الرسالة - 66- الى قثم بن العباس:
أمّا بعد فأقم للنّاس الحجّ و ذكّرهم بأيّام اللّه، و اجلس لهم العصرين فأفت المستفتي و علّم الجاهل و ذاكر العالم. و لا يكن لك إلى النّاس سفير إلّا لسانك، و لا حاجب إلّا وجهك. و لا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها، فإنّها إن ذيدت عن أبوابك في أوّل وردها، لم تحمد فيما بعد على قضائها. و انظر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال و المجاعة مصيبا به مواضع الفاقة و الخلّات، و ما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا. و مر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا فإنّ اللّه سبحانه يقول: «سواء العاكف فيه و الباد» فالعاكف المقيم به و البادي الّذي يحجّ إليه من غير أهله. وفّقنا اللّه و إيّاكم لمحابّه. و السّلام.
اللغة:
العصر: آخر النهار، و العصران: الغداة و العشي، أي الليل و النهار، و في مجمع البحرين للشيخ الطريحي: «جاء في الحديث: حافظ على العصرين، يريد صلاة الفجر و صلاة العصر، لأن الأولى تقع في طرف النهار و الثانية في طرف الليل» أي القريبة منه. و ذاكر العالم: خض معه في حديث العلم و مسائله.
و قبلك- بكسر القاف- عندك وجهتك. و الفاقة: الفقر. و الخلات: الحاجات.
و محابه: ما يحب.
الإعراب:
سفير اسم يكن، و الى الناس خبر، و لسانك بدل من سفير، و مصيبا حال من فاعل اصرفه، و مواضع مفعول «مصيبا».
المعنى:
كان قثم بن العباس واليا للإمام على مكة، كما أشرنا في أول الرسالة 32 التي أرسلها اليه الإمام، و هذه الرسالة الثانية الى قثم، و لكن موضوعها غير موضوع الأولى. (فأقم للناس الحج) حج بهم على كتاب اللّه و سنّة نبيّه، و علمهم المناسك و ما يجب فعله و تركه (و ذكرهم بأيام اللّه) التي عاقب فيها الأمم الماضية على البغي و الفساد: و خوفهم بذلك لعلهم يتقون (و اجلس لهم العصرين) صباحا و مساء، لتستمع الى مشكلاتهم، و تسعى في حلها جهدك و مقدرتك (فافت المستفتي) أجب عما تسأل عنه من حلال اللّه و حرامه.
(و علم الجاهل) اقعد للتدريس في حلقة من التلاميذ، تعلمهم الدين أصولا و فروعا
(و ذاكر العالم) تدارس معه مسائل الدين، و شئون البلاد و مصالحها (و لا يكن لك الى الناس سفير إلخ).. اختلط بهم، و قابلهم وجها لوجه، و اسمع منهم، و اسمعهم مباشرة و بلا واسطة تماما كما فعل الأنبياء. و لما ذا الحجاب و غلق الأبواب.
و تقدم مع الشرح قول الإمام للأشتر في الرسالة 52: ان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، و قلة علم بالأمور.
(فإنها ان ذيدت.. إلخ) الحاجة و منعت أولا، ثم راجعت نفسك و قضيتها فإن صاحبها لا يحمدك، و لا يرى لك فضلا، فالأولى أن تبادر الى قضائها بمجرد عرضها عليك، فإن اللّه يضاعف لك الأجر، و صاحبها يضاعف لك الشكر، لأن تعجيل الخير من الخير و مضاعفاته (و انظر ما اجتمع عندك من مال اللّه إلخ).
فأنفقه على المصالح العامة و المحاويج من أهل البلاد التي جمع منها المال، فإنها أولى من غيرها، فإن تبقى منه شي ء فأرسله الينا لنوجهه الى وجهته.
بيوت مكة و بيعها و ايجارها:
اتفقت المذاهب الاسلامية قولا واحدا ان مواضع النسك في مكة المكرمة لا تباع و لا تؤجر كمحل السعي و الرمي، و اختلفوا في بيوت مكة: هل تباع و تؤجر. و عن مالك و أبي حنيفة المنع، و عن الشافعي الجواز، و عن أحمد روايتان. قيل: أصحهما المنع. و كما اختلف فقهاء السنة فيما بينهم اختلف كذلك فقهاء الشيعة. قال الشيخ الطوسي: لا يجوز البيع و لا الايجار تماما كما قال مالك و أبو حنيفة. و قال الشهيد الثاني في «المسالك» ما نص بالحرف الواحد: «المشهور الجواز، و عليه العمل، و تسمية مكة مسجدا مجاز للحرمة و الشرف و المجاورة».
و قال صاحب «الجواهر»، أيضا بالنص الحرفي: «و من هنا كان المتجه الجواز كما هو خيرة جماعة» قال هذا بعد أن مهد له بأنه لم يقف على شي ء من طرق الشيعة يدل على المنع. و رواية المنع عن النبي (ص) سندها عبد اللّه بن عمرو ابن العاص.
و نحن مع الذين ذهبوا الى الجواز، و ان سألنا سائل: و ما ذا تصنع بقول الإمام هنا لعامله: (و مر أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا) فإنه ظاهر في المنع و عدم الجواز.
قلنا في جوابه: لو ان الإمام قال هذا و سكت دون أن يستدل بقوله تعالى: «سواء العاكف فيه و الباد»- لكان هذا حجة متبعة يجب الأخذ بها. أما و قد استدل بالآية فلا بد من صرف الظاهر عن الحقيقة الى المجاز، و حمل الأمر على الضيافة المستحبة، لأن موضوع الكلام مختص بالمسجد الحرام، و الآية نص فيه، ورد على المشركين الذين صدوا الناس عنه، و التعبد فيه، و هذه هي الآية كاملة: «ان الذين كفروا و يصدون عن سبيل اللّه و المسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه و الباد و من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم- 25 الحج».
و المسجد الحرام شي ء و بيوت مكة التي هو موضوع الكلام شي ء آخر، و لا صلة بين الاثنين لا موضوعا و لا حكما، و لا أي شي ء سوى علاقة الجوار، و هي تصلح للاستحباب لا للوجوب، أي لصرف الظهور عن الحقيقة، و هي الإلزام، الى المجاز، و هو الرجحان.
( . فی ضلال نهج البلاغه، ج4، ص 171-174)
|