و (همد) النّار همودا من باب قعد ذهب حرّها و لم يبق منها شي ء و همدت الرّيح سكنت.
و (المشيّدة) بضمّ الميم و تشديد الياء و فتحها كما في قوله تعالى وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أى قصور مصونة و قيل: مجصّصة و قيل: مزينة، و في بعض النّسخ المشيدة بفتح الميم و تخفيف الياء كما في قوله تعالى وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ أى المعمول بالشّيد و الجصّ يقال: شدت البيت من باب باع أى بنيته بالجصّ و شاده شيدا أى جصّصه.
و (النّمرق) و النمرقة بتثليث النّون و ضمّ الرّاء الوسادة و هى المتكاء، و الجمع نمارق قال تعالى وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ و (المسنّدة) بتشديد النّون و تخفيفها من سند إلى الشّي ء من باب قعد و تعب اعتمد عليه كاستند إليه و يعدّى بالهمزة و التّضعيف يقال اسندته إلى الشّي ء و سندته فسند هو و (اللّطأ) بالأرض من باب منع و فرح لصق و (لحد) القبر و ألحده عمل به لحدا و (فناء) البيت بالكسر ما امتدّ من جوانبه.
و (موحشين) في بعض النّسخ بصيغة الفاعل من أوحش المكان و توحش خلا من الانس و أوحش النّاس أى انقطع و بعد قلوبهم عن المودّة و الالفة و في بعضها بصيغة المفعول من أوحش الأرض وجدها وحشة خالية من الانس كلّها مأخوذة من الوحش و هو ما لا يستأنس من دواب البرّ و يقال إذا أقبل اللّيل: استأنس كلّ و حشىّ و استوحش كلّ انسىّ.
و (الكلكل) و زان جعفر الصّدر و (الجندل) و زان جعفر أيضا ما يقلّه الرّجل من الحجارة و قد تكسر الدّال و (بعثرات القبور) أى قلّبت ترابها و أخرج موتاها من بعثرت الشي ء و بعثرته إذا استخرجته و كشفته
و قوله: إنّكم و ما أنتم فيه، الواو بمعنى مع، و قوله: فاستبدلوا بالقصور، الباء للمقابلة، و قوله: قد بنى بالخراب، الباء بمعنى على، و يؤيّده ما في بعض النّسخ على الخراب بدله و هى للاستعلاء المجازى.
و قوله: بين أهل، متعلّق بقوله: مغترب، و على في قوله: على ما بينهم، بمعنى مع كما في قوله تعالى وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ و قوله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ و قوله: و قد طحنهم، الجملة في محلّ النّصب على الحال، و البلى فاعل طحن، و قوله: و كأن قد صرتم، مخفّف كأنّ المشبّهة و الاسم محذوف أى كأنّكم، و يحتمل أن يكون ضمير شأن أى كأنّه قد صرتم و على التّقديرين فكأن هنا مفيدة للتّقريب لأنّ شباهة الأحوال بعضها ببعض تفيد قرب بعضها من بعض، و قوله: فكيف بكم، الفاء فصيحة و كيف اسم استفهام في محلّ الرّفع خبر لمبتدأ محذوف أى فكيف الحال بكم
فقال عليه السّلام (و اعلموا عباد اللّه أنكم و ما أنتم فيه من هذه الدّنيا) من متاعها و حطامها و زبرجها و زخارفها (على سبيل من قد مضى قبلكم) من أهل الدّيار الخالية و الربوع الخاوية (ممّن كان أطول منكم أعمارا) منهم عوج بن عناق كان جبارا عدو اللّه و للاسلام، و له بسطة في الجسم و الخلق
و كان يضرب يده فيأخذ الحوت من أسفل البحر ثمّ يرفعه إلى السّماء فيشويه في حرّ الشّمس و كان عمره ثلاثة آلاف و ستمائة سنة.
و منهم عاد قوم هود فقد كانت بلادهم في البادية و كان لهم زرع و نخل كثير و لهم أعمار طويلة فعبدوا الأصنام و بعث اللّه إليهم هودا يدعوهم إلى الاسلام و خلع الأنداد فأبوا.
و منهم شداد بن عاد الّذى بنى ارم ذات العماد في عدّة ثلاثمأة سنة و كان عمره تسعمائة سنة قال في إكمال الدّين: وجدت في كتب معمر أنّه ذكر عن هشام بن سعيد الرّحال، قال: إنّا وجدنا حجرا بالاسكندريّة مكتوبا فيه: أنا شدّاد بن عاد أنا شيّدت إرم ذات العماد الّتي لم يخلق مثلها في البلاد، و جنّدت الأجناد و شددت بساعدى الواد.
و منهم لقمان بن عاد و كان من بقيّة عاد الاولى فقد روى أنّه عاش ثلاثة آلاف و خمسمائة سنة.
و منهم فرعون ذو الأوتاد قال في مجمع البيان: قال الضحّاك: انّه عاش أربعمائة سنة و كان قصيرا ذميما و هو أوّل من خضب بالسّواد.
و منهم عمرو بن عامر الملقّب بمزيقيا و ماء السّماء ملك أرض سبا فقد عاش ثمانمائة سنة أربعمائة سنة سوقة في حياة أبيه و أربعمائة سنة ملكا و كان يلبّس كلّ يوم حليتين في سنّى ملكه فاذا كان بالعشىّ مزق الحليتين حتّى لا يلبسهما أحد غيره سمّى مزيقيّا و سمّى بماء السّماء أيضا لأنّه كان حياة أينما نزل كمثل ماء السّماء.
و منهم أبو هبل بن عبد اللّه بن كنانة عاش ستمائة سنة.
و منهم جلهمة بن اود و يقال له طىّ و اليه تنسب قبيلة طىّ كلّها، و كان له ابن أخ يقال له: بجابر بن ملك بن اود، و قد عاش كلّ منهما خمسمائة سنة.
و منهم عبيد بن الأبرص عاش ثلاثمأة سنة فقال:
- فنيت و أفنانى الزّمان و أصبحتلدىّ بنو العشرون هنّ الفواقد
و منهم عزيز مصر الّذى كان في زمن يوسف و أبوه و جدّه و هم الوليد بن
الرّيان بن ذوسع و كان عمر العزيز سبعمائة سنة و عمر الرّيان ألف و سبعمائة سنة و عمر ذوسع ثلاثة آلاف سنة.
و منهم الضحّاك صاحب الحيّتين عاش ألفا و مأتي سنة.
و منهم افريدون العادل عاش فوق ألف سنة.
و منهم الملك الذى أحدث المهرجان فقد زعمت الفرس انّه عاش ألفى سنة و خمسمائة.
إلى غير هؤلاء من المعمّرين الّذين لا نطول بذكرهم، و انّما ذكرنا هؤلاء تاييدا لما قاله أمير المؤمنين عليه السّلام و ايضاحا له، لأنّ هؤلاء مع كونهم أطول أعمارا قد كانوا (أعمر ديارا و أبعد آثارا) أيضا حسبما أشرنا إليه.
و المراد ببعد الاثار بعدها عن أن يقتدر على مثلها المخاطبون الّذين خاطبهم عليه السّلام بهذه الخطبة و كفى بذلك شاهدا بناء الهرمين بمصر، و هما إلى الان باقيان و قد بناهما عزيز مصر وليد بن الرّيان كما نقله تفصيلا الصّدوق في كتاب اكمال الدّين و قد اشير الى بعد آثار بعض من تقدّم ذكرهم في قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ. وَ ثَمُودَ الَّذِينَ. جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ. وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا. فِيهَا الْفَسادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ.
قال أمين الاسلام الطّبرسي: الاية خطاب للنّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تنبيه للكفّار على ما فعله سبحانه بالامم السّالفة لما كفرت باللّه و بأنبيائه و كانت أطول أعمارا و أشدّ قوّة و عاد قوم هود.
و اختلفوا في إرم على أقوال: أحدها أنّه اسم قبيلة و قيل إنّه جدّ عاد و هو عاد بن عوص بن إرم بن سام ابن نوح.
و ثانيها أنّه اسم بلد و هو دمشق و قيل: هو مدينة الاسكندريّة و قيل مدينة شدّاد بن عاد فلمّا أتمّها و أراد أن يدخلها أهلكه اللّه بصيحة نزلت من السّماءو ثالثها أنّه لقب عاد و قوله «ذات العماد» معناه ذات الطول و الشدّة و قيل: ذات الأبنية العظام المرتفعة، و قال ابن زيد ذات العماد في احكام البنيان «التي لم يخلق مثلها» أى مثل أبنيتها «في البلاد و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد» أى قطعوا الصخر و نقبوها بالوادى الذين كانوا ينزلونه و هو وادى القرى.
قال ابن عباس: كانوا ينحتون الجبال فيجعلون منها بيوتا كما قال تعالى وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ «و فرعون ذى الأوتاد» قال عليّ بن إبراهيم القمّي عمل الاوتاد التي أراد أن يصعد بها إلى السماء.
و قال الطبرسي قيل في معناه أقوال: أحدها أنه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها.
و الثاني انه كان يعذّب بالأوتاد و ذلك أنه إذا غضب على أحد و تد يديه و رجليه و رأسه على الأرض و الثالث أنّ معناه ذو البنيان و البنيان أوتاد.
و الرّابع أنه ذو الجموع و الجنود الكثيرة بمعنى أنهم يشدّدون ملكه و يقوّون أمره كما يقوّى الوتد الشي ء.
و الخامس أنه سمّى ذو الأوتاد لكثرة جيوشه السائرة في الأرض و كثرة أوتاد خيامهم فعبر بكثرة الأوتاد عن كثرة الأجناد و كيف كان فقد ظهر بذلك كلّه أنّ السلف الماضين كانوا طويلة الأعمار عامرة الدّيار بعيدة الاثار من أن يصفها الواصفون أو يقوى على إتيان مثلها الغابرون و مع اتّصافهم بهذه الابهة و العظمة و القوّة و الجلال: (أصبحت أصواتهم هامدة) و هذه الجملة استينافية بيانية فانه لما نبّه المخاطبين على أنهم على سبيل من قد مضى قبلهم فكان لقائل أن يستفهم و يقول: كيف كان حال الماضين و مال أمرهم أجاب عليه السّلام بأنّ أصواتهم العالية الجهورية بالأمرو النّهى و الحكم و الالزام صارت ساكتة ذاهبة الاثر بالمرّة.
(و رياحهم راكدة) قال الشارح البحراني: ركود رياحهم كناية عن سكون أحوالهم و خمول ذكرهم بعد العظمة في الصّدور انتهى.
و الأظهر أن يراد أنّ أعاصيرهم العاصفة الشديدة الهبوب التي كانت تهب بالرّتق و الفتق و السّياسات صارت ساكنة.
(و أجسادهم بالية) بعد بضاضتها و نضارتها (و ديارهم خالية) من أهلها بعد عمارتها (و آثارهم عافية) مندرسة بعد عظمتها و جلالتها.
(فاستبدلوا بالقصور المشيدة) المجصّصة الرّفيعة البنيان المحكمة القواعد و الأركان (و النمارق الممهّدة) أى الوسائد المهيئة للمتكئين (الصخور و الأحجار المسنّدة) اى المستندة بعضها إلى بعض أو أنها كانت لهم سنادا (و القبور اللّاطئة الملحدة) أى اللاصقة بالأرض المعمول لها اللّحد (التي قد بنى بالخراب فناؤها) أى على الخراب، و المراد خراب نفس القبور و تسرّع انهدامها، و انما نسب البناء إلى الفناء و لم يقل قد بنيت بالخراب، لأنّه من باب الكناية باقتضاء البلاغة و قد عرفت في ديباجة الشرح في مبحث الكناية أنّهم يقصدون إثبات شي ء لشي ء فيتركون التصريح باثباته له و يثبتونه لمتعلّقه كما في قول الشّاعر:
- إنّ المروّة و السّماحة و الندىفي قبّة ضربت على ابن الحشرج
جعل الأوصاف الثلاثة في قبّة الممدوح و كنى به عن ثبوتها له و قول الاخر في وصف الخمر
- صفراء لا تنزل الأحزان ساحتهالو مسّها حجر مسّته سرّاء
كنى عن نفى الحزن عنها بنفيها عن ساحتها و هو أبلغ من التّصريح به و يحتمل أن يكون المراد خراب الأبدان المدفونة فيها و فناؤها بالبلى (و شيّد بالتراب بناؤها) و في وصفها بذلك أى بكون شيدها التراب دون الجصّ ايماء إلى هوانها و هوان من دفن فيها.
(فمحلّها مقترب و ساكنها مغترب) يحتمل أن يكون المراد أنّ محلّ القبور و مكانها قريب من الأحياء و لكن ساكنها غريب عنهم، و أن يكون المراد أنّ محلّ كلّ منها قريب من الاخر و لكن ساكنوها غرباء، يعني أنّهم تدانوا في خططهم و قربوا في مزارهم و بعدوا في لقائهم.
(بين أهل محلّة موحشين) أى ذوى وحشة ليس بينهم مودّة و لا الفة و على كون موحشين بصيغة المفعول فالمعنى استيحاش الاحياء منهم، و حاصله أنّهم لا يستأنسون بأحد و لا يستأنس بهم أحد لا من الأحياء و لا من الأموات (و أهل فراغ متشاغلين) أى فراغ من الأمور الدّنيويّة متشاغلين بالامور البرزخيّة من السؤال و الجواب و الثواب و العقاب.
(لا يستأنسون بالأوطان) كاستيناس الاحياء بأوطانهم (و لا يتواصلون تواصل الجيران) كتوصّل أهل الدّنيا بجيرانهم (على ما بينهم من قرب الجوار و دنوّ الدّار) و حاصله أنّهم جيران لا يتأنسون و أحياء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التّعارف، و انقطعت منهم أسباب التّواصل، فكلّهم و حيدوهم جميع، و بجانب الهجران و هم جيران (و كيف يكون بينهم تزاور) و تأنّس (و قد طحنهم بكلكله البلى) استعارة بالكناية شبّه البلى بالجمل الضّروس الّذى يرضّ و يدقّ ما يركب عليه بكلكله أى صدره فأثبت له الكلكل تخييلا، و الطحن ترشيحا، و الجامع أنّ البلى يجعل الأجساد أجزاء دقاقا مثل الدّقيق و الطّحين، و كذلك يجعل الضّروس بكلكله ما برك عليه عند الصّيال، و محصّله استبعاد تزاورهم مع اضمحلال أجسامهم و انحلالها بالبلى و كونهم ممزّقين كلّ ممزّق (و أكلتهم الجنادل و الثرى) استعارة تبعيّة كما في قولهم: نطقت الحال، و المراد إفناؤها لهم، فاستعار لفظ الاكل للافناء أى كيف يكون بينهم تزاور و قد أفنتهم الجنادل و التّراب هذا.
و لا يخفى عليك أنّ إنكار التّزاور و التأنس إمّا مخصوص بغير المؤمنين
أو محمول على التزاور بالأجساد، و هو الأظهر، لأنّ المستفاد من الأخبار الكثيرة ثبوت التّزاور بين أرواحهم، و قد مضت عدّة منها في أواخر التّذييل الثالث من شرح الفصل السّابع من فصول الخطبة الثانية و الثّمانين فليراجع ثمّة.
و رويت هنا مضافا إلى ما سبق من البحار من المحاسن عن ابن محبوب عن إبراهيم بن إسحاق الجازى قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أين أرواح المؤمنين فقال: أرواح المؤمنين في حجرات الجنّة يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها و يتزاورون فيها و يقولون ربّنا أقم لنا السّاعة لتنجز لنا ما وعدتنا، قال: قلت: فأين أرواح الكفار فقال: في حجرات النّار يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها و يتزاورون فيها و يقولون: ربّنا لا تقم لنا السّاعة لتنجز لنا ما وعدتنا.
و من المحاسن أيضا عن ابن فضّال عن حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ذكر الأرواح أرواح المؤمنين فقال: يلتقون، قلت: يلتقون قال: نعم يتساءلون و يتعارفون حتى إذا رأيته قلت فلان.
و فيه من الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجر الجنة تعارف و تسائل، فاذا قدمت الرّوح على الأرواح تقول: دعوها فانها قد أقبلت من هول عظيم، ثمّ يسألونها ما فعل فلان و ما فعل فلان، فان قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، و إن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى هوى و الاخبار في هذا المعنى كثيرة و لا حاجة إلى الاطالة.
ثمّ إنه عليه السّلام لما ذكر المخاطبين بشرح أحوال الماضين و عظم ما حلّ بهم من احوال القبر و دواهيه عقّب عليه السّلام ذلك بالتنبيه على قرب لحاقهم بهم فقال (و كأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه) أى انتقلتم من ذروة القصور إلى وهدة القبور و بدّلتم النمارق الممهّدة بالأحجار المشيدة، و دار الانس و العيش و السعة ببيت الوحدة و الوحشة و الضيق و الغربة (و ارتهنكم ذلك المضجع) أى أخذكم أخذ المرتهن لرهنه (و ضمّكم ذلك المستودع) أى ضغطكم القبر الذى هو محلّ الاستيداع
قال الشارح البحراني: و اطلق عليه لفظ المستودع باعتبار كونهم سيخرجون منه يوم القيامة، انتهى.
و قد تقدّم بيان ضغطة القبر تفصيلا و تحقيقا مع الأخبار الواردة فيها في التذييل الثالث من شرح الفصل السابع من الخطبة الثانية و الثمانين و لا حاجة إلى الاعادة.
ثمّ ذكرّهم عليه السّلام بدواهي القيامة و أفزاعها فقال (فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور) أى الامور البرزخية (و بعثرت القبور) أى قلب ترابها و بعث الموتى الذين فيها و جدّدوا بعد اخلاقهم و جمعوا بعد افتراقهم لنقاش الحساب و معاينة الجزاء و هذه اللفظة من ألفاظ الكتاب العزيز قال سبحانه إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ.. وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ. وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ. وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ. عَلِمَتْ نَفْسٌ. ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ و قال أيضا أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ. وَ حُصِّلَ ما فِي. الصُّدُورِ. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أى بحث عن الموتى فاخرجوا عنها يعني عند البعث.
(هنا لك تبلو كلّ نفس ما أسلفت و ردّوا إلى اللّه موليهم الحقّ و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون) اقتباس من الاية الشّريفة في سورة يونس أى في ذلك المقام يعني مقام البعث تختبر كلّ نفس ما قدّمت من عمل فتعاين نفعه و ضرّه، و قرء بعضهم تتلو أى تقرء من التلاوة أو تتبع من التّلو، و ردّوا إلى اللّه موليهم الحقّ أى إلى ربّهم الصّادق ربوبيّته المتولّي لأمرهم على الحقيقة لا ما اتّخذوه مولى و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون، أى ضاع عنهم ما كانوا يدعونه أنّهم شركاء اللّه و أنّهم تشفع لهم روى فى البحار من كتاب مطالب السّؤول عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: انظروا إلى الدّنيا نظر الزّاهدين فيها فانّها و اللّه عن قليل تشقى المترف، و تحرّك السّاكن، و تزيل الثّاوى، صفوها مشوب بالكدر، و سرورها منسوج بالحزن، و آخر حياتها مقترن بالضعف، فلا يعجبنّكم ما يغرّنكم منها فعن كثب تنقلون
عنها، و كلّ ما هو آت قريب، و هنا لك تبلو كلّ نفس مأ اسلفت و ردّوا إلى اللّه موليهم الحقّ و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون.
تكملة
هذه الخطبة رواها المحدّث العلامة المجلسي قدّس سرّه في المجلّد السابع عشر من البحار من كتاب عيون الحكمة و المواعظ لعليّ بن محمّد الواسطي قال: و من كلام له عليه السّلام: إنكم مخلوقون اقتدارا، و مربوبون اقتسارا، و مضمّنون أجداثا، و كائنون رفاتا، و مبعوثون افرادا، و مدينون جزاء، و مميّزون حسابا، فرحم اللّه عبدا اقترف فاعترف، و وجل فعمل، و حاذر فبادر، و عبّر فاعتبر، و حذّر فازدجر، و أجاب فأناب، و راجع فتاب، و اقتدى فاحتذى، فأسرع طلبا، و نجا هربا فأفاد ذخيرة، و أطاب سريرة، و تأهّب للمعاد، و استظهر بالزّاد، ليوم رحيله، و وجه سبيله، و حال حاجته، و موطن فاقته، تقدّم امامه لدار مقامه فمهّدوا لأنفسكم في سلامة الأبدان، فهل ينتظر أهل غضارة الشّباب إلّا حوانى الهرم، و أهل بضاضة الصحّة إلّا نوازل السّقم، و أهل مدّة البقاء إلّا مفاجاة الفناء، و اقتراب الفوت و دنوّ الموت، و ازوف الانتقال، و اشفاء الزّوال، و حفى الأنين، و رشح الجبين، و امتداد العرنين، و علز القلق، و فيض الرّمق، و ألم المضض، و غصص الجرض.
و اعلموا عباد اللّه أنكم و ما أنتم فيه من هذه الدّنيا على سبيل من قد مضى ممّن كان أطول منكم أعمارا، و أشدّ بطشا، و أعمر ديارا، و أبعد آثارا، فأصبحت أصواتهم هامدة جامدة من بعد طول تقلبها، و أجسادهم بالية، و ديارهم خالية، و آثارهم عافية، و استبدلوا بالقصور المشيّدة، و السّرور و النّمارق الممهّدة، الصخور و الأحجار المسندة، في القبور اللاطئة الملحدة التي قد بين الخراب فنائها و شيد التراب بنائها، فمحلّها مقترب و ساكنها مغترب، بين أهل عمارة موحشين، و أهل محلّة متشاغلين، لا يستأنسون بالعمران، و لا يتواصلون الجيران و الاخوان على ما بينهم من قرب الجوار و دنوّ الدّار.
و كيف يكون بينهم تواصل و قد طحنهم بكلكله البلى، فأكلهم الجنادل و الثرى، فأصبحوا بعد الحياة أمواتا، و بعد غضارة العيش رفاتا، فجع بهم الأحباب و سكنوا التراب، و ظعنوا فليس لهم اياب، هيهات هيهات «كلّا إنها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون».
و كأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلى و الوحدة فى دار الموت، و ارتهنتهم في ذلك المضجع، و ضمّكم ذلك المستودع، فكيف بكم لو قد تناهت الامور، و بعثرت القبور و حصّل ما في الصّدور و وقعتم للتحصيل، بين يدي الملك الجليل، فطارت القلوب لاشفاقها من سلف الذنوب، هتكت منكم الحجب و الأستار، و ظهرت منكم العيوب و الأسرار «هنا لك تجزى كلّ نفس بما كسبت» إنّ اللّه يقول وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ.
اغتنموا أيّام الصحّة قبل السقم، و أيام الشيبة قبل الهرم، و بادروا بالتوبة قبل النّدم، و لا يحملنّكم المهلة على طول الغفلة، فان الأجل يهدم الأمل، و الأيّام موكلة بنقص المدّة، و تفريق الأحبّة.
فبادروا رحمكم اللّه بالتوبة قبل حضور النوبة، و بروز اللّعبة التي لا ينتظر معه الأوبة و استعينوا على بعد المسافة بطول المخافة.
فكم من غافل وثق لغفلته، و تعلّل بمهلته، فأمّل بعيدا، و بنى مشيدا، فنقص بقرب أجله بعد أمله، فأجابه منيّته، فصار بعد العزّ و المنعة و الشرف و الرفعة مرتهنا بموبقات عمله، قد غاب فما رجع، و ندم فما انتفع، و شقى بما جمع في يومه و سعد به غيره في غده، و بقى مرتهنا بكسب يده، زاهلا عن أهله و ولده، لا يغنى عنه ما ترك فتيلا، و لا يجد إلى مناص سبيلا فعلهم عباد اللّه التعرّج و الدّلج و إلى أين المفرّ و المهرب، و هذا الموت في الطلب يخترم الأوّل فالأوّل، لا يتحنّن على ضعيف، و لا يعرّج على شريف، و الجديد ان يحثّان الأجل تحثيثا، و يسوقانه سوقا حثيثا، و كلّ ما هو آت فقريب، و من وراء ذلك العجب العجب فأعدّوا الجواب يوم الحساب، و أكثروا الزّاد ليوم المعاد، عصمنا اللّه و إياكم بطاعته، و أعاننا و اياكم على ما يقرّب إليه و يزلف لديه، فانما نحن به و له إنّ اللّه وقّت لكم الاجال، و ضرب لكم الأمثال، و ألبسكم الرّياش، و أرفع لكم المعاش، و آثركم بالنعم السوابغ، و تقدم إليكم بالحجج البوالغ، و أوسع لكم في الرفد الرافع، فتنهزوا فقد أحاط بكم الاحصاء، و ارتهن لكم الجزاء القلوب قاسية عن حظها، لاهية عن رشدها، اتّقوا اللّه تقيّة من شمّر تجريدا، و جدّ تشميرا و انكمش في مهل، و أشفق في وجل، و نظر في كرّة الموئل، و عافية الصبر، و معية المرجع، و كفى باللّه منتقما و نصيرا، و كفى بكتاب اللّه حجيجا و خصيما.
رحم اللّه عبدا استشعر الحزن، و تجلبب الخوف و أضمر اليقين، و عرى من الشك في توهم الزّوال، فهو منه على وبال، فزهر مصباح الهدى في قلبه، و قرّب على نفسه البعيد، و هوّن الشديد، فخرج من صفة العمى، و مشاركة الموتى و اجتاز من مفاتيح الهدى، و مغاليق أبواب الرّدى، و استفتح بما فتح العالم به أبوابه، و خاض بحاره، و قطع غماره، و وضحت له سبيله و مناره، و استمسك من العرى بأوثقها، و استعصم من الحبال بأمتنها، خواض غمرات، فتاح مبهمات، دافع معضلات امة و لا مطية إلّا قصدها
تنبيه
قد تقدّم أوائل فقرات هذا الكلام بهذه الرّواية إلى قوله و غصص الجرض في ضمن فقرات الخطبة الثانية و الثمانين باختلاف أيضا فانظر ما ذا ترى و بما ذكرناه في شرح هذه الخطبة و الخطب المتقدّمة يتّضح لك قريب «غريب ظ» ما فى هذه الرواية و لا حاجة إلى الاعادة هذا.
و يستفاد من بعض الرّوايات كون هذه الخطبة مع الكلام الثاني و الأربعين ملتقطين من خطبة طويلة، و هو ما رواه أيضا في المجلّد السابع عشر من البحار في موضع آخر من مناقب ابن الجوزى قال: خطبة و يعرف بالبالغة.
روى ابن أبي ذئب عن أبي صالح العجلي قال: شهدت أمير المؤمنين كرّم اللّه وجهه و هو يخطب فقال بعد أن حمد اللّه تعالى و صلّى على محمّد رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّها النّاس إنّ اللّه أرسل إليكم رسولا ليربح به عليكم، و يوقظ به غفلتكم و إنّ أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى و طول الأمل، أمّا اتّباع الهوى فيصدّكم عن الحقّ، و أمّا طول الأمل فينسيكم الاخرة، ألا و انّ الدّنيا قد ترحّلت مدبرة، و إنّ الاخرة قد ترحّلت مقبلة، و لكلّ واحد منهما بنون فكونوا من أبناء الاخرة و لا تكونوا من أبناء الدّنيا، فانّ اليوم عمل و لا حساب و غدا حساب و لا عمل.
و اعلموا أنّكم ميّتون و مبعوثون من بعد الموت و محاسبون على أعمالكم و مجازون بها، فلا يغرّنكم الحياة الدّنيا و لا يغرّنكم باللّه الغرور.
فانّها دار بالبلاء محفوفة، و بالعناء و الغدر موصوفة، و كلّ ما فيها إلى زوال، و هي بين أهلها دول و سجال، لا تدوم أحوالها، و لا يسلم من شرّها نزّالها، بينا أهلها في رخاء و سرور، إذا هم في بلاء و غرور، العيش فيها مذموم، و الرّخاء فيها لا يدوم، أهلها فيها أغراض مستهدفة، كلّ حتفه فيها مقدور، و حظّه من نوائبها موفور.
و أنتم عباد اللّه على محجّة من قد مضى، و سبيل من كان ثمّ انقضى، ممّن كان أطول منكم أعمارا و أشدّ بطشا، و أعمر ديارا، أصبحت أجسادهم بالية، و ديارهم خالية، فاستبدلوا بالقصور المشيّدة، و النّمارق الموسّدة، بطون اللّحود، و مجاورة الدّود، في دار ساكنها مغترب، و محلّها مقترب، بين قوم مستوحشين، متجاورين غير متزاورين، لا يستأنسون بالعمران، و لا يتواصلون تواصل الجيران، على ما بينهم من قرب الجوار، و دنوّ الدّار.
و كيف يكون بينهم تواصل و قد طحنتهم البلى، و أظلتهم الجنادل و الثرى، فأصبحوا بعد الحياة أمواتا، و بعد غضارة العيش رفاتا، قد فجع بهم الأحباب، و اسكنوا التّراب، و ظعنوا فليس لهم اياب، و تمنّوا الرّجوع فحيل بينهم و بين ما يشتهون
كلّا إنّها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.
قال و قد أخرج أبو نعيم طرفا من هذه الخطبة في كتابه المعروف بالحلية.
|