و من خطبة له عليه السّلام و هى الحادية و العشرون من المختار في باب الخطب
فإنّ الغاية أمامكم، و إنّ ورائكم السّاعة تحدوكم، تخفّفوا تلحقوا، فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم. قال السيد (ره): إنّ هذا الكلام لو وزن بعد كلام اللّه سبحانه و كلام رسوله بكلّ كلام لمال به راجحا و برز عليه سابقا، فأمّا قوله عليه السّلام تخفّفوا تلحقوا فلا سمع كلام أقلّ منه مسموعا و لا أكثر محصولا، و ما أبعد غورها من كلمة، و أنقع نطفتهامن حكمة، و قد نبّهنا في كتاب الخصائص على عظم قدرها و شرف جوهرها
اللغة
(حدا) الابل و بها حدوا إذا زجرها و غنّى لها ليحثّها على السّير و (الغور) العمق و (النّطفة) ما صفى من الماء و ما (انقع) الماء ما أرواه للعطش و في بعض النّسخ ما انفع بالفاء الموحّدة و لا بأس به.
الاعراب
تحدوكم منصوب المحلّ على الحاليّة، و تلحقوا منصوب بكي مضمرة
المعنى
اعلم أنّ المستفاد من كتاب مطالب السؤول لمحمّد بن طلحة على ما رواه في البحار منه هو أنّ هذا الكلام له عليه السّلام من تمام الخطبة السّابقة حيث قال: و من كلام أمير المؤمنين لقد جاهرتكم العبر و زجرتم بما فيه مزدجر و ما يبلغ عن اللّه بعد رسل السّماء إلّا البشر، ألا و إنّ الغاية أمامكم اه.
و كيف كان فقد اختلف أنظار الشّراح في تفسير هذا الكلام له و بيان المراد منه على أقوال و الأظهر عندى أنّ قوله (فانّ الغاية أمامكم) أراد بالغاية الموت كما صرّح به في الحديث الآخر: الموت غاية المخلوقين، أى نهايتهم التي ينتهون إليها، و لأجل كونه منتهى سير المخلوقين صحّ جعله أمامهم، لأنّهم يسيرون إليه بحركة جبلّية و توجّه غريزي فيكون أمامهم لا محالة.
و أمّا قوله: (و إنّ ورائكم السّاعة) فالمراد بالسّاعة ساعات اللّيل و النّهار سمّيت بها لأنّها تسعى النّاس بها كما سمّيت القيامة ساعة لأنّها تسعى النّاس اليها بحركة جبليّة و توجّه غريزي أيضا، كما يسعى إلى الموت و إنّما جعلها و رائنا مع كونها منبسطة على مدى العمر و انقسامها إلى الماضي و الاستقبال، باعتبار أنّها تحثّ الانسان تحثيثا و تسوقه سوقا حثيثا إلى الغاية التي أمامه أعني الموت كما يدلّ عليه قوله: (تحدوكم) أمّا أنّها تسوقنا إليها فلانّه بانقضائها شيئا فشيئا يكون الانسان بعيدا من المبدأ قريبا إلى المنتهى، فتكون بمنزلة السّايق إليه و من الواضح أنّ الحادي و السّايق من شأنه أن يكون وراء ما يحديه و يسوقه، فبذلك الاعتبار صحّ جعلها ورائنا، و يمكن استنباط ما ذكرته من تقديم الخبر على الاسم، بيان ذلك أنّ كون الموت أمام الانسان لما كان واضحا عند الكلّ أجرى الكلام فيه على الحقيقة بتقديم ما حقّه التّقديم و تأخير ما حقّه التّاخير حيث قال: فانّ الغاية أمامكم.
و أمّا كون السّاعة في الوراء لمّا كان خفيّا بالاعتبار الذي ذكرناه من انقسامها إلى الماضي و الاستقبال، و كان نظر الجاهل دائما إلى ما بقي من عمره و إلى ما هي أمامه من السّاعات الباقية غير ملتفت إلى ما مضى، لا جرم نبّه على أنّ ما تحسبونه أمامكم فهي في الحقيقة ورائكم باعتبار أنّها تحدوكم، فلذلك قدّم الخبر على الاسم و قال: إنّ ورائكم السّاعة لمزيد الاهتمام به و زيادة إشعاره بهذا المعنى فافهم و إذا عرفت ما ذكرناه فلنذكر ما ذكره الشّراح في المقام فأقول: قال الشّارح البحراني في شرح قوله: إنّ الغاية أمامكم: لما كانت الغاية من وجود الخلق أن يكونوا عباد اللّه، كما قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، و كان المقصود من العبادة إنّما هو الوصول إلى جناب عزّته و الطيران في حظاير القدس بأجنحة الكمال مع الملائكة المقرّبين، و كان ذلك هو غاية الانسان المطلوبة منه و المقصودة له و المأمور بالتّوجّه إليها بوجهه الحقيقي، فان سعى لها سعيها أدركها و فاز بحلول جنّات النّعيم، و إن قصر في طلبها و انحرف صراط السّواء الموصل إليها، كان في جهنّم من الهاوين، و كانت غايته فدخلها مع الدّاخلين، فاذن ظهر أنّ غاية كلّ إنسان أمامه إليها يسير و بها يصير.
و في شرح: و إنّ ورائكم السّاعة تحدوكم: إنّ المراد بالسّاعة القيامة الصّغرى و هي ضرورة الموت.
فأمّا كونها ورائهم فلأنّ الانسان لما كان بطبعه ينفر من الموت و يفرّ منه و كانت العادة في الهارب من الشي ء أن يكون ورائه مهروب منه، و كان الموت متأخّرا عن وجود الانسان و لا حقا تأخرا و لحوقا عقليّا، أشبه المهروب منه المتأخّر اللّاحق هربا و تأخّرا و لحوقا حسيّا، فلا جرم استعير لفظ الجهة المحسوسة و هي الوراء.
و أمّا كونها تحدوهم فلأنّ الحادي لمّا كان من شأنه سوق الابل بالحداء، و كان تذكّر الموت و سماع نوادبه مقلقا مزعجا للنّفوس إلى الاستعداد لامور الآخرة و الاهبة للقاء اللّه سبحانه، فهو يحملها على قطع عقبات طريق الآخرة كما يحمل الحادي الابل على قطع الطريق البعيدة الوحرة، لا جرم أشبه الحادي فأسند الحداء إليه انتهى و أقول: أمّا ما ذكره في شرح الفقرة الاولى، ففيه أنّ الظاهر من صدر كلامه حسبما يستفاد من التّمسك بالآية أيضا هو أنّه جعل الغاية في كلامه عليه السّلام بمعنى العلّة الغائية، و عليه فلا يستقيم جعل الجحيم غاية للانسان، بل و لا الجنّة أيضا إذا لغرض من خلقة الانسان هو العبوديّة كما هو نصّ الآية الشّريفة، و أمّا المثوبة و العقوبة فهما متفرّعان عليها امتثالا و عصيانا، فلا يصحّ جعلهما غاية، و أنّ جعل الغاية بمعنى النّهاية فكونهما غاية بهذا المعنى صحيح إلّا أنّه لا حاجة معه إلى الاستدلال بالآية و إلى ما مهدّه من المقدّمة مضافا إلى منافاته بنصّ قوله: و كان ذلك هو غاية الانسان المطلوبة منه.
و أمّا ما ذكره في شرح الفقرة الثّانية ففيه أنّ جعل السّاعة بمعنى الموت إمّا باعتبار أنّها حقيقة فيه عرفا أو شرعا من دون ملاحظة المناسبة بينه و بين معناها اللغوي، فيتوجّه عليه أوّلا منع الحقيقة العرفيّة أو الشرعية، و ثانيا منع عدم ملاحظة المناسبة على تقدير تسليم الحقيقيّة بأحد الوجهين، و إمّا باعتبار أنّ إطلاقها عليه بملاحظة أنّ النّاس يسعى إليه حسبما ذكرناه سابقا فيتوجّه عليه أنّ إطلاقها عليه باعتبار أنّ النّاس يسعى إليه مع وصفه بكونه في الوراء باعتبار أنّ النّاس يهرب منه حسبما قرّره، لا يخفى ما فيه من السّماجة فافهم جيّدا.
و قال الشّارح المعتزلي: غاية المكلفين هي الثّواب و العقاب فيحتمل أن يكون أراد ذلك، و يحتمل أن يكون أراد بالغاية الموت، و إنّما جعل ذلك أمامنا لأنّ الانسان كالسائر إلى الموت أو كالسائر إلى الجزاء، فهما أمامه أى بين يديه،ثمّ قال: و إنّ ورائكم الساعة تحدوكم أى تسوقكم، و إنّما جعلها ورائنا لأنّها إذا وجدت ساقت النّاس إلى موقف الجزاء كما يسوق الرّاعي الابل، فلمّا كانت سائقة لنا كانت كالشي ء يخفر الانسان من خلفه و يحرّكه من ورائه إلى جهة ما بين يديه انتهى و فيه أنّ الجملة الخبريّة على ما حقّقها الأصوليّون حقيقة فيما تلبّس المبتدأ بالخبر في الحال، و استعمالها فيما لم يتلبّس به بعد مجازا إتّفاقا لا يصار إليه إلّا بقرينة، و على ذلك فجعل كون السّاعة ورائنا بمعنى أنّها تكون ورائنا إذا وجدت مجاز لا ينبغي ارادته إلّا بقرينة ظاهرة، و هي في المقام مفقودة.
و قال القطب الرّاوندي على ما حكى عنه الشّارح المعتزلي: معنى قوله: فانّ الغاية أمامكم، يعني أنّ الجنّة و النّار خلفكم، و معنى قوله: و رائكم السّاعة أى قدامكم انتهى.
و هو أردء ما ذكروه في شرح المقام أمّا أوّلا فلانّ الوراء بمعنى القدام و إن ورد إلّا أنّ الأمام بمعنى الخلف لم يسمع من أحدكما ذكره الشّارح المعتزلي و ثانيا على تقدير تسليم وروده بذلك المعنى أنّ التّعبير عن الخلف بالأمام و عن القدام بالوراء مع ظهورهما في العكس ممّا يأبي عنه الذّوق السّليم و الطبع المستقيم، فيجب تنزيه كلام الامام عليه السّلام الذي هو امام الكلام عنه.
و ثالثا أنّه إذا جعل المراد بالغاية الجنّة و النّار فلا داعي إلى حمل الأمام بمعنى الخلف كما هو ظاهر، بل إرادة المعنى الظاهر الذي هو نقيض الخلف أولى حسبما ذهب إليه الشّارح المعتزلي و البحراني على ما قدّمنا ذكره هذا.
و أمّا قوله: (تخفّفوا تلحقوا) فأصله أنّ الرّجل يسعى و هو غير مثقل بما يحمله فيكون أجدر أن يلحق الذين سبقوه لأنّ التّخفيف و قطع العلايق في الاسفار سبب السّبق و الفوز بلحوق السّابقين و كذلك الزهد فى الدنيا و تخفيف المؤنة فيها توجب اللّحوق بالسّالفين المقرّبين، و الوصول إلى درجات أولياء اللّه الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون و ما أنسب بالمقام ما رواه المحدّث الجزائري عن سلمان الفارسي، و هو أنّه لمّا بعث إلى المداين ركب حماره وحده، فاتّصل بالمداين خبر قدومه، فاستقبله أصناف النّاس على طبقاتهم، فلمّا رأوه قالوا: أيّها الشّيخ أين خلّفت أميرنا قال: و من أميركم قالوا: الأمير سلمان الفارسي صاحب رسول اللّه، فقال لا أعرف الأمير و أنا سلمان و لست بأمير، فترجلوا له و قادوا إليه المراكب و الجنائب، فقال: إنّ حماري هذا خير لي و أوفق، فلمّا دخل البلد أرادوا أن ينزلوه دار الامارة قال: و لست بأمير، فنزل على حانوت في السّوق، و قال ادعوا إليّ صاحب الحانوت، فاستأجر منه و جلس هناك يقضي بين النّاس و كان معه وطاء يجلس عليه، و مطهرة يتطهّر بها للصّلاة، و عكازة يعتمد عليها في المشى، فاتّفق أنّ سيلا وقع في البلد فارتفع صياح النّاس بالويل و العويل يقولون: وا أهلاه و وا ولداه و وامالاه، فقام سلمان و وضع وطائه في عاتقه و أخذ مطهرته و عكازته بيده، و ارتفع على صعيد، و قال: هكذا ينجو المخفّفون يوم القيامة.
و روى«» عن الشّيخ و رام طاب ثراه أنّه لمّا مرض سلمان مرضه الذي مات فيه أتاه سعد يعوده، فقال: كيف أنت يا عبد اللّه فبكى فقال: ما يبكيك فقال: و اللّه ما أبكي حرصا على الدّنيا و لا حبّالها، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عهد إلينا عهدا فقال: ليكن بلاغ أحدكم من الدّنيا كزاد راكب، فأخشى أن نكون قد جاوزنا أمره و هذه الأساور«» حولي، و ليس حوله إلّا مطهرة فيها ماء، و إجانة و جفنة.
قال: و دخل رجل عليه فلم يجد في بيته إلّا سيفا و مصحفا، فقال له: ما في بيتك إلّا ما أرى قال: إنّ أمامنا عقبة كئودا، و إنّا قدّمنا متاعنا إلى المنزل أوّلا فأوّلا، و قال: وقع الحريق فأخذ سلمان سيفه و مصحفه، و قال: هكذا ينجو المخفّفون.
ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا أمرهم بالتخفيف و حثّهم على قطع العلايق علّله بقوله: (فانّما ينتظر بأوّلكم آخركم) يعني إنّما ينتظر بالبعث الأكبر و القيامة الكبرى للذين ماتوا أوّلا وصول الباقين و موتهم.
و تحقيق ذلك الانتظار على ما حقّقه الشّارح البحراني أنّه لمّا كان نظر العناية الآلهيّة إلى الخلق نظرا واحدا و المطلوب منهم واحدا و هو الوصول إلى جناب عزّة اللّه الذي هو غايتهم، أشبه طلب العناية الإلهيّة وصول الخلق إلى غايتهم انتظار الانسان لقوم يريد حضور جميعهم و ترقبه بأوائلهم و وصول أواخرهم، فأطلق عليه لفظ الانتظار على سبيل الاستعارة، و لمّا صوّر ههنا صورة انتظارهم لوصولهم جعل ذلك علّة لحثّهم على التخفيف و قطع العلايق، و لا شكّ أنّ المعقول لاولى الألباب من ذلك الانتظار حاثّ لهم أيضا على التّوجه بوجوه أنفسهم إلى اللّه و الاعراض عمّا سواه
|