فليصدق رائد أهله، و ليحضر عقله، و ليكن من أبناء الآخرة فانّه منها قدم، و إليها ينقلب، فالنّاظر بالقلب العامل بالبصر يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعمله عليه أم له، فإن كان له مضى فيه، و إن كان عليه وقف عنه، فإنّ العامل بغير علم كالسّائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطّريق إلّا بعدا من حاجته، و العامل بالعلم كالسّائر على الطّريق الواضح، فلينظر ناظر أسائر هو أم راجع
اللغة
(الرّائد) المرسل في طلب الماء و الكلاء و (ليحضر عقله) مضارع حضر من باب نصر أو أحضر من باب الأفعال
المعنى
ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا نبّه على جملة من مناقبهم الباهرة و مفاخرهم الزاهرة عقّب ذلك بالمثل المشهور و فرّعه على ما سبق فقال (فليصدق رائد أهله) يعني أنّ المرسل من الحىّ لطلب الماء و الكلاير تادلهم المرعى ينبغي له أن يصدق أهله و لا يكذب لمن أرسله و يبشّر له بها، و أراد بذلك أنّ من يحضر الأئمة عليهم السّلام من النّاس طلبا لاخبارهم و اقتباس أنوارهم و أخذ معالم الدّين عنهم فليصدق من يكل إليه أمره انّنا أهل الحقّ و ينابيع العلم و الحكمة و الأدلّاء (و ليحضر عقله) لاستماع كلامنا حتّى يعرف صحّة ما ادّعينا قال تعالى: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ».
روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن قال: حدّثنا حماد عن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن قول العامة أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: من مات و ليس له إمام مات ميتة جاهليّة، فقال عليه السّلام: الحق و اللَّه، قلت: فان إماما هلك و رجل بخراسان لا يعلم من وصيّه لم يسعه ذلك، قال عليه السّلام: لا يسعه انّ الامام إذا هلك وقعت حجّة وصيّة على من هو معه في البلد و حقّ النّفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم إنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» قلت: فنفر قوم فهلك بعضهم قبل أن يصل فيعلم قال: إنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول: «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».
قلت: فبلغ البلد بعضهم فوجدك مغلقا عليك بابك و مرخى عليك سترك لا تدعوهم إلى نفسك و لا يكون من يدلّهم عليك فبما يعرفون ذلك قال: بكتاب اللَّه المنزل، قلت: فيقول اللَّه عزّ و جلّ كيف قال: أراك قد تكلّمت في هذا قبل اليوم، قلت: أجل، قال عليه السّلام: فذكّر ما أنزل اللَّه في عليّ عليه السّلام و ما قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في حسن و حسين عليهما السّلام و ما خصّ اللَّه به عليا عليه السّلام و ما قال فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم من وصيّته إليه و نصبه إيّاه و ما يصيبهم و إقرار الحسن و الحسين بذلك و وصيّته إلى الحسن و تسليم الحسين له يقول اللَّه: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ».
قلت: فان النّاس تكلّموا في أبي جعفر عليه السّلام و يقولون كيف تخطّت من ولد أبيه من له مثل قرابته و من هو أسنّ منه و قصرت عمّن هو أصغر منه فقال عليه السّلام: يعرف صاحب هذا الأمر بثلاث خصال لا تكون في غيره: هو أولى النّاس بالذي قبله، و هو وصيّه، و عنده سلاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و وصيّته و ذلك عندى لا انازع فيه، قلت: إنّ ذلك مستور مخافة السّلطان قال: لا يكون في ستر إلّا و له حجّة ظاهرة إنّ أبي استودعني ما هناك فلما حضرته الوفاة قال: ادع لي شهودا فدعوت أربعة من قريش فيهم نافع مولى عبد اللَّه بن عمر قال: اكتب: هذا ما أوصى به يعقوب بنيه «وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ» و أوصى محمّد بن عليّ إلى جعفر بن محمّد و أمره أن يكفنّه في برده الّذى كان يصلّى فيه الجمع، و أن يعمّمه بعمامته، و أن يربع قبره و يرفعه أربع أصابع ثمّ يخلى عنه، فقال عليه السّلام اطووه ثمّ قال للشّهود: انصرفوا رحمكم اللَّه، فقلت بعد ما انصرفوا ما كان في هذا يا ابه أن تشهد عليه فقال عليه السّلام: إنّي كرهت أن تغلب و أن يقال إنّه لم يوص فأردت أن تكون لك حجّة فهو الذي إذا قدم الرّجل البلد قال إلى من وصىّ فلان، قيل: فلان، قلت: فان كان أشرك في الوصيّة قال: تسألونه فانّه سيبيّن لكم.
و قد رويت هذه الرّواية لاشتماله على فوايد عظيمة جمّة، و ايضاحه كيفية تكليف من ينفر لطلب الامام و وظيفة الامام و ما يعرف به المحقّ من المبطل، و أنّ اللّازم على النافرين إنذار قومهم بعد تفقّههم في الدّين و معرفتهم بالامام بالبيّنات التي هى من دلالات الامامة، فعلم بذلك أنّ النّافر لطلب الامام بمنزلة الرّائد السّابق ذكره في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام فافهم ذلك و تبصّر ثمّ أمر عليه السّلام الرّائد أمر إرشاد فقال (و ليكن من أبناء الآخرة) و رغبته اليها (فانّه منها قدم و إليها ينقلب) لأنّ الانسان مبدؤه الحضرة الالهيّة و هو سبحانه المبدأ و إليه المنتهى و هو غاية مراد المريدين و منتهى سير السائرين.
ثمّ أشار عليه السّلام إلى فضيلة العلم فقال عليه السّلام (فالناظر بالقلب العامل بالبصر) أى ينبغي لصاحب العقل البصير في عمله أن (يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعمله عليه أم له) أى يعرف قبل أن يعمل أنّ عمله نافع له مقرّب إلى الحضرة الرّبوبية أم مضرّ مبعّد له (فان كان له مضى فيه) و أتى به (و إن كان عليه وقف عنه) و تركه و إنما كان اللّازم على العاقل تحصيل العلم قبل العمل (فانّ العامل بغير علم كالسائر على غير طريق فلا يزيده بعده عن الطريق إلّا بعدا من حاجته) إذ كان بعده عن مطلوبه بقدر بعده عن طريق ذلك المطلوب.
قال طلحة بن زيد: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلّا بعدا، رواه في الكافي.
و فيه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح.
(و) هذا بخلاف العامل العالم فانّ (العامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح) فلا يزيده سرعة سيره إلّا نجاحا بحاجته (فلينظر ناظر) أى النّاظر بالقلب المسبوق ذكره (أسائر هو أم راجع) أقول: و ما ذكرناه في شرح هذه الفقرات أعنى قوله: فالنّاظر بالقلب إلى قوله: أم راجع، إنّما هو مفاد ظاهر كلامه عليه السّلام، و الأشبه عندي أن تكون تلويحا و إشارة إلى وجوب اتباع الأئمّة و الايتمام بهم، فانّه لمّا ذكر أوصاف الأئمة و نعوتهم الكماليّة، عقّب ذلك بما يلزم على الرائد الطّالب للامام، ثمّ فرّع عليه قوله: فالنّاظر بالقلب آه يعنى أنّ صاحب العقل و البصيرة لا بدّ له قبل أن يشرع في عمل أن يعلم أنّ عمله له أم عليه، و العلم موقوف على التّعلّم من الامام العالم و الاقتباس من نوره و الاهتداء به، إذ المتلقّى من غيره: «كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً».
و يؤمى إلى ما ذكرناه تمثيل العامل العالم بالسّائر على الطريق و تمثيل الجاهل بالساير على غير طريق قال تعالى: «قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي».
قال زيد بن عليّ: قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في هذه الآية: أنا و من اتّبعني من أهل بيتي لا يزال الرّجل بعد الرجل يدعو إلى ما أدعوا اليه، و قال تعالى أيضا: «أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
قال البيضاوي و معنى مكبّا أنّه يعثر كلّ ساعة و يخرّ على وجهه لو عورة طريقه و اختلاف أجزائه، و لذلك قابله بقوله: أمّن يمشى سويّا قائما سالما من العثار، على صراط مستقيم مستوى الأجزاء و الجهة، و المراد تمثيل المشرك و الموحّد بالسالكين و الدئيين بالمسلكين، و قيل: المراد بالمكبّ الأعمى فانّه يعتسف فيكبّ و بالسوىّ البصير، انتهى و أما تأويله فالمراد بالمكبّ أعداء آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و بمن يمشى سويّا أولياؤهم عليهم السّلام كما ورد في تفسير أهل البيت
|