و من كلام له عليه السّلام
و هو المأة و الثمانون من المختار في باب الخطب و هو مروى في البحار و في شرح المعتزلي و في شرح المختار الرابع و الأربعين جميعا من كتاب الغارات لابراهيم بن محمّد الثقفى باختلاف تطلع عليه.
قال السيّد ره و قد أرسل رجلا من أصحابه يعلم له علم قوم من جند الكوفة قد هموا باللّحاق بالخوارج و كانوا على خوف منه عليه السّلام فلما عاد إليه الرّجل قال عليه السّلام له: آمنوا فقطنوا أمّ جبنوا فظعنوا فقال الرجل بل ظعنوا يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام: بعدا لهم كما بعدت ثمود أما لو أشرعت الأسنّة إليهم و صبّت السّيوف على هاماتهم لقد ندموا على ما كان منهم، إنّ الشّيطان اليوم قد استفلّهم و هو غدا متبرّي ء منهم، و مخلّ عنهم فحسبهم بخروجهم من الهدى و ارتكاسهم في الضّلال و العمى و صدّهم عن الحقّ و جماحهم في التّيه
اللغة
(يعلم له) مضارع علم و (قطن) بالمكان من باب قعد أقام به و توّطنه فهو قاطن و (ظعن) ظعنا من باب منع ارتحل و الاسم ظعن بفتحتين (و بعد) بالضمّ بعدا ضدّ قرب فهو بعيد و بالكسر من باب تعب هلك و (ثمود) قوم صالح النبيّ عليه السّلام و سمّوا باسم أبيهم الأكبر و هو ثمود بن عامر بن ارم بن سام بن نوح، و قيل: سمّيت القبيلة بذلك لقلّة مائها من الثمد و هو الماء القليل و كانت مساكنها بين الحجاز و الشام إلى وادى القرى و (أشرعت) الرمح إلى زيد سددته و صوّبته نحوه و (الهامات) جمع الهامة رأس كلّ شي ء قال الشاعر:
- تذر الجماجم ضاحيا هاماتهابله الأكف كأنّها لم تخلق
(قد استفلّهم) في أكثر النسخ بالفاء أى وجدهم فلّا لا خير فيهم أو مفلولين منهزمين، و في بعضها بالقاف أى حملهم قال سبحانه: أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا، أو اتّخذهم قليلا و سهل عليهم أمرهم، و في بعضها استفزّهم أى استخفّهم، و في بعضها استقبلهم أى قبلهم.
و (الركس) قال الجوهرى هو ردّ الشي ء مقلوبا، و ارتكس فلان في أمر كان قد نجا منه و قال الفيومي: ركست الشي ء ركسا من باب قتل قلبته و رددت أوّله على آخره، و أركسته بالألف رددته على رأسه و (جمح) الفرس من باب منع اعتز فارسه و غلبه فهو جموح.
الاعراب
بعدا لهم منصوب على المصدر، و ثمود بدون التنوين غير مصروف إذا اريد به القبيلة، و مع التنوين على الانصراف و إرادة الحيّ، أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر قاله الزمخشرى في الكشاف في تفسير قوله تعالى وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً و بهما قرء أيضا في الاية، و الباء في قوله: بخروجهم، زايدة كما زيدت في كفى باللّه
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام كما أشار إليه السيّد قاله عليه السّلام (و قد أرسل رجلا من أصحابه) و هو عبد اللّه بن قعين (يعلم له علم قوم) و في بعض النسخ علم أحوال قوم أى أرسله ليعلم حالهم فيخبره به و هم خريت بن راشد أحد بنى ناحية مع جماعة من أصحابه و كانوا (من جند الكوفة) شهدوا معه عليه السّلام صفين حسبما عرفته في شرح المختار الرابع و الأربعين و تعرفه هنا أيضا تفصيلا.
(همّوا) بعد انقضاء صفين و بعد تحكيم الحكمين (باللّحاق بالخوارج و كانوا على خوف منه عليه السّلام فلما عاد) أى رجع اليه عليه السّلام (الرجل قال عليه السّلام له: أ أمنوا) و في بعض النسخ باسقاط همزة الاستفهام كما في قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ، على قراءة ابن محيص قال: انّه بهمزة واحدة على لفظ الخبر و همزة الاستفهام مرادة و لكن حذفها تخفيفا لدلالة: أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، عليه لأنّ أم يعادل الهمزة، و قرء الأكثرون على لفظ الاستفهام.
و قوله (فقطنوا) أى أقاموا (أم جبنوا فظعنوا) أى ارتحلوا (فقال الرجل: بل ظعنوا يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام: بعدا لهم) أى هلكا لهم أو أبعدهم اللّه من رحمته بعدا و المعنيان متلازمان (كما بعدت ثمود) بكسر العين في أكثر النسخ و كذا في المصاحف.
ثمّ أخبر عن مستقبل حالهم بأنهم يندمون على تفريطهم فقال (أما لو اشرعت الأسنّة إليهم و صبّت السيوف على هاماتهم) استعار لفظ الصّب الّذى هو حقيقة في صبّ الماء لكثرة وقع السيوف على الرءوس، و الجامع سرعة الوقوع، يعنى أنهم لو عاينوا القتال و الهجوم عليهم بالقتل و الاستيصال (لقد ندموا) حينئذ (على ما كان منهم) من التقصير و الخطاء.
ثمّ نبّه على أنّ ما صدر عنهم من الظعن و اللّحاق بالخوارج إنما هو من عمل الشيطان يقول للانسان اكفر فلما كفر قال إني برى ء منك و هو قوله عليه السّلام (إنّ الشيطان اليوم قد استفلّهم) أى وجدهم بمعزل من الخير فزيّن لهم اللّحوق بأوليائه (و هو غدا متبرئ منهم و مخل عنهم) اى تارك لهم كما شأنه مع ساير أوليائه قال تعالى وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ.
(فحسبهم بخروجهم من الهدى) أى يكفيهم خروجهم منه عذابا و وبالا (و ارتكاسهم في الضّلال و العمى) أى رجوعهم إلى الضلال القديم و الجهل الّذى كانوا عليه بعد خروجهم منه و نجاتهم عنه بهدايته عليه السّلام (و صدّهم) أى إعراضهم (عن الحقّ) اللّازم عليهم و هو طاعة إمامهم المفترض طاعته (و جماحهم في التيه) و الضّلال أو مفازة المعصية، هذا.
و أما قصّة هؤلاء القوم الّذين همّوا باللّحاق بالخوارج فقد مضى طرف منها في شرح الكلام الرابع و الأربعين لارتباطه به، و أورد هنا باقتضاء المقام ما لم يتقدّم ذكره فأقول: روى العلّامة المجلسى ره في كتاب البحار و الشارح المعتزلي جميعا من كتاب الغارات لابراهيم الثقفي بتلخيص منّي عن الحارث بن كعب الأزدى عن عمّه عبد اللّه بن قعين قال: كان الخريت بن راشد أحد بنى ناجية قد شهد مع عليّ عليه السّلام صفين، فجاء اليه بعد انقضاء صفين و بعد تحكيم الحكمين في ثلاثين من أصحابه يمشي بينهم حتّى قام بين يديه فقال: لا و اللّه لا اطيع أمرك و لا اصلّي خلفك و إنّي غدا لمفارق لك.
فقال عليه السّلام: ثكلتك امّك إذا تنقض عهدك و تعصي ربّك و لا تضرّ إلّا نفسك أخبرني لم تفعل ذلك قال: لأنّك حكمت في الكتاب و ضعفت عن الحقّ اذ جدّ الجدّور كنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم فأنا عليك رادّ و عليهم ناقم و لكم جميعا مباين.
فقال له عليّ عليه السّلام: ويحك هلمّ إلىّ ادارسك و أناظرك في السّنن و افاتحك أمورا من الحقّ أنا أعلم بها منك فلعلّك تعرف ما أنت الان له منكر، و تبصر ما أنت الان عنه غافل، و به جاهل. فقال الخريت: فانا غاد عليك غدا فقال عليّ عليه السّلام اغد و لا يستهوينّك الشيطان و لا يقتحمنّ بك رأى السّوء و لا يستخقنّك الجهلاء الذين لا يعلمون، فو اللّه إن استرشدتنى و استنصحتنى و قبلت منّي لأهدينك سبيل الرّشاد.
فخرج الخريت من عنده منصرفا إلى أهله.
قال عبد اللّه بن قعين فعجلت في أثره مسرعا و كان لي من بني عمّه صديق فأردت أن القي ابن عمّه في ذلك فاعلمه بما كان في قوله لأمير المؤمنين عليه السّلام و آمر ابن عمّه أن يشتدّ بلسانه عليه و أن يأمره بطاعة أمير المؤمنين عليه السّلام و مناصحته و يخبره أنّ ذلك خير له في عاجل الدّنيا و آجل الاخرة.
قال: فخرجت حتّى أتيت إلى منزله و قد سبقنى فقمت عند باب داره فيها رجال من أصحابه لم يكونوا شهدوا معه دخوله على أمير المؤمنين فو اللّه ما رجع و لا ندم على ما قال لأمير المؤمنين عليه السّلام و لا ردّ عليه و لكنه قال لهم: يا هؤلاء إنّي قد رأيت إن أنا أفارق هذا الرّجل و قد فارقته على أن أرجع إليه من غد و لا أرى إلّا المفارقة فقال له أكثر أصحابه: لا تفعل حتّى تأتيه فان أتاك بأمر تعرفه قبلت منه و إن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه قال لهم نعم ما رأيتم.
قال فاستاذنت عليهم فأذنوا إلىّ فأقبلت على ابن عمّه و هو مدرك بن الريان الناجى و كان من كبراء العرب فقال له: إنّ لك علىّ حقا لإحسانك و ودّك و حقّ المسلم على المسلم انّ ابن عمك كان منه ما قد ذكرك فاخل به فاردد عليه رأيه و عظم عليه ما أتى، و اعلم أنّي خائف إن فارق أمير المؤمنين عليه السّلام أن يقتلك و نفسه و عشيرته، فقال: جزاك اللّه خيرا من أخ إن أراد فراق أمير المؤمنين عليه السّلام ففي ذلك هلاكه و إن اختار مناصحته و الاقامة معه ففي ذلك حظّه و رشده.
قال: فأردت الرجوع إلى عليّ عليه السّلام لاعلمه الّذى كان ثمّ اطمأننت إلى قول صاحبي فرجعت إلى منزلى، فبتّ ثمّ أصبحت فلما ارتفع النهار أتيت أمير المؤمنين عليه السّلام فجلست عنده ساعة و أنا اريد أن أحدّثه بالّذى كان على خلوة، فأطلت الجلوس و لا يزداد الناس إلا كثرة، فدنوت منه فجلست ورائه فأصغي الىّ برأسه فأخبرته بما سمعته من الخريت و ما قلت لابن عمّه و ما ردّ علىّ فقال عليه السّلام: دعه فان قبل الحق و رجع عرفنا له ذلك و قبلناه منه فقلت: يا أمير المؤمنين عليه السّلام لم لا تأخذه الان و تستوثق منه فقال عليه السّلام: إنا لو فعلنا هذا بكلّ من يتّهم من الناس ملأنا السجون منهم و لا أراني يسعني الوثوب بالناس و الحبس لهم و عقوبتهم حتّى يظهروا لى الخلاف.
قال: فسكّت عنه و تنحّيت و جلست مع أصحابي هنيئة فقال عليه السّلام لي: ادن منّي، فدنوت فقال لي: سر إلى منزل الرّجل فاعلم ما فعل فانّه قل يوم لم يكن يأتيني فيه قبل هذه الساعة، فأتيت إلى منزله فاذا ليس في منزله منهم ديّار فدرت على أبواب دور أخرى كان فيها طائفة من أصحابه فاذا ليس فيها داع و لا مجيب فأقبلت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام.
فقال لي حين رءانى: أقطنوا فأقاموا أم جبنوا فظعنوا قلت: لا بل ظعنوا فقال أبعدهم اللّه كما بعدت ثمود أما و اللّه لو اشرعت لهم الأسنّة و صبّت على هاماتهم السيوف لقد ندموا إنّ الشيطان قد استهواهم و أضلّهم و هو متبرّى ء منهم و مخل عنهم فقام إليه زياد بن حفصة فقال يا أمير المؤمنين إنه لو لم يكن من مضرّة هؤلاء إلّا فراقهم إيّانا لم يعظم فقدهم علينا فانّهم قلّ ما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا و قلّما ينقصون من عددنا بخروجهم منّا، و لكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممّن يقدمون عليهم من أهل طاعتك، فائذن لي في اتّباعهم حتّى أردّهم عليك انشاء اللّه فقال عليه السّلام له: فاخرج في آثارهم راشدا فلمّا ذهب ليخرج قال عليه السّلام له: و هل تدرى أين توجّه القوم قال: لا و اللّه و لكنّى أخرج فأسأل و اتبع الأثر، فقال اخرج رحمك اللّه حتّى تنزل دير أبي موسى ثمّ لا تبرحه حتّى يأتيك أمرى فانهم ان خرجوا ظاهرين بارزين للناس في جماعة فانّ عمّالي ستكتب إلىّ بذلك، و إن كانوا متفرّقين مستخفين فذلك أخفى لهم و سأكتب إلى من حولى من عمّالى فيهم.
فكتب نسخة واحدة و أخرجها إلى العمّال من عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين إلى من قرء عليه كتابى هذا من العمّال أمّا بعد فانّ رجالا لنا عندهم تبعة خرجوا هرابا نظنّهم خرجوا نحو بلاد البصرة فاسأل عنهم أهل بلادك و اجعل عليهم العيون في كلّ ناحية من أرضك ثمّ اكتب إلىّ بما ينتهى إليك عنهم.
فخرج زياد بن حفصة حتّى أتى داره و جمع أصحابه و أخذ معه منهم مأئة و ثلاثين رجلا و خرج حتّى أتى دير أبى موسى.
و روى باسناده عن عبد اللّه بن وال التيمي قال إنّي لعند أمير المؤمنين إذا فيج قد جاءه يسعى بكتاب من قرظة كعب الأنصارى و كان أحد عمّاله فيه.
أما بعد فانّي اخبر أمير المؤمنين أن خيلا مرّت من قبل الكوفة متوّجهة و إن رجلا من دهاقين أسفل الفرات قد أسلم و صلّي يقال له زاذان فروخ أقبل من عند اخوال له فلقوه فقالوا أ مسلم أنت أم كافر قال بل مسلم قالوا فما تقول في علىّ عليه السّلام قال: أقول فيه خيرا أقول إنّه أمير المؤمنين و سيّد البشر و وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: كفرت يا عدوّ اللّه ثمّ حملت عليه عصابة منهم فقطّعوه بأسيافهم و أخذوا معه رجلا من أهل الذمّة يهوديّا، فقالوا له: ما دينك قال يهوديّ، فقالوا: خلّوا سبيل هذا لا سبيل لكم عليه، فأقبل إلينا ذلك الذّمي فأخبرنا الخبر و قد سألت عنهم فلم يخبرني أحد عنهم بشي ء فليكتب إلىّ أمير المؤمنين عليه السّلام فيهم برأيه أنته إليه إنشاء اللّه.
فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السّلام أمّا بعد فقد فهمت ما ذكرت من أمر العصابة الّتي مرت بعلمك فقتلت البرّ المسلم و امن عندهم المخالف المشرك، و ان اولئك قوم استهواهم الشيطان فضلّوا كالذين حسبوا ألّا يكون فتنة فعموا و صمّوا فاسمع بهم و ابصر يوم يحشر أعمالهم فالزم عملك و اقبل على خراجك، فانك كما ذكرت في طاعتك و نصيحتك، و السّلام. قال: فكتب عليه السّلام إلى زياد بن حفصة مع عبد اللّه بن وال التيمي كتابا نسخته.
أما بعد فقد كنت أمرتك أن تنزل دير أبي موسى حتّى يأتيك أمرى دونك إني لم أكن علمت أين توجّه القوم و قد بلغنى أنهم أخذوا نحو قرية من قرى السواد فاتّبع آثارهم و سل عنهم فانهم قد قتلوا رجلا من أهل السواد مسلما مصلّيا فاذا أنت لحقت بهم فارددهم إلىّ فان أبوا فناجزناهم و استعن باللّه عليهم فانهم قد فارقوا الحقّ و سفكوا الدّم الحرام و أخافوا السّبيل، و السّلام.
قال عبد اللّه بن وال فأخذت الكتاب منه عليه السّلام و أنا يومئذ شاب حدث فمضيت غير بعيد ثمّ رجعت إليه فقلت يا أمير المؤمنين ألا أمضى مع زياد بن حفصة إلى عدوّك إذا دفعت عليه كتابك فأذن و دعا لى ثمّ مضيت إلى زياد بالكتاب، فقال لى زياد: يا ابن أخى و اللّه مالي عنك من غنى و إنى احبّ أن تكون معى في وجهى هذا، فقلت: إنّي قد استأذنت أمير المؤمنين عليه السّلام في ذلك فأذن لي فسرّ بذلك.
ثمّ خرجنا حتّى أتينا الموضع الذي كانوا فيه فلحقناهم و هم نزول بالمداين و قد أقاموا بها يوما و ليلة و قد استراحوا و علفوا دوابهم و خيولهم و أتيناهم و قد تقطعنا و تعبنا و نصبنا، فلما رأونا وثبوا على خيولهم فاستووا عليها فجئنا حتّى انتهينا إليهم.
فنادى الخرّيت بن راشد أخبرونا ما تريدون فقال له زياد و كان مجربا رفيقا، قد ترى ما بنا من النصب و اللّغوب و الّذي جئنا له لا يصلح فيه الكلام علانية و لكن تنزلون و ننزل ثمّ نخلو جميعا فنذاكر أمرنا و ننظر فيه فان رأيت ما جئنا له حظا لنفسك قبلته و إن رأيت فيما اسمع منك أمرا أرجو فيه العافية لنا و لك لم ارد عليك.
فقال الخرّيت انزل، فنزلنا و نزل و تفرّقنا و تحلقنا عشرة و تسعة و ثمانية و سبعة تضع كلّ حلقة طعامها بين أيديها فتأكل ثمّ تقوم إلى الماء فتشرب، و قال لنا زياد علفوا خيولكم فعلقنا عليها مخاليها«» و وقف زياد في خمسة فوارس أحدهم عبد اللّه بن وال بيننا و بين القوم و انطلق القوم فتنحّوا فنزلوا و أقبل إلينا زياد.
فلما رأى تفرّقنا قال سبحان اللّه أنتم أصحاب حرب و اللّه لو أنّ هؤلاء جاؤكم على هذه الحالة ما أرادوا من عزتكم أفضل من حالكم الّتي أنتم عليها فعجّلوا قوموا إلى خيولكم.
فأسرعنا فمنّا من يتوضّأ و منّا من يشرب و منّا من يسقى فرسه حتّى إذا فرغنا من ذلك أتينا زيادا فقال زياد: ليأخذ كلّ رجل منكم بعنان فرسه فاذا دنوت منهم و كلمت صاحبهم فان تابعنى على ما اريد و إلّا فاذا دعوتكم فاستووا على متون خيولكم ثمّ اقبلوا معا غير متفرّقين.
ثمّ استقدم أمامنا و أنا معه و دعى صاحبهم الخرّيت فقال له: اعتزل ننظر في أمرنا فأقبل إليه في خمسة نفر فقلت لزياد: أدعو لك ثلاثة نفر من أصحابك حتى تلقاهم في عددهم فقال: ادع من أحببت، فدعوت له ثلاثة فكنّا خمسة.
فقال له زياد: ما الّذي نقمت على أمير المؤمنين عليه السّلام و علينا حتّى فارقتنا.
فقال: لم أرض صاحبكم إماما و لم أرض بسيرتكم سيرة فرأيت أن أعتزل و أكون مع من يدعو إلى الشورى بين النّاس، فاذا اجتمع الناس على رجل هو لجميع الأمّة رضى كنت مع النّاس.
فقال زياد: ويحكم و هل يجتمع الناس على رجل يدانى عليا عالما باللّه و بكتاب اللّه و سنّة رسوله مع قرابته و سابقته في الاسلام.
فقال الخرّيت هو ما أقول لك.
قال: ففيم قتلتم الرّجل المسلم فقال الخرّيت ما أنا قتلته قتلته طائفة من أصحابي، قال: فادفعهم إلينا قال: ما إلى ذلك من سبيل، قال: أو هكذا أنت فاعل قال: هو ما تسمع.
قال: فدعونا أصحابنا و دعى الخرّيت أصحابه ثمّ اقتتلنا فو اللّه ما رأيت قتالا مثله منذ خلقنى اللّه لقد تطاعنّا بالرّماح حتّى لم يبق في أيدينا رمح، ثمّ اضطربنا بالسيوف حتّى اثخنت و عقرت عامة خيلنا و خيلهم و كثرت الجراح فيما بيننا و بينهم و قتل منّا رجلان مولى لزياد كانت معه رايته يدعى سويدا، و رجل آخر يدعى واقد ابن بكر، و صرع منهم خمسة نفر و حال اللّيل بيننا و بينهم و قد و اللّه كرهونا و كرهناهم و هزمونا و هزمناهم و قد جرح زياد و جرحت.
ثمّ إنا بتنا في جانب و تنحّوا فمكثوا ساعة من اللّيل ثمّ مضوا فذهبوا، و أصبحنا فوجدناهم قد ذهبوا فو اللّه ما كرهنا ذلك فمضينا حتّى أتينا البصرة و بلغنا أنهم أتوا الأهواز فنزلوا في جانب منها و تلاحق بهم ناس من أصحابهم نحو مأتين كانوا معهم بالكوفة لم يكن لهم من القوّة ما ينهضون معهم حين نهضوا، فاتبعوهم من بعد لحوقهم بالأهواز فأقاموا معهم.
و كتب زياد إلى عليّ عليه السّلام أما بعد فانّا لقينا عدوّ اللّه الناجي و أصحابه بالمداين فدعوناهم إلى الهدى و الحقّ و الكلمة السّواء فتولّوا عن الحقّ و أخذتهم العزّة بالاثم و زيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السّبيل فقصدونا، و صمدنا صمدهم فاقتتلنا قتالا شديدا ما بين قائم الظهر إلى أن دلكت«» الشمس، و استشهد منّا رجلان صالحان و اصيب منهم خمسة نفر و خلوا لنا المعركة و قد فشت فينا و فيهم الجراح، ثمّ إنّ القوم لما ادركوا اللّيل خرجوا من تحته متنكّرين إلى أرض الأهواز و قد بلغني أنهم نزلوا من الأهواز جانبا و نحن بالبصرة نداوى جراحنا و ننتظر أمرك رحمك اللّه و السّلام.
فلما أتاه الكتاب قرأه على النّاس، فقام إليه معقل بن قيس الرّياحي إلى آخر ما قدّمنا ذكره في شرح المختار الرابع و الأربعين فليراجع هناك.
|