الرسالة - 77- الى أبي موسى الأشعري:
فإنّ النّاس قد تغيّر كثير منهم عن كثير من حظّهم فمالوا مع الدّنيا و نطقوا بالهوى، و إنّي نزلت من هذا الأمر منزلا معجبا اجتمع به أقوام أعجبتهم أنفسهم، فإنّي أداوي منهم قرحا أخاف أن يكون علقا، و ليس رجل- فاعلم- أحرص على جماعة أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ألفتها منّي، أبتغي بذلك حسن الثّواب و كرم المآب. و سأفي بالّذي و أيت على نفسي، و إن تغيّرت عن صالح ما فارقتني عليه، فإنّ الشّقيّ من حرم نفع ما أوتي من العقل و التّجربة، و إنّي لأعبد أن يقول قائل بباطل، و أن أفسد أمرا قد أصلحه اللّه، فدع ما لا تعرف فإنّ شرار النّاس طائرون إليك بأقاويل السّوء و السّلام.
اللغة:
معجبا: يدعو للتعجب. و قرحا: جرحا. و علقا: دما غليظا و فاسدا.
و المآب: المرجع. و وأيت: وعدت و تعهدت. و أعبد: آنف.
الإعراب:
أحرص خبر ليس، و اعلم جملة معترضة، و مني متعلق بأحرص.
المعنى:
رشح الإمام للتحكيم عبد اللّه بن عباس، فقال معاوية: كلا، ان له قرابة قريبة من علي.. هذا مع العلم ان ابن العاص شريك في الغنيمة مع معاوية، ذهب الى التحكيم و في جيبه صك بمصر من معاوية.. و لا أدري كيف سكت أصحاب الإمام عن ذلك.. اللهم إلا أن يكون بعض الرءوس متآمرين مع معاوية.. و مهما يكن فقد رفض أصحاب الإمام ابن عباس، و أكرهوا إمامهم على ترشيح الأشعري الذي يريده معاوية، و لا يرضى بغيره.
و يقال: إن البعض ذكر اسم أبي الأسود الدؤلي للتحكيم كبدل عن ابن عباس و الأشعري، و لكن تم الاتفاق على أبي موسى. و روي عن الشعبي انه قال: «ما كان أعف أطراف أبي الأسود و أحضر جوابه. دخل على معاوية يوما بعد أن استقام له الأمر، فقال له: أ كنت ذكرت للحكومة. قال: نعم.
قال: ما كنت صانعا قال: كنت أجمع ألفا من المهاجرين و أبنائهم، و ألفا من الأنصار و أبنائهم، ثم أقول: يا معشر من حضر أرجل من المهاجرين أحق أم رجل من الطلقاء. فقال له معاوية: الحمد للّه الذي كفاك.
و بعد اجتماع الأشعري و ابن العاص و قبل اعلان الحكم كتب الإمام لأبي موسى الأشعري يقول: (فإن الناس قد تغير كثير منهم عن كثير من حظهم) أي من دينهم، و المراد بالناس هنا الصحابة، و منهم الأشعري، و قول الإمام: «تغير كثير منهم» يشير الى ما رواه البخاري في الجزء التاسع من صحيحه كتاب الفتن: إن رسول اللّه (ص) يقول يوم القيامة: أي ربي أصحابي.
فيقول له: لا تدري ما بدلوا بعدك. فيقول النبي (ص): سحقا سحقا لمن بدل بعدي.
(و اني نزلت من هذا الأمر منزلا معجبا) المراد بهذا الأمر الخلافة، و معجبا أي يدعو للتعجب، و ذلك لأنه قد (اجتمع به أقوام أعجبتهم أنفسهم) أي كان المفروض، و أنا خليفة المسلمين، اني إذا أبرمت أمرا أن يطيعوني فيه. و لكن اللّه سبحانه قد ابتلاني بأصحاب مغرورين لا تعجبهم إلا آراؤهم، فيعترضون كلما رأيت رأيا، كما حدث حين اخترت ابن عباس للتحكيم، فأبوا إلا أبا موسى الأشعري.
(فإني أداوي منهم قرحا أخاف أن يكون علقا) أنا حائر في أمر هؤلاء الأصحاب لا أدري كيف أعالجهم من غرورهم فالحسنى لا تجدي معهم نفعا، و القوة تزيدهم فسادا و عنادا، و تشتت جمعهم.. ان حالي معهم تماما كحال الطبيب الذي يحاول أن يعالج جرحا، و في الوقت نفسه يخشى إذا حرّك منه ساكنا أن يتحول الى علق يسمم البدن بكامله.
(و ليس رجل- الى المآب) لا استعمل القوة مع أصحابي خوفا من الفتنة و اختلاف الكلمة بين المسلمين، و أنا حريص على الألفة و التعاون على الصالح العام طلبا لمرضاة اللّه و ثوابه.
(و سأفي بالذي و أيت على نفسي) رضيت بك مكرها- يا أبا موسى- و مع ذلك سأفي لك، و لا أغيّر و أبدّل إلا إذا غيّرت أنت و انحرفت (و ان تغيّرت عن صالح ما فارقني عليه) من يقظتك و حذرك من كيد ابن العاص و مكره، و وقوفك الى جانب الحق و أهله (فإن الشقي من حرم إلخ).. ان خدعك ابن العاص فأنت أشقى من عليها لأنك، و هذه هي حالك، تكون بلا عقل و علم، و أضحوكة و العوبة لابن العاص.. و قد حدث ما قاله الإمام، و أصبح أبو موسى مثلا للبلاهة و الجهالة مدى الدهر.
(و اني لأعبد أن يقول قائل بباطل) أنا أكره الباطل من غيري، فكيف أفعله و لا أنكره من نفسي (و أن أفسد أمرا قد أصلحه اللّه) اذا أنت أخلصت للّه، و توخيت صلاح المسلمين- يا أبا موسى- فأنا أول المقرين لعملك و الشاكرين لفضلك، و كيف أرفض الصلح و الصلاح للمسلمين، و فيه رضى للّه و رسوله (فدع ما لا تعرف) الى ما تعرف أي لا تتفوه بكلمة، أو تأتي بحركة إلا و أنت على يقين من صوابها و رضى اللّه بها، و مثله دع ما يريبك الى ما لا يريبك (فإن شرار الناس طائرون اليك بأقاويل السوء) المراد بشرار الناس هنا ابن العاص و أضرابه، و المعنى ان هؤلاء يوسوسون في صدرك بالأكاذيب و الأضاليل فاحذرهم.
( . فی ضلال نهج البلاغه، ج4، ص 203-206)
|