ثمّ قال عليه السّلام:
أيّها النّاس إنّي قد بثثت لكم المواعظ الّتي وعظ بها الأنبياء أممهم، و أدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم، و أدّبتكم بسوطي فلم تستقيموا، و حدوتكم بالزّواجر فلم تستوسقوا، للّه أنتم أتتوّقعون إماما غيري يطأ بكم الطّريق، و يرشدكم السّبيل، ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار، و باعوا قليلا من الدّنيا لا يبقى، بكثير من الاخرة لا يفنى.
اللغه
(الحدا) سوق الابل و الغنا لها و (الترحال) مبالغة في الرحلة
الاعراب
قوله: للّه أنتم، قد مضى تحقيق الكلام فيه في شرح المختار المأة و التاسع و السبعين
المعنى
(ثمّ) أخذ عليه السّلام في نصح المخاطبين و موعظتهم و تذكيرهم و توبيخهم و (قال عليه السّلام أيّها النّاس إنّي قد بثثت) أى نشرت و فرّقت (لكم المواعظ الّتي وعظ بها الأنبياء أممهم) و هي المواعظ الجاذبة لهم إلى اللّه و معرفته و طاعته و القائدة إلى النهج القويم و الصّراط المستقيم (و أدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم) من الأسرار الالهيّة و التكاليف الشرعيّة.
قال الشارح المعتزلي: و الأوصياء الذين يأتمنهم الأنبياء على الأسرار الالهيّة و قد يمكن أن لا يكونوا خلفاء بمعنى الامارة و الولاية، فانّ مرتبتهم أعلى من مراتب الخلفاء، انتهى.
أقول: غرض الشارح من هذا الكلام اصلاح مذهبه الفاسد، فانّ كلامه عليه السّلام لما كان ظاهرا في وصايته المساوقة للخلافة و الولاية كما هو مذهب الشيعة الاماميّة أراد الشارح صرفه عن ظاهره و أوّله بما يوافق مذهب الاعتزال.
و محصّل تأويله أنّ الوصاية عبارة عن الائتمان على الأسرار الالهيّة و هو غير ملازم للخلافة و الولاية، فلا يكون في الكلام دلالة على خلافته عليه السّلام و كونه أولى بالتصرّف، و انما يدلّ على كونه وصيّا مؤتمنا على الأسرار فقط.
و فيه أوّلا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا ائتمن الوصيّ على الأسرار و الأحكام و علّمه إيّاها، فإمّا أن يكون غرضه من ذلك أداء وصيّة تلك الأسرار و الأحكام إلى أمّته و إبلاغها اليهم.
أو يكون غرضه منه كونه فقط عالما بها و مكلّفا في نفسه على العمل بتلك الأحكام و القيام بوظايف هذه الأسرار من دون أن يكون مأذونا في الأداء إليهم.
و ظاهر كلامه عليه السّلام بل صريحه كون وصايته على الوجه الأوّل و إلّا لما جاز أن يؤدّى ما أوصى به إلى المكلّفين فحيث أدّاه إليهم علم منه كونه مأذونا في الأداء و مكلّفا به، و حيث كان مكلّفا به وجب عليهم اطاعته و إلّا لكان الأداء عبثا، و لا ريب أنّ الوصيّ بهذا المعنى أى المؤتمن على الأسرار و الأحكام و المكلّف على أدائها إلى الأمة و الواجب على الامة قبول قوله و طاعته ملازم بل مرادف للخليفة و الأمير و الوليّ.
نعم الوصاية على الوجه الثاني غير ملازم للخلافة و الولاية إلّا أنّه غير مراد في كلامه عليه السّلام قطعا لما ذكرنا.
و ثانيا أنّ ما ذكره من أنّ الوصيّ أعلى مرتبة من الخليفة أى الأمير و الوليّ فغير مفهوم المراد.
لأنه إن أراد بالخلافة و الأمارة و الولاية المعنى الّذي يقول به الشيعة و يصفون أئمّتهم به أعنى النيابة عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و السلطنة الالهيّة و الأولوية بالتصرّف فلا نسلّم أنّ الوصاية و هي الائتمان بالاسرار أعلى رتبة منها بل الأمر بالعكس، لأنّ الوصاية بالمعنى المذكور من شئونات الولاية المطلقة، و الأولياء مضافا إلى كونهم مؤتمنين على الأسرار أولو الأمر و النّهى و أولى بالتصرّف في أموال المؤمنين و أنفسهم.
و إن أراد بها المعنى اللّغوي أعنى الامارة على السرايا مثلا و الولاية أى كونه واليا على قوم أو بلد و نحوه فكون رتبة الوصاية أعلى من ذلك مسلّم و غني عن البيان لأنّ الاطلاع و الائتمان على الأسرار الالهيّة لا نسبة لهما قطعا إلى أمّارة جيش و ولاية قوم إلّا أنّ الاماميّة حيث يطلقون هذه الألفاظ في مقام وصف الأئمة عليهم السّلام لا يريدون بها تلك المعاني قطعا، فلا داعى إلى ما تكلّفه الشارح و لا حاجة إليه فافهم جيّدا، هذا.
و قد مضى في شرح الفصل الخامس من المختار الثاني عند شرح قوله عليه السّلام: و لهم خصايص حقّ الولاية و فيهم الوصيّة و الوراثة، ما له مزيد نفع في هذا المقام فليراجع ثمّة. و قوله (و أدّبتكم بسوطي) الظاهر أنّه كناية عن تأديبه لهم بالأقوال الغير اللينة (فلم تستقيموا) على نهج الحقّ (و حدوتكم بالزّواجر) أى بالنواهى و الابعادات (فلم تستوسقوا) أى لم تجتمعوا على التمكين و الطاعة (للّه أنتم) أى تعجّبا منكم (أتتوقّعون إماما غيري) استفهام على سبيل التقرير لغرض التقريع أو على سبيل الانكار و التوبيخ.
فان قلت: إنّ الاستفهام الّذي هو للانكار التوبيخي يقتضي أن يكون ما بعده واقعا مع أنهم لم يكونوا متوقّعين لامام غيره إذ قد علموا أنه لا إمام وراه.
قلت: نعم انهم كانوا عالمين بذلك إلّا أنهم لما لم يقوموا بمقتضى علمهم و لم يمحضوا الطاعة له عليه السّلام نزّلهم منزلة الجاهل المتوقّع لامام آخر، فأنكر ذلك عليهم و لامهم عليه.
و قوله عليه السّلام (يطا بكم الطريق) أى يذهب بكم في طريق النجاة (و يرشدكم السبيل) أى يهديكم إلى مستقيم الصّراط (ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا) و هو الصّلاح و الرشاد الذي كان في أيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو في أيّام خلافته عليه السّلام فيكون إشارة إلى قرب ارتحاله من دار الفناء (و أقبل منها ما كان مدبرا) و هو الضلال و الفساد الّذي حصل باستيلاء معاوية على البلاد (و أزمع الترحال) أى عزم على الرحلة إلى دار القرار (عباد اللّه الأخيار و باعوا) أى استبدلوا (قليلا من الدّنيا لا يبقى بكثير من الاخرة لا يفنى).
لا يخفى ما في هذه العبارة من اللّطافة و حسن التعبير في التنفير عن الدّنيا و الترغيب إلى الأخرى، حيث وصف الاولى مع قلّتها بالفناء، و وصف الثانية مع كثرتها بالبقاء و معلوم أنّ العقلاء لا يرضون الأولى بالثانية بدلا.
|