و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَعَ الْإِسْلَامَ- فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ- وَ أَعَزَّ أَرْكَانَهُ عَلَى مَنْ غَالَبَهُ- فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ- وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ- وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ- وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ عَنْهُ- وَ نُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ وَ فَهْماً لِمَنْ عَقَلَ- وَ لُبّاً لِمَنْ تَدَبَّرَ- وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ- وَ تَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ- وَ عِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ وَ نَجَاةً لِمَنْ صَدَّقَ وَ ثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ- وَ رَاحَةً لِمَنْ فَوَّضَ وَ جُنَّةً لِمَنْ صَبَرَ- فَهُوَ أَبْلَجُ الْمَنَاهِجِ وَ أَوْضَحُ الْوَلَائِجِ- مُشْرَفُ الْمَنَارِ مُشْرِقُ الْجَوَادِّ- مُضِي ءُ الْمَصَابِيحِ كَرِيمُ الْمِضْمَارِ- رَفِيعُ الْغَايَةِ جَامِعُ الْحَلْبَةِ- مُتَنَافِسُ السُّبْقَةِ شَرِيفُ الْفُرْسَانِ- التَّصْدِيقُ مِنْهَاجُهُ- وَ الصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ- وَ الْمَوْتُ غَايَتُهُ وَ الدُّنْيَا مِضْمَارُهُ- وَ الْقِيَامَةُ حَلْبَتُهُ وَ الْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ
اللغة
أقول: الأبلج: الواضح المشرق. و الوليجة: بطانة الرجل و خاصّته. و المضمار: محلّ تضمير الخيل للسباق. و الحلبة: خيل يجمع من مواضع متفرّقة للسباق، و قد تطلق على مجمعها. و السبقة: ما يستبق عليه من الخطر.
المعنى
و قد حمد اللّه سبحانه باعتبار ما أنعم به من وضع شريعة الإسلام للعقول لتسلك بها إليه، و أشار بشرائعه إلى موارد العقول من أركانه، و تسهيله لها إيضاح قواعده و خطاباته بحيث يفهمهما الفصيح و الألكن و يشارك الغبىّ في ورود مناهلها الفطن الذكىّ، و إعزاز أركانه حمايتها و رفعها على من قصد هدمه و إطفاء نوره مغالبة من المشركين و الجاهلين. ثمّ مدح الإسلام بأوصاف أسندها إلى مفيضه و شارعه سبحانه و تعالى:
أحدها: جعله أمنا لمن علقه
و ظاهر كونه أمنا لمن تعلّق به في الدنيا من القتل و في الآخرة من العذاب.
الثاني: و سلما لمن دخله
أى مسالما له، و في الأوّل ملاحظة لتشبيهه بالحرم باعتبار دخوله، و في الثاني ملاحظة لشبهه بالمغالب من الشجعان باعتبار مسالمته.
و معنى مسالمة الإسلام له كونه محقون الدم مقرّرا على ما كان يملكه فكأنّ الإسلام سالمه أو صالحه لكونه لا يقتصّ ما يؤذيه بعد دخوله فيه.
الثالث: كونه برهانا لمن تكلّم به
أى فيه ما هو برهان.
الرابع: كونه شاهدا لمن خاصم به و الشاهد أعمّ من البرهان لتناوله الجدل و الخطابة.
الخامس: كونه نورا يستضاء به
فاستعار له لفظ النور، و رشّحه بذكر الاستضاءة، و وجه المشابهة كونه مقتدى به في طريق اللّه إلى جنّته.
السادس: كونه مفهما لمن عقل.
و لمّا كان الفهم عبارة عن جودة تهيّؤ الذهن لقبول ما يرد عليه كان الدخول في الإسلام و رياضة النفس بقواعده و أركانه سببا عظيما لتهيّؤ الذهن لقبول الأنوار الإلهيّة و فهم الأسرار لا جرم أطلق عليه لفظ الفهم مجازا إطلاقا لاسم المسبّب على السبب.
السابع: كونه لبّا لمن تدبّر
و لمّا كان اللبّ هو العقل أطلق عليه لفظ العقل و إن كان مسبّبا له كالمجاز الأوّل، و أراد العقل بالملكة و ما فوقه من مراتب العقل فإنّ الإسلام و قواعده أقوى الأسباب لحصول العقل بمراتبه.
الثامن: كونه آية لمن توسّم
و أراد من تفرّس طرق الخير و مقاصده فإنّ الإسلام آية و علامة لذلك المتفرّس، إذ اهتدى بها فقد وقع في طريق الهدى.
التاسع: كونه تبصرة لمن عزم
و أراد من عزم على أمر قصده فإنّ في الإسلام تبصرة لكيفيّة فعله على الوجه الّذي ينبغي.
العاشر: كونه عبرة لمن اتّعظ
و ذلك ظاهر فإنّ الإسلام نعم المعبر بنفس المتّعظ إلى حضرة قدس اللّه بما فيه من أحوال القرون الماضية و تصرّف الزمان بهم.
الحادى عشر: كونه نجاة لمن صدّق
الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيما جاء به. فإنّ دخوله في الإسلام سبب نجاته من سيوف اللّه في الدنيا و عذابه في الآخرة، و أطلق عليه اسم النجاة إطلاقا لاسم المسبّب على السبب.
الثاني عشر: كونه ثقة لمن توكّل
أى هو سبب ثقة المتوكّلين على اللّه لاشتماله على الوعد الكريم و به يكون استعدادهم للتوكّل.
الثالث عشر: كونه راحة لمن فوّض
أى من ترك البحث و الاستقصاء في الدلائل و تمسّك بأحكام الإسلام و دلائل القرآن و السنّة المتداولة بين أهله و فوّض أمره إليه استراح بذلك التفويض. و قيل: بل المراد أنّ فيه الندب إلى تفويض الأمور إلى اللّه و علم ما لم يعلم منها و ترك التكليف به و ذلك راحته، و قيل: بل المراد أنّ المسلم إذا كمل إسلامه و فوّض أمره إلى اللّه كفاه اللّه جميع اموره و أراحه من الاهتمام بها.
الرابع عشر: كونه جنّة لمن صبر
أى صبر على العمل بقواعده و أركانه، و ظاهر كونه جنّة من عذاب اللّه، و لفظ الجنّة مستعار.
الخامس عشر: أبلج المناهج
و مناهج الإسلام طرقه و أركانه الّذي يصدق على من سلكها أنّه مسلم، و هى الإقرار باللّه و رسوله و التصديق بما ورد به الشريعة كما يفسّره هو به، و ظاهر كونها أنوار واضحة الهدى.
السادس عشر: كونه واضح الولايج
واضح البواطن و الأسرار لمن نظر إليه بعين الاعتبار.
السابع عشر: كونه مشرف المنار
و منار الإسلام الأعمال الصالحات الّتي يقتدى بها السالكون كالعبادات الخمس و نحوها، و ظاهر كونه مشرفة عالية على غيرها من العبادات السابقة.
الثامن عشر: كونه مشرق الجوادّ
و هو قريب من أبلج المناهج.
التاسع عشر: كونه مضي ء المصابيح
و كنّى بها عن علماء الإسلام و أئمّته كناية بالمستعار، و رشّح بذكر الإضاءة، و كنّى بها عن ظهور العلم عنهم و اقتداء الخلق بهم، و يحتمل أن يريد بالمصابيح أدلّة الإسلام كالكتاب و السنّة.
العشرون: كونه كريم المضمار
و مضمار الإسلام الدنيا كما سنذكره، و لا شكّ في كونها كريمة باعتبار اقتباس الأنوار منها و العبور بها إلى اللّه تعالى، و لفظ المضمار مستعار لها، و قد سبق بيانه.
الحادى و العشرون: كونه رفيع الغاية
و لمّا كانت غايته الوصول إلى حضرة ربّ العالمين الّتي هي جنّة المأوى لا جرم كان رفيع الغاية. إذ لا غاية أرفع منها و أعلى مرتبة.
الثاني و العشرون: كونه جامع الحلبة
و استعار لفظ الحلبة للقيامة فإنّها حلبة الإسلام كما سنبيّنه، و وجه الاستعارة كونها محلّ الاجتماع بها للسباق إلى حضرة اللّه الّتي هي الجنّة كاجتماع الخيل للسباق إلى الرهن.
الثالث و العشرون: كونه متنافس السبقة
و لمّا كانت سبقته الجنّة كانت أشرف ما يتنافس فيها.
الرابع و العشرون: كونه شريف الفرسان
و استعار لفظ الفرسان لعلمائه الّذين هم فرسان العلوم و رجالها ملاحظة لشبههم بالفرس الجواد الّذي يجارى راكبه.
الخامس و العشرون: التصديق منهاجه
و هى إلى آخره تفسير لما اهمل تفسيره من منهاجه و مناره و غايته و مضماره و حلبته و سبقته، و إنّما جعل الموت غاية: أى الغاية القريبة الّتي هى باب الوصول إلى اللّه تعالى، و يحتمل أن يريد بالموت موت الشهوات فإنّها غاية قريبة للإسلام أيضا، و كذلك استعار لفظ السبقة للجنّة لكونها الثمرة المطلوبة و الغاية من الدين كما أنّ السبقة غاية سعى المتراهنين.
|