الفصل الاول
ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان و موات، و ساكن و ذي حركات، و أقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته و عظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به، و مسلّمة له، و نعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيّته، و ما ذرء من مختلف (إختلاف) صور الأطيار الّتي أسكنها أخاديد الأرض و خروق فجاجها، و رواسي أعلامها، من ذوات أجنحة مختلفة، و هيئات متباينة، مصرّفة في زمام التّسخير، و مرفرفة بأجنحتها في مخارق الجوّ المنفسح، و الفضاء المنفرج، كوّنها بعد إذ لم تكن في عجائب صور ظاهرة، و ركّبها في حقاق مفاصل محتجبة و منع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في السّماء (الهواء) خفوفا، و جعله يدفّ دفيفا، و نسقها على اختلافها في الأصابيغ، بلطيف قدرته، و دقيق صنعته، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه، و منها مغموس في لون صبغ قد طوّق بخلاف ما صبغ به.
اللغة
(الحيوان) محرّكة جنس الحىّ أصله حييان و قد تكون بمعنى الحياة و المراد هنا الأوّل و (نعق) بغنمه من بابي ضرب و منع نعقا و نعيقا و نعاقا صاح بها و زجرها هكذا في القاموس، و في مصباح اللّغة للفيومى من باب ضرب إلّا أنّ الموجود فيما رأيته من نسخ النهج نعقت بكسر العين. و (رفرف) الطائر بسط جناحيه عند السقوط على الشي ء يحوم عليه لتقع فوقه و (حقاق المفاصل) بكسر الحاء جمع حقّ بالضمّ رأس الورك الّذي فيه عظم الفخذ و رأس العضد الذى فيه الوابلة قال الشّارح المعتزلي: هو مجمع المفصلين من الأعضاء فيكون أعمّ
الاعراب
قوله: و نعقت جملة مستأنفة، و تحتمل أن تكون معطوفة على جملة انقادت و على الأوّل فالضمير في دلائله راجع إلى اللّه، و على الثّاني فهو راجع إلى ما، و قوله: و ما ذرأ، عطف على قوله: ما انقادت، أو على الضّمير في دلائله كما قاله الشّارح البحراني و قوله: من ذوات، بيان للأطيار، و مصرّفة، و مرفرفة منصوبان على الحال، و في بعض النّسخ بالجرّ على أنّهما صفتان لذوات أجنحة. و جملة كوّنها في المعنى تأكيد لجملة ذرأ، و لكمال الاتصال ترك العاطف بينهما، و تحتمل الاستيناف البياني، و قوله: في لون صبغ، بجرّلون مضافا إلى صبغ على الاضافة البيانيّة، و في بعض النّسخ بالجرّ و التّنوين و صبغ على صيغة الماضي المجهول، أى صبغ ذلك المغموس
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشّريفة على غاية بلاغتها و بديع اسلوبها و عجيب نظمها مسوقة لشرح أوصاف الطّير لا سيّما الطّاؤوس، و الغرض منه التّنبيه على عظيم قدرته سبحانه و لطيف صنعته و الاشارة إلى عجايب ما أبدعه سبحانه في الملك و الملكوت، لتنبّه من رقدة الغفلة، و يتحصّل لك كمال المعرفة.
و افتتح عليه السّلام بمطلق دلائل القدرة ثمّ تخلّص إلى ذكر الطّاؤوس فقال (ابتدعهم) أى أبدع الموجودات لا عن مادّة أو على غير مثال سابق (خلقا عجيبا) على أصناف مختلفة و أنواع متكثّرة و هيئات عجيبة و أوصاف بديعة (من حيوان و موات و ساكن و ذى حركات) أى بعضها ذو حيات كأصناف الملائكة و الحيوان و الجنّ و الانس، و بعضها ذو ممات كالشّجر و الجماد و النّبات و غيرها ممّا ليس لها حياة، و بعضها متّصفة بالسكون كالأرض و الجبال، و بعضها متّصفة بالحركة الاراديّة كالانسان و الحيوان و نحوهما، أو طبيعيّة كالماء و النّار و الكواكب و الأفلاك.
(و أقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته و عظيم قدرته ما) أي شاهد صدق و برهان حتّى (انقادت له) أى لذلك الشّاهد (العقول معترفة به) أى بهذا الشّاهد أو باللّه سبحانه (و مسلّمة له) غير جاحدة لحقيّته (و نعقت) أى صاحت (في أسماعنا دلائله) سبحانه (على وحدانيّته) قال الشّارح البحراني استعار لفظ النّعيق في الأسماع لظهور تلك الدّلائل في صماخ العقل (و ما ذرأ) أى أقام من شواهد البيّنات أو نعقت دلائل ما ذرئه و خلقه (من اختلاف صور الأطيار الّتي أسكنها أخاديد الأرض) كالقطا و نحوه ممّا يسكن الشّقوق في الأرض (و خروق فجاجها) كالقبج و شبهه ممّا يسكن الفجاج أى الطرق الواسعة بين الجبلين (و رواسى أعلامها) كالعقبان و الصّقور تأوى في الجبال الرّاسيات أى الثّابتات المستقرّات (من ذوات أجنحة مختلفة و هيئات متباينة) فهذا غراب، و هذا عقاب، و هذا حمام، و هذا نعام خلقها اللّه سبحانه على أشكال مختلفة و طبايع متضادّة.
و لكنّها كلّها على تباين طبائعها و تضادّ أجناسها مقهورة تحت ذلّ القدرة مشدودة بربق الطّاعة (مصرّفة) و متقلّبة (في زمام التسخير) كما قال عزّ من قائل: أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
قال الرّازي: هذا دليل على كمال قدرة اللّه و حكمته: فانّه لولا أنّه تعالى خلق الطّير خلقة معها يمكنه الطّيران فيها لما أمكن ذلك، فانّه أعطى الطّير جناحا يبسطه مرّة و يكسره اخرى، مثل ما يعمل السّابح في الماء، و خلق الهواء خلقة لطيفة رقيقة يسهل خرقه و النّفاذ فيه و لو لا ذلك لما كان الطّيران ممكنا، و جسد الطّير جسم ثقيل و الجسم الثّقيل يمتنع بقاؤه في الجوّ معلّقا من غير دعامة و لا علاقة فوقه، فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجوّ هو اللّه سبحانه.
(و مرفرفة بأجنحتها في مخارق الجوّ المنفسح و الفضاء المنفرج) أى باسطة جناحيها في أمكنتها الّتي تخرق الهواء الواسع فتدخلها قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ».
قيل في تفسيره: أى باسطات أجنحتهنّ في الجوّ عند طيرانها، فانّهنّ إذا بسطنها صففن قوادمها- و يقبضن- أى و يضممنها إذا ضربن بها جنوبهن وقتا بعد وقت للاستظهار به على التّحرّك، و لذلك عدل به إلى صيغة الفعل للتّفرقة بين الأصيل في الطيران و الطّارى عليه- ما يمسكهنّ- في الجوّ على خلاف طبعهنّ- إلّا الرّحمن- الشّامل رحمته كلّشي ء بأن خلقهنّ على اشكال و خصايص هيئاتهنّ للحركة فى الهواء- إنّه بكلّ شي ء بصير- يعلم كيف يخلق الغرائب و يدبّر العجائب.
(كوّنها) كساير المكوّنات و المخلوقات (بعد اذ لم تكن في عجائب صور ظاهرة) و هيئات بديعة غير مستورة (و ركّبها في حقاق مفاصل محتجبة) مستترة باللّحم و الجلد و نحوهما (و منع بعضها بعبالة خلقه) و ضخامة جثّته كالنّعامة و اللّقلق و نحوهما (أن يسمو في السّماء خفوفا) أى يعلو في جهة العلوّ بسرعة (و جعله يدفّ دفيفا) أى يحرّك جناحيه للطّيران قال الفيومى: معناه ضرب بهما دفّيه و هما جنباه، يقال ذلك إذا أسرع مشيا و رجلاه على وجه الأرض ثمّ يستقلّ طيرانا (و نسقها) أى نظمها (على اختلافها في الاصابيغ) و الألوان (بلطيف قدرته و دقيق صنعته) أى جعل كلّا منها على لون خاصّ على وفق حكمته البالغة (فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه) أى بعضها ذو لون واحد كالأسود و الأبيض و الأحمر، فعبر عنه بالغمس في قالب اللّون إشارة إلى إحاطة اللّون الواحد به بجميع أجزائه كما يحيط القالب بالأشياء المصنوعة بالصبّ فيه من نحاس و نحوه.
(و منها مغموس في لون صبغ قد طوّق بخلاف ما صبّغ به) أى بعضها ذو لونين فما زاد كالقبج و الفاختة و البلبل و نحوها ممّا يخالف لون عنقه لون ساير جسده، و الغرض بذلك كلّه حسبما عرفت التّنبيه على عظمة اللّه سبحانه و كمال قدرته و لطيف صنعته و بديع حكمته.
و قد شرحه الصّادق عليه السّلام و أفصح عنه في حديث المفضّل.
قال عليه السّلام: تأمّل يا مفضّل جسم الطّاير و خلقته فانّه حين قدر أن يكون طائرا في الجوّ خفّف جسمه و ادمج خلقه فاقتصر به من القوايم الأربع على اثنتين، و من الأصابع الخمس على أربع، و من منفذين للزّبل و البول على واحد يجمعهما، ثمّ خلق ذا جؤجؤ محدّد يسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه كما جعل السّفينة بهذه الهيئة لتشقّ الماء و تنفذ فيه، و جعل في جناحيه و ذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطّيران، و كسى كلّه الرّيش ليداخله «ليتداخله خ ل» الهواء فيقلّه.
و لما قدّر أن يكون طعمه الحبّ و اللّحم يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقة الأسنان و خلق له منقار صلب«» جاس يتناول به طعمه فلا ينسحج من لقط الحبّ و لا يتقصّف«» من نهش اللّحم، و لما عدم الأسنان و صار يزدرد الحبّ صحيحا و اللّحم غريضا أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغنى به عن المضغ.
و اعتبر بأنّ عجم العنب و غيره يخرج من أجواف الانس صحيحا و يطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر.
ثمّ جعل مما يبيض بيضا و لا يلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران، فانه لو كانت الفرخ في جوفه تمكث حتى تستحكم لأثقلته و عاقته عن النهوض و الطيران فجعل كلّ شي ء من خلقه شاكلا للأمر الذي قدّر أن يكون عليه.
ثمّ صار الطائر السابح في هذا الجوّ يقعد على بيضه فيخرّ له اسبوعا و بعضها اسبوعين و بعضها ثلاثة أسابيع حتى يخرج الفرخ من البيضة، ثمّ يقبل عليه فيزقّه لتتّسع حوصلته للغذاء، ثمّ يربّيه و يغذيه بما يعيش به، فمن كلّفه أن يلفظ الطعم و يستخرجه بعد أن يستقرّ في حوصلته و يغذو به فراخه و لأىّ معنى يحتمل هذه المشقة و ليس بذى رويّة و لا تفكّر و لا يأمل في فراخه ما يأمل الانسان في ولده من العزّ و الرّفد و بقاء الذكر و هذا من فعل هو يشهد بأنه معطوف على فراخه لعلّة لا يعرفها و لا يفكّر فيها و هى دوام النسل و بقاؤه لطفا من اللّه تعالى ذكره.
انظر إلى الدّجاجة كيف تهيج لحضن البيض و التفريخ و ليس لها بيض مجتمع و لا وكر موطى ء بل تنبعث و تنتفخ و تقوقى و تمتنع من الطعم حتّى يجمع لها البيض فتحضنه و تفرخ، فلم كان ذلك منها إلّا لاقامة النّسل، و من أخذها باقامة النسل و لا رويّة و لا فكر لولا أنها مجبولة على ذلك.
و اعتبر بخلق البيضة و ما فيها من المخّ الأصفر الخاثر، و الماء الأبيض الرّقيق فبعضه لينتشر منه الفرخ، و بعضه ليغذي به إلى أن تنقاب عنه البيضة، و ما في ذلك من التدبير، فانه لو كان نشوء «نشق خ ل» الفرخ في تلك القشرة المستحضنة التي لا مساغ لشي ء اليها لجعل معه في جوفها من الغذاء ما يكتفى إلى وقت خروجه منها كمن يحبس في حبس حصين لا يوصل النفقة إلى من فيه فيجعل معه من القوت ما يكتفى به إلى وقت خروجه منه.
فكّر في حوصلة الطائر و ما قدّر له، فانّ مسلك الطعم إلى القانصة ضيّق لا ينفذ فيه الطعام إلّا قليلا قليلا، فلو كان الطائر لا يلقط حبة ثانية حتى تصل الاولى القانصة لطال عليه و متى كان يستوفي طعمه، فانما يختلسه اختلاسا لشدّة الحذر، فجعلت الحوصلة كالمخلاة المعلقة أمامه ليوعى فيها ما أدرك من الطعم بسرعة ثمّ تنفذه إلى القانصة على مهل، و في الحوصلة أيضا خلّة اخرى فانّ من الطائر ما يحتاج إلى أن يزقّ فراخه فيكون ردّه للطعم من قرب أسهل عليه. قال المفضل: فقلت إنّ قوما من المعطلة يزعمون أنّ اختلاف الألوان و الأشكال في الطير إنما يكون من قبيل امتزاج الأخلاط و اختلاف مقاديرها بالمزج و الاهمال.
فقال عليه السّلام: يا مفضّل هذا الوشى الّذي تراه في الطواويس و الدّراج و التدارج على استواء و مقابلة كنحو ما يخطّ بالأقلام كيف يأتي به الامتزاج المهمل على شكل واحد لا يختلف، لو كان بالاهمال لعدم الاستواء و لكان مختلفا.
تأمّل ريش الطير كيف هو فانّك تراه منسوجا كنسج الثّوب من سلوك دقاق قد ألّف بعضه إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط و الشّعرة إلى الشّعرة، ثمّ ترى ذلك النّسج إذا مددته ينفتح قليلا و لا ينشق لتداخله الرّيح فيقلّ الطّائر إذا طار، و ترى في وسط الرّيشة عمودا غليظا معيّنا قد نسج عليه الذي هو مثل الشّعر ليمسكه بصلابته، و هو القصبة التي في وسط الرّيشة، و هو مع ذلك أجوف ليخف على الطّائر و لا يعوقه عن الطيران.
هل رأيت يا مفضّل هذا الطّاير الطّويل السّاقين و عرفت ما له من المنفعة في طول ساقيه فانّه أكثر ذلك في ضحضاح«» من الماء، فتراه لساقين طويلين كانه ربيئة«» فوق يرقب و هو يتأمّل ما يدبّ في الماء، فاذا رأى ممّا يتقوّت به خطا خطوات رقيقا حتّى يتناوله، و لو كان قصير السّاقين و كان يخطو نحو الصّيد ليأخذه تصيب بطنه الماء فيثور و يذعر منه فيتفرّق عنه، فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته و لا يفسد عليه مطلبه.
تأمّل ضروب التّدبير في خلق الطّاير فانّك تجد كلّ طاير طويل السّاقين طويل العنق، و ذلك ليتمكّن من تناول طعمه من الأرض، و لو كان طويل السّاقين قصير العنق لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض، و ربما اعين مع تطول العنق بطول المناقير ليزداد الأمر عليه سهولة له و إمكانا، أفلا ترى أنّك لا تفتّش شيئا من الخلقة إلّا وجدته في «على» غاية الصّواب و الحكمة
|