ألا و إنّ هذه الدّنيا الّتي أصبحتم تتمنّونها و ترغبون فيها و أصبحت تغضبكم و ترضيكم، ليست بداركم و لا منزلكم الّذي خلقتم له، و لا الّذي دعيتم إليه، ألا و إنّها ليست بباقية لكم، و لا تبقون عليها، و هي و إن غرّتكم منها فقد حذّرتكم شرّها. فدعوا غرورها لتحذيرها، و إطماعها لتخويفها، و سابقوا فيها إلى الدّار الّتي دعيتم إليها، و انصرفوا بقلوبكم عنها و لا يحنّن أحدكم حنين الأمة على ما زوي عنه منها، و استتمّوا نعمة اللّه عليكم بالصّبر على طاعة اللّه، و المحافظة على ما استحفظكم من كتابه. ألا و إنّه لا يضرّكم شي ء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم. ألا و إنّه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شي ء حافظتم عليه من أمر دنياكم. أخذ اللّه بقلوبنا و قلوبكم إلى الحقّ، و ألهمنا و إيّاكم الصّبر.
اللغة
(أطمعه) إطماعا أوقعه في الطمع و (حنّ) يحنّ حنينا استطرب و الحنين الشّوق و شدّة البكاء و الطرب أو صوت الطرب عن حزن أو فرح، و في بعض النسخ بالخاء المعجمة قال في القاموس و الحنين كالبكاء أو الضحك في الأنف و قد خنّ يخنّ، و قال علم الهدى في كتاب الغرر و الدّرر في قول ابن أراكة الثقفي:
- فقلت لعبد اللّه إذ حنّ باكياتعزّ و ماء العين منهمر يجرى
- تبين فان كان البكاء ردّ هالكاعلى أحد فاجهد بكاك على عمرو
قوله: حنّ باكيا رفع صوته بالبكاء و قال: قال قوم الخنين بالخاء المعجمة من الأنف و الحنين من الصّدر، و هو صوت يخرج من كلّ واحد منهما و (زوى) الشي ء زيّا و زويّا جمعه و قبضه.
الاعراب
الضمير في قوله زوى عنه راجع إلى أحدكم و في بعض النسخ بدله عنها فيرجع إلى الامّة و الأوّل أظهر، و إضافة قائمة إلى دينكم لاميّة و تحتمل أن تكون بيانيّة كما نشير اليه في شرح معناه.
المعنى
ثمّ أخذ في التنفير عن الدّنيا و التّزهيد فيها بقوله (ألا و إنّ هذه الدّنيا) الاتيان باسم الاشارة للتحقير كما في قوله تعالى: أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ، و في الاتيان بالموصول أعني قوله: (الّتي أصبحتم تتمنّونها و ترغبون فيها و أصبحت تغضبكم و ترضيكم) تنبيه على خطاء المخاطبين، و توبيخ لهم بأنّهم يرغبون في شي ء يخلصون المحبّة له و هو لا يراعي حقّهم بل يغضبهم تارة، و يرضيهم اخرى و نظير هذا الموصول المسوق للتنبيه على الخطاء ما في قوله:
- إنّ الّذين ترونهم إخوانكميشفى غليل صدورهم أن تصرعوا
يعني أنّ هذه الدّنيا مع تمنّيكم لها و فرط رغبتكم فيها و مع عدم إخلاصها المحبّة لكم (ليست بداركم) الّتي يحقّ أن تسكنوا فيها (و لا منزلكم الذي خلقتم له) و للاقامة فيه (و لا الّذي دعيتم إليه) و إلى التوطن فيه (ألا و إنّها ليست بباقية لكم و لا تبقون عليها) و إلى هذا ينظر قوله عليه السّلام:
- أرى الدّنيا ستؤذن بانطلاقمشمّرة على قدم و ساق
- فلا الدّنيا بباقية لحيّ و لا حىّ على الدّنيا بباق
يعني أنّها دار فناء لا تدوم لأحد و لا يدوم أحد فيها (و هى و إن غرّتكم منها) بما زينتكم من زخارفها و إغفالكم عن فنائها (فقد حذّرتكم شرّها) بما أرتكم من آفاتها و فنائها و ما ابتليتم فيها من فراق الأحبّة و الأولاد و نحوها (فدعوا غرورها) اليسير (لتحذيرها) الكثير (و أطماعها) الكاذب (لتخويفها) الصّادق.
(و سابقوا فيها) بالخيرات و الأعمال الصّالحات (إلى الدّار الّتي دعيتم إليها) و هي الجنّة الّتي عرضها الأرض و السّماوات (و انصرفوا بقلوبكم عنها) إلى ما لم يخطر على قلب بشر ممّا تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين و جميع الامنيّات (و لا يحنن أحدكم حنين الأمة على ما زوي) و صرف (عنه منها) و هو نهى عن الأسف على الدّنيا و الحزن و البكاء على ما فاته منها، و قبض عنه من قيناتها و زخارفها.
و التشبيه بحنين الأمة لأنّ الاماء كثيرا ما يضربن و يبكين و يسمع الحنين منهنّ و الحرائر يأنفن من البكاء و الحنين (و استتمّوا نعمة اللّه عليكم بالصّبر على طاعة اللّه) أى بالصبر و التحمّل على مشاقّ العبادات أو بالصبر على المصائب و البلايا طاعة له سبحانه، و على أىّ حال فهو من الشكر الموجب للمزيد (و) به يطلب تمام النعمة في الدنيا و الاخرة كما قال عز من قائل: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» كما يطلب تمامها ب (المحافظة على ما استحفظكم من كتابه) أى بالمواظبة على ما طلب منكم حفظه و المواظبة عليه من التكاليف الشرعيّة الواردة في كتابه العزيز لأنّ المواظبة على التكاليف و الطاعات سبب عظيم لافاضة النعماء و الخيرات.
و أكّد الأمر بالمحافظة بقوله (ألا و إنّه لا يضرّكم تضييع شي ء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم) لعلّ المراد بقائمة الدّين اصوله و ما يقرب منها و على كون الاضافة بيانيّة فالمراد بقائمته نفس الدّين إذ به قوام أمر الدّنيا و الاخرة.
ثمّ نبّه على عدم المنفعة في الدّنيا مع فوات الدّين فقال: (ألا و إنّه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شي ء حافظتم عليه من أمر دنياكم) و ذلك واضح لأنّ أمور الدّنياويّة مع تضييع الدّين لا تنتفع بشي ء منها في الاخرة البتة.
و ختم الكلام بالدّعاء لنفسه و لهم و قال: (أخذ اللّه بقلوبنا و قلوبكم إلى الحقّ) و هدانا إلى سلوك سبيله (و ألهمنا و إيّاكم الصبر) على مصيبته و طاعته و معصيته لأنّ من صبر عند المصيبة حتى يردّها بحسن عزائها كتب اللّه له ثلاثمأة درجة ما بين الدّرجة الى الدّرجة كما بين السماء و الأرض، و من صبر على الطاعة كتب اللّه له ستمائة درجة ما بين الدّرجة الى الدّرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، و من صبر عن المعصية كتب اللّه له تسعمائة درجة ما بين الدّرجة إلى الدّرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش.
رواه في الوسائل من الكافي عن أمير المؤمنين عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد تقدّم روايته مع أخبار اخر في فضل الصبر في شرح الخطبة الخامسة و السّبعين و وعدنا هناك إشباع الكلام فيه أى في الصبر و فضله و أقسامه فها نحن الان نفي بما وعدناك بتوفيق من اللّه سبحانه و من منّه. فاقول: إنّ الصبر على ما عرفت فيما تقدّم عبارة عن ملكة راسخة في النفس يقتدر معها على تحمّل المكاره و قد أكثر اللّه سبحانه من مدحه في كتابه العزيز، و بشّر الصّابرين و ذكّرهم في آيات تنيف على سبعين قال سبحانه: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ، و قال: وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، و قال: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا، و قال: وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً، إلى غير هذه مما لا نطيل بذكرها.
و أما الأخبار في فضله و فضل الصّابرين فهى فوق حدّ الاحصاء منها ما في الكافي عن العلاء بن الفضيل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: الصّبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد فاذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصّبر ذهب الايمان.
و عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول إنّ الحرّ حرّ على جميع أحواله إن نابته نائبة صبر لها و إن تداكّت عليه المصائب لم يكسره و إن اسر و قهر و استبدل باليسر عسرا كما كان يوسف الصديق الأمين عليه السّلام لم يضرره حريّته أن استعبد و قهر و اسر و لم يضرره ظلمة الجبّ و وحشته و ما ناله أن منّ اللّه جلّ و عزّ عليه فجعل الجبّار العاتي له عبدا بعد إذ كان مالكا فأرسله و رحم به اللّه و كذلك الصّبر يعقّب خيرا فاصبروا و وطّنوا أنفسكم على الصّبر توجروا.
و عن حمزة بن حمران عن أبي جعفر عليه السّلام قال: الجنّة محفوفة بالمكاره و الصّبر، فمن صبر على المكاره في الدّنيا دخل الجنّة، و جهنّم محفوفة باللّذات و الشهوات فمن أعطى نفسه لذّتها و شهوتها دخل النّار.
و عن سماعة بن مهران عن أبي الحسن عليه السّلام قال: قال لي: ما حبسك عن الحجّ قال: قلت: جعلت فداك وقع علىّ دين كثير و ذهب مالي، و ديني الّذى قد لزمني هو أعظم من ذهاب مالى فلولا أنّ رجلا من أصحابي أخرجني ما قدرت أن أخرج فقال عليه السّلام: إن تصبر تغتبط و إلّا تصبر ينفذ اللّه مقاديرها راضيا كنت أم كارها.
و عن أبي حمزة الثمالي قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد.
و عن محمّد بن عجلان قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فشكى إليه رجل الحاجة فقال: اصبر فانّ اللّه سيجعل لك فرجا قال: ثمّ سكت ساعة ثمّ أقبل على الرجل فقال: أخبرني عن سجن الكوفة كيف هو فقال: أصلحك اللّه ضيّق منتن و أهله بأسوء حال، قال عليه السّلام: فانّما أنت في السجن فتريد أن تكون فيه في سعة أما علمت أنّ الدّنيا سجن المؤمن، إلى غير هذه ممّا لا نطيل بذكرها.
فان قلت: ما معنى قوله في الحديث الأوّل الصّبر من الايمان بمنزلة الرّأس من الجسد قلت: لما كان قوام الجسد و تمامه و كماله إنّما هو بالرأس و به يتمّ تصرّفاته و يتمكّن من الاثار المترتّبة عليه لا جرم شبّه عليه السّلام الصّبر بالرّأس و الايمان بالجسد لأنّ كمال الايمان و تمامه إنما هو به، أمّا على القول بأنّ الايمان عبارة عن مجموع العقائد الحقّة و الأعمال فواضح، و أمّا على القول بأنّ العمل ليس جزء منه بل هو شرط الكمال فلأنّ الجسد إنّما يكمل بالرأس كما أنه يوجد بوجوه، فوجه الشّبه هو وصف الكمال فقط و لا يجب في تشبيه شي ء بشي ء وجود جميع أوصاف المشبّه به في المشبّه.
و لكنّ الظاهر من قوله: كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الايمان هو كون العمل هو جزء من الايمان المستلزم ذهابه لذهابه الّا أن يراد منه الايمان بالكمال و قد تقدّم تحقيق الكلام فيه فيما سبق.
و مما ذكرنا أيضا ظهر وجه ما روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من أنّ الصبر نصف الايمان و ذلك لأنّ الايمان إذا كان عبارة عن مجموع المعارف اليقينيّة الحقّة و عن العمل بمقتضى تلك المعارف، فيكون حينئذ مركبا منهما، و معلوم أنّ العمل أعنى المواظبة على الطاعات و الكفّ عن المعاصي لا يحصل إلّا بالصبر على مشاقّ الطاعة لليقين بكونها نافعة، و ترك لذائذ المعصية لليقين بكونها ضارّة فعلى هذا الاعتبار يصحّ كونه نصف الايمان.
و ذكر الغزالي له وجها آخر محصّله أن يجعل المراد من الايمان الأحوال المشمئزة للأعمال و جميع ما يلاقي العبد ينقسم إلى ما ينفعه في الدّنيا و الاخرة أو يضرّه فيهما، و له بالاضافة إلى ما يضرّه حال الصبر، و بالاضافة إلى ما ينفعه حال الشكر، فيكون الصبر أحد شطرى الايمان كما أنّ الشكر شطره الاخر و لذلك روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مرفوعا الايمان نصفان: نصف صبر، و نصف شكر.
ثم ان الصبر تختلف أساميه باختلاف موارده و بالاضافة إلى ما يصبر عنه من مشتهيات الطبع و مقتضيات الهوى، و ما يصبر عليه مما ينفرّ عنه الطبع من المكاره و الاذي.
فان كان صبرا عن شهوة الفرج و البطن، سمّي عفة، و إن كان في مصيبة اقتصر على اسم الصّبر و تضادّه حالة تسمى الجزع، و إن كان في احتمال الغنى سمّى ضبط النفس و يضادّه البطر، و إن كان في حرب و مقاتلة سمّى شجاعة و يضادّه الجبن و إن كان في كظم الغيظ و الغضب سمّى حلما و يضادّه التذمّر و السفه و إن كان في نائبة من نوائب الزّمان سمّى سعة الصّدر و يضادّه الضجر و ضيق الصّدر، و إن كان في إخفاء كلام سمّى كتمان السرّ و إن كان عن فضول العيش سمّى زهدا، و يضادّه الحرص و إن كان على قدر يسير من الحظوظ سمّى قناعة و يضادّه الشّره.
و بالجملة فأكثر مكارم الايمان داخل في الصّبر و لأجل ذلك لمّا سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مرّة عن الايمان فقال: هو الصّبر لأنه اكثر أعماله و أعزّها هذا.
و أما أقسامه فقد فصّلها أبو حامد الغزالي في كتاب احياء العلوم و ملخّصها أنّ جميع ما يلقى العبد في هذه الحياة لا يخلو من نوعين أحدهما هو الّذي يوافق هواه و الاخر هو الّذي يخالفه، و هو محتاج إلى الصبر في كلّ منهما فهو إذا لا يستغنى قطّ عن الصّبر.
النوع الاول ما يوافق الهوى و هو الصّحة و السلامة و المال و الجاه و كثرة العشيرة و اتساع الاسباب و كثرة الأتباع و الأنصار و جميع ملاذّ الدّنيا و ما أحوج العبد إلى الصبر على هذه الامور فانه إن لم يضبط نفسه عن الرّكون إليها و الانهماك في ملاذّها المباحة أخرجه ذلك إلى البطر و الطغيان، فانّ الانسان ليطغى أن رآه استغنى.
النوع الثاني ما لا يوافق الهوى و هو على ثلاثة أقسام لأنه إمّا أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات و المعاصي، و إمّا أن لا يرتبط باختياره كالالام و المصائب و إمّا أن لا يرتبط باختياره و لكن له اختيار في إزالته كالتشفّى من المؤذي بالانتقام منه.
أما القسم الاول و هو ما يرتبط باختيار العبد فعلى ضربين.
الضرب الأول الطاعات و العبد يحتاج إلى الصبر عليها، و التحمّل عن مشاقّها لأنّ النفس بالطبع تنفرّ عن العبوديّة و تشتهى الرّبوبيّة، و لذلك قال بعض العارفين ما من نفس إلّا و هى مضمرة ما أظهره فرعون من قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى و لكن فرعون وجد له مجالا و قبولا من قومه، فأظهره و أطاعوه و ما من أحد إلّا و يدعى ذلك مع عبده و خادمه و أتباعه و كلّ من هو تحت قهره و طاعته و إن كان ممتنعا من إظهاره.
ثمّ نفرة النّفس عن العبادة إمّا بسبب الكسل كالصّلاة و إمّا بسبب البخل كالزكاة أو بسببهما كالحجّ و الجهاد و العبد محتاج إلى الصّبر في جميعها.
الضرب الثاني المعاصي و تركها و الكفّ عنها أصعب عن النفس لرغبتها بالطبع إليها فيحتاج إلى الصبر عنها و أشدّ أنواع الصبر عن المعاصي الصبر على المعاصي المألوفة المعتادة كحصائد الألسنة من الكذب و الغيبة و البهتان و نحوها فمن لم يتمكن من الصّبر عنها فيجب عليه العزلة و الانفراد لأنّ الصّبر على الانفراد أهون من الصّبر على السكوت مع المخالطة، و تختلف شدّة الصّبر في آحاد المعاصي باختلاف دواعي المعصية قوّة و ضعفا.
و أما القسم الثاني و هو ما لا يرتبط باختيار العبد أصلا فكالمصائب و البلايا و الالام و الأسقام من فقد الأحبّة و موت الأعزّة و ذهاب المال و تبدّل الصحّة بالمرض و الغنى بالفقر، و البصر بالعمى، و غيرها و الصّبر على هذه هو الذي بشّر الموصوفون به في الاية الكريمة بقوله سبحانه: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ و أوحى سبحانه إلى داود عليه السّلام يا داود: تريد و اريد و إنّما يكون ما اريد فان سلّمت لما اريد كفيتك ما تريد و إن لم تسلم لما اريد أتعبتك فيما تريد ثمّ لا يكون إلّا ما اريد.
و أما القسم الثالث و هو ما لا يرتبط هجومه باختياره و له اختيار في دفعه كما لو اوذى بفعل أو قول و جنى عليه في نفسه أو ماله أو نحو ذلك فالصّبر على ذلك بترك المكافاة، و الانتقام تارة يكون واجبا و تارة يكون مندوبا قال تعالى: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.
و عن الانجيل قال عيسى بن مريم عليه السّلام: لقد قيل لكم من قبل إنّ السنّ بالسنّ و الأنف بالأنف و أنا أقول لكم لا تقاوموا الشرّ بالشرّ بل من ضرب خدّك الأيمن فحوّل إليه الخدّ الأيسر و من أخذ رداءك فأعطه إزارك و من سخّرك لتسير معه ميلا فسر معه ميلين، و كلّ ذلك أمر بالصّبر على الأذى.
و في الكافي عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام يا حفص: إنّ من صبر صبر قليلا و إنّ من جزع جزع قليلا. ثمّ قال: عليك بالصّبر في جميع امورك فانّ اللّه عزّ و جلّ بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فأمره بالصبر و الرفق فقال: «وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ» و قال تبارك و تعالى: وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا.
فصبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى نالوه بالعظائم و رموه بها فضاق صدره فأنزل اللّه جلّ و عزّ وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.
ثمّ كذّبوه و رموه فحزن لذلك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأنزل اللّه عزّ و جلّ: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا فألزم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نفسه الصّبر فتعدّوا، فذكروا اللّه عزّ و جلّ و كذبوه فقال: قد صبرت في نفسي و أهلي و عرضي و لا صبر لي على ذكر إلهي فأنزل اللّه عزّ و جلّ: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ فصبر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جميع أحواله.
ثمّ بشّر في عترته بالأئمة و وصفوا بالصّبر فقال جلّ ثناؤه «وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ» فعند ذلك قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله الصبر من الايمان كالرأس من الجسد، فشكر اللّه عزّ و جلّ له فأنزل اللّه: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّه بشرى و انتقام. فأباح اللّه عزّ و جلّ قتال المشركين فأنزل: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ و اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ فقتلهم اللّه على يدي رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أحبائه و جعل له ثواب صبره «و عجّل اللّه الثواب خ» مع ما ادّخر له في الاخرة فمن صبر و احتسب لم يخرج من الدّنيا حتّى يقرّ اللّه جلّ و عزّ عينه في أعدائه مع ما يدّخر له في الاخرة.
اللّهمّ اجعلنا صابرين على بلائك، راضين بقضائك، شاكرين على نعمائك، متمسّكين بالعروة الوثقى و الحبل المتين من ولاية أوليائك محمّد و عترته الطّاهرين صلواتك عليهم أجمعين.
|