي لا يتصوّر بعده
الضلالة، و اخرى بالوصول إلى ما يوصل إلى المطلوب و هو لا يستلزم الوصول
إليه ألبتّة و لا ينافي الخذلان و الضلالة قطعا و ثانيا إنّ المراد
بالظلماء في قوله عليه السّلام هو ظلمة الكفر و بالاهتداء هو الاهتداء إلى
الاسلام و هو بانفراده لا يكفي في استحقاق الثّواب، بل لا بدّ و أن ينضم
إلى ذلك نور الولاية كما مرّ تحقيق ذلك و تفصيله في التّذنيب الثالث من
تذنيبات الفصل الرّابع من فصول الخطبة الاولى، و يشهد بذلك و يوضحه مضافا
إلى ما مرّ: ما رواه في البحار من كتاب غيبة النّعماني عن الكليني بإسناده
عن ابن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام إنّي اخالط النّاس
فيكثر عجبي من أقوام لا يتوالونكم و يتوالون فلانا و فلانا لهم أمانة و
صدق و وفاء، و أقوام يتوالونكم ليس لهم تلك الأمانة و لا الوفاء و لا
الصّدق قال: فاستوى أبو عبد اللّه عليه السّلام جالسا و أقبل علىّ كالمغضب
ثمّ قال: لا دين لمن دان بولاية إمام جائر ليس من اللّه، و لا عتب«» على من
دان بولاية إمام عادل من اللّه، قلت: لا دين لاولئك و لا عتب على هؤلاء،
ثمّ قال عليه السّلام: ألا تسمع قول اللّه عزّ و جلّ: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» من ظلمات الذّنوب إلى نور التوبة أو المغفرة لولايتهم كلّ إمام عادل من اللّه قال: «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» فأيّ
نور يكون للكافر فيخرج منه إنّما عنى بهذا أنّهم كانوا على نور الإسلام
فلمّا تولوا كلّ إمام جائر ليس من اللّه خرجوا بولايتهم إيّاهم من نور
الإسلام إلى ظلمات الكفر فأوجب لهم النّار مع الكفّار فقال: «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» و
أوضح من هذه الرّواية دلالة ما في البحار من تفسير العياشي عن سعيد بن أبي
الأصبغ قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام و هو يسأل عن مستقرّ و
مستودع، قال: مستقرّ في الرّحم و مستودع في الصّلب، و قد يكون مستودع
الايمان ثمّ ينزع منه و لقد مشى الزّبير في ضوء الايمان و نوره حتّى قبض
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى مشى بالسّيف و هو يقول لا
نبايع إلّا عليّا عليه السّلام و عن العيّاشي أيضا عن جعفر بن مروان قال:
إنّ الزّبير اخترط سيفه يوم قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال
لا أغمده حتّى ابايع لعليّ عليه السّلام ثمّ اخترط سيفه فضارب عليّا و كان
ممن اعير الايمان فمشى في ضوء نوره ثمّ سلبه اللّه إيّاه.
نوره حتّى قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى مشى
بالسّيف و هو يقول لا نبايع إلّا عليّا عليه السّلام و عن العيّاشي أيضا عن
جعفر بن مروان قال: إنّ الزّبير اخترط سيفه يوم قبض النبيّ صلّى اللّه
عليه و آله و سلّم و قال لا أغمده حتّى ابايع لعليّ عليه السّلام ثمّ اخترط
سيفه فضارب عليّا و كان ممن اعير الايمان فمشى في ضوء نوره ثمّ سلبه اللّه
إيّاه.
(و تسنّمتم العلياء) أى بتلك الهداية و شرافة الاسلام ركبتم سنام
العلياء و الرفعة علا ذكركم و رفع قدركم، شبّه عليه السّلام العلياء
بالنّاقة و أثبت لها سنامها تخييلا و رشّح ذلك بذكر التّسنّم الذي هو ركوب
السّنام (و بنا انفجرتم) أو أفجرتم (عن السّرار) أى انفجرتم انفجار العين
من الأرض، أو دخلتم في الفجر، أو صرتم ذوى فجر منتقلين عن السّرار، و
استعار عليه السّلام لفظ السّرار لما كانوا فيه من ليل الجهل و خمول الذّكر
في الجاهلية و غيرها، و لفظ الانفجار عنه لخروجهم من ذلك إلى نور الإسلام و
استضاءتهم بضياء صباح وجودهم عليهم السّلام كما قال عزّ من قائل: «وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ» قال
أمير المؤمنين عليه السّلام لابن الكوّا حين سأله عن ذلك: يعني ظلمة الليل
و هذا ضربه اللّه مثلا لمن ادّعى الولاية لنفسه و عدل عن ولاة الأمر قال:
فقوله و الصّبح إذا تنفّس قال: يعني بذلك الأوصياء يقول: إنّ علمهم أنور و
أبين من الصّبح إذا تنفس هذا.
و لمّا ذكر فضله عليهم بكونه عليه السّلام سبب هدايتهم و علة لعلوّ
مقامهم و سموّ مكانهم وجهة لشرافتهم و رفعة قدرهم و داعيا لصيرورتهم من
ظلمة الغواية و الضلالة إلى فجر الهداية و الرّشاد مع مقابلتهم كلّ ذلك
بالنّفاق و النّفار و العتوّ و الاستكبار، أردف ذلك بالدّعاء عليهم بقوله
(و قر سمع لم يفقه الواعية) إشارة إلى أنّهم كيف لم يفقهوا بيانه بعد ما
بيّنه و لم يقبلوه بعد ما سمعوه و لم يطيعوه بعد ما فهموه و جهلوا قدره بعد
ما عرفوه.
قال البحراني: و هذا كما يقول أحد العلماء لبعض تلاميذه المعاند له
المدّعي لمثل فضيلته: إنّك بي اهتديت من الجهل و علا قدرك في النّاس و أنا
سبب لشرفك أ فتكبّر عليّ وقر سمعك لم لا تفقه قولي و تقبله هذا، و على ما
ذكرناه من كون الواعية بمعنى الصّوت يكون معنى كلامه عليه السّلام ثقل سمع
لم يفقه الصّوت بعد ما سمعه، و على قراءة و قر بصيغة المجهول يكون المعنى
أثقل اللّه سمعا لم يفقه الصّراخ، و على ذلك فلا حاجة إلى ما تكلفه بعض
شارحي كلامه عليه السّلام تارة بجعل الواعية صفة لمحذوف مع حذف مفعول لم
يفقه أى وقر سمع لم يفقه صاحبه بإذنه الواعية علم الشّريعة، و اخرى بجعل
الفاعل بمعنى المفعول مع حذف الموصوف أيضا أى لم يفقه الأشياء الموعية، و
ثالثة بجعلها بمعنى الصّارفة.
فإن قلت: ما السّر في وصفه السّمع بعدم الفقه لا بعدم السّماع و تعبيره
بقوله: لم يفقه دون لم يسمع مع كون الواعية أيضا من قبيل المسموعات لا
المفقوهات و الحال أنّ الموصوف و المتعلق كليهما مقتضيان للتعبير بالثّاني
دون الأوّل.
قلت: بعد الغضّ عن عدم ملايمة الوصف بالثّاني للدّعاء بالوقر لاستلزامه
تحصيل الحاصل أنّ السّر في ذلك هو أنّ المقصود بالسّمع ليس مجرّد السّماع و
الاستماع بل الفقه و الفهم و الاتعاظ بالمواعظ و النّصايح بعد إدراك
السّمع لها، فإذا أدركها و لم يفقهها و لم يقم بمقتضياتها فهو حريّ
بالدّعاء عليه بكونه موقورا ثقيلا مع أنّ في التعبير بهذه اللفظة إشارة إلى
غاية نفارهم و استكبارهم و شدّة لجاجهم و عنادهم و نهاية بغضهم و عداوتهم و
منتهى نفرتهم عن قبول الحقّ كما قال عزّ من قائل: «وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ» وصفهم
بالصّمم مع إثبات الاستماع أوّلا من حيث عدم انتفاعهم بما يستمعون، فهم و
الأصمّ على السّواء و ذلك فإنّ الانسان إذا قوى بغضه لانسان آخر و عظمت
نفرته عنه صارت نفسه متوجّهة إلى طلب مقابح كلامه معرضة عن جميع الجهات
الحسن فيه، فالصّمم في الاذن معنى ينافي حصول إدراك الصّوت فكذلك حصول هذا
البغض و الاستكبار و المنافرة كالمنافي للوقوف عن محاسن ذلك الكلام و
الاطلاع بما اريد منه.
ثمّ كما أنّه لا يمكن جعل الأصمّ سميعا فكذلك لا يمكن جعل العدوّ البالغ
إلى هذا الحدّ صديقا مطيعا، و لذلك اعتذر عليه السّلام من عدم تأثير كلامه
فيهم بقوله: (و كيف يراعي النّبأة) أى الصّوت الخفي (من أصمّته الصيحة)
إشارة إلى أنّ من لم يؤثّر فيه كلام اللّه و كلام رسوله الذي هو كالصّيحة
المكرّرة عليهم حتّى جعلهم أصمّ من كثرة التكرار و شدّة الاصرار، كيف يؤثّر
فيهم كلامه عليه السّلام الذي نسبته إلى كلامهما نسبة النّبأة إلى
الصّيحة، و من المعلوم أن الصوت الضّعيف لا يدرك عند الصّوت القوي أو
الحواس لا تدرك الأضعف مع وجود الأقوى المماثل في كيفيّته، ففي هذه الفقرة
من كلامه دلالة على عدم اختصاص تمرّدهم به عليه السّلام فقط، بل كانوا
متمرّدين من أوّل الأمر مستكبرين عن طاعة اللّه و طاعة رسوله أيضا كما أنّ
فيها و في سابقتها إشارة إلى تماديهم في الغفلة بما غشت قلوبهم من الظلمة و
القسوة حيث لم يسمعوا داعي اللّه و لم يفقهوا كلام اللّه و لم يتدبّروا في
القرآن و نكثوا بيعة ولي الرّحمان، قال سبحانه في الحديث القدسي: يا ابن
آدم استقامة سماواتي في الهواء بلا عمد باسم من أسمائي و لا يستقيم قلوبكم
بألف موعظة من كتابي، يا أيّها النّاس كما لا يلين الحجر في الماء كذلك لا
يغني الموعظة للقلوب القاسية.
ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا دعى بالوقر على الاذن الغير الواعية للواعية
و أتبعه بالاشارة إلى عدم إمكان تأثير نبأته فيمن أصمّته الصّيحة لاستحالة
تأثر القلوب القاسية بالموعظة و النّصيحة، أردف ذلك بالدّعاء للقلوب
الوجلة الخائفة بقوله: (ربط جنان) أى سكن و ثبت (لم يفارقه) الاضطراب (و
الخفقان) من خشية اللّه و الاشفاق من عذابه ثمّ خاطب عليه السّلام بقيّة
أصحاب الجمل أو المقتولين أو هما معا و قال: (ما زلت أنتظر بكم عواقب
الغدر) و الحيلة و أترقّب منكم المكر و الخديعة، و ذلك إمّا من أجل أنّ
النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبره بذلك و بأنّهم ينقضون بيعته بعد
توكيدها، و إمّا من أجل استنباطه عليه السّلام ذلك من حركاتهم و وجنات
أحوالهم كما يشعر به قوله: (و أتوسّمكم بحلية المغترين) و ذلك لأنّه عليه
السّلام فهم أنّهم من أهل الغرّة و قبول الباطل عن أدنى شبهة بما لاح له من
صفاتهم و سماتهم الدّالة على ذلك، و كان علمه عليه السّلام بذلك مستلزما
لعلمه بغدرهم بعهده و نقضهم لبيعته فكان ينتظر ذلك منهم.
و لذلك إن طلحة و الزّبير لما دخلا عليه عليه السّلام يستأذنانه في
العمرة قال: ما العمرة تريدان، فحلفا له باللّه إنّهما ما يريدان غير
العمرة، فقال لهما: ما العمرة تريدان و إنّما تريدان الغدرة و نكث البيعة،
فحلفا باللّه ما لخلاف عليه و لا نكث بيعته يريدان و ما رأيهما غير العمرة،
قال لهما، فاعيدا البيعة لي ثانيا، فأعاداها بأشد ما يكون من الأيمان و
المواثيق، فاذن لهما فلمّا خرجا من عنده قال لمن كان حاضرا: و اللّه لا
ترونهما إلّا في فتنة يقتتلان فيها، قالوا: يا أمير المؤمنين فلم يردّهما
عليك، قال: ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا.
و قوله: (سترني عنكم جلباب الدين) قال البحراني: وارد مورد الوعيد للقوم
في قتالهم له و مخالفتهم لأمره، و المعنى انّ الدّين حال بينى و بينكم و
سترنى عن أعين بصائركم أن تعرفوني بما أقوى عليكم من العنف بكم و الغلظة
عليكم و ساير وجوه تقويكم و ردعكم عن الباطل وراء ما وقفني عليه الدّين من
الرّفق و الشّفقة و شهب ذيل العفو عن الجرائم، فكان الدّين غطاء حال بينهم و
بين معرفته فاستعار له لفظ الجلباب قال: و روي ستركم عنّي أي عصم الاسلام
منّي دمائكم و اتباع مدبركم و أن اجهز على جريحكم و غير ذلك ممّا يفعل من
الأحكام في حقّ الكفّار هذا.
و لما أشار عليه السّلام إلى عد معرفتهم له حقّ معرفته و غفلتهم عن
مراتب شأنه و وظيفته أتبعه بقوله: (و بصّر نيكم صدق النيّة) و أشار بذلك
إلى معرفته لهم حقّ المعرفة بعين اليقين و البصيرة من حيث صفاء نفسه و خلوص
نيّته و نور باطنه كما قال عليه السّلام: اتّقوا فراسة المؤمن فانّه ينظر
بنور اللّه، و قال الرّضا عليه السّلام في رواية بصائر الدّرجات لنا أعين
لا تشبه أعين النّاس و فيها نور ليس للشّيطان فيه شرك، و بذلك النّور
يعرفون كلّ مؤمن و منافق و يعرفون صديقهم من عدوّهم كما يدلّ عليه أخبار
كثيرة.
مثل ما رواه في البحار عن العيون عن تميم القرشي عن أبيه عن أحمد بن
عليّ الأنصاري عن الحسن بن الجهم قال: سئل عن الرّضا عليه السّلام ما وجه
إخباركم بما في قلوب النّاس قال: أما بلغك قول الرّسول صلّى اللّه عليه و
آله و سلّم: اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه قال: بلى، قال: فما
من مؤمن إلّا و له فراسة ينظر بنور اللّه على قدر إيمانه و مبلغ استبصاره و
علمه، و قد جمع اللّه للأئمّة منّا ما فرّقه في جميع المؤمنين و قال عزّ و
جلّ في كتابه: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» فأوّل
المتوسّمين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ أمير المؤمنين
عليه السّلام من بعده، ثمّ الحسن و الحسين و الأئمّة من ولد الحسين سلام
اللّه عليهم إلى يوم القيامة.
و من كتاب البصائر و الاختصاص عن السّندي بن الرّبيع عن ابن فضّال عن
ابن رئاب عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ليس مخلوق إلّا
و بين عينيه مكتوب انّه مؤمن أو كافر و ذلك محجوب عنكم و ليس بمحجوب من
الأئمّة من آل محمّد عليهم السّلام ليس يدخل عليهم أحد إلا عرفوه هو مؤمن
أو كافر، ثمّ تلا هذه الآية: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» فهم
المتوسمون و من الاختصاص أيضا بإسناده عن جابر قال: بينا أمير المؤمنين
عليه السّلام في مسجد الكوفة إذ جاءت امرأة تستعدي على زوجها فقضى عليه
السّلام لزوجها عليها، فغضبت فقالت: لا و اللّه ما الحقّ فيما قضيت و ما
تقضى بالسّوية و لا تعدل في الرّعيّة و لا قضيّتك عند اللّه بالمرضيّة،
فنظر إليها مليّا ثمّ قال لها: كذبت يا جريّة يا بذيّة«» يا سلفع يا
سلقلقية«» يا التي لا تحمل من حيث تحمل النّساء، قال: فولت المرأة هاربة
مولولة و تقول: ويلي و يلي لقد هتكت يابن أبي طالب سترا كان مستورا.
قال: فلحقها عمرو بن حريث فقال: يا أمة اللّه لقد استقبلت عليّا بكلام
سررتني به ثمّ إنّه نزع«» لك بكلام فوليت عنه هاربة تولولين، فقالت إنّ
عليّا عليه السّلام و اللّه أخبرني بالحقّ و بما أكتمه من زوجي منذ ولي
عصمتي و من أبويّ، فعاد عمرو إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبره بما
قالت له المرأة، و قال له فيما يقول: ما أعرفك بالكهانة فقال له عليّ عليه
السّلام: ويلك إنّها ليست بالكهانة منّي و لكنّ اللّه خلق الأرواح قبل
الأبدان بألفي عام، فلما ركّب الأرواح في أبدانها كتب بين أعينهم كافر و
مؤمن و ما هم به مبتلون و ما هم عليه من سيئ عملهم و حسنه في قدر اذن
الفارة، ثمّ أنزل بذلك قرانا على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» فكان
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المتوسّم، ثم أنا من بعده، و
الأئمة من ذرّيتي هم المتوسّمون فلمّا تأمّلتها عرفت ما فيها و ما هي عليه
بسيمائها.
و من البصائر بإسناده عن عبد الرّحمان يعني ابن كثير قال: حججت مع أبي
عبد اللّه عليه السّلام فلمّا صرنا في بعض الطريق صعد على جبل فأشرف فنظر
إلى النّاس فقال: ما أكثر الضجيج و أقل الحجيج، فقال له داود الرّقي: يابن
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هل يستجيب اللّه دعاء هذا الجمع
الذي أرى قال: ويحك يا با سليمان إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به، الجاحد
لولاية عليّ عليه السّلام كعابد وثن، قال: قلت: جعلت فداك هل تعرفون محبكم و
مبغضكم قال: ويحك يا با سليمان إنّه ليس من عبد يولد إلّا كتب بين عينيه
مؤمن أو كافر، و إنّ الرّجل ليدخل إلينا بولايتنا و بالبراءة من اعدائنا
فنرى مكتوبا بين عينيه مؤمن أو كافر، قال اللّه عزّ و جلّ: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» نعرف عدوّنا من وليّنا.
و قد وضح بهذه الأخبار كلّ وضوح معنى قوله السّابق: أتوسّمكم بحلية
المغترّين، و ظهر أنّ توسّمه عبارة عن نظره عليه السّلام إلى سماتهم
الدّالة على خبث الطينة و لحاظه العلامات الكاشفة عن سوء السّريرة، فافهم
ذلك و اغتنم.
|