و اعلموا عباد اللّه إنّ المؤمن يستحلّ العام ما استحلّ عاما أوّل، و يحرّم العام ما حرّم عاما أوّل، و إنّ ما أحدث النّاس لا يحلّ لكم شيئا ممّا حرّم عليكم، و لكنّ الحلال ما أحلّ اللّه، و الحرام ما حرّم اللّه، فقد جرّبتم الأمور و ضرّستموها و وعظتم بمن كان قبلكم، و ضربت الأمثال لكم، و دعيتم إلى الأمر الواضح، فلا يصمّ عن ذلك إلّا أصمّ، و لا يعمى عنه إلّا أعمى، و من لم ينفعه اللّه بالبلاء و التّجارب لم ينتفع بشي ء من العظة، و أتاه التّقصير من أمامه حتّى يعرف ما أنكر، و ينكر ما عرف، فإنّ النّاس رجلان: متّبع شرعة، و مبتدع بدعة، ليس معه من اللّه برهان سنّة، و لا ضياء حجّة.
اللغة
(ضرّسته) الحروب أى جرّبته و أحكمته و (صمّت) الاذن صمما من باب تعب بطل سمعها هكذا فسّره الأزهرى و غيره، و يسند الفعل إلى الشخص أيضا فيقال: صمّ يصمّ صمما، فالذكر أصمّ و الأنثى صمّاء و الجمع صمّ مثل أحمر و حمراء و حمر، و يتعدّى بالهمزة فيقال أصمّه اللّه و ربما استعمل الرباعي لازما على قلّة و لا يستعمل الثلاثي متعدّيا فلا يقال صمّ اللّه الاذن و لا يبنى للمفعول فلا يقال صمّت الاذن.
الاعراب
قوله: عاما أوّل بدون تنوين لأنّه غير منصرف للوصفيّة و وزن الفعل فانّ الصحيح أنّ أصله أوءل على وزن أفعل مهموز الوسط فقلبت الهمزة الثّانية واوا و ادغمت. قال الجوهريّ و يدلّ على ذلك قولهم: هذا أوّل منك، و الجمع الأوائل و الاوالى أيضا على القلب، قال الشهيد في تمهيد القواعد: و له استعمالان أحدهما أن يكون اسما فيكون مصروفا و منه قولهم ماله أوّل و لا آخر، قال في الارتشاف: و في محفوظى أنّ هذا يؤنث بالتاء و يصرف أيضا فيقال أولة و آخرة بالتنوين، و الثاني أن يكون صفة أى أفعل التفضيل بمعنى الأسبق فيعطى حكم غيره من صيغ أفعل التفضيل كمنع الصرف و عدم تأنيثه بالتاء و دخول من عليه.
المعنى
ثمّ إنّه عليه السّلام نبّه على بطلان العمل بالرأى و المقاييس و نهى عن متابعة البدع فقال: (و اعلموا عباد اللّه أنّ المؤمن يستحلّ العام ما استحلّ عاما أوّل و يحرّم العام ما حرّم عاما أوّل) يعني أنّ المؤمن إذا ثبت عنده سابقا حلّية شي ء بالكتاب أو السنّة و حكم بحلّيته عن نصّ فيحكم بحليّته الان، و لا ينقض الحكم الثابت بالنّص برأيه و اجتهاده و كذلك إذا ثبت عنده سابقا حرمة شي ء بهما و حكم بحرمته عن دليل فيحكم بحرمته الان، و لا يخالف الحكم الثّابت و لا يتعدّى عنه بالرأى و القياس و هكذا ساير الأحكام الشرعية.
(و انّ ما أحدث الناس) من البدع بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مثل ما صدر عن أبي بكر من طلب البيّنة من فاطمة سلام اللّه عليها في باب فدك مع كون البيّنة على المدّعي، و غصب فدك عنها مع مخالفته لنصّ الكتاب و الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.
و ما أحدثه عمر من صلاة التراويح، و من وضع الخراج على أرض السواد، و ازدياده أى أخذه الزيادة الجزية عما قرّرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و ما أبدعه عثمان من التفضيل في العطاء و إحداثه الأذان يوم الجمعة زايدا عمّا سنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تقديمه الخطبتين في العيدين مع كون الصّلاة مقدّمة عليها في زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و إتمامه الصّلاة بمنى مع كونه مسافرا، و إعطائه من بيت المال الصّدقة المقاتلة و غيرها، و حمايته لحمى المسلمين مع أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جعلهم شرعا سواء في الماء و الكلاء إلى غير هذه من البدعات الّتي أحدثوها في الدّين و فصّلها أصحابنا رضوان اللّه عليهم في ذيل مطاعنهم.
فانّ شيئا من ذلك (لا يحلّ لكم شيئا مما حرّم عليكم) و لا يحرّم شيئا عليكم مما أحلّ لكم، يعني قول هؤلاء المبدعين المغيّرين للأحكام لا يوجب تغييرها في الواقع، فلا يجوز الاعتماد على أقوالهم و الاعتقاد بارائهم، و قد ذمّ اللّه اليهود و النّصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون اللّه، فالاخذون بقول هؤلاء المبدعين يكونون مثل اليهود و النّصارى.
روى في الوسائل عن تفسير العيّاشي عن جابر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن قول اللّه «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» قال عليه السّلام أما أنّهم لم يتّخذوهم آلهة إلّا أنّهم أحلّوا لهم حلالا فأخذوا به، و حرّموا حراما فأخذوا به، فكانوا أربابا لهم من دون اللّه.
و عن حذيفة قال: سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: «اتَّخِذُوا» الاية، فقال لم يكونوا يعبدونهم، و لكن كانوا إذا أحلّوا لهم شيئا استحلّوها، و إذا حرّموا عليهم حرّموها.
و في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: اتَّخِذُوا الاية، فقال أما و اللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم و لو دعوهم ما أجابوهم، و لكن أحلّوا لهم حراما و حرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم عند تفسير قوله تعالى «وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: نزلت في الّذين غيّروا دين اللّه و خالفوا ما أمر اللّه، هل رأيتم شاعرا قط تبعه أحد إنما عني بذلك الّذين وضعوا دينا بارائهم فتبعهم النّاس على ذلك.
و يؤكّد ذلك قوله «أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ» يعنى يناظرون بالأباطيل و يجادلون بالحجج المضلّين و فى كلّ مذهب يذهبون «وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» قال عليه السّلام يعظون النّاس و لا يتّعظون و ينهون عن المنكر و لا ينتهون، و يأمرون بالمعروف و لا يعملون، و هم الّذين قال اللّه فيهم: «أَ لَمْ تَرَ» فيهم «أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ» أى في كلّ مذهب مذهبون «وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» و هم الّذين غصبوا آل محمّد حقّهم.
فظهر بذلك كلّه أنّ متابعة هؤلاء حرام، و استحلالهم استحلال ما أحلّوه و استحرام ما حرّموه غيّ و ضلال، إذ ليس لهم أن يغيّروا الأحكام من تلقاء أنفسهم، و لا أن يبدّلوا الحلال بالحرام و الحرام بالحلال.
كما أشار إليه بقوله (و لكن الحلال ما أحلّ اللّه و الحرام ما حرّم اللّه) اللّام في لفظي الحلال و الحرام للجنس فتفيد قصر المسند اليه في المسند كما تقدّم تحقيقه في شرح الكلام المأة و الرابع و الأربعين عند شرح قوله عليه السّلام: ان الأئمة من قريش، و يحتمل أن تكون للعهد فتفيد الحصر أيضا كما عرفته في شرح الخطبة المأة و الثالثة و الخمسين عند شرح قوله عليه السّلام: نحن الشعار و الأصحاب، فيكون المعنى أنّ ماهية الحلال و الحرام و حقيقتهما إذا الحلال المعهود الثابت من الشريعة أى الّذي يجوز تناوله و الحرام المعهود الثابت منها أى الّذى لا يجوز ارتكابه هو منحصر فيما أحلّه اللّه سبحانه و حرّمه و أفصح عن حليّته و حرمته في كتابه الكريم و لسان نبيّه الحكيم، فغير ذلك مما أحلّه الناس و حرّموه ليس حلالا و لا حراما إذ حلال محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة.
كما يدلّ عليه ما رواه في الكافي عن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحلال و الحرام فقال عليه السّلام: حلال محمّد حلال أبدا إلى يوم القيامة و حرام محمّد حرام أبدا إلى يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجي ء غيره.
و قال: قال عليّ عليه السّلام: ما أحد يبدع بدعة إلّا ترك بها سنّة، هذا.
و لا يخفى عليك أنّ هذه الخطبة إن كان صدورها بعد قتل عثمان و البيعة له عليه السّلام بالخلافة كما حكيناه سابقا عن بعض الشارحين، فالأشبه على ذلك أن يكون قوله عليه السّلام: و أنّ ما أحدث النّاس إلى آخره توطئة و تمهيدا لما كان مكنونا في خاطره من تغيير البدعات المحدثات في أيام خلافة الثلاثة و إجراء الأحكام الشرعيّة على وجهها بعد استقرار أمر خلافته لو كان متمكّنا منه حتّى لا يعترض عليه النّاس و لا يطعنوا عليه، كما بان عنه في بعض كلماته الاتية في الكتاب حيث قال: لو قد استوت قدماى من هذه المداحض لغيّرت أشياء، و لكنّه عليه السّلام لم يتمكّن من التغيير.
و قد روى في البحار من التهذيب عن عليّ بن الحسن بن فضّال عن أحمد بن الحسن عن عمرو بن سعيد المدايني عن مصدّق بن صدقة عن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن صلاة في رمضان في المساجد قال: لما قدم أمير المؤمنين عليه السّلام الكوفة أمر الحسن بن عليّ عليهما السّلام أن ينادى في النّاس لا صلاة«» في شهر رمضان في المساجد جماعة، فنادى في النّاس الحسن بن عليّ عليهما السّلام بما أمره به أمير المؤمنين عليه السّلام، فلما سمع الناس مقالة الحسن بن عليّ عليهما السّلام، صاحوا: وا عمراه وا عمراه فلما رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليهما السّلام قال له: ما هذا الصّوت فقال: يا أمير المؤمنين النّاس يصيحون وا عمراه وا عمراه، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: قل لهم: صلّوا، هذا.
و لما بيّن انحصار الحلال و الحرام فيما أحلّه اللّه سبحانه و حرّمه أردفه بقوله (فقد جرّبتم الامور و ضرّستموها) أى أحكمتموها بالتجربة و الممارسة، و ظهر لكم جيّدها من رديّها و حقّها من باطلها (و وعظتم بمن كان قبلكم) أى وعظكم اللّه سبحانه في كتابه بالامم الماضية و بما جرى منه في حقّ المؤمنين منهم من الجزاء الجميل و ما جرى في حقّ العاصين منهم من العذاب الوبيل (و ضربت) في الفرقان الحكيم (الأمثال لكم) الكثيرة الموضحة للحقّ من الباطل و الفارقة بينهما (و دعيتم إلى الأمر الواضح) أى إلى أمر الدّين و الاسلام الّذي أوضحه كتاب اللّه و سنّة رسوله حقّ الوضوح و لم يبق عليه سترة و لا حجاب.
و المقصود من هذه الجملات تنبيه المخاطبين على أنهم بعد ما حصل لهم هذه الأمور أعنى تجربة الأمور و أحكامها و الموعظة و ضرب الأمثال الظاهرة و الدّعوة إلى الأمر الواضح يحقّ لهم أن يعرفوا أحكام الشريعة حقّ المعرفة، و أن يميّزوا بين البدعات و السّنن إذ تلك الأمور معدّة لحصول المعرفة و لوضوح الفرق بين البدعة و السنّة و بين المجعولة و الحقيقة.
(فلا يصمّ عن ذلك) أى لا يغفل عن ما ذكر من الامور أو عن الأمر الواضح الّذى دعوا إليه (إلّا) من هو (أصمّ) أى الغافل البالغ في غفلته النهاية و التنوين للتفخيم و التعظيم كما في قوله تعالى: «وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» أى غشاوة عظيمة و هكذا في قوله: (و لا يعمى عنه إلّا أعمى) أى لا يضلّ عنه و لا يجهل به إلّا من هو شديد الضلال و الجهالة.
(و من لم ينفعه اللّه بالبلاء) أى بما بلاه به من المكاره و المصائب (و) ب (التجارب) المكتسبة من مزاولة الامور و مقاساة الشدائد (لم ينتفع بشي ء من العظة) لأنّ تأثير البلاء و التّجارب في النفس أشدّ و أقوى من تأثير النصح و الموعظة، لأنّ الموعظة احالة على الغايب، و البلية و التجربة مدركة بالحسّ فمن لا ينفعه الأقوى لا ينفعه الأضعف بالطريق الأولى (و أتاه النقص من أمامه) أى من بين يديه.
قال الشارح البحراني: لأنّ الكمالات الّتي يتوجّه إليها بوجه عقله تفوته لنقصان تجربته و وقوف عقله عنها فأشبه فوتها له مع طلبه لها إتيان النقص له من أمامه.
و قوله (حتّى يعرف ما أنكر و ينكر ما عرف) إشارة إلى غاية نقصانه، و هى الاختلاط و الحكم على غير بصيرة، فتارة يتخيّل فيما أنكره و جهله أنّه عارف بحقيقته، و تارة ينكر ما كان يعرفه و يحكم بصحّته لخيال يطرأ عليه.
قال الشّارح المعتزلي: حتّى يتخيّل فيما أنكره أنّه قد عرفه و ينكر ما قد كان عارفا به و سمّى اعتقاد العرفان و تخيّله عرفانا على المجاز.
ثمّ فرّع على ما ذكر انقسام الناس إلى قسمين فقال عليه السّلام (فانّ الناس رجلان متبع شرعة) أى متشرّع آخذ بشرايع الدّين، و سالك لمنهاج الشرع المبين، و هو العامل بكتاب اللّه سبحانه و سنّته و المقتبس من نورهما و المنتفع بما فيهما من النصايح و المواعظ و الأمثال المضروبة، و هو من الّذين قال اللّه فيهم «وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ».
(و مبتدع بدعة) و هو الّذي لم ينتفع بهما بل نبذ أحكامهما ورائه و اتّبع هويه و عمل بارائه و مقايسه فأعمى اللّه قلبه عن معرفة الحقّ و أصمّه عن استماعه كما قال: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (ليس معه من) عند (اللّه) سبحانه (برهان سنّة و لا ضياء حجّة) أى ليس له فيما أحدثه من البدعة دليل عليه من سنّة و لا حجّة بيّنة واضحة من الكتاب الكريم تنجيه لوضوحها و ضيائها من ظلمة الجهل و الضلال.
قال أبو شيبة الخراساني: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلّا بعدا و انّ دين اللّه لا يصاب بالعقول، رواه في الكافي.
و فيه أيضا عن محمّد بن أبي عبد اللّه رفعه عن يونس بن عبد الرّحمان قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السّلام: بما اوحّد اللّه عزّ و جلّ فقال: يا يونس لا تكوننّ مبتدعا من نظر برأيه هلك، و من ترك أهل بيت نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضلّ، و من ترك كتاب اللّه و قول نبيّه كفر.
|