و هلمّ الخطب في ابن أبي سفيان فلقد أضحكنى الدّهر بعد إبكائه و لا غرو و
اللّه فيا له خطبا يستفرغ العجب، و يكثر الأود، حاول القوم إطفاء نور
اللّه من مصباحه، و سدّ فوّاره من ينبوعه، و جدحوا بيني و بينهم شربا
وبيئا، فإن ترتفع عنّا و عنهم محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه، و إن
تكن الاخرى «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ».
اللغة
(هلّم) اسم فعل يستعمل بمعنى هات و تعال، فعلى الأوّل متعدّ و على
الثّاني لازم يستوى فيه الواحد و الجمع و المذكّر و المؤنّث في لغة أهل
الحجاز، و أهل نجد يقولون هلمّا و هلمّوا. و (الأود) محرّكة الاعوجاج و
(فوّار) الينبوع بفتح الفاء و تشديد الواو ثقب البئر و الفوار بالضمّ و
التّخفيف ما يفور من حرّ القدر و بهما قرء و الأوّل أظهر و (جدحه) يجدحه من
باب منع خلطه و مزجه و (الشّرب) بالكسر الحظّ من الماء قال تعالى: «لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» و (الوبى ء) ذو الوباء و المرض.
الاعراب
و أقام قوله: و هلمّ الخطب، مقام المصراع الثّاني كما نبّه عليه الشّارح المعتزلي و غيره.
و كيف كان فقوله: حديثا ما اه- انتصب حديثا باضمار فعل أي حدّثنى أو
أسمع أو هات، و يروى بالرّفع على أنّه خبر محذوف المبتدأ أى غرضى حديث و ما
هاهنا تحتمل أن تكون ابهاميّة و هي التّي إذا اقترنت بنكرة زادته إبهاما و
شياعا كقولك: اعطنى كتابا ما، تريد، أى أىّ كتاب كان، و تحتمل أن تكون صلة
مؤكّدة كما في قوله تعالى «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ» و
أمّا حديث الثّاني فقد ينصب على البدل من الأوّل، و قد يرفع على أن يكون
ما موصولة و صلتها الجملة أي الذي هو حديث الرّواحل، ثمّ حذف صدر الصّلة
كما في «اتماما على الذي أحسن» أو على أن تكون استفهامية بمعنى أيّ قوله: و
لا غرو، لا لنفى الجنس محذوف خبرها، و قوله: فيا له خطبا النّداء للتعجّب و
التفخيم و خطبا منصوب على التميز من الضمير.
المعنى
(و لكن هلمّ الخطب في ابن أبي سفيان) أى لكن هات ذكر الحدث الجليل و
الأمر العظيم الّذي نحن مبتلى به الان في منازعة معاوية بن أبي سفيان و
طمعه في الخلافة، فانّه حديث عجيب ينبغي أن يتحدّث و يذاكر و يستمع (فلقد
أضحكنى الدّهر بعد إبكائه) أى صرت ضاحكا ضحك تعجّب من تصرّفات الدّهر و
تقلّباته و تربيته لأراذل النّاس و جعله مثل ابن النّابغة الاكلة للأكباد و
الطّليق ابن الطّليق منازعا لي في الخلافة، و معارضا علىّ في الرّياسة مع
غاية بعده عنها و انحطاط رتبته عن الطمع في مثلها بعد ما كانت بي من الكأبة
و الحزن لتقدّم من سلف. و محصّل المراد أنّ الدّهر أضحكنى من فرط التعجّب
بعد ما أحزنني لأنّه«» أنزلني ثمّ أنزلني حتّى قيل معاوية و علىّ (و لا غرو
و اللّه) أي لا عجب و اللّه من تقلّبات الدّهر و أحواله و قوّة الباطل و
غلبة أهله فيه ممّا بي نزل و إضحاكه بي بعد إبكائه، لأنّ عادته قد جرت
دائما على وضع الأشراف و رفع الأراذل حتّى صار سجيّة له و مجبولا عليها، و
إليه ينظر قول مولانا الحسين عليه السّلام ليلة العاشور:
- يا دهر افّ لك من خليلكم لك بالاشراق و الأصيل
(فيا له خطبا يستفرغ العجب) كلام مستأنف لاستعظام هذا الأمر، و على هذا
فالوقف على اللّه، و يجوز أن لا يكون استينافا بل وصلا على سابقه و تفسيرا
له فانّه عليه السّلام لمّا أشار إلى أنّ الدّهر أعجبه أتبعه بقوله: و لا
غرو، أي ليس ذلك بعجب و فسّر هذا بقوله: فيا له خطبا يستفرغ العجب، أى
يستنفده و يفنيه أى قد صار العجب لا عجب لأنّ هذا الخطب قد استغرق المتعجّب
فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجّب، و هذا من باب الاغراق و المبالغة
في المبالغة أى هذا أمر يجلّ عن التعجّب كقول ابن هاني:
- قد صرت في الميدان يوم طرادهمفعجبت حتّى كدت لا أتعجّب
هذا (و) وصف الخطب أيضا بأنّه (يكثر الأود) لأنّ كلّ امرء بعد عن
الشريعة ازداد الأمر به اعوجاجا (حاول القوم) أراد به معاوية و اتباعه
(إطفاء نور اللّه من مصباحه) أراد بنور اللّه الولاية و الخلافة و بمصباحه
نفسه الشّريف الحامل لذلك النّور، يعني أنّ معاوية و من تبعه أرادوا إطفاء
نور الولاية و إزالة الأمر عن الأحقّ به كما أنّ من تقدّم عليهم من
المتخلّفين الثلاث و أشياعهم و طلحة و الزّبير و أتباعهما كان غرضهم إطفاء
النّور هذا.
(و سدّ فوّاره من ينبوعه) أى سدّ مجراه و منبعه (و جدحوا) أى مزجوا و
خلطوا (بيني و بينهم شربا وبيئا) أراد بالشرب الوبي ء الفتنة الحاصلة من
عدم انقيادهم له كالشّرب المخلوط بالسمّ. و قال الشارح البحراني: استعار
لفظ الشرب لذلك الأمر و لفظ الجدح للكدر الواقع بينهم و المجاذبة لهذا
الأمر، و استعار وصف الوبى ء له باعتبار كونه سببا للهلاك و القتل بينهم
(فان ترتفع عنّا و عنهم محن البلوى) و يجتمعوا على رأيى و يتّبعوا أمري
(أحملهم من الحقّ على محضه) أى خالصه الذي لا يشوبه شبهة و ريب (و إن تكن
الاخرى) أى و إن لم يكشف اللّه هذه الغمّة و كانت الدّولة و الغلبة لأهل
الضلال (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) اقتباس من الاية الشريفة في سورة الفاطر قال:
أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ الاية.
أى لا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيّهم و ضلالهم و إصرارهم على التكذيب «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ» فيجازيهم عليه.
و في الصافي عن القمّي مرفوعا قال: نزلت في زريق و حبتر، و عليه فالاقتباس بها غير خال من اللّطف و المناسبة.
لطيفة
قال الشارح المعتزلي بعد الفراغ من شرح هذا الكلام: و سألت أبا جعفر
يحيى ابن محمّد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه عن هذا الكلام و كان
على ما يذهب عليه من مذهب العلويّة منصفا وافر العقل فقلت له: من يعني عليه
السّلام بقوله: كانت أثرة شحّت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس آخرين و من
القوم الّذين عناهم الأسدى بقوله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم
أحقّ به هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى فقال: يوم السقيفة فقلت: إنّ
نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان الرسول و دفع النصّ، فقال: و
أنا فلا تسامحنى نفسى أن أنسب الرّسول إلى إهمال أمر الامامة و أن يترك
الناس سدى مهملين، و قد كان لا يغيب عن المدينة إلّا و يؤمّر عليها أميرا و
هو حىّ ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمّر و هو ميّت لا يقدر على استدراك ما
يحدث ثمّ قال: ليس يشكّ أحد من الناس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و
آله و سلّم كان عاقلا كامل العقل أمّا المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم، و
أمّا اليهود و النصارى و الفلاسفة فيزعمون أنّه حكيم تامّ الحكمة سديد
الرّأى أقام ملّة و شرع شريعة فاستجد ملكا عظيما بعقله و تدبيره، و هذا
الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب و غرايزهم و طلبهم بالثارات و
الذّحول«» و لو بعد الأزمان المتطاولة، و كان يقتل الرّجل من القبيلة رجلا
من بيت آخر، فلا يزال أهل ذلك المقتول و أقاربه يتطلّبون القاتل ليقتلوه
حتى يدركوا ثارهم منه، فان لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه و أهله فان لم
يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة و إن لم يكونوا رهطه
الأدنين، و الاسلام لم يحل طبائعهم و لا غيّر هذه السجيّة المركوزة في
أخلاقهم و الغرايز بحالها.
فكيف يتوهّم لبيب أنّ هذا العاقل وتر العرب و على الخصوص قريشا و ساعده
على سفك الدّماء و إزهاق الأنفس و تقلّد الضغائن ابن عمّه الأدنى و صهره و
هو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس و يتركه بعده و عنده ابنته ولد منها
ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما و محبّة لهما، و يعدل
عنه في الأمر بعده و لا ينصّ عليه و لا يستخلفه، فيحقن دمه و دم بنيه و
أهله باستخلافه.
ألا يعلم هذا العاقل الكامل أنّه إذا تركه و ترك بنيه و أهله سوقة رعيّة
فقد عرض دماءهم للاراقة بعده، بل يكون هو الّذي قتله و أشاط بدمائهم،
لأنّهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم، و إنّما يكونون مضغة للاكل و فريسة
للمفترس يتخطّفهم النّاس و يبلغ فيهم الأغراض.
فأمّا إذا جعل السّلطان فيهم و الأمر اليهم فانّه يكون قد عصمهم و حقن
دماءهم بالرّياسة الّتي يصولون بها، و يرتدع النّاس عنهم لأجلها، و مثل هذا
معلوم بالتّجربة.
ألا ترى أنّ ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل النّاس و وترهم و أبقي
في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه ثمّ أهمل أمر ولده و ذرّيّته من بعده، و
فسح للنّاس أن يقيموا ملكا من عرضهم و واحدا منهم، و جعل بنيه سوقة كبعض
العامّة، لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم سريعا هلاكهم، و لوثب عليهم النّاس
ذوو الاحقاد و التراث من كلّ جهة يقتلونهم و يشردونهم كلّ شرد.
و لو أنّه عيّن ولدا من أولاده للملك، و قام خواصّه و خدمه، و خوّله«»
بامرة بعده، لحقنت دماء أهل بيته و لم تطل يد أحد من النّاس إليهم لناموس
الملك و ابهة السلطنة و قوّة الرّياسة و حرمة الامارة.
أفترى ذهب عن رسول اللّه هذا المعنى أم أحبّ أن يستأصل أهله و ذريّته من
بعده و أين موضع الشّفقة على فاطمة العزيزة عنده الحبيبة إلى قلبه أتقول:
إنّه أحبّ أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفّف النّاس و أن يجعل
عليّا المكرّم المعظّم عنده الّذي كانت حاله معه معلومة كأبي هريرة الدّوسي
و أنس بن مالك الأنصاري يحكم الأمراء في دمه و عرضه و نفسه و ولده فلا
يستطيع الامتناع و على رأسه مأئة ألف سيف مسلول يتلظّى أكباد أصحابها عليه و
يودّون أن يشربوا دمه بأفواههم و يأكلوا لحمه بأسيافهم قد قتل أبنائهم و
اخوانهم و آبائهم و أعمامهم، و العهد لم يطل، و القروح لم تنفرق، و الجروح
لم تندمل فقلت: لقد أحسنت فيما قلت: إلّا أنّ لفظه عليه السّلام يدلّ على
أنّه لم يكن نصّ عليه، ألا تراه يقول: و نحن الأعلون نسبا و الأشدّون
بالرّسول نوطا، فجعل الاحتجاج بالنّسب و شدّة القرب، فلو كان عليه نصّ لقال
عوض ذلك: و أنا المنصوص علىّ المخطوب باسمي.
فقال: إنّما أتاه من حيث يعلم لا من حيث يجهل، أ لا ترى أنّه سأله فقال:
كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحقّ به، فهو إنّما سأل عن دفعهم
عنه و هم أحقّ به من جهة اللّحمة و العترة، و لم يكن الأسدي يتصوّر النصّ و
لا يعتقد و لا يخطر بباله، لأنه لو كان هذا في نفسه لقال له: لم دفعك
الناس عن هذا المقام و قد نصّ عليك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و
سلّم، و لم يقل له هذا، و إنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة: كيف دفعكم
قومكم عن هذا و أنتم أحقّ به أي باعتبار الهاشمية و القربى، فأجابه بجواب
أعاد قبله المعنى الذي تعلّق به الأسدي بعينه تمهيدا للجواب، فقال: إنما
فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غيرنا
لأنهم استأثروا علينا و لو قال له: أنا المنصوص علىّ المخطوب باسمي في حياة
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما كان قد أجابه، لأنه ما سأله
هل أنت منصوص عليك أم لا، و لا هل نصّ رسول اللّه بالخلافة على أحد أم لا، و
إنما قال: لم دفعكم قومكم عن الأمر و أنتم أقرب إلى ينبوعه و معدنه منهم،
فأجابه جوابا ينطبق على السؤال و يلايمه.
و أيضا فلو أخذ يصرّح له بالنصّ و يعرّفه تفاصيل باطن الأمر لنفر عنه و
اتّهمه و لم يقبل قوله و لم يتجذّب الى تصديقه فكان أولى الامور في حكم
السياسة و تدبير الناس أن يجيب بما لا نفرة منه و لا مطعن عليه فيه انتهى.
أقول: و للّه درّ النقيب العلوي فلقد أجاد فيما أفاد، و نهج منهج
الرّشاد، و راقب العدل و الانصاف، و جانب العصبيّة و الاعتساف، و كشف
الظلام عن وجه المرام و أوضح المقام بكلام ليس فوقه كلام، أودعه من البيان و
البرهان ما يجلى الغشاوة عن أبصار متأمّليه، و العمى عن عيون متناوليه، و
بعد ذلك فان كان إذعانه على طبق بيانه فأجزل اللّه له الجزاء في دار خلده و
جنانه، و إلّا فليضاعف عليه العذاب في يوم الحساب، و لكن يبعد جدّا مع هذا
التحقيق أن يكون معتقده خلاف المذهب الحقّ، بل الظاهر من الشارح المعتزلي
أيضا حيث نقل هذا التفصيل عن النقيب و سكت مضافا إلى نظايره الكثيرة في
تضاعيف الشرح أنّ معتقده أيضا ذلك، و لولا تصريحه في غير موضع من شرحه بعدم
النصّ في الخلافة لحكمنا بكونه من الفرقة الناجية، و هو الذي ظنّه بعض
أصحابنا في حقّه و قال: إنّ الشارح شيعيّ المذهب إلّا أنه سلك في الشرح
مسلك أهل السنة من باب الالجاء و التقيّة، و اللّه العالم بسرائر العباد و
المجازي كلّا ما يستحقّه يوم التناد، نسئل اللّه العصمة و السداد، و نعوذ
به من الزلل و الفساد في المذهب و الاعتقاد.
تكملة
قد أشرنا إلى أنّ هذا الكلام مرويّ عنه عليه السّلام بطرق عديدة مختلفة
أحببت أن أوردها جريا على عادتنا المستمرّة فأقول: قال المفيد (ره) في
الارشاد: روى نقلة الاثار أنّ رجلا من بني أسد وقف على أمير المؤمنين عليه
السّلام فقال له: يا أمير المؤمنين العجب فيكم يا بني هاشم كيف عدل بهذا
الأمر عنكم و أنتم الأعلون نسبا و سببا و نوطا بالرّسول صلّى اللّه عليه و
آله و سلّم و فهما للكتاب فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: يا ابن دودان
إنّك لقلق الوضين، ضيّق المخرم ترسل غير ذي مسد لك ذمامة الصهر و حقّ
المسألة، و قد استعلمت فاعلم: كانت اثرة سخت بها نفوس قوم و شحّت عليها
نفوس آخرين فدع عنك نهبا صيح في حجراته و هلمّ الخطب في أمر ابن أبي سفيان،
فلقد أضحكنى الدّهر بعد إبكائه و لا غرو، بئس القوم و اللّه من خفضني و
هيّنني و حاولوا الادّهان في ذات اللّه، و هيهات ذلك منّي و قد جدحوا بيني و
بينهم شربا وبيئا، فان تتحسّر عنّا محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه، و
إن تكن الاخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فلا تأس على القوم الفاسقين.
و فى البحار من علل الشّرايع و الأمالي عن الحسين بن عبيد اللّه العسكري
عن إبراهيم بن رعد العبشمي، عن ثبيت بن محمّد، عن أبي الأحوص المصري عمّن
حدّثه عن آبائه عن أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما السّلام عن جماعة من أهل
العلم، عن الصّادق جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام قال: بينا
أمير المؤمنين عليه السّلام في أصعب موقف بصفين اذ قام إليه رجل من بني
دودان فقال: ما بال قومكم دفعوكم عن هذا الأمر و أنتم الأعلون نسبا و اشدّ
نوطا بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فهما بالكتاب و السنّة فقال
عليه السّلام: سئلت يا أخا بني دودان و لك حقّ المسألة و ذمام الصّهر و
إنّك لقلق الوضين ترسل عن ذي مسد انّها إمرة شحّت عليها نفوس قوم و سخت
عنها نفوس آخرين، و نعم الحكم اللّه فدع عنك نهبا صيح في حجراته- و هلمّ
الخطب في ابن أبي سفيان فلقد أضحكنى الدّهر بعد إبكائه و لا اغزو إلّا
جارتي و سؤالها الاهل لنا أهل سألت كذلك بئس القوم من خفضني و حاولوا
الادهان في دين اللّه، فان ترفع عنّا محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه،
و إن تكن الأخرى فلا تأس على «عن خ ل» القوم الفاسقين، إليك عنّي يا أخا
بني سيدان.
بيان
لما في هاتين الرّوايتين من الألفاظ الغريبة التّي لم تكن في رواية
السيّد (ره) فأقول: «دودان» بن أسد بن خزيمة بالضمّ أبو قبيلة فلا ينافي ما
في رواية السيّد أنّه كان من بني أسد و «المحزم» بالحاء المهملة وزان منبر
و المحزمة كمكنسة و الحزام ككتاب ما حزم به قيل: و يقال للرّجل المضطرب في
أمره أنّه قلق الوضين أى مضطرب شاكّ فيه و لعلّ ضيق المحزم كناية عن عدم
طرفيّته.«» و «المسد» حبل مفتول من ليف محكم الفتل و يقال على نفس اللّيف
قال سبحانه: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ، فقوله
في رواية الارشاد: «ترسل غير ذي مسد» أراد به أنك تطلق عنان كلامك من غير
تأمّل، و قوله في رواية البحار «ترسل عن ذي مسد» أراد به أنّك تطلق حيوانا
له مسد ربط به، فيكون كناية عن التكلّم بما له مانع عن التكلّم به.
و «هينني» أي أهانني و استهان و «حسر» الشي ء فانحسر كشفه فانكشف و
«امرأة» في رواية الأمالي لعلّه تصحيف امرة بالكسر أي أمارة و قوم «جارة» و
جورة أى جائرون و «الادهان» كالمداهنة إظهار خلاف ما تضمر و الغشّ.
|