فهى تبهج بزينة رياضها، و تزد هي بما ألبسته من ريط أزاهيرها، و حلية ما سمّطت به من ناضر أنوارها، و جعل ذلك بلاغا للأنام، و رزقا للأنعام، و خرق الفجاج في آفاقها، و أقام المنار للسّالكين في جوادّ طرقها.
اللغه
(بهج) يبهج من باب منع سرّ و فرح و في بعض النسخ بضمّ الهاء من باب شرف أى حسن و (تزدهى) افتعال من الزّهو و هو الكبر و الفخر و (البسته) في بعض النسخ بالبناء على الفاعل و في بعضها بالبناء على المفعول و (الريط) جمع ريطة بالفتح فيها و هي كلّ ملأة غير ذات لفقين اى قطعتين كلها نسج واحد و قطعة واحدة، أو كلّ ثوب رقيق ليّن و (الأزاهير) جمع أزهار جمع زهرة بالفتح و هي النبات أو نورها و قيل الأصفر منه و أصل الزهرة الحسن و البهجة و (الحلية) ما يتزيّن به من مصوغ الذهب و الفضة و المعدنيات و (سمّطت) بالسين المهملة على البناء للمفعول من باب التفعيل أى علّقت و في بعض النسخ الصحيحة بالشين المعجمة من الشمط محرّكة و هو بياض الرأس يخالط سواده فمن النبات ما يخالط سواده النور الأبيض و في القاموس شمطه يشمطه خلطه و الاناء ملأه و النخلة انتشر بسرها و الشجر انتشر ورقه و الشميط من النبات ما بعضه هائج و بعضه أخضر و (البلاغ) ما يبتلغ به و يتوسل إلى الشي ء المطلوب و (الفج) الطريق الواسع بين الجبلين و الفجاج جمعه و (الجادّة) وسط الطريق و معظمه
المعنی
(فهى) أى الأرض (تبهج) و تفرح (بزينة رياضها) و مستنقع مياهها (و تزدهى) و تفتخر (بما البسته من ريط أزاهيرها) أى بأشجار البست الأرض إيّاها لباس انوارها و على ما فى بعض النسخ من كون البسته بصيغة المجهول فالمعنى أنّ الأرض تفتخر بما اكتسبت به من النبات و الأزهار و الأنوار فيكون لفظة من على هذا بيانا لما كما أنها على الأوّل صلة لألبسته، و الثاني أظهر (و) تتكبّر ب (حلية ما سمّطت) و علّقت (به من ناضر أنوارها) أى أنوارها المتصفة بالنضرة و الحسن و الطراوة (و جعل) اللّه سبحانه (ذلك) أى ما انبت من الأرض (بلاغا للأنام) يبتلغون به و يتوسلون إلى مقاصدهم و مطالبهم (و رزقا للأنعام) تأكل منه و ترعى عند جوعها و حاجتها قال تعالى: وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ.
(و خرق الفجاج فى آفاقها) أى خلق الطرق على الهيئة المخصوصة بين الجبال فى نواحى الأرض و أطرافها قال سبحانه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ و قال: وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً. (و أقام المنار للسالكين فى جواد طرقها) و المراد بالمنار العلامات التي يهتدى بها السالكون من الجبال و التلال أو النجوم، و الأول أظهر بملاحظة المقام و اعلم أنّ هذا الفصل لمّا كان متضمّنا لبعض ما في عالم العناصر من دلائل القدرة و بدائع الحكمة و عجائب الصنعة و ما أودع اللّه سبحانه فيه من المنافع العامة و الفوائد التّامة لا جرم أحببت تذييل المقام بهدايات فيها دراية على مقتضى الترتيب الذّكري الّذي جرى عليه هذا الفصل فأقول: و باللّه التكلان و هو المستعان
الهداية الاولى فى دلايل القدرة في الأرض
و المنافع المعدّة فيها للخلق و هى كثيرة لا تحصى لكنّا نقتصر على البعض بما ورد فى الكتاب و أفاده أولو الألباب فمنها أنه سبحانه جعلها مدحوّة على الماء و بارزة منه مع اقتضاء طبعها الغوص فيه و إحاطة البحار بها، و ذلك لحكمة الافتراش و أن يكون بساطا للنّاس كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً و قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً و قال: اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً.
فلو كانت غائصة فى الماء لبطل تلك الحكمة فأخرج سبحانه بعض جوانبها من الماء كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشا و مهادا و منها- كونها ساكنة فى حيزها الطبيعى و هو وسط الأفلاك لأنّ الأثقال بالطبع تميل إلى تحت كما أنّ الخفاف بالطبع تميل إلى فوق، و الفوق من جميع الجوانب مايلي السماء و التحت مايلي المركز، فكما أنه يستبعد حركة الارض فيما بيننا إلى جهة السماء فكذلك يستبعد هبوطها في مقابلة ذلك لأنّ ذلك الهبوط صعود أيضا إلى السماء فاذن لاحاجة فى سكون الأرض و قرارها إلى علاقة من فوقها و لا دعامة من تحتها، بل يكفي في ذلك ما أعطاها فالقها، و ركز فيها من الميل الطبيعى إلى الوسط الحقيقى بقدرته إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.
و منها- توسّطها فى الصلابة و اللّين: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها.
اذ لو كانت في غاية الصلابة كالحجر لكان المشى و النوم عليها ممّا يولم البدن و لتعذرت الزراعة عليها و لا متنع إجراء الأنهار و حفر الآبار فيها و لم يمكن اتخاذ الأبنية و الآنية منها لتعذّر تركيبها، و لو كانت فى غاية اللين بحيث تغوص فيه الرّجل كالماء لا متنع الاستقرار و الافتراش و النوم و المشى و استحال الزرع و الحرث و منها أنه جعل لونها الغبراء لتكون قابلة للانارة و الضياء إذ ما كان فى غاية اللّطافة و الشفّافية لا يستقرّ النور عليه، و ما كان كذلك فانه لا يتسخّن بالشمس فكان يبرد جدّا و لا يمكن جواره، هكذا قال الرازى و صدر المتألهين. و الأولى ما فى شرح البحرانى «قد» من أنها لو كانت مخلوقة في غاية الشفافية و اللطافة فامّا أن تكون مع ذلك جسما سيّالا كالهواء لم يتمكن من الاستقرار عليه، أو يكون جسما ثابتا صقيلا براقا احترق الحيوان و ما عليها بسبب انعكاس أشعة الشمس عليها كما يحرق القطن إذا قرب من المرايا المحاذية للشّمس و البلور، لكنها خلقها غبراء ليستقرّ النّور على وجهها فيحصل فيها نوع من السخونة، و خلقها كثيفة لئلّا تنعكس الأشعة منها على ما فيها فتحرقه، فصارت معتدلة في الحرّ و البرد تصلح أن تكون فراشا و مسكنا للحيوان و منها كونها يتولّد منها النبات و الحيوان و المعادن وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ.
و منها أن يتخمّر الرّطب بها فيحصل التماسك في أبدان المركبات و منها اختلاف بقاعها فمنها أرض رخوة و صلبة و رملة و سبخة و عذبة و حزنة و سهلة، و قال تعالى وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ.
و منها اختلاف ألوانها فأحمر و أبيض و أسود و رمادي اللّون و أغبر، قال سبحانه وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ و منها انصداعها بالنبات وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ و منها كونها خازنة للماء المنزّل من السماء وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ.
و منها إجراء العيون و الأنهار فيها أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً.
و منها أنّ لها طبع السماحة و الجود تدفع إليها حبّة واحدة و هي تردّها عليك سبعمائة كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ.
و منها موتها في الشّتآء و حياتها فى الرّبيع فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ. و منها انبثات الدّواب المختلفة فيها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما.
و منها كونها مبدء الخلايق و منشأها مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى .
و جعل ظهرها مقرّ الأحيا و بطنها موطن الأموات أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً.
و منها ما فيها من النباتات المختلفة الألوان و الأنواع و المنافع وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
فبعضها للانسان و بعضها للحيوان كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ.
و ما للانسان بعضها طعام و بعضها إدام و بعضها فواكه و بعضها دواء و بعضها لباس كالقطن و الكتان و منها ما فيها من الأحجار المختلفة، فبعضها للزينة كالدّرّ و الياقوت و العقيق و نحوها، و بعضها للحاجة كما تستخرج منه النّار، فانظر الى قلّة الأوّل و كثرة الثاني، ثمّ انظر إلى قلّة المنفعة بذلك الخطير و كثرة المنفعة بذلك الحقير إلى غير ذلك من آثار القدرة و دلائل الصنع و العظمة و العجائب و الغرائب التي يعجز عن إدراك معشارها عقول البشر، و يحتار فى البلوغ إليها الأذهان و الفكر
الثانية في انفجار الينابيع و العيون من الأرض
المشار إليه بقوله عليه السّلام: فجر ينابيع الأرض من عرانين انوفها، فأقول: ظاهر قوله سبحانه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ و قوله: أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ.
هو كون ماء العيون و الأنهار هو الماء المنزل من السحاب، و به صرّح جمع من الأصحاب فى باب طهورية الماء بقول مطلق بعد الاستدلال عليها بقوله سبحانه: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً.
و يدلّ عليه ما رواه علىّ بن إبراهيم فى تفسيره قال فى رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ.
فهي الأنهار و العيون و الآبار، و محصّل ذلك أنّ القادر المختار أنزل بقدرته الكاملة و حكمته البالغة من السّماء ماء فأسكنه فى الأرض و أخرج منه فى العيون و الآبار و القنى و الأنهار ما اقتضاه الحكمة و التدبير فى بقاء نوع الانسان و الحيوان و إصلاح النّباتات و الزراعات و غير ذلك من وجوه الحاجات، و إليه ذهب أبو البركات البغدادى حيث قال: إنّ هذه المياه متولّدة من أجزاء مائية متولّدة من أجزاء متفرّقة في ثقب أعماق الأرض و منافذها إذا اجتمعت، و يدلّ عليه أنّ مياه العيون و الأنهار تزيد بزيادة الثلوج و الأمطار و قالت الحكماء: إنّ البخار إذا احتبس في داخل من الأرض لما فيها من ثقب و فرج يميل إلى جهة فيبرد بها فينقلب مياها مختلطة بأجزاء بخارية، فاذا كثر لوصول مدد متدافع إليه بحيث لا تسعه الأرض أوجب انشقاق الأرض و انفجرت منه العيون. أمّا الجارية على الولاء فهى إما لدفع تاليها سابقها أولا نجذابه إليه لضرورة عدم الخلاء بأن يكون البخار الذي انقلب ماء و فاض إلى وجه الأرض ينجذب إلى مكانه ما يقوم مقامه لئلّا يكون خلاء فينقلب هو أيضا ماء و يفيض، و هكذا استتبع كلّ جزء منه جزء آخر و أما العيون الرّاكدة فهي حادثة من أبخرة لم تبلغ من قوّتها و كثرة موادّها أن يحصل منها معاونة شديدة أو يدفع اللّاحق السابق و أما مياه القنى و الآبار فهى متولّدة من أبخرة ناقصة القوّة عن أن يشقّ الأرض، فاذا ازيل ثقل الأرض عن وجهها صادفت منفذا تندفع إليه بأدنى حركة فان لم يجعل هناك مسيل فهو البئر، و إن جعل فهو القناة، و نسبة القنا إلى الآبار كنسبة العيون السيالة إلى الراكدة، و إنما كثر تفجّر العيون فى الجبال و الأماكن المرتفعة لشدّة احتقان الأبخرة تحتها بالنسبة إلى ساير الأماكن الهابطة الرّخوة، فانّ الأرض إذا كانت رخوة نفضت «نفذت خ ل» فلا يكاد يجتمع منه قدر ما يعتدّ به و قال الشيخ: هذه الأبخرة إذا انبعث عيونا أمدّت البحار بصبّ الأنهار إليها ثمّ ارتفع من البحار و البطائح و الأنهار و بطون الجبال خاصة أبخرة اخرى، ثمّ قطرت ثانيا إليها فقامت بدل ما يتحلّل منها على الدّور دائما
الثالثة
في حكمة خلق الهواء المشار إليها بقوله: و أعدّا لهواء متنسما لساكنها، فأقول: فيه نفع عظيم للانسان و الحيوان، لأنّه من ضروريّات العيش لأنها مادّة النفس الذى لو انقطع ساعة عن الحيوان لمات، و قيل هنا: إنّ كلّ ما كانت الحاجة إليه أشدّ كان وجدانه أسهل و لمّا كان احتياج الانسان إلى الهواء أعظم الحاجات حتّى لو انقطع عنه لحظة لمات لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كلّ شي ء، و بعد الهواء الماء، فانّ الحاجة إليه أيضا شديدة فلا جرم سهل أيضا وجدان الماء، و لكن وجدان الهواء أسهل لأنّ الماء لا بدّ فيه من تكلّف الاغتراف بخلاف الهواء فانّ الآلات المهيّاة لجذبه حاضرة أبدا ثمّ بعد الماء الحاجة إلى الطعام شديدة و لكن دون الحاجة إلى الماء فلا جرم كان تحصيل الطعام أصعب من تحصيل الماء و بعد الطعام الحاجة إلى تحصيل المعاجين و الادوية النّادرة قليلة فلا جرم عزّت هذه الأشياء، و بعد المعاجين الحاجة إلى أنواع الجواهر من الياقوت و الزبرجد نادرة جدّا فلا جرم كانت فى نهاية العزّة، فثبت أنّ كلّ ما كان الاحتياج إليه أشدّ كان وجدانه أسهل و كلّ ما كان الحاجة إليه أقلّ كان وجدانه أصعب، و ما ذاك إلّا رحمة منه سبحانه على العباد قال الشاعر:
- سبحان من خصّ القليل بعزّةو النّاس مستغنون عن أجناسه
- و أذّل أنفاس الهواء و كلّ ذى نفس لمحتاج الى انفاسه
الرابعة في دلايل القدرة و براهين الجلال و الجبروت
في خلق السّحاب و المطر و البرد و الثلج و الرّعد و البرق و الصواعق قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ.
قال الرازيّ: في كونها خوفا و طمعا وجوه الاول عند لمعان البرق يخاف وقوع الصّواعق و يطمع في نزول الغيث الثاني أنه يخاف من المطر من له فيه ضرر كالمسافر و كمن في خزينته التمر و الزبيب و يطمع فيه من له نفع الثالث أنّ كلّ شي ء يحصل فى الدنيا فهو خير بالنسبة إلى قوم و شرّ بالنسبة إلى آخر فكذلك المطر خير في حقّ من يحتاج في أوانه و شرّ في حقّ من يضرّه ذلك إما بحسب المكان أو بحسب الزّمان ثمّ اعلم أنّ حدوث البرق دليل عجيب على قدرة اللّه سبحانه و بيانه أنّ السحاب لا شك أنه جسم مركب من أجزاء مائية و أجزاء هوائية «نارية ظ» و لا شكّ أنّ الغالب عليه الاجزاء المائية و الماء جسم بارد رطب و النّار جسم حارّ يابس، فظهور الضّد من الضدّ التام على خلاف العقل فلا بدّ من صانع مختار يظهر الضدّ من الضدّ فان قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنّ الرّيح احتقن في داخل جرم السحاب و استولى البرد على ظاهره فانجمد السطح الظاهر منه، ثمّ إنّ ذلك الرّيح يمزقه تمزيقا عنيفا فيتولّد من ذلك التمزيق الشّديد حركة عنيفة و الحركة العنيفة موجبة للسخونة و هي البرق فالجواب أنّ كلّ ما ذكرتموه خلاف المعقول من وجوه: الأوّل أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال أينما حصل البرق فلا بدّ و أن يحصل الرعد و هو الصوت الحاصل من تمزّق السحاب و معلوم أنه ليس الأمر كذلك فانه كثيرا ما يحدث البرق القوى من غير حدوث الرعد الثّانى أنّ السخونة الحاصلة بسبب قوّة الحركة مقابلة بالطبيعة المائية الموجبة للبرد، و عند حصول هذا المعارض القوى كيف تحدث النّارية بل نقول: النيران العظيمة ينتفي لصبّ الماء عليها و السّحاب كلّه ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية الثالث من مذهبكم أنّ النار الصرفة لا لون لها البتة فهب أنه حصلت النارية بسبب قوّة المحاكة الحاصلة في أجزاء السحاب، لكن من أين حدث ذلك اللّون الأحمر، فثبت أنّ السبب الذي ذكروه ضعيف و أنّ حدوث النّار الحاصلة فى جرم السحاب مع كونه ماء خالصا لا يمكن إلّا بقدرة القادر الحكيم و قال في قوله: و ينشى ء السحاب الثقال: السحاب اسم الجنس و الواحدة سحابة، و الثقال جمع ثقيلة أى الثقال بالماء و اعلم أنّ هذا أيضا من دلائل القدرة و العظمة، و ذلك لأنّ هذه الأجزاء المائية إمّا يقال إنّها حدثت في جوّ الهواء أو يقال إنها تصاعدت من وجه الأرض فان كان الأول وجب أن يكون حدوثها باحداث محدث حكيم قادر و هو المطلوب و إن كان الثاني و هو أن يقال إنّ تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض فلمّا وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت فثقلت و رجعت إلى الأرض فنقول: هذا باطل، و ذلك لأنّ الأمطار مختلفة، فتارة تكون القطرات كبيرة، و تارة صغيرة، و تارة تكون متقاربة، و اخرى تكون متباعدة، و تارة تدوم مدّة نزول المطر زمانا طويلا، و تارة قليلا، فاختلاف الأمطار في هذه الصفات مع أنّ طبيعة الأرض واحدة و طبيعة الأشعّة المسخنة للبخارات واحدة لا بدّ و أن يكون بتخصيص الفاعل المختار و أيضا فالتجربة دلّت على أنّ للدّعاء و التضرّع في نزول الغيث أثرا عظيما و لذلك شرعت صلاة الاستسقاء فعلمنا أنّ المؤثّر فيه قدرة الفاعل لا الطبيعة الخاصة و في الصافي في قوله: وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه سئل عن الرعد فقال: ملك موكّل بالسحاب معه مخاريق من النّار يسوق بها السحاب و فى الفقيه روى أنّ الرّعد صوت ملك أكبر من الذباب و أصغر من الزنبور و فيه عن الصادق عليه السّلام أنّه بمنزلة الرجل يكون فى الابل فيزجرها هاى هاى كهيئة ذلك و قوله وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ من خوفه و اجلاله وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ من عباده فيهلكه وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ.
حيث يكذبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يصفه تعالى من التفرّد بالالوهيّة وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ.
أى المماحلة و المكايدة لأعدائه و قيل: من المحل أى شديد القوّة و قال عليّ بن إبراهيم القمّي أى شديد الغضب هذا و قال الرّازي في تفسير قوله سبحانه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ: قال أهل الطبايع: إنّ تكوّن السحاب و المطر و الثلج و البرد و الطلّ و الصقيع فى أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار، و فى الأقلّ من تكاثف الهواء، أمّا الأول فالبخار الصّاعد أن كان قليلا و كان في الهواء، من الحرارة ما يحلّل ذلك البخار فحينئذ ينحلّ و ينقلب هواء، و أمّا إن كان البخار كثيرا و لم يكن فى الهواء من الحرارة ما يحلّله فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن يبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أولا تبلغ، فان بلغت فامّا أن يكون البرد قويّا أو لا يكون، فان لم يكن البرد هناك قويا تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد و اجتمع و تقاطر فالبخار المجتمع هو السحاب، و المتقاطر هو المطر و الديمة، و الوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم و أمّا إن كان البرد شديدا فلا يخلو إمّا أن يصل البرد إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها و انحلالها حبّات كبارا، أو بعد صيرورتها كذلك، فان كان على الوجه الأوّل نزل ثلجا، و إن كان على الوجه الثاني نزل بردا و أمّا إذا لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة فهي إمّا أن تكون قليلة أو تكون كثيرة، فان كانت كثيرة فهي تنعقد سحابا ماطرا و قد لا تنعقد، أمّا الأوّل فذاك لأحد أسباب خمسة أولها إذا منع هبوب الرّياح عن تصاعد تلك الأبخرة و ثانيها أن تكون الرّياح ضاغطة لها إلى اجتماع بسبب وقوف جبال قدام الرّيح و ثالثها أن تكون هناك رياح متقابلة متضادّة فتمتنع صعود الأبخرة حينئذ و رابعها أن يعرض للجزء المتقدم وقوف لثقله و بطوء حركته ثمّ تلتصق به سائر الأجزاء الكثيرة المدد و خامسها لشدّة برد الهواء القريب من الأرض فقد يشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعودا يسيرا حتى كأنّه مكبة موضوع خطبه 91 نهج البلاغه بخش 11ة على و هدة و يكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة و الذين يكونون تحت الغمامة يمطرون و الذين يكونون فوقها يكونون في الشمس أمّا إذا كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة فاذا ضربها برد الليل كثفها و عقدها ماء يكون محسوسا و نزل نزولا متفرّقا لا يحسّ به إلّا عند اجتماع شي ء يعتدّ به، فان لم يجمد كان طلّا، و إن جمد كان صقيعا و نسبة الصقيع إلى الطلّ نسبة الثلج إلى المطر و امّا أن تكون السحاب من انقباض الهواء و ذلك عند ما يبرد الهواء و ينقبض و حينئذ تحصل منه الأقسام المذكورة و الجواب انّا لما دللنا على حدوث الأجسام و توسّلنا بذلك إلى كونه قادرا مختارا يمكنه ايجاد الاجسام لم يمكنا القطع بما ذكرتموه، لاحتمال أنّه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذى ذكرتموه، و أيضا فهب أنّ الأمر كما ذكرتم و لكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بدّ لها من مؤثر، ثمّ إنّها متماثلة فاختصاص كلّ واحد منها بصفة معينّة من الصعود و الهبوط و اللّطافة و الكثافة و الحرارة و البرودة لا بدّ له من مخصّص، فاذا كان هو سبحانه خالقا لتلك الطبايع و تلك الطبايع مؤثّرة في هذه الأحوال و خالق السّبب و خالق المسبّب فكان سبحانه: هو الذي يزجى سحابا، لأنّه هو الذي خلق تلك الطبايع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جوّ الهواء، ثمّ إنّ تلك الأبخرة إذا ترادفت في صعودها و التصق بعضها بالبعض فهو سبحانه هو الذي: جعلها ركاما، فثبت على جميع التقريرات أنّ وجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة و الحكمة ظاهر بيّن انتهى و تحقيق المقام هو ما ذكره بما لا مزيد عليه و أقول: دلائل القدرة في خلق السحاب مضافا إلى ما ذكره هو أنّ الماء بطبعه ثقيل يقتضي النزول فبقاؤه في الجوّ خلاف الطبع، و لذلك إذا انفصل منه قطرة نزلت دفعة فلا بدّ من قادر قاهر يمسكه في الجوّ على ثقله بقهره و قدرته و أيضا، لو دام السحاب لعظم ضرره حيث يسترضوء الشمس و تكثر الأمطار و تبتلّ المركبات فتفسد، و لو انقطع لعظم ضرره لافضائه الى القحط فيهلك المواشى و الانسان، فكان تقديره بالمقدار المعلوم مقتضى الحكمة و المصلحة و أيضا ترى السّحاب يرشي الماء على الأرض و يرسله قطرات متفاضلة لا يدرك قطرة منها قطرة و لا يعلم عددها إلّا الذي أوجدها، ثمّ إنّ كلّ قطرة منها عيّنت لجزء من الأرض و لحيوان معيّن فيها من طيرو وحش و دود مكتوب عليها بخطّ غيبيّ غير محسوس أنه رزق الحيوان الفلاني في الموضع الفلاني في الوقت الفلاني هذا، مع ما في انعقاد البرد الصّلب من الماء اللّطيف و فى تناثر الثلوج كالقطن المندوف من العجائب التي لا تحصى، كلّ ذلك عناية من اللّه سبحانه و رحمة منه على العباد، و فيها هداية لمن استهدى و دراية لمن ابتغى الرشاد
الخامسة في دلايل القدرة و العظمة في إنبات النبات و الأشجار
قال سبحانه: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ و قال وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ، وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقاً لِلْعِبادِ وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ.
و دلايل القدرة في ذلك من وجوه: الأوّل أنّ الماء ثقيل بطبعه كما قلنا سابقا إنّه إذا انفصل قطرة منه من المزن تنزل إلى الأرض و لا تبقى في الجوّ بمقتضى طبعه فانظر الى قدرته تعالى كيف رقا الماء المصبوب في أسفل الأشجار مع هذا الطبع و الثقل إلى أعالى أغصانها، فهوى الى سفل ثمّ ارتفع إلى فوق فى داخل تجاويف الأشجار شيئا فشيئا بحيث ينتشر فى جميع الأوراق فغذاء كلّ جزء من كلّ ورقة تجرى إليه في تجاويف العروق، ففى كلّ ورقة عرق ممتد طولا و ينشعب منه عروق صغار كثيرة عرضا و طولا، فكان الكبير نهل و ما انشعب عنها جداول، ثمّ ينشعب من الجداول سواقي أصغر منها ثمّ ينتشر منها خيوط عنكبوت دقيقة خارجة عن ادراك البصر حتى تنبسط فى جميع عرض الورق فيصل الماء فى أجوافها إلى ساير أجزاء الورق لتسقيها و تغذيها بمنزلة العروق المبثوثة في بدن الانسان و الحيوان لتوصل الغذاء إلى كلّ جزء منه و كذلك إلى ساير أجزاء الفواكه، فانّ الماء المتحرّك بطبعه إلى سفل كيف انجذب الى فوق من غير حامل أو قاسر، فعلم أنّ له جاذبا آخر و مجرّكا خارجا عن الحسّ ليسخّره و يدبّره و ينتهى بالأخرة إلى مدبّر السماوات و الأرض جلّت عظمته و تعالى شأنه.
الثاني أنّ أصناف النبات و الأشجار لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائم في بقاء نضرته و طراوته كحاجة الحيوان إلى الغذاء و لم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان جعل لها أصول مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذا فتؤدّيه اليها فصارت الأرض كالأمّ المرّبية و صارت اصولها كالأفواه الملتقمة للأرض، و أيضا لو لا تلك الأصول لما انتصب تلك الأشجار الطّوال العظام و لم يكن لها ثبات و دوام في الريح العاصف، فهي لها بمنزلة عمد الفساطيط و الخيم تمدّ بالأطناب من كلّ جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط و لا تميل، ثمّ انظر إلى هذه العروق الصغار المنشعبة من الأصول المركوزة و أنها على دقّتها و ضعفها كيف تجرى فى أعماق الأرض و تسير فيها على صلبها عرضا و طولا الثالث إخراج أنواع مختلفه من النّبات و أصناف متشتّة من الأشجار من حبّ و عنب و قضب و زيتون و نخل و رمّان و فواكه كثيرة مختلفة الأشكال و الألوان و الطعوم و الروايح يفضل بعضها على بعض في الاكل مع أنّها جميعا يسقى بماء واحد و يخرج من أرض واحدة فان قلت: سبب اختلافها بذورها و حبوبها قلنا: هل يكفى ذلك في ترتّب هذه الآثار فانّ الحبوب على اختلافها متشابهة فى الصورة و الجوهر فكيف يصير بهذا الاختلاف موجبة لهذه الأنواع المتباعدة المتباينة في الصور الجوهرية و الكيفيّات و الخاصيّة، فهل كان في النواة نخلة مطوّقة بعنا قيد الرطب سلّمنا أنّ اختلافها من المرجّحات لكن نسوق الكلام إلى موجد هذه الاختلافات و فاعلها، فانظر إلى اختلاف طبايع النبات و خواصها و منافعها فهذا يغذي و هذا يقوي، و هذا يقتل و هذا يحيي و هذا داء و هذا دواء و هذا يسخّن و هذا يبرّد، و هذا يسهل الصّفرا و هذا يولد السّوداء، و هذا يقمع البلغم و هذا يولده، و هذا يستحيل دما و هذا يطفيه، و هذا يسكر و هذا ينوم، و هذا يفرّح و هذا يضعف، إلى غير هذا ممّا لو أردنا استقصاء العجايب المودعة فيها انقضت الأيام و مع ذلك فالحكم الباطنة و المصالح الكامنة فيها أكثر جدّا مما وصلت اليه عقولنا القاصرة، فهذه هي دلائل القدرة و علامات العظمة و آثار الصنع و الحكمة في الأشياء المذكورة نبّهنا عليها على وجه الاختصار إذ الاستقصاء فيها خارج عن الطّوع و الاختيار، فسبحان من أقام الحجّة على مخلوقاته بما أراهم من بدايع آياته و جعلها تذكرة لاولى الألباب، و هو أعلم بالصواب
|