و من أعجبها خلقا الطّاووس الّذي أقامه في أحكم تعديل، و نضّد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه، و ذنب أطال مسحبه. إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه، و سما به مطلّا على رأسه كأنّه قلع داري عنجه نوتيّه. يختال بألوانه، و يميس بزيفانه.
اللغة:
نضد: رتّب و نظّم. و اشرج: جمع و لاءم. و قصبه: عظامه، و قصبة الاصبع: انملتها، و قصبة المري ء: مجرى الطعام، و قصبة الأنف: عظمه، و قصبة الرئة مجرى النفس. و القلع: شراع السفينة. و المراد بالداري و النوتي الملاح. و عنجه: عطفة. و يميس: يتبختر. و زيفانه: حركانه.
الإعراب:
من أعجبها خبر مقدم، و الطاوس مبتدأ مؤخر، و خلقا تمييز، و مطلا حال.
المعنى:
قلت في شرح الخطبة 108: اللّه تعالى يؤلف، و علي (ع) يخرج، و ها هو الآن يعرض و يخرج رواية خلق الطاوس بأبدع صورة و أروعها، و الغرض بيان قدرته تعالى و عظمته في خلقه.. و لا عجب إذا أبدع الإمام في العرض و الإخراج، فإنه من الراسخين في العلم باللّه و عظمته، و أكثر الخلق تأملا في الكون، و فهما لأسراره، و من هنا جاء وصفه لأي كائن تجسيدا لحقيقة الطاوس و واقعة تماما كما خلقه الله و أوجده.. و بهذه المناسبة أشير الى ما ذكره الفيلسوف الإنكليزي العالمي «برتراند راسل» في كتاب «السلطان» ص 165 طبعة سنة 1962 ترجمة خيري حماد. قال، و هو يتكلم عن سبب انتصار المسلمين: «لقد حافظ علي صهر النبي على حيوية الحماسة الأصلية في نفوس شطر من المؤمنين» أي الذين يسيطر عليهم سلطان العقيدة. و يدفعهم الى التضحية بأنفسهم من أجلها.
(و من أعجبها- أي المخلوقات- خلقا الطاوس إلخ).. كل مخلوق يمتاز بصفة تخصه دون غيره من الكائنات، فالانسان يمتاز بالعقل و العلم، و الأسد بقوة العضلات، و الكلب بحاسة الشم و الوفاء، و الحمار و الثور بالصبر، و النسر بحدة البصر، و العندليب برقة الصوت و عذوبته، و امتاز الطاوس بالشكل الجميل، و الذيل الطويل. (بجناح أشرج قصبه). جمع عظام الأجنحة و عروقها، و رتبها و نظمها و لاءم فيما بينها بدقة و إحكام فائق يستطيع معه أن يتصرف حسب مصلحته، و كما يشاء متى يشاء. و في كتاب «كل شي ء عن الطيور»: «ان أجنحتها تؤدي وظائف كثيرة و مذهلة، الى جانب الطيران.. و لو لا ما فيها من عضلات لتعذر ذلك.. و ثمة وجه شبه بين جناح الطير و مروحة الطائرة.. و لا شك ان دراسة طيران الطيور قد أسهمت في اختراع الطائرة».
(و ذنب طال مسحبه) و جره على الأرض كالغانيات قبل عصر «المنيجوب».
قال مؤلف كتاب «كل شي ء عن الطيور»: «يساعد الذيل الطائر على الطيران و التوقف و الدوران، فهو للطائر كالدفة للطائرة، و الزعنفة الذنبية للسمكة.. و بعض الطيور تتكى ء على ذيولها».
(و اذا درج الى الأنثى نشره من طيه). كل ذكر من أي نوع كان يتضاهى و يتباهى أمام أنثاه. و بالخصوص حين يهتف به نداء الجنس، و يقول علماء الطيور: ان الذي يغني من الطيور هو الذكر، أما لإناث فتكاد لا تغني على الاطلاق و من جملة الأسباب أن يغري الأنثي بغنائه.. و كل طائر يطوي و ينشر ذيله متى شاء تماما كما يفعل الانسان بأنامله سوى ان ذيل الطاوس أجمل الذيول و أطولها و أعرضها بحيث يستطيع أن يجعل منه مظلة على رأسه (كأنه قلع إلخ).. القلع شراع السفينة، و الداري الملاح الذي يتولى الشراع، و يقال: «ما في الدار داري» أي أحد، و مثله النوتي، و انما كرره الإمام بكلمة مرادفة لمجرد الخطابة، و قال بعض الشارحين: المراد بالداري هنا جالب العطر من دارين.. و هو بعيد عن سياق الكلام، و عنجه عطفه (يختال بألوانه) يعجب بها (و يميس) يتبختر (بزيفانه) بتمايله و حركاته. هذه نظرة سريعة الى دقائق هذا الكائن العجيب، و الى النظرات الباقية.
يفضي كإفضاء الدّيكة، و يؤرّ بملاقحة أرّ الفحول المغتلمة في الضّراب. أحيلك من ذلك على معاينة، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده. و لو كان كزعم من يزعم أنّه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في ضفّتي جفونه و أنّ أنثاه تطعم ذلك، ثمّ تبيض لا من لقاح فحل سوى الدّمع المنبجس لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب.
اللغة:
يفضي و يؤر: كناية عن الجنس. و ملاقحة: من التلقيح بالمني، و قيل: المراد به الأعضاء التناسلية، و القصد واحد. و الغلمة: الشبق. و الضراب: الجماع. و تسفحها: ترسلها. و ضفة النهر: جانبه. و ضفة البحر: ساحله.
و تطعم: تذوق. و المنبجس: النابع.
المعنى:
(يفضي كإفضاء الديكة إلخ).. قيل: الطاوس لا يعرف الجنس إطلاقا، و من البداهة ان تكوين البيضة لا يحتاج الى الفحل و منيه، و إن كان و لا بد من التلقيح فإنه يتم بين الطاوس و الطاوسة بأسلوب آخر، و هو أن تدمع عين الذكر فتقف الدمعة في طرف جفنه، و عندئذ تتناولها الأنثى بمنقارها، و تشربها.. و أيضا الغراب لا يعرف الجنس- كما زعم- و يتم اللقاح بالزق أي بوضع منقار كل من الذكر و الأنثى بمنقار الآخر، و بهذا تنتقل نقطة من الماء الذي في قانصة الذكر الى جوف الأنثى، و أشار الإمام (ع) الى هذا التطاعم المزعوم بقوله: «مطاعمة الغراب».
و قد نفى هذا الزعم صراحة بالنسبة الى الطاوس، و قال: انه يؤدي عمل الجنس تماما كالديك، و الشاهد هو الحس و العيان الذي أحال عليه الإمام بقوله: (أحيلك من ذلك على معاينة لا كمن يحيل على ضعف إسناده) أي لا أحيلك على ما تسمع بل على ما يمكنك أن تراه رأي العين، ثم لو سلمنا- جدلا- بأن اللقاح عند الطاوس بالدمعة لا بالفحل و الجنس- كما هو الشأن عند الغراب على ما قيل- لكان أوضح في الدلالة على قدرة اللّه و عظمته.
و في شرح ابن أبي الحديد: ان أمير المؤمنين وصف الطاوس، و هو في الكوفة، و قد رآه هناك «حيث كانت الكوفة يومئذ تجبى اليها ثمرات كل شي ء و تأتي اليها هدايا الملوك من الآفاق».
تخال قصبه مداري من فضّة و ما أنبت عليها من عجيب دارته و شموسه خالص العقيان و فلذ الزّبرجد. فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت: جني جني من زهرة كلّ ربيع. و إن ضاهيته بالملابس فهو كموشيّ الحلل، أو مونق عصب اليمن. و إن شاكلته بالحليّ فهو كفصوص ذات ألوان قد نطّقت باللّجين المكلّل.
اللغة
قيل: المراد بقصبه هنا عظام أجنحته، و قيل: بل عمود الريش، و هو الأرجح، و المداري: جمع المدرى، و هو كالمشط يسرح به الشعر. و العقيان: الذهب الخالص. و فلذ- بكسر الفاء- جمع فلذة أي القطعة. و الزبرجد: حجر كريم. و جني: جمع أو قطف. و الوشي: النقش. و الأناقة: الحسن. و العصب- بسكون الصاد- نوع من الثياب. و الفصوص: الحجارة الكريمة. و نطّقت: من النطاق. و اللجين: الفضة.
الإعراب:
خالص مفعول ثان لتخال
المعنى:
(تخال قصبته مداري من فضة). ينبت ريش الطيور- على وجه العموم- من حفرة صغيرة تحت الجلد، و تترك على سطحه أثرا كالنقطة البيضاء، و تبدو الريشة أول ما تبدو زغبا طريقا كأي نبات، ثم تنمو شيئا فشيئا حتى تكتمل على الشكل المعروف أي شعرات على قلم محوري، و هو الذى أشار اليه الإمام بكلمة القصب. و المراد بالمداري ان الشعرات التي على القلم منسقة كأسنان مشط من فضة (و ما أنبت عليها من عجيب دارته و شموسه خالص العقيان و فلذ الزبرجد) أي ان على الريش رسما له هالات تماما كهالات القمر، و مستدير كالشمس، و فيه خطوط صفراء كالذهب، و أخرى خضراء كالزبرجد. (فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت: جني جني من زهرة كل ربيع). المراد بالجني ما قطف ثمره من ساعته، و زهر الربيع مختلف الأنواع و الألوان، و يقال: يوجد في الفلبين وحدها عشرة آلاف نوع من الزهر، و لو جمعت الأزاهير بشتى أنواعها و ألوانها في مزهرية واحدة، و نسقت تنسيقا فنيا- لكانت شبيهة بالطاووس، أو الطاوس شبيها بها (و ان ضاهيته بالملابس فهو كموشي الحلل، أو كمونق عصب اليمن). احلل جمع حلة، و هو الثوب، و وشيه نقشه و زخرفته، و العصب نوع من الثياب، و المونق منها ما يعجبك و يسرك (و ان شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد نطّقت باللجين المكلل). الحلي من تحلت به المرأة إذا لبست حليا من الذهب و الفضة، و الفصوص أحجار كريمة كاللؤلؤ و الماس، و نطقت باللجين جعلت الفضة لها نطاقا مزينا بالجواهر.
|