ألا و إنّ الظّلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، و ظلم لا يترك، و ظلم مغفور لا يطلب، فأمّا الظّلم الّذي لا يغفر الشّرك باللّه سبحانه قال اللّه سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، و أمّا الظّلم الّذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، و أمّا الظّلم الّذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا، القصاص هناك شديد، ليس هو جرحا بالمدى، و لا ضربا بالسّياط، و لكنّه ما يستصغر ذلك معه، فإيّاكم و التّلوّن في دين اللّه، فإنّ جماعة فيما تكرهون من الحقّ خير من فرقة فيما تحبّون من الباطل، و إنّ اللّه سبحانه لم يعط أحدا بفرقة خيرا ممّا مضى و لا ممّا بقي.
اللغة
(هن) بالتخفيف كأخ كناية عن كل اسم جنس كما في مصباح اللغة للفيومى أو عما يستقبح ذكره و لامها محذوفة ففى لغة هى ها فيصغّر على هنيهة و منه يقال مكث هنيهة أى ساعة لطيفة، و في لغة هي واو فيصغّر في المؤنّث على هنية و الهمز خطاء إذ لا وجه له و جمعها هنوات و ربما جمعت على هنات مثل عدات هكذا في المصباح و ضبطه الفيروزآبادي بفتح الهاء و هكذا فيما رأيته من نسخ النهج
المعنى
ثمّ نبّه على أقسام الظلم تلميحا إلى مظلوميته عليه السّلام و تنبيها على أنّ ظلامته لا تترك فقال (ألا و انّ الظلم ثلاثة فظلم لا يغفر، و ظلم لا يترك، و ظلم مغفور لا يطلب، فأمّا الظلم الّذي لا يغفر فالشّرك باللّه) لما (قال اللّه سبحانه إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) عدم الغفران بالشرك مشروط بعدم التوبة، لأنّ الأمة أجمعت على أنّ اللّه يغفره بالتوبة و إن كان الغفران مع التوبة عند المعتزلة على وجه الوجوب و عندنا على وجه التفضّل و الانعام كما يأتي التصريح بذلك عن مجمع البيان.
(و أمّا الظلم الّذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات) لعلّ المراد بذلك البعض الصغائر لأنّ الاجتناب عن الكباير يكون كفارة لها كما قال تعالى: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ».
و أمّا حمله على المغفرة بالتوبة أو الشفاعة ففيه انّ المغفرة بهما لا اختصاص لها ببعض الهنات السّيئات بل جميع المعاصي تكون مغفورة بعد حصول التوبة و الشفاعة على أنّ حمله على صورة التوبة يوجب عدم الفرق بينه و بين القسم الأوّل لما عرفت هناك من الاجماع على غفران الشرك أيضا بالتوبة كساير المعاصي صغيرة أو كبيرة فلا يكون على ذلك للتفكيك بين القسمين وجه.
و الحاصل أنّ الشرك و غيره مشتركان في الغفران بالتوبة و في عدمه بعدمها إلّا الصغائر فانّها تغفر مع عدمها أيضا إذا حصل الاجتناب عن الكباير هذا.
و لكن ظاهر قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» هو غفران ما دون الشرك مطلقا صغيرا كان أو كبيرا، بل صرّح به في بعض الأخبار.
و هو ما رواه في الصّافي من الكافي عن الصّادق عليه السّلام في هذه الاية قال: الكبائر فما سواها.
و فيه منه و من الفقيه أنّه عليه السّلام سئل هل تدخل الكباير في مشيّة اللّه قال: نعم ذاك إليه عزّ و جلّ إن شاء عذّب و إن شاء عفى عنها.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم عند تفسير هذه الاية قال: حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: دخلت الكبائر في الاستثناء قال: نعم.
قال الطبرسيّ في مجمع البيان في تفسيرها: معناها أنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به أحد و لا يغفر ذنب المشرك لأحد و يغفر ما دون الشرك من الذّنوب لمن يريد قال المحقّقون: هذه الاية أرجى آية في القرآن، لأنّ فيه إدخال ما دون الشرك من جميع المعاصي في مشيّة الغفران وقف اللّه المؤمنين الموحّدين بهذه الاية بين الخوف و الرّجاء و بين العدل و الفضل، و ذلك صفة المؤمن، و لذلك قال الصادق عليه السّلام: لو وزن رجاء المؤمن و خوفه لاعتدلا.
قال الطبرسيّ: و وجه الاستدلال بهذه على أنّ اللّه يغفر الذّنوب من غير توبة أنه نفى غفران الشرك و لم ينف غفرانه على كلّ حال بل نفى أن يغفر من غير توبة لأنّ الامة اجتمعت على أنّ اللّه يغفره بالتوبة و إن كان الغفران عند المعتزلة على وجه الوجوب و عندنا على وجه التفضّل، و على هذا يجب أن يكون المراد بقوله: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، أنّه يغفر ما دون الشرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين غير الكافرين.
و لا معنى لقول المعتزلة إنّ في حمل الاية على ظاهرها و إدخال ما دون الشرك في المشيّة إغراء على المعصية، لأنّ الاغراء إنّما يحصل بالقطع على الغفران فأمّا إذا كان الغفران معلّقا بالمشيّة فلا إغراء فيه. بل يكون العبد به واقفا بين الخوف و الرجاء و بهذا وردت الأخبار الكثيرة من طريق الخاصّ و العامّ، و انعقد عليه اجماع سلف أهل الاسلام.
و من قال في غفران ذنوب البعض دون البعض ميل و محاباة و لا يجوز الميل و المحاباة على اللّه.
فجوابه أنّ اللّه متفضّل بالغفران و للمتفضّل أن يتفضّل على قوم دون قوم و انسان دون انسان، و هو عادل في تعذيب من يعذّبه، و ليس يمنع العقل و الشرع من الفضل و العدل.
و من قال منهم أنّ لفظة ما دون ذلك و إن كانت عامة في الذنوب الّتي هى دون الشرك فانما نخصّها و نحملها على الصغائر أو ما يقع منه التوبة لأجل عموم ظاهر آيات الوعيد.
فجوابه إنا نعكس عليكم ذلك فنقول: بل خصّصوا ظواهر تلك الايات لعموم هذه الاية و هذا أولى لما روى عن بعض أنّه قال إنّ هذه الاية استثناء على جميع القرآن يريد به و اللّه أعلم جميع آيات الوعيد.
و أيضا فان الصّغاير يرتفع عندكم محبطة و لا تجوز المؤاخذة بها، و ما هذا حكمه فكيف تعلّق بالمشيّة فانّ أحدا لا يقول إني أفعل الواجب إن شئت و أردّ الوديعة إن شئت، انتهى.
و بما ذكرنا ظهر لك فساد ما توهّمه الشارح المعتزلي فانّه بعد ما ذكر أنّ الكبائر حكمها حكم الشرك عند أصحابه المعتزلة في عدم المغفرة اعترض على نفسه بأنّ الاية صريحة في التفكيك بينها و بينه، و أجاب بما ملخّصه أنّ المراد من لفظ الغفران هو الستر في موقف القيامة و المراد أنّ اللّه لا يستر في موقف القيامة من مات مشركا بل يفضحه على رءوس الأشهاد، و أمّا من مات على كبيرة من أهل الاسلام فانّ اللّه يستره في الموقف و لا يفضحه بين الخلايق و إن كان من أهل النار، و قد يكون من أهل الكبائر ممّن يقرّ بالذّنوب من تعظم كبائره جدّا فيفضحه اللّه في الموقف كما يفضح المشرك، فهذا معنى قوله: «وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» انتهى.
وجه الفساد أنّ الغفر و إن كان في اللّغة بمعنى الستر و التغطية إلّا أنّه في الايات و الأخبار حيثما يطلق يراد به التجاوز عن الخطايا و العفو عن الذنوب و الستر عليها، فحمله على الستر المخصوص بالموقف خلاف ظاهر الاطلاق، و الأصل عدم التقييد فلا داعي إلى المصير إليه.
و أقول على رغم المعتزلة أنهم لتمسّكهم بحجزة خلفائهم الضّالين المضلّين و انحرافهم عن أولياء الدّين أساءوا ظنّهم باللّه ربّ العالمين و حكموا في مرتكبي الكباير من المسلمين بكونهم في النار معذّبين كالكفّار و المشركين، و اللّه سبحانه مجازيهم على نيّاتهم و عقيدتهم و حاشرهم يوم القيامة مع من يتولّونه ثمّ يردّهم إلى أسفل السافلين من الجحيم مخلّدين فيها و لا هم عنها يخرجون.
و أمّا نحن فلاعتصامنا بالعروة الوثقى و الحبل المتين أعني ولاية أمير المؤمنين و ولاية آله المعصومين نحسن ظنّنا باللّه و نرجو غفرانه و عفوه و الحشر مع أوليائنا و إن كان في بحار الذّنوب مغرقين، و لا نظنّ في حقّ ربّنا الغفور الرّحيم انّه يسمع في النار صوت عبد مسلم سجن فيها بمخالفته و ذاق طعم عذابها بمعصيته و حبس بين أطباقها بجرمه و جريرته و هو يضجّ إليه ضجيج مؤمّل لرحمته و يناديه بلسان أهل توحيده و يتوسّل إليه بربوبيّته، فكيف يبقى في العذاب و هو يرجو ما سلف من حلمه و رأفته، أم كيف تؤلمه النّار و هو يأمل فضله و رحمته، أم كيف يحرقه لهبها و هو يسمع صوته و يرى مكانه، أم كيف يشتمل عليه زفيرها و هو يعلم ضعفه أم كيف يتغلغل بين أطباقها و هو يعلم صدقه، أم كيف تزجره زبانيتها و هو يناديه يا ربّه، أم كيف يرجو فضله في عتقه منها فيتركه فيها هيهات ما هكذا الظنّ به و لا المعروف من فضله، و لا مشبه لما عامل به الموحّدين من برّه و إحسانه، فباليقين نقطع لو لا ما حكم به من تعذيب جاحديه و قضى به من إخلاد معانديه لجعل النار كلّها بردا و سلاما و ما كان لأحد من شيعة أمير المؤمنين و محبّيه مقرّا و لا مقاما.«» و لقد روى في الفقيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: و لقد سمعت حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لو أنّ المؤمن خرج من الدّنيا و عليه مثل ذنوب أهل الأرض لكان الموت كفّارة لتلك الذّنوب ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: و من قال لا إله إلّا اللّه باخلاص فهو برى ء من الشرك، و من خرج من الدّنيا لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنّة ثمّ تلى صلّى اللّه عليه و آله هذه الاية: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» من شيعتك و محبّيك يا علي قال أمير المؤمنين عليه السّلام: فقلت: يا رسول اللّه هذا لشيعتي قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اى و ربّي هذا لشيعتك، هذا.
(و أمّا الظلم الّذى لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا) فقد روى في الكافي عن شيخ عن النخعي قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام إني لم أزل واليا منذ زمن الحجّاج إلى يومي هذا فهل لي من توبة قال: فسكت ثمّ أعدت عليه فقال: لا حتّى تؤدّى إلى كلّ ذى حقّ حقّه.
و عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من ظلم مظلمة أخذ بها في نفسه أو في ماله أو في ولده.
و عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال: ما انتصر اللّه من ظالم إلّا بظالم و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ «وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً».
و فيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن رسول اللّه و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما و على آلهما: من خاف القصاص كفّ عن ظلم الناس.
(ف) انّ (القصاص هناك) أى في الاخرة مضافا إلى قصاص الدّنيا (شديد)، و يوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم، لأنّ يوم الظالم الدّنيا فقط، و يوم المظلوم الدّنيا و الاخرة و المنتقم هو اللّه سبحانه و (ليس هو) أى قصاصه و انتقامه (جرحا بالمدى) و السّكاكين (و لا ضربا بالسّياط) و العصا و نحو ذلك من مولمات الدّنيا (و لكنّه ما يستصغر ذلك معه) هو نار الجحيم و العذاب الأليم و الخزى العظيم.
قال الشارح: قد أشرت سابقا إلى أنّ في ذكره أقسام الظلم و ما يترتّب عليها من العقوبات تلميحا إلى مظلوميّته عليه السّلام و تنبيها على أنّ الظلم الذي وقع في حقّه ليس بحيث يترك و يرفع اليد عنه، بل يقتصّ من ظالميه البتّة و ينتقم بمقتضى العدل و اللّه عزيز ذو انتقام، و حيث إنّ ظلامة آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعظم ما وقع في الأرض من المظالم حيث غصبوا خلافتهم و أحرقوا باب بيتهم و أسقطوا محسنهم و قتلوا أمير المؤمنين و ابنيه الحسن و الحسين عليهم السّلام بالسمّ و سيف العدوان و أداروا رأسه و رأس أصحابه على الرماح و السنان، و شهروا نساءه و بناته في الأصقاع و البلدان إلى غير ذلك من الظلم و الطغيان الّذي يعجز عن تقريره اللّسان و يضيق عنه البيان، فلا بدّ أن يكون قصاص ظلاماتهم أشدّ و عقوبة ظالميهم أعظم و أخزى و أحببت أن اورد بعض ما ورد فيه من الأخبار باقتضاء المقام.
فأقول: روى في البحار من كتاب الاحتجاج عن سليم بن قيس الهلالى عن سلمان الفارسي قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام في يوم بيعة أبي بكر: لست بقائل غير شي ء واحدا ذكّركم باللّه أيّها الأربعة- يعنيني و الزبير و أبا ذر و المقداد- أسمعتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّ تابوتا من النار فيه اثنى عشر رجلا، ستّة من الأوّلين و ستّة من الاخرين في جبّ في قعر جهنّم في تابوت مقفل على ذلك الجبّ صخرة إذا أراد اللّه أن يسعر جهنّم كشف تلك الصخرة عن ذلك الجبّ فاستعاذت جهنّم من وهيج ذلك الجبّ.
فسألناه عنهم و أنتم شهود، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: أمّا الأوّلين فابن آدم عليه السّلام الّذي قتل أخاه، و فرعون الفراعنة، و الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، و رجلان من بني اسرائيل بدّلا كتابهما و غيّر اسنّتهما أمّا أحدهما فهوّد اليهود و الاخر نصّر النصارى و إبليس سادسهم و الدّجال في الاخرين.
و هؤلاء الخمسة أصحاب الصّحيفة الّذين تعاهدوا و تعاقدوا على عداوتك يا أخى و التظاهر عليك بعدي هذا و هذا حتّى عدّهم و سمّاهم، فقال سلمان: فقلنا صدقت نشهد أنّا سمعنا ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و في تفسير علىّ بن إبراهيم عن الصّادق عليه السّلام في قوله تعالى «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» قال عليه السّلام: الفلق جبّ في جهنّم يتعوّذ أهل النّار من شدّة حرّه سأل اللّه أن يأذن له فيتنفّس فأذن له فتنفّس فأحرق جهنّم، فقال عليه السّلام: و في ذلك الجبّ صندوق من نار يتعوّذ منه أهل الجبّ من حرّ ذلك الصّندوق و هو التابوت و في ذلك ستّة من الأوّلين و ستّة من الاخرين.
فأمّا الستّة الّتي من الأوّلين فابن آدم الّذي قتل أخاه، و نمرود إبراهيم الّذي ألقى إبراهيم في النار، و فرعون موسى، و السامرى الّذي اتّخذ العجل، و الّذي هوّد اليهود، و الّذي نصّر النصارى.
و أمّا الستّة من الاخرين فهو الأوّل، و الثاني، و الثالث، و الرابع، و صاحب الجوارح، و ابن ملجم «وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ» قال عليه السّلام: الّذي يلقى الجبّ يقب فيه.
و في البحار من الخصال و عقاب الأعمال عن إسحاق بن عمّار عن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال لي يا اسحاق إنّ في النّار لواديا يقال له سقر لم يتنفّس منذ خلق اللّه لو أذن اللّه عزّ و جلّ له في التنفس بقدر مخيط حرق ما على وجه الأرض، و إنّ أهل النار ليتعوّذون من حرّ ذلك الوادى و نتنه و قذره و ما أعدّ اللّه فيه لأهله، و انّ في ذلك الوادي جبلا يتعوّذ جميع أهل ذلك الجبل من حرّ ذلك الشعب و نتنه و قذره و ما أعدّ اللّه فيه لأهله، و انّ في ذلك الشعب لقليبا يتعوّذ جميع أهل ذلك الشعب من حرّ ذلك القليب و نتنه و قذره و ما أعدّ اللّه فيه لأهله، و انّ في ذلك القليب لحيّة يتعوّذ أهل ذلك القليب من خبث تلك الحيّة و نتنها و قذرها و ما أعدّ اللّه في أنيابها من السمّ للذعها، و انّ في جوف تلك الحيّة سبعة صناديق فيها خمسة من الأمم السالفة و اثنان من هذه الأمة.
قال: قلت: جعلت فداك و من الخمسة و من الاثنان قال: فأمّا الخمسة فقابيل الّذي قتل هابيل، و نمرود الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه و قال أنا أحيي و أميت، و فرعون الّذي قال أنا ربّكم الأعلى، و يهود الّذي هوّد اليهود، و بولس الّذي نصّر النصارى، و من هذه الأمة: الأعرابيّان.
أقول: الأعرابيّان: الأوّل و الثّاني اللّذان لم يؤمنا باللّه طرفة عين.
و فيه من عقاب الأعمال عن حنّان بن سدير قال: حدّثني رجل من أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة لسبعة نفر أوّلهم ابن آدم الّذي قتل أخاه، و نمرود الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، و اثنان في بني اسرائيل هوّدا قومهما و نصّراهما، و فرعون الّذي قال أنا ربكم الأعلى، و اثنان في هذه الامة أحدهما شرّهما في تابوت من قوارير تحت الفلق في بحار من نار.
و فيه من كتاب الاختصاص عن يحيى بن محمّد الفارسي عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و آله قال: خرجت ذات يوم إلى ظهر الكوفة و بين يدىّ قنبر فقلت يا قنبر ترى ما أرى فقال: قد ضوء اللّه لك يا أمير المؤمنين عمّا عمى عنه بصرى، فقلت: يا أصحابنا ترون ما أرى فقالوا: لا قد ضوء اللّه لك يا أمير المؤمنين عمّا عمى عنه أبصارنا فقلت و الّذي فلق الحبّة و برى ء النسمة لترونه كما أراه و لتسمعنّ كلامه كما أسمع.
فما لبثنا أن طلع شيخ عظيم الهامة له عينان بالطول فقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته فقلت: من أين أقبلت يا لعين قال: من الاثام، فقلت: و أين تريد فقال: الاثام، فقلت. بئس الشيخ أنت، فقال: تقول: هذا يا أمير المؤمنين فو اللّه لأحدّثنك بحديث عنّى عن اللّه عزّ و جلّ ما بيننا ثالث، فقلت عنك عن اللّه عزّ و جلّ ما بينكما ثالث قال: نعم.
قال: انّه لما هبطت بخطيئتي إلى السماء الرابعة ناديت إلهى و سيّدى ما أحسبك خلقت من هو أشقى منّي، فأوحى اللّه تبارك و تعالى بلى قد خلقت من هو أشقى منك فانطلق إلى مالك يريكه، فانطلقت إلى مالك فقلت: السّلام يقرئك السّلام و يقول: أرنى من هو أشقى منّى، فانطلق بي مالك إلى النّار فرفع الطبق الأعلى فخرجت نار سوداء ظننت أنها قد أكلتني و أكلت مالكا، فقال لها: اهدئى، فهدأت، ثمّ انطلق بى إلى الطبق الثاني فخرجت نار هي أشدّ من تلك سوادا و أشدّ حمى فقال لها: أخمدى، فخمدت، إلى أن انطلق بي إلى السابع و كلّ نار يخرج من طبق يخرج أشدّ من الاولى فخرجت نار ظننت أنها قد أكلتنى و أكلت مالكا و جميع ما خلقه اللّه عزّ و جلّ فوضعت يدي على عيني و قلت: مرها يا مالك أن تخمد و إلّا خمدت فقال: أنت لم تخمد إلى الوقت المعلوم، فأمرها فخمدت، فرأيت رجلين في أعناقهما سلاسل النّيران معلّقين بها إلى فوق و على رؤوسهما قوم معهم مقامع النيران يقمعونهما بها، فقلت: يا مالك من هذان فقال: أو ما قرئت في ساق العرش و كنت قرأته قبل أن يخلق اللّه الدّنيا بألفي عام لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه أيّدته و نصرته بعلىّ، فقال: هذان عدّوا ذلك و ظالماهم.
ثمّ إنّه حذّرهم عن التلوّن في الدّين فقال (فاياكم و التلوّن في دين اللّه) تحذير لهم عن عدم الثبات على خلق واحد في أمر الدّين و عن التقلّب و التذبذب في أحكام الشرع المبين.
و الظاهر أنه راجع الى جماعة بلغه عليه السّلام من بعضهم توقّفهم في بيعته كعبد اللّه ابن عمر و سعد بن أبي وقاص و حسّان بن ثابت و اسامة بن زيد و أضرابهم، و عن بعضهم إرادة النكث و النقض للبيعة بعد توكيدها مثل طلحة و الزبير و أتباعهما.
و مرجع هذا التحذير في الحقيقة إلى التحذير عن النّفاق، لأنّ المنافق لا يستقيم على رأى واحد.
و قد ذمّ اللّه المنافقين على ذلك بقوله «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» و قال أيضا «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» روى في الصّافي عن العياشي عن الصّادق عليه السّلام في قوله: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» قال هما و الثالث و الرابع و عبد الرحمن و طلحة و كانوا سبعة الحديث.
و عن الصّادق عليه السّلام نزلت في فلان و فلان و فلان آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أوّل الأمر «ثُمَّ كَفَرُوا» حين عرضت عليهم الولاية حيث قال من كنت مولاه فعليّ مولاه «ثُمَّ آمَنُوا» بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السّلام حيث قالوا له بأمر اللّه و أمر رسوله فبايعوه «ثُمَّ كَفَرُوا» حيث مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلم يقرّوا بالبيعة «ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً» بأخذهم من بايعوه بالبيعة لهم فهؤلاء لم يبق من الايمان شي ء و كيف.
فلما حذّرهم عن التلوّن الملازم للنفاق و التفرّق علّله بقوله (فانّ جماعة فيما تكرهون من الحقّ خيره من فرقة فيما تحبّون من الباطل) يعني الاجتماع على الحقّ خير من الافتراق على الباطل و إن كان الأوّل مكروها لكم و الثاني محبوبا لديكم، و لعلّ المراد أنّ اجتماعكم على بيعتي و ثباتكم عليه خير لكم عاجلا و آجلا من افتراقكم عنها ابتغاء للفتنة و حبّا لها.
و أكّد ذلك بقوله (و انّ اللّه سبحانه لم يعط أحدا بفرقة خيرا ممّا مضى و لا مما بقى) لفظة با في الموضعين إمّا بمعنى من و يؤيّده ما في أكثر النسخ من لفظة من بدلها فيكون المراد أنه لم يعط أحدا من السّلف و لا من الخلف خيرا بسبب الافتراق، و إمّا بمعناها الأصلي فيكون المعنى أنّه تعالى لم يعط أحدا بسبب الافتراق خيرا من الدّنيا و لا من العقبى.
و ذلك لأنّ الانسان مدنىّ بالطبع محتاج في اصلاح أمر معاشه و معاده و انتظام اولاه و اخراه إلى التعاون و الاجتماع و الايتلاف.
و لذلك قال عليه السّلام في كلامه المأة و السابع و العشرين: و الزموا السواد الأعظم فانّ يد اللّه على الجماعة و اياكم و الفرقة فانّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب.
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الاسلام عن عنقه هذا. و لكثرة فوائد الاجتماع و الايتلاف و عظم ما يترتّب عليها من الثمرات الدّنيويّة حبّ مؤكّدا فعل الجمعة و الجماعة و الأخبار الواردة في الحثّ و الترغيب عليهما فوق حدّ الاحصاء.
|