و (المقاوم) المقامة كالمفاوز و المفازة و هي المجلس و قال الشارح المعتزلي جمع القوم و هى الخشبة الّتي يمسكها الحرّاث و (حلبات) جمع حلبة كعرصات و عرصة و هي الخيل تجمع للسباق من كلّ أوب لا تخرج من اصطبل واحد و (سوق) وزان صرد جمع سوقة بالضمّ الرّعية و (الفجوات) جمع فجوة و هي الفرجة و ساحة الدّار و (لا ينمون) بتخفيف الميم من نمى ينمى و ينمو نموّا و نميّا و نماء زاد و يروى بالتشديد من النّميمة و (الضّمار) وزان كتاب كلّ ما لا يرجى رجوعه من المال و الدّين و غيره.
و (حقل) القوم حفلا كاحتفل و تحفّل اجتمعوا و (اذن) إليه و له من باب علم استمع معجبا و (الّاف) جمع آلف مثل زهّاد و زاهد و (ارتجل) الكلام تكلّم
به من غير أن يهيّأه و (صرعى) جمع صريع و هو المصروع من الصّرع و هو الطرح على الأرض و (السّبات) كغراب النوم.
الاعراب
و قوله: الّذين كانت لهم مقاوم العزّ، الجملة في محلّ الرّفع صفة لفرّاط و لهم خبر كانت قدّم على الاسم للتوسّع و قوله: ملوكا و سوقا منتصبان على الحال من لهم، و جمادا و ضمارا حالان من ضمير أصبحوا إن كانت تامّة و إلّا فخبران لها و قوله: طول عهدهم، متعلّق بقوله: عميت، و قدم عليه للتوسّع
(الّذين كانت لهم مقاوم العزّ) أى مجالسه (و حلبات الفخر) أى خيل السّباق و الصافنات الجياد الّتي يفتخر بها، و يحتمل أن تكون حلبات الفخر استعارة عن أسباب الفخر الّتي توجّهت إليهم من كلّ جهة كما تجمع الحلبات من كلّ اوب (ملوكا و سوقا) أى بعضهم سلاطين و بعضهم رعايا.
(سلكوا في بطون البرزخ سبيلا) قال الشارح المعتزلي البرزخ الحاجز بين الشيئين و البرزخ ما بين الدّنيا و الاخرة من وقت الموت إلى البعث فيجوز أن يكون البرزخ في هذا الموضع القبر لأنّه حاجز بين الميّت و بين أهل الدّنيا، و يجوز أن يريد به الوقت الّذى بين حال الموت إلى حال النشور، و الأوّل أقرب إلى مراده عليه السّلام لأنّه قال: في بطون البرزخ و لفظة البطون يدلّ على التفسير الأوّل، انتهى.
أقول أمّا أنّ البرزخ بمعنى الحاجز فعليه قوله تعالى بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ و أمّا أنّه من حين الموت إلى وقت البعث فعليه قوله تعالي وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
و أمّا كونه بمعنى القبر فيدلّ عليه ما في البحار عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام أنّه تلا هذه الاية و قال: هو القبر، و انّ لهم فيه لمعيشة ضنكا، و اللّه إنّ القبرلروضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، و في مجمع البحرين في حديث الصادق عليه السّلام البرزخ القبر و هو الثواب و العقاب و بين الدّنيا و الاخرة.
و أما أنّ المراد بالبرزخ هنا القبر فيؤيّده ما روى عن بعض النسخ من بطون القبور بدل بطون البرزخ.
و أما تأييد إرادته بلفظة البطون كما زعمه الشارح فلا، بل دلالتها علي المعنى الثاني أظهر، إذ لو أراد الأوّل لكان الأنسب أن يقال في بطن البرزخ بصيغة المفرد و إن كان يمكن تصحيحه بجعل اللّام في البرزخ للجنس و لعلّ نظر الشارح إلى أنّ البرزخ بالمعنى الثاني ليس له بطن بخلاف القبر. و يدفعه أنّ بطن كلّ شي ء جوفه و ما خفى منه فيراد ببطون البرزخ على المعنى الثاني ما خفى علينا و احتجب عنّا نشاته و حالاته.
و كيف كان شبّه مكثهم في البرزخ إلى حين البعث الّذى هو غايتهم بمن سلك طريقا يسلك به إلى منزله، فاستعار عليه السّلام له لفظ السّلوك.
ثمّ أشار عليه السّلام إلى بعض حالاتهم البرزخيّة فقال (سلطت الأرض عليهم فيه) أى في البرزخ (فأكلت لحومهم و شربت من دمائهم) نسبة الأكل و الشرب إلى الأرض من باب المجاز و الاستعارة، فانّ المأكول و المشروب يصيران جزء من بدن الاكل الشّارب، فحيث إنّ أبدانهم في البرزخ تصير بعد البلى ترابا و تنقلب بالأجزاء الأرضيّة فكان الأرض كانت لهم آكلة شاربة.
(فأصبحوا في فجوات قبورهم جمادا لا ينمون) أى صاروا في فرج القبور بمنزلة الجماد الّذى لا ينمو و لا يزيد لبطلان حياتهم بالموت، و النّموّ و الزّيادة من توابع الحياة (و ضمارا لا يوجدون) كناية عن كونهم غيّبا لا يرجى رجوعهم.
(لا يفزعهم ورود الأهوال) أى لا يخافون من توارد أهاويل الدّنيا و أفزاعها عليهم لخروجهم منها و كونهم من أهل العالم الاخر (و لا يحزنهم تنكّر الأحوال) أى تقلّب الحالات الدنيويّة و تغيّراتها الموجبة لحزن أهلها.
(و لا يحفلون بالرّواجف) أى لا يجتمعون بالزّلازل و لا يبالون بها، و لعلّه كناية عن عدم مبالاتهم بالدّواهى الدّنيويّة الموقعة في الاضطراب (و لا يأذنون للقواصف) أى لا يصغون إلى الأصوات الشديدة الهايلة كصوت الرّعد و الأعاصير و غيرها.
(غيبا لا ينتظرون) أى لا ينتظر النّاس عودهم (و شهودا لا يحضرون) أى شاهدين صورة حاضرين بالأبدان غير حاضرين حقيقة لغيابهم بالأرواح (و إنّما كانوا جميعا فتشتّتوا) و كانوا مجتمعين فتفرّقوا (و الّافا فافترقوا) أى مؤتلفين فافترقوا بالموت كما قال الشّاعر:
- و كنّا باجتماع كالثّريّاففرّقنا الزّمان بنات نعش
(و ما عن طول عهدهم) و زمانهم (و) لا (بعد محلّهم) و مكانهم (عميت) أى خفيت (أخبارهم و صمّت ديارهم) إسناد الصّمم إلى الدّيار من التّوسع كما فى قولهم: سال الميزاب و جرى النّهر.
و المراد أنّ خفاء أخبارهم عن الأحياء ليس من جهة طول العهد و بعد المكان بين الطرفين، و كذلك صمم ديارهم أي قبورهم و مزارهم حيث لا تجيب داعيا و لا تكلّم مناديا ليس من جهة عدم وصول ندائهم و بلوغ أصواتهم إليها ببعد المسافة (و لكنّهم سقوا كأسا) اليؤس للتفخيم أى كأسا و بيئة فيها سمّ ناقع شديد المرارة عظيم التّأثير و هي كأس الموت (بدّلتهم بالنطق خرسا) فلا يستطيعون أن يجيبوا داعيا و لا أن يخبروا عن حالهم و (بالسّمع صمما) فلا يقدرون أن يستمعوا مناديا و يردّوا جواب كلامه (و بالحركات سكونا) أى حركات الألسنة و الصماخ و ساير الأعضاء و الجوارح سكونها، فعجزوا عن التّكلّم و الاصغاء و عن الحركة و السّعى إلى الاحياء و عن ايصال أحوالهم إليهم.
(فكأنّهم في ارتجال الصّفة صرعى سبات) يعنى إذا وصفهم واصف مرتجلا بلا سبق تأمّل و رويّة شبّههم بمصروعى سبات أى يقول إنّهم سقطوا في الأرض للنّوم فانّ النّوم و الموت أخوان و لا شي ء أشدّ شباهة من النّائم بالميّت و لا من الميّت بالنّائم.
و قد أخذ الماتن الشريف أبو الحسن الرّضى معنى الفقرات الأخيرة في نظمه حيث قال:
- و لقد حفظت له فأين حفاظهو لقد وفيت له فأين وفاؤه
- أدعا الدّعاء فلم يجبه قطيعةأم ضلّ عنه من البعاد دعاؤه
- هيهات أصبح سمعه و عيانهفي التّرب قد حجبتهما اقذاؤه
- يمسى و لين مهاده حصباؤهفيه و مونس ليله ظلماؤه
- قد قلّبت أعيانه و تنكّرتأعلامه و تكشّفت أضواؤه
- معف و ليس للذّة إعفاؤهمغض و ليس لفكرة أغضاؤه
و البيت الأخير مأخوذ من آخر كلامه عليه السّلام و هو قوله: صرعى سبات
اللغه
(الّذين كانت لهم مقاوم العزّ) أى مجالسه (و حلبات الفخر) أى خيل السّباق و الصافنات الجياد الّتي يفتخر بها، و يحتمل أن تكون حلبات الفخر استعارة عن أسباب الفخر الّتي توجّهت إليهم من كلّ جهة كما تجمع الحلبات من كلّ اوب (ملوكا و سوقا) أى بعضهم سلاطين و بعضهم رعايا.
(سلكوا في بطون البرزخ سبيلا) قال الشارح المعتزلي البرزخ الحاجز بين الشيئين و البرزخ ما بين الدّنيا و الاخرة من وقت الموت إلى البعث فيجوز أن يكون البرزخ في هذا الموضع القبر لأنّه حاجز بين الميّت و بين أهل الدّنيا، و يجوز أن يريد به الوقت الّذى بين حال الموت إلى حال النشور، و الأوّل أقرب إلى مراده عليه السّلام لأنّه قال: في بطون البرزخ و لفظة البطون يدلّ على التفسير الأوّل، انتهى.
أقول أمّا أنّ البرزخ بمعنى الحاجز فعليه قوله تعالى بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ و أمّا أنّه من حين الموت إلى وقت البعث فعليه قوله تعالي وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
و أمّا كونه بمعنى القبر فيدلّ عليه ما في البحار عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام أنّه تلا هذه الاية و قال: هو القبر، و انّ لهم فيه لمعيشة ضنكا، و اللّه إنّ القبرلروضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، و في مجمع البحرين في حديث الصادق عليه السّلام البرزخ القبر و هو الثواب و العقاب و بين الدّنيا و الاخرة.
و أما أنّ المراد بالبرزخ هنا القبر فيؤيّده ما روى عن بعض النسخ من بطون القبور بدل بطون البرزخ.
و أما تأييد إرادته بلفظة البطون كما زعمه الشارح فلا، بل دلالتها علي المعنى الثاني أظهر، إذ لو أراد الأوّل لكان الأنسب أن يقال في بطن البرزخ بصيغة المفرد و إن كان يمكن تصحيحه بجعل اللّام في البرزخ للجنس و لعلّ نظر الشارح إلى أنّ البرزخ بالمعنى الثاني ليس له بطن بخلاف القبر. و يدفعه أنّ بطن كلّ شي ء جوفه و ما خفى منه فيراد ببطون البرزخ على المعنى الثاني ما خفى علينا و احتجب عنّا نشاته و حالاته.
و كيف كان شبّه مكثهم في البرزخ إلى حين البعث الّذى هو غايتهم بمن سلك طريقا يسلك به إلى منزله، فاستعار عليه السّلام له لفظ السّلوك.
ثمّ أشار عليه السّلام إلى بعض حالاتهم البرزخيّة فقال (سلطت الأرض عليهم فيه) أى في البرزخ (فأكلت لحومهم و شربت من دمائهم) نسبة الأكل و الشرب إلى الأرض من باب المجاز و الاستعارة، فانّ المأكول و المشروب يصيران جزء من بدن الاكل الشّارب، فحيث إنّ أبدانهم في البرزخ تصير بعد البلى ترابا و تنقلب بالأجزاء الأرضيّة فكان الأرض كانت لهم آكلة شاربة.
(فأصبحوا في فجوات قبورهم جمادا لا ينمون) أى صاروا في فرج القبور بمنزلة الجماد الّذى لا ينمو و لا يزيد لبطلان حياتهم بالموت، و النّموّ و الزّيادة من توابع الحياة (و ضمارا لا يوجدون) كناية عن كونهم غيّبا لا يرجى رجوعهم.
(لا يفزعهم ورود الأهوال) أى لا يخافون من توارد أهاويل الدّنيا و أفزاعها عليهم لخروجهم منها و كونهم من أهل العالم الاخر (و لا يحزنهم تنكّر الأحوال) أى تقلّب الحالات الدنيويّة و تغيّراتها الموجبة لحزن أهلها.
(و لا يحفلون بالرّواجف) أى لا يجتمعون بالزّلازل و لا يبالون بها، و لعلّه كناية عن عدم مبالاتهم بالدّواهى الدّنيويّة الموقعة في الاضطراب (و لا يأذنون للقواصف) أى لا يصغون إلى الأصوات الشديدة الهايلة كصوت الرّعد و الأعاصير و غيرها.
(غيبا لا ينتظرون) أى لا ينتظر النّاس عودهم (و شهودا لا يحضرون) أى شاهدين صورة حاضرين بالأبدان غير حاضرين حقيقة لغيابهم بالأرواح (و إنّما كانوا جميعا فتشتّتوا) و كانوا مجتمعين فتفرّقوا (و الّافا فافترقوا) أى مؤتلفين فافترقوا بالموت كما قال الشّاعر:
- و كنّا باجتماع كالثّريّاففرّقنا الزّمان بنات نعش
(و ما عن طول عهدهم) و زمانهم (و) لا (بعد محلّهم) و مكانهم (عميت) أى خفيت (أخبارهم و صمّت ديارهم) إسناد الصّمم إلى الدّيار من التّوسع كما فى قولهم: سال الميزاب و جرى النّهر.
و المراد أنّ خفاء أخبارهم عن الأحياء ليس من جهة طول العهد و بعد المكان بين الطرفين، و كذلك صمم ديارهم أي قبورهم و مزارهم حيث لا تجيب داعيا و لا تكلّم مناديا ليس من جهة عدم وصول ندائهم و بلوغ أصواتهم إليها ببعد المسافة (و لكنّهم سقوا كأسا) اليؤس للتفخيم أى كأسا و بيئة فيها سمّ ناقع شديد المرارة عظيم التّأثير و هي كأس الموت (بدّلتهم بالنطق خرسا) فلا يستطيعون أن يجيبوا داعيا و لا أن يخبروا عن حالهم و (بالسّمع صمما) فلا يقدرون أن يستمعوا مناديا و يردّوا جواب كلامه (و بالحركات سكونا) أى حركات الألسنة و الصماخ و ساير الأعضاء و الجوارح سكونها، فعجزوا عن التّكلّم و الاصغاء و عن الحركة و السّعى إلى الاحياء و عن ايصال أحوالهم إليهم.
(فكأنّهم في ارتجال الصّفة صرعى سبات) يعنى إذا وصفهم واصف مرتجلا بلا سبق تأمّل و رويّة شبّههم بمصروعى سبات أى يقول إنّهم سقطوا في الأرض للنّوم فانّ النّوم و الموت أخوان و لا شي ء أشدّ شباهة من النّائم بالميّت و لا من الميّت بالنّائم.
و قد أخذ الماتن الشريف أبو الحسن الرّضى معنى الفقرات الأخيرة في نظمه حيث قال:
- و لقد حفظت له فأين حفاظهو لقد وفيت له فأين وفاؤه
- أدعا الدّعاء فلم يجبه قطيعةأم ضلّ عنه من البعاد دعاؤه
- هيهات أصبح سمعه و عيانهفي التّرب قد حجبتهما اقذاؤه
- يمسى و لين مهاده حصباؤهفيه و مونس ليله ظلماؤه
- قد قلّبت أعيانه و تنكّرتأعلامه و تكشّفت أضواؤه
- معف و ليس للذّة إعفاؤهمغض و ليس لفكرة أغضاؤه
و البيت الأخير مأخوذ من آخر كلامه عليه السّلام و هو قوله: صرعى سبات
الاعراب
قوله: و هو جميع الجملة في محلّ النصب على الحال، و كذلك قوله: و هم أخلاء، و قوله: أىّ الجديدين مبتدأ خبره كان
المعنى
اعلم أنّه لمّا افتتح كلامه في الفصل السابق بالتّوبيخ و التّعريض على المتكاثرين بالأموات، و استطرد بشرح حال الموتى في البرزخ و ابانة فظايعهم اتبعه بهذا الفصل للتّنبيه على بقيّة حالاتهم فقال: (جيران لا يتأنّسون و أحبّاء لا يتزاورون) يعنى أنّهم جيران لقرب قبورهم و لكن لا يقدرون على الاستيناس، لأنّ الموانسة من صفات الأحياء، و أحبّاء لقرب أبدانهم فيها أو لمحابتهم في دار الدّنيا و لكن لا يستطيعون التّزاور لأنّ الزّيارة من حالات المتّصفين بالحسّ و الحياة و هو عبارة اخرى لقوله عليه السّلام في بعض كلماته تدانوا في خططهم و قربوا فى مزارهم و بعدوا في لقائهم.
(بليت بينهم عرى التّعارف و انقطعت منهم أسباب الاخاء) يعنى أنّهم مع ما كانوا عليه في الدّنيا من معرفة بعضهم بعضا و المحبّة و المودّة و الاخوّة الّتي كانت بينهم، فقد بليت عراها يعنى وصلها و اندرست و انقطعت حبالها و انفصمت بحلول الموت و نزول الفناء و الفوت.
(فكلّهم وحيدوهم جميع و بجانب الهجر و هم أخلاء) أى كلّ واحد منهم وحيد حقيقة و هم مع ذلك مجتمعون صورة لاجتماع مقابرهم، و كلّ منهم في جانب الهجر واقعا مع خلّتهم ظاهرا بمقتضى قرب الجوار، أو المراد بالاجتماع و الخلّة ما كانوا عليه في الدّنيا من المودّة و الصّداقة و الأوّل أظهر، و قد أشار إليه الشريف الرّضى في قوله:
- بادون في صور الجميع و أنهممتفرّدون تفرّد الاحاد
قال الشّارح المعتزلي: فان قلت: ما معنى قوله: بجانب الهجر، و أىّ فايدة في لفظة جانب في هذا الموضع قلت: لأنّهم يقولون: فلان في جانب الهجرة و في جانب القطيعة و لا يقولون في جانب الوصل و في جانب المصافاة، و ذلك أنّ لفظة جنب في الأصل موضوع خطبه 221 نهج البلاغه بخش 2 للمباعدة و منه قولهم: الجار الجنب و هو جارك من قوم غرباء يقال: جنب الرّجل و أجنبته و تجنّبته و تجانبته كلّها بمعنى و رجل أجنبىّ و أجنب و جانب كلّه بمعنى (لا يتعارفون لليل صباحا و لا لنهار مساء) أى لا يعرفون للّيل نهارا و لا للنهار ليلا، لأنّ اختلاف اللّيل و النهار و تبدّل أحدهما بالاخر من الأوضاع الدنيويّة و لا اختلاف لهما بالنّسبة إلى أهل القبور لكونهم في بيت الظلمة و النّشأة الاخرة بالنسبة إليهم سيّان.
و يحتمل أن يكون المراد أنّهم لا يتعارف بعضهم بعضا أى لا يجتمعون و لا يتكلّمون في نهارهم للنظر في أمور ليلهم و لا في ليلهم للنّظر في أمور نهارهم كما هو عادة أهل الدّنيا يجتمعون في النهار لترتيب ما يفعلونه باللّيل و في اللّيل لترتيب ما يفعلونه بالنهار، و الأوّل أظهر.
و يؤمى إليه قوله عليه السّلام (أىّ الجديدين ظعنوا فيهم كان عليهم سرمدا) أراد بالجديدين اللّيل و النهار لتجدّدهما دائما أى أىّ واحد من اللّيل و النهار ارتحلوا فيه كان عليهم باقيا أبدا فانّ من مات ليلا لا يتبدّل ليله بالنهار، و من مات نهارا لا ينقلب نهاره إلى ليل لخروجه من الدّنيا الّتي فيها يتعاقب اللّيل و النهار و يتبدّل أحدهما بالاخر.
و الظاهر أنّ ثبوت هذه الحالة للموتى كساير الحالات المتقدّمة بالنّسبة إلى أجسادهم المدفونة في القبور، و أمّا بالنسبة إلي أرواحهم المنتقلة إلى جنّة الدّنيا و نعيمها كأرواح السّعداء أو المنتقلة إلى نار الدّنيا و جحيمها كأرواح الأشقياء، فالمستفاد من أخبار أهل البيت عليهم السّلام تعاور اللّيل و النهار عليهم، و يستفاد منها أيضا أنّ أهل الجنّة من المؤمنين يجتمعون و يتزاورون و يتحدّثون و يتأنّسون.
و يدلّ عليه صريحا ما في البحار من تفسير علىّ بن إبراهيم القمىّ في قوله تعالى وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا قال عليه السّلام: ذلك في جنّات الدّنيا قبل القيامة و الدّليل على ذلك قوله: بكرة و عشيا فالبكرة و العشا لا تكونان في الاخرة في جنان الخلد و إنّما يكون الغدوّ و العشىّ في جنان الدّنيا الّتي تنتقل إليهاأرواح المؤمنين.
و فيه منه في قوله تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا قال عليه السّلام: ذلك في الدّنيا قبل القيامة و ذلك إنّ فى القيامة لا يكون غدوّاً و لا عشيّا، لأنّ الغدوّ و العشاء إنّما يكونان في الشمس و القمر و ليس في جنان الخلد و نيرانها شمس و لا قمر قال و قال رجل لأبي عبد اللّه صلوات اللّه عليه: ما تقول في قول اللّه عزّ و جلّ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما يقول الناس فيها فقال: يقولون: إنّها في نار الخلد و هم لا يعذّبون فيما بين ذلك فقال عليه السّلام: فهم من السّعداء، فقيل له: جعلت فداك فكيف هذا فقال: هذا في الدّنيا فأمّا في نار الخلد فهو قوله تعالى وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.
و فيه منه عن أبيه رفعه قال: سئل الصادق عليه السّلام عن جنّة آدم على نبيّنا و عليه السّلام أمن جنان الدّنيا كانت أم من جنان الاخرة فقال عليه السّلام: كانت من جنان الدّنيا تطلع فيها الشمس و القمر، و لو كانت من جنان الاخرة ما خرج منها.
و يدلّ على تأنّسهم و تزاورهم ما قدّمنا روايته في تذييلات شرح الفصل السابع من فصول الخطبة الثانية و الثمانين من الكافي باسناده عن حبّة العرنى قال: خرجت مع أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الظهر- أى ظهر الكوفة- فوقف بوادى السلام كأنّه مخاطب لأقوام فقمت بقيامه حتّى أعييت، ثمّ جلست حتّى مللت، ثمّ قمت حتّى نالنى مثل ما نالنى أوّلا، ثمّ جلست حتّى مللت، ثمّ قمت و جمعت ردائى فقلت: يا أمير المؤمنين إنّى قد أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة، ثمّ طرحت الرّداء ليجلس عليه، فقال عليه السّلام لى: يا حبّة إن هو إلّا محادثة مؤمن أو مؤانسته، قال: قلت: يا أمير المؤمنين و إنّهم لكذلك قال عليه السّلام: نعم و لو كشف لك لرأيتهم حلقا حلقا محتبين يتحادثون، فقلت: أجساد أم أرواح فقال عليه السّلام لى: أرواح، و ما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلّا قيل لروحه: ألحقى بوادى السلام، و انّها لبقعة من جنّة عدن.
و تقدّم هناك أيضا في مرفوعة الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في صفة
أرواح المؤمنين في وادي السلام: إنّه عليه السّلام قال: كأنّى بهم حلق حلق قعود يتحدّثون، هذا.
و قوله عليه السّلام: (شاهدوا من اخطار دارهم أفظع ممّا خافوا و رأوا من آياتها أعظم مما قدّروا) أى شاهد المجرمون من هلكات الدّار الاخرة يعنى نقماتها و عقوباتها أشدّ مما كانوا يخافون منها و يحذرون في الدّنيا، و رأى المتّقون من آثار الفضل و الرّحمة و علامات الثواب و الكرامة أعظم مما كانوا يقدرونها بحسناتهم و يرجون في الدّنيا كما قال عزّ من قائل «فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون» و قال عليه السّلام في الخطبة المأة و الثالثة عشر: انّه ليس شي ء بشرّ من الشرّ إلّا عقابه و ليس شي ء بخير من الخير إلّا ثوابه، و كلّشي ء عمن الدّنيا سماعه أعظم من عيانه، و كلّ شي ء من الاخرة عيانه أعظم من سماعه.
(فكلتا الغايتين مدّت لهم إلى مباءة فأنت مبالغ الخوف و الرّجاء) المراد بالغايتين غايتا المجرمين و المتّقين و أراد بالغاية الموت كما في الحديث الموت غاية المخلوقين، أو أجلهما كما في قوله عليه السّلام في الخطبة الثالثة و السّتين: و إنّ غاية تنقصها اللّحظة و تهدمها الساعة لجديرة بقصر المدّة، و على أي تقدير فنسبة مدّت إلى الغاية من باب المجاز و التّوسّع، إذ بها يحصل الوصول إلى مباءة، و أراد بالمباءة منزل الفريقين من النّار و الجنّة.
فيكون محصّل المعنى أنّ موت المجرمين و موت المتّقين أو أجلهما استجرهم و جذبهم إلى منزل و مرجع تجاوز و كان هو فوق ما يبلغه خوف الخائف أو رجاء راج، فكنّى بفوقه من مبالغ الخوف و الرّجاء عن شدّة هول النار و عظم خطر الجنة و تجاوزهما عن غاية غايات الخوف و الرّجاء.
(فلو كانوا ينطقون بها لعيّوا بصفة ما شاهدوا و ما عاينوا) أى لو كانت لهم قدرة النطق و الاخبار عن تلك المباءة لعجزوا عن وصف ما شاهدوا فيها من مولمات العقاب و كلّت ألسنتهم عن شرح ما عاينوا فيها من مضاعفات الكرامة و الثّواب.
|