و من كلام له عليه السّلام و هو السابع و التسعون من المختار فى باب الخطب
و يستفاد من كتاب الغارات انه قاله بعد أمر الخوارج و النهروان و رواه في البحار عن المسيّب بن نجبة الفزارى نحوه و سنشير إليه إنشاء اللّه. و اللّه لا يزالون حتّى لا يدعوا للّه محرما إلّا استحلّوه، و لا عقدا إلّا حلوّه، و حتّى لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلّا دخله ظلمهم، و نبا به سوء رعيهم، و حتّى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، و باك يبكي لدنياه، و حتّى يكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده: إذا شهد أطاعه، و إذا غاب اغتابه، و حتّى يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم باللّه ظنّا، فإن أتاكم اللّه بعافية فأقبلوا، و إن ابتليتم فاصبروا، فإنّ العاقبة للمتّقين.
اللغة
(محرما) في أكثر النسخ و زان مقعد بفتح الميم و تخفيف الراء و هو ما حرّمه اللّه سبحانه و الجمع محارم، و عن بعضها محرّما بضم الميم و تشديد الرّاء و جمعه محارم و محرمات (و نبأ) منزله به بتقديم النون على الباء اذا لم يوافقه و (رعيهم) في أكثر النسخ بالياء المثناة التحتانية مصدر رعا يرعى بمعنى الحكومة و الامارة، و في بعض النسخ بالتاء الفوقانية مصدر ورع يقال ورع يرع بالكسر فيهما ورعا ورعة و هو التقوى و (ابتليتم) بالبناء على المفعول.
الاعراب
خبر زال محذوف أى لا يزالون على الجور أو ظالمين، و إضافة نصرة أحدكم و نصرة العبد من اضافة المصدر إلى فاعله، و أعظمكم بالنصب خبر كان قدّم على اسمها و هو أحسنكم و يروى برفع الأوّل و نصب الثاني على العكس و الأوّل أنسب
المعنى
اعلم أنّ المقصود بهذا الكلام الاشارة إلى شدّة طغيان بني اميّة و ما يصيب المسلمين منهم من الجور و الظلم و الأذية و صدّر الكلام بالقسم البار تحقيقا و تصديقا فقال (و اللّه لا يزالون) ظالمين (حتّى لا يدعو اللّه محرما إلّا استحلوه) أى عدّوه حلالا و استعملوه استعمال المحلّلات و لا يبالون به، و يشهد بذلك ما صدر منهم من القتل و اتلاف النّفوس الّتي لا تحصى، فاذا كان حالهم في أعظم الكباير ذلك فكيف بغيرها.
(و لا) يتركوا (عقدا إلّا حلّوه) و المراد به إمّا العقد و العهود المعاهدة بينهم و بين الناس فالمراد بحلّها نقضها، و أول ما وقع من ذلك ما كان من معاوية حيث نقض المعاهدة بينه و بين الحسن عليه السّلام، و إمّا العهود المأخوذة عليهم من اللّه تعالى و هو أحكام الدّين و قوانين الشرع المبين فيكون حلّها عبارة عن مخالفتها و عدم العمل بها (و حتّى لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلّا دخله ظلمهم) أراد ببيت المدر ما يعمل من الطين و الجصّ و نحوه في القرى و البلدان، و ببيت الوبر الخباء و الخيم المتخذة من الشعر و الصوف و الوبر و نحوها في البوادى (و نبابه سوء رعيهم) أى ضره و خالفه سوء امارتهم أو سوء تقويهم.
(و حتّى يقوم الباكيان يبكيان باك يبكى لدينه و باك يبكى لدنياه) لعلّ المراد بالباكى لدينه من لم يكن متمكّنا من اظهار معالم الدّين من القيام بوظائف شرع سيّد المرسلين، و بالباكى لدنياه من كان مصابا بنهب الأموال و مبتلى بسوء الحال (و حتّى يكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده إذا شهد أطاعه و إذا غاب اغتابه) الظاهر أنّ المراد بالنصرة في المقامين هو الانتصار فيكون المجرّد بمعنى المزيد و قد مرّ نظير هذه العبارة في الخطبة الثّانية و التّسعين و أوضحنا معناها هنالك.
قال الشّارح المعتزلي: و قد حمل قوم هذا المصدر أى نصرة أحدكم على الاضافة إلى المفعول، و كذلك نصرة العبد و تقدير الكلام حتى يكون نصرة أحد هؤلاء الولاة أحدكم كنصرة سيّد العبد السّى ء الطريقة إياه، و من في الموضعين مضافة إلى محذوف تقديره من جانب أحدهم و من جانب سيّده قال الشّارح: و هذا ضعيف لما فيه من الفصل بين العبد و بين قوله«» إذا شهد أطاعه، و هو الكلام الذي إذا استمر المعنى جعل حالا من العبد لقوله من سيّده.
أقول: لعلّ مراد الشّارح بما ذكره في وجه الضعف من استلزام الفصل هو اختلال نظام الكلام من حيث المعنى لا من حيث التركيب النحوى، فانّ الاتساع في الظروف و شبهها ممّا هو معروف، و الفصل بهما بين اجزاء الكلام بما لا يسوغ لغيرهما مشهور مأثور، نعم اختلال المعنى لا ريب فيه فانّ محصل معنى الكلام على ما ذكره القوم حتى يكون منصورية أحدكم من جانب أحدهم كمنصورية العبد من جانب سيده، و على ذلك فلا يلايمه قوله عليه السّلام: إذا شهد أطاعه «آه» فان ظاهر هذا الكلام يعطى كونه بيانا لحالة نصرة العبد سيّده بمعنى ناصريته له، لا لحالة منصوريته منه فافهم.
(و حتى يكون أعظمكم فيها) أى في هذه الفتنة المفهومة بسياق الكلام (عناء) و جهدا (أحسنكم باللّه ظنّا) لظهور أنّ حسن الظن باللّه من صفات المؤمنين و الأولياء الكاملين، و معلوم أنّ عداوتهم لهم تكون أشدّ، و عنائهم و تعبهم منهم يكون أكثر و آكد (فان أتاكم اللّه بعافية) و نجاة من تلك البلية (فاقبلو) ها بقبول حسن و اشكروا له سبحانه (و إن ابتليتم) و اصبتم بمصيبة (فاصبروا) عليها و تحاملوا بها (فانّ العاقبة للمتقين) و اللّه لا يضيع أجر المحسنين.
تنبيه
اعلم أنّ المستفاد من كتاب الغارات لابراهيم الثقفي على ما حكى عنه في البحار أنّ هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السّلام بعد واقعة النّهروان بعد ما رجع إلى الكوفة و أغار سفيان بن عوف العامرى بأمر معاوية على الانبار على ما تقدّم تفصيله في شرح الخطبة السّابعة و العشرين.
قال صاحب الغارات بعد ما أورد شطرا من الآثار في غارة سفيان: و عن ثعلبة بن يزيد الحماني أنّه قال: بينما أنا في السّوق إذ سمعت مناديا ينادى الصّلاة جامعة، فجئت اهرول و الناس يهرعون فدخلت الرّحبة فاذا علىّ عليه السّلام على منبر من طين مجصّص و هو غضبان قد بلغه أنّ اناسا قد أغاروا بالسّواد، فسمعته يقول: أما و ربّ السّماء و الأرض ثمّ ربّ السّماء و الأرض إنّه لعهد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ الامّة ستغدر بى.
و عن المسيب بن نجبة الفزاري أنّه قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: إنّي قد خشيت أن يدال هؤلاء القوم عليكم، بطاعتهم إمامهم و معصيتكم إمامكم، و بأدائهم الأمانة و خيانتكم، و بصلاحهم في أرضهم و فسادكم في أرضكم، و باجتماعهم على باطلهم و تفرقكم عن حقّكم حتّى تطول دولتهم و حتى لا يدعو اللّه محرما الّا استحلّوه حتى لا يبقى بيت و بر و لا بيت مدر إلّا دخله جورهم و ظلمهم حتى يقوم الباكيان باك يبكى لدينه و باك يبكى لدنياه، و حتّى لا يكون منكم إلّا نافعا لهم أو غير ضارّ بهم، و حتى يكون نصرة أحدكم منهم كنصرة العبد من سيّده إذا شهد أطاعه و إذا غاب سبّه، فان أتاكم اللّه بالعافية فاقبلوا و إن ابتلاكم فاصبروا، فانّ العاقبة للمتقين، هذا.
و أقول: لا يخفى على الناقد الخبير بالأخبار و المطلع على الآثار أنّ ما أخبر به أمير المؤمنين عليه السّلام و أشار إليه في هذا الكلام من عموم جور بنى اميّة، و انتهاكهم المحارم، و استحلالهم الدّماء و اضرارهم بالمسلمين، و سعيهم في اطفاء نور ربّ العالمين، فقد وقع كلّه مطابقا لما اخبربه.
فقد روى في البحار من كتاب سليم بن قيس الهلالي عن أبان عن سليم و عمر ابن أبي سلمة قالا: قدم معاوية لعنه اللّه حاجا في خلافته المدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و صالح الحسن عليه السّلام و في رواية اخرى بعد ما مات الحسن عليه السّلام و استقبله أهل المدينة فنظر فاذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار، فسأل عن ذلك فقيل: إنّهم محتاجون ليست لهم دواب فالتفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة فقال: يا معشر الأنصار مالكم لا تستقبلونى مع اخوانكم من قريش.
فقال قيس و كان سيّد الأنصار و ابن سيدهم: اقعدنا يا أمير المؤمنين ان لم يكن لنا دواب، قال معاوية: فأين النواضح، فقال قيس: أفنيناها يوم بدر و احد و ما بعدهما في مشاهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين ضربناك و أباك على الاسلام حتى ظهر أمر اللّه و أنتم كارهون، قال معاوية: اللّهم غفرا«».
قال قيس: اما إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال سترون بعدى أثرة، ثم قال: يا معاوية تعيّرنا بنواضحنا و اللّه لقد لقيناكم عليها يوم بدر و أنتم جاهدون على اطفاء نور اللّه و أن يكون كلمة الشّيطان هى العليا، ثمّ دخلت أنت و أبوك كرها في الاسلام الذي ضربناكم عليه، فقال معاوية: كأنّك تمنّ علينا بنصرتكم إيّانا فللّه و لقريش بذلك المنّ و الطّول، ألستم تمنّون علينا يا معشر الأنصار بنصرتكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو من قريش و هو ابن عمّنا و منّا فلنا المنّ و الطّول أن جعلكم اللّه أنصارنا و أتباعنا فهداكم بنا.
و قال قيس: إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة للعالمين، فبعثه إلى النّاس كافة و إلى الجنّ و الانس و الاسود و الأحمر و الأبيض، اختاره لنبوّته و اختصّه برسالته فكان أوّل من صدقه و آمن به ابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و أبو طالب يذبّ عنه و يمنعه و يحول بين كفّار قريش و بين أن يروعوه و يؤذوه، و أمر أن يبلغ رسالة ربه فلم يزل ممنوعا من الضيم و الأذى حتى مات عمّه أبو طالب و أمر ابنه بموازرته فوازره و نصره و جعل نفسه دونه في كلّ شدة و ضيق و كلّ خوف، و اختصّ اللّه بذلك عليّا عليه السّلام من بين قريش و أكرمه من بين جميع العرب و العجم، فجمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جميع بني عبد المطلب فيهم أبو طالب و أبو لهب و هم يومئذ أربعون رجلا، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نادمه عليّ عليه السّلام و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجر عمّه أبي طالب فقال: ايّكم ينتدب أن يكون أخى و وزيرى و وصيّي و خليفتي في امّتي و وليّ كلّ مؤمن من بعدي، فأمسك القوم حتى أعادها ثلاثا فقال عليّ عليه السّلام: أنا يا رسول اللّه فوضع رأسه في حجره و تفل في فيه و قال: اللّهم املأ جوفه علما و فهما و حكما، ثمّ قال لأبي طالب: يا أبا طالب اسمع الآن لابنك و أطع فقد جعله اللّه من نبيّه بمنزلة هارون من موسى، و آخا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين عليّ عليه السّلام و بين نفسه.
فلم يدع قيس شيئا من مناقبه عليه السّلام إلّا ذكرها و احتجّ بها، و قال: منهم جعفر ابن أبي طالب الطّيار في الجنّة بجناحين اختصّه اللّه بذلك من بين النّاس، و منهم حمزة سيّد الشّهداء، و منهم فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، فاذا وضعت من قريش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته و عترته الطيّبين فنحن و اللّه خير منكم يا معشر قريش و احبّ إلى اللّه و رسوله و إلى أهل بيته منكم، لقد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاجتمعت الانصار إلى أبي ثمّ قالوا نبايع سعدا فجاءت قريش فخاصمونا بحجّة علىّ و أهل بيته و خاصمونا بحقّه و قرابته فما يعدو قريش أن يكونوا ظلموا الأنصار و ظلموا آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لعمرى ما لأحد من الأنصار و لا لقريش و لا لأحد من العرب و العجم في الخلافة حقّ مع عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و ولده من بعده.
فغضب معاوية و قال يابن سعد عمّن أخذت هذا و عمّن رويته و عمّن سمعته أبوك أخبرك بذلك و عنه أخذته فقال قيس: سمعته و أخذته ممّن هو خير من أبي و أعظم علىّ حقا من أبي، قال: من قال: عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عالم هذه الامّة و صديقها الذي انزل اللّه فيه قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ.
فلم يدع آية نزلت في عليّ عليه السّلام إلّا ذكرها.
قال معاوية: فانّ صديقها أبو بكر و فاروقها عمر و الذى عنده علم الكتاب عبد اللّه بن سلام.
قال قيس: أحقّ هذه الاسماء و أولى بها الذي انزل اللّه فيه: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ.
و الذي نصبه رسول اللّه بغدير خم فقال: من كنت مولاه أولى به من نفسه فعليّ أولى به من نفسه، و قال في غزوة تبوك أنت منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي.
و كان معاوية يومئذ بالمدينة فعند ذلك نادى مناديه و كتب بذلك نسخة إلى أعماله الا برئت الذّمة ممن روى حديثا في مناقب عليّ و أهل بيته و قامت الخطبة في كلّ مكان على المنابر يلعن عليّ بن أبي طالب و البراءة منه و الوقيعة في أهل بيته و اللّعنة لهم بما ليس فيهم عليهم السّلام.
ثمّ انّ معاوية لعنه اللّه مرّ بحلقة من قريش فلمّا رأوه قاموا إليه غير عبد اللّه بن عبّاس، فقال له: يابن عبّاس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلّا لموجدة علىّ بقتالى إيّاكم يوم صفّين، يابن عبّاس إنّ عمّي عثمان قتل مظلوما، قال ابن عبّاس، فعمر بن الخطاب قد قتل قبله مظلوما، قال: فتسلم الأمر إلى ولده و هذا ابنه قال: إنّ عمر قتله مشرك، قال ابن عبّاس: فمن قتل عثمان قال: قتله المسلمون، قال: فذلك أدحض لحجّتك و أحلّ لدمه ان كان المسلمون قتلوه و خذلوه فليس إلّا بحقّ.
قال: فانّا كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ و أهل بيته فكفّ لسانك يابن عبّاس و اربع على نفسك، قال: فتنهانا عن قراءة القرآن قال: لا، قال: فتنهانا عن تأويله قال: نعم، قال: فنقرأه و لا نسأل عمّا عنى اللّه به قال: نعم، قال: فأيّما أوجب علينا قراءته أو العمل به قال: العمل به، قال: فكيف نعمل حتى نعلم ما عنى اللّه بما انزل علينا قال: يسأل ممّن يتأوّله على غير ما تتأوله أنت و أهل بيتك، قال: إنّما نزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان و آل أبي معيط و اليهود و النّصارى و المجوس قال: فقد عدلتنى بهؤلاء قال: لعمرى ما اعدلك بهم إلّا إذا نهيت الامّة أن يعبدوا اللّه بالقرآن و بما فيه من أمر أو نهى أو حلال أو حرام أو ناسخ أو منسوخ أو عام أو خاص أو محكم أو متشابه و ان لم تسأل الامّة عن ذلك هلكوا و اختلفوا و تاهوا، قال: فاقرءوا القرآن و لا ترووا شيئا مما أنزل اللّه فيكم و مما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ارووا ما سوى ذلك.
قال: ابن عباس: قال اللّه تعالى في القرآن: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
قال معاوية: يابن عبّاس اكفنى عن نفسك و كفّ عنّى لسانك و ان كنت لا بدّ فاعلا فليكن سرّا و لا يسمعه أحد علانية، ثمّ رجع إلى منزله فبعث إليه بخمسين ألف درهم و في رواية اخرى مأئة الف درهم ثمّ اشتد البلاء بالامصار كلّها على شيعة عليّ عليه السّلام و أهل بيته و كان أشدّ النّاس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشّيعة و استعمل عليها زيادا ضمّها اليه مع البصرة و جمع له العراقين و كان يتبع الشيعة و هو بهم عالم، لأنّه كان منهم قد عرفهم و سمع كلامهم أوّل شي ء، فقتلهم تحت كلّ كوكب و تحت كلّ حجر و مدر، و أخافهم و قطع الأيدي و الأرجل منهم و صلبهم على جذوع النّخل و سمل أعينهم و طردهم و شردهم حتى انتزحوا على العراق فلم يبق بها أحد منهم إلّا مقتول أو مصلوب أو طريد أو هارب.
و كتب معاوية إلى أعماله و ولاته في جميع الأرضين و الأمصار ألا يجيز و الأحد من شيعة علىّ و لا من أهل بيته و لا من أهل ولايته الذين يروون فضله و يتحدّثون بمناقبه شهادة.
و كتب إلى أعماله: انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبّيه و أهل بيته و أهل ولايته الذين يروون فضله و يتحدّثون بمناقبه فادنوا مجالسهم و أكرموهم و قرّبوهم و شرّفوهم و اكتبوا إلىّ بما يروى كلّ واحد منهم فيه باسمه و اسم أبيه و ممّن هو.
ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في عثمان الحديث و بعث إليهم بالصّلات و الكساء و أكثر لهم القطايع من العرب و الموالى فكثروا في كلّ مصر و تنافسوا في المنازل و الضياع و اتسعت عليهم الدّنيا فلم يكن أحد يأتي عامل مصر من الأمصار و لا قرية فيروى في عثمان منقبة أو يذكر له فضيلة إلّا كتب اسمه و قرب و شفع فمكثوا بذلك ما شاء اللّه.
ثمّ كتب إلى أعماله إنّ الحديث قد كثر في عثمان و فشا في كلّ مصر و من كلّ ناحية فاذا جائكم كتابي هذا فادعوهم إلى الرّواية في أبي بكر و عمر فانّ فضلهما و سوابقهما أحبّ الىّ و أقرّ لعيني و أدحض لحجّة أهل هذا البيت و أشدّ عليهم من مناقب عثمان و فضله، فقرأ كلّ قاض و أمير من ولاية كتابه على النّاس و أخذ النّاس في الرّوايات فيهم و في مناقبهم.
ثمّ كتب نسخة جمع فيها جميع ما روى فيهم من المناقب و الفضايل و أنفذهما إلى عماله و أمرهم بقراءتها على المنابر في كلّ كورة و في كلّ مسجد، و أمرهم أن ينفذوا إلى معلّمي الكتاتيب أن يعلّموها صبيانهم حتى يرووها و يتعلّموها كما يتعلّمون القرآن حتّى علّموها بناتهم و نسائهم و خدمهم و حشمهم فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.
ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحبّ عليّا و أهل بيته فامحوه من الدّيوان و لا تجيزوا له شهادة.
ثمّ كتب كتابا آخر: من اتّهمتموه و لم تقم عليه بيّنة فاقتلوه، فقتلوهم على التّهم و الظّن و الشّبه تحت كلّ كوكب حتّى لقد كان الرّجل يسقط بالكلمة فيضرب عنقه.
و لم يكن ذلك البلاء في بلد أشدّ و لا أكبر منه بالعراق و لا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرّجل من شيعة عليّ و ممّن بقى من أصحابه بالمدينة و غيرها ليأتيه من يثق به فيدخل بيته ثمّ يلقى عليه سترا فيخاف من خادمه و مملوكه فلا يحدّثه حتى يأخذ الأيمان المغلّظة عليه ليكتمنّ عليه.
و جعل الأمر لا يزداد إلّا شدة و كثر عندهم عدوّهم و أظهروا أحاديثهم الكاذبة في أصحابهم من الزور و البهتان فينشأ النّاس على ذلك و لا يتعلّمون إلّا منهم و مضى على ذلك قضاتهم و ولاتهم و فقهاؤهم.
و كان أعظم النّاس في ذلك بلاء و فتنة القرّاء المراءون المتصنّعون الذين يظهرون لهم الحزن و الخشوع و النّسك و يكذبون و يعلمون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، و يدنو لذلك مجالسهم، و يصيبوا بذلك الأموال و القطايع و المنازل حتّى صارت أحاديثهم تلك و رواياتهم في أيدى من يحسب أنّها حقّ و أنها صدق فرووها و قبلوها و تعلّموها و علّموها و أحبّوا عليها و أبغضوا و صارت بأيدى النّاس الذين لا يستحلّون الكذب و يبغضون عليه أهله فقبلوها و هم يرون أنها حقّ و لو علموا أنّها باطل لم يرووها و لم يتديّنوا بها، فصار الحقّ في ذلك الزّمان باطلا، و الباطل حقا، و الصّدق كذبا، و الكذب صدقا.
و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليشملنكم فتنة يربو فيها الوليد، و ينشأ فيها الكبير يجرى الناس عليها و يتخذونها سنّة، فاذا غيّر منها شي ء قالوا أتى النّاس منكرا غيّرت السنّة.
لمّا مات الحسن بن عليّ عليه السّلام لم يزل البلاء و الفتنة يعظمان و يشتدّان فلم يبق وليّ اللّه إلّا خائفا على دمه، و في رواية اخرى إلّا خائفا على دمه أنّه مقتول، و إلّا طريدا و شريدا، و لم يبق عدوّ اللّه إلّا مظهر الحجّة غير مستتر ببدعته و ضلالته الحديث.
ألا لعنة اللّه على القوم الظّالمين و سيعلم الّذين ظلموا آل محمّد صلّى اللّه عليه و عليهم أىّ منقلب ينقلبون.
|