و أوصاكم بالتّقوى و جعلها منتهى رضاه، و حاجته من خلقه، فاتّقوا اللّه الّذي أنتم بعينه، و نواصيكم بيده، و تقلّبكم في قبضته، إن أسررتم علمه، و إن أعلنتم كتبه، قد وكّل بكم حفظة كراما، لا يسقطون حقّا، و لا يثبتون باطلا. و اعلموا أنّ من يتّق اللّه يجعل له مخرجا من الفتن، و نورا من الظّلم، و يخلّده فيما اشتهت نفسه، و ينزّله منزلة الكرامة عنده في دار اصطنعها لنفسه، ظلّها عرشه، و نورها بهجته، و زوّارها ملائكته، و رفقاءها رسله، فبادروا المعاد، و سابقوا الاجال، فإنّ النّاس يوشك أن ينقطع بهم الأمل، و يرهقهم الأجل، و يسدّ عنهم باب التّوبة، فقد أصبحتم في مثل ما سأل إليه الرّجعة من كان قبلكم
اللغة
(يوشك) أن يكون كذا بكسر الشين من أفعال المقاربة مضارع أو شك يفيد الدنوّ من الشي ء، و قال الفارابي الايشاك الاسراع، و قال النحاة استعمال المضارع أكثر من الماضي و استعمال اسم الفاعل قليل و قد استعملوا ماضيا ثلاثيا فقالوا و شك مثل قرب و شكا، و في القاموس و شك الأمر ككرم سرع كوشك و أوشك أسرع السير كواشك و يوشك الأمر أن يكون و أن يكون الأمر و لا تفتح شينه أو لغة رديئة و (رهقت) الشي ء رهقا من باب تعب قربت منه، قال أبو زيد: طلبت الشي ء حتّى رهقته و كدت آخذه أو أخذته، و قال: رهقته أدركته و رهقه الدّين غشيه
المعنى
(و أوصاكم بالتقوى) في قوله «وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ» و غيرها من الايات الّتي تقدّمت في شرح المختار الرّابع و العشرين.
(و جعلها منتهى رضاه) فانّها لما كانت موصلة إلى اللّه سبحانه مؤدّية إلى رضوانه موجبة لمحبّته و رضاه صحّ بهذا الاعتبار جعلها منتهى رضاه من خلقه كما قال عزّ و جلّ «بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ» و قال «قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ».
(و) جعلها (حاجته من خلقه) استعار لفظ الحاجة لتأكّد الطلب أى طلبه المؤكّد فانّه سبحانه لما بالغ في الحثّ و الحضّ عليها و تكرّر منه تعالى طلبها و الأمر بها في غير واحدة من الايات شبّهها بالحاجة الّتي يفتقر إليها المحتاج و يبالغ في تحصيلها و الوصول إليها و الجامع المطلوبيّة المتأكّدة.
و لمّا نبّه على كونها سببا للوصول إلى رضوانه و غاية المطلوب من خلقه عقّبه بالأمر بها فقال (فاتقوا اللّه الّذي أنتم بعينه) أى بعلمه فاطلق العين و أريد العلم مجازا من باب تسمية المسبّب باسم السبّب، أو اللّازم باسم الملزوم إذ رؤية الشي ء سبب للعلم به و مستلزم له.
و في الاتيان بالموصول تأكيد الغرض المسوق له الكلام، فانه لما أمر بالتقوى و كانت التقوى حسبما قاله الصادق عليه السّلام عبارة عن أن لا يفقدك اللّه حيث أمرك و لا يراك حيث نهاك، أتى بالجملة الموصولة الوصفيّة تنبيها على أنّ اللّه عالم بكم خبير بأحوالكم بصير بأعمالكم سميع لأقوالكم، و من كان هذا شأنه فلا بدّ أن يتّقى منه حقّ تقاته إذ لا يعزب عنه شي ء من المعاصي و لا يخفى عليه شي ء من الخطايا كما يخفى على ساير الموالي بالنسبة من عبيدهم.
و أكّده اخرى بقوله (و نواصيكم بيده) يعني أنه قاهر لكم قادر عليكم متمكّن من التصرّف فيكم كيف شاء و أىّ نحو أراد لا رادّ لحكمه و لا دافع لسخطه و نواصيكم بيد قدرته، لا يفوته من طلب و لا ينجو منه من هرب.
و أكّده ثالثة بقوله (و تقلّبكم في قبضته) أى تصرّفكم في حركاتكم و سكناتكم تحت ملكه و قدرته و اختياره.
و قوله (إن أسررتم علمه و إن أعلنتم كتبه) هو أيضا في معنى التأكيد و أن غير الاسلوب على اقتضاء التفنّن، يعني أنّه عالم بالسرائر خبير بالضمائر سواء عليه ما ظهر منكم و ما بطن لا يحجب عنه شي ء ممّا يسرّ و ما يعلن كما قال عزّ من قائل: «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ» هذا و يدلّ قوله: إن أعلنتم كتبه بمفهومه على أنّه لا يكتب ما لا يعلن و إن كان يعلمه، فيفيد عدم المؤاخذة على نيّة المعصية بمجرّدها، و قد مضى تحقيق الكلام فيه في شرح الفصل الخامس من المختار الثالث فليتذكّر.
و بذلك ظهر ما في قول الشّارح المعتزلي حيث قال: إنّ قوله عليه السّلام إن أسررتم آه ليس يدلّ على أنّ الكتابة غير العلم، بل هما شي ء واحد و لكنّ اللّفظ مختلف انتهى فتدبّر.
و عقّب قوله: كتبه بقوله (قد وكل بكم حفظة كراما) من باب الاحتراس فانه لما كان بظاهره متوهّما لكونه تعالى شأنه بنفسه كاتبا أتا بهذه الجملة دفعا لذلك التوهّم، و تنبيها على أنّ الموكّل بذلك الملائكة الحافظون لأعمال العباد.
قال تعالى «وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ» و هم طائفتان ملائكة اليمين للحسنات و ملائكة الشمال للسيئات قال عزّ و جلّ «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» هذا.
و في وصف الحفظة بالكرام«» و تعظيمهم بالثناء تفخيم لما وكّلوا به و أنه عند اللّه تعالى من جلائل الامور حيث يستعمل فيه هؤلاء الكرام، و فيه من التهويل من المعاصي ما لا يخفى.
و لهذه النكتة أيضا وصفهم ثانيا بقوله (لا يسفطون حقّا و لا يثبتون باطلا) أى لا يسقط من قلمهم ما هو ثابت له أو عليه، و لا يكتبون ما لا أصل له، و من المعلوم أنّ المكلّف إذا التفت إلى ذلك و تنبّه على شدّة محافظة الحفظة عليه و على أنّهم لا يتركون شيئا مما هو له أو عليه كان ذلك أقوى داعيا له على الازعاج عن المعاصي و الاقلاع عن السيئات.
قال الصّادق عليه السّلام: استعبدهم اللّه أى الكرام الكاتبين بذلك، و جعلهم شهودا على خلقه ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة اللّه مواظبة و عن معصيته أشدّ انقباضا، و كم من عبد همّ بمعصيته فذكر مكانهم فارعوى، و كيف فيقول ربّي يراني و حفظتي علىّ بذلك تشهد، هذا.
و لما امر بالتقوى و أردفه بذكر ما يحذر من تركها عقّبه بذكر ما يرغب في الملازمة عليها فقال (و اعلموا أنّ من يتّق اللّه يجعل له مخرجا من الفتن) الموجبة للضلالة (و نورا من الظلم) أى من ظلمات الجهالة، و هو اقتباس من الاية الشريفة في سورة الطلاق قال سبحانه: «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ».
روى في الصّافي عن القمّي عن الصّادق عليه السّلام قال: في دنياه، و من المجمع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قرأها فقال: مخرجا من شبهات الدّنيا و من غمرات الموت و شدايد يوم القيامة و عنه عليه السّلام إنّي لأعلم آية لو أخذ بها النّاس كفتهم «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» الاية، فما زال يقولها و يعيدها.
(و يخلده فيما اشتهت نفسه) و هو أيضا اقتباس من الاية في سورة الأنبياء قال تعالى «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ».
(و ينزله منزل الكرامة عنده) أى في منزل أهله معزّزون مكرّمون عنده سبحانه (في دار اصطنعها لنفسه) أى اتّخذها صنعه و خالصته و اختصّها بكرامته كما قال سبحانه لموسى بن عمران: «وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» قيل: هو تمثيل لما أعطاه اللّه من التقريب و التكريم.
قال الشارح البحراني: و الدّار الّتي اصطنعها لنفسه كناية عن الجنّة و نسبها إلى نفسه تعظيما لها و ترغيبا فيها، و ظاهر حسن تلك النسبة فانّ الجنّة المحسوسة أشرف دار رتّبت لأشرف المخلوقات، و أما المعقولة فيعود إلى درجات الوصول و الاستغراق في المعارف الالهيّة الّتي بها السعادة و البهجة و اللّذة التامّة، و هي جامع الاعتبار العقلي لمنازل أولياء اللّه و خاصّته و مقامات ملائكته و رسله، و من المتعارف أنّ الملك العظيم اذا صرف عنايته الى بناء دار يسكنها هو و خاصّته أن يقال انّه تختصّ بالملك و انّه بناها.
و قوله: (ظلّها عرشه) يدلّ على أنّ الجنّة فوق السّماوات و تحت العرش و اليه ذهب الاكثر.
قال الرّازي في تفسير قوله عزّ و جلّ: وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ: و ههنا سؤالات «إلى أن قال» السؤال الثّالث أنتم تقولون إنّ الجنّة في السّماء فكيف يكون عرضها كعرض السّماء.
و الجواب أنّ المراد من قولنا أنها في السّماء أنّها فوق السّماوات و تحت العرش قال في صفة الفردوس: سقفها عرش الرحمن، و قال: و سئل أنس بن مالك عن الجنّة في الأرض أم في السّماء قال: فأىّ أرض و سماء تسع الجنّة، قيل: فأين هي قال فوق السماوات السبع و تحت العرش. و قال العلّامة المجلسي (ره) في البحار بعد ذكر الايات و الأخبار في وصف الجنّة و نعيمها: اعلم أنّ الايمان بالجنّة و النار على ما وردتا في الايات و الأخبار من غير تأويل من ضروريات الدّين و منكرهما أو مأوّلهما بما اوّلت به الفلاسفة خارج من الدّين.
و أما كونهما مخلوقتان الان فقد ذهب إليه جمهور المسلمين إلّا شرذمة من المعتزلة، فانهم يقولون: سيخلقان يوم القيامة، و الايات و الأخبار المتواترة دافعة لقولهم مزيفة لمذهبهم و الظاهر أنه لم يذهب إلى هذا القول السخيف أحد من الاماميّة إلّا ما ينسب إلى السيد الرّضيّ رضي اللّه عنه و أما مكانهما فقد عرفت أنّ الأخبار تدلّ على أنّ الجنّة فوت السماوات السبع و النار في الأرض السابعة، و نقل عن شارح المقاصد أنه قال: لم يرد نقل صريح في تعيين مكان الجنّة و النار، و الأكثرون على أنّ الجنّة فوق السماوات السبع و تحت العرش تشبّثا بقوله تعالى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى و قوله عليه السّلام: سقف الجنّة عرش الرّحمن، و النار تحت الأرضين السبع، و الحقّ تفويض ذلك إلى علم العليم الخبير انتهى.
و ذهب بعضهم إلى أنّها في السّماء الرابعة نسبه الطبرسيّ في مجمع البيان إلى صحيح الخبر، و اللّه أعلم.
(و نورها بهجته) قال الطريحي و البهجة الحسن و منه رجل ذو بهجة، و البهجة السّرور و منه الدّعاء: و بهجة لا تشبه بهجات الدّنيا، أى مسرّة لا تشبه مسرّات الدّنيا، و فيه: سبحان ذي البهجة و الجمال، يعني الجليل تعالى انتهى.
أقول: فعلى المعنى الأوّل فالمراد أنّ نور الجنّة أى منوّرها جماله سبحانه عظمه الّتي تضمحلّ الأنوار دونها، فأهل الجنّة مستغرقة في شهود جماله، و نفوسهم مشرقة باشراق أنوار كماله كما قال عزّ من قائل «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أى منوّرهما، فانّ كلّ شي ء استنار منهما و استضاء فبقدرته و جوده و افضاله.
روى في البحار من تفسير علىّ بن إبراهيم القمّي عن أبيه عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ للّه كرامة في عباده المؤمنين في كلّ يوم جمعة فاذا كان يوم الجمعة بعث اللّه إلى المؤمن ملكا معه حلّة فينتهى إلى باب الجنّة فيقول: استأذنوا لى على فلان، فيقال هذا رسول ربّك على الباب فيقول لأزواجه أىّ شي ء ترين على أحسن، فيقلن يا سيّدنا و الّذي أباحك الجنّة ما رأينا عليك شيئا أحسن من هذا بعث إليك ربّك فيتّزر بواحدة و يتعطّف بالأخرى فلا يمرّ بشي ء إلّا أضاء له حتى ينتهى إلى الموعد فاذا اجتمعوا تجلّى لهم الرّب تبارك و تعالى فاذا نظروا إليه خرّوا سجّدا، فيقول عبادي ارفعوا رؤوسكم ليس هذا يوم سجود و لا يوم عبادة قد رفعت عنكم المؤنة، فيقولون: يا ربّ و أيّ شي ء أفضل مما أعطيتنا، أعطيتنا الجنّة، فيقول لكم مثل ما في أيديكم سبعين ضعفا، فيرجع المؤمن في كلّ جمعة سبعين ضعفا مثل ما في يديه و هو قوله «وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ» و هو يوم الجمعة إنّ ليلها ليلة غرّاء و يومها يوم أزهر فأكثروا فيها من التسبيح و التكبير و التهليل و الثناء على اللّه و الصّلاة على محمّد و آله. قال فيمرّ المؤمن فلا يمرّ بشي ء إلّا أضاء له حتّى ينتهى إلى أزواجه، فيقلن و الّذي أباحنا الجنّة يا سيّدنا ما رأيناك قط أحسن منك الساعة فيقول: إنّي قد نظرت بنور ربّي الحديث.
قال العلّامة المجلسي (ره) قوله- تجلّى لهم الرّب- أى بأنوار جلاله و آثار رحمته و افضاله- فاذا نظروا إليه- أى إلى ما ظهر لهم من ذلك و على المعنى الثاني فالمراد أنّ نور الجنّة و أهلها ابتهاج اللّه سبحانه بها و بهم أما وصفه سبحانه بالابتهاج و البهجة فلما قال الحكماء و المتكلّمون المثبتون له تعالى اللّذة العقليّة من أنّ أجل مبتهج هو المبدأ الأوّل بذاته لأنّ الابتهاج و اللّذة عبارة عن إدراك الكمال فمن أدرك كمالا في ذاته ابتهج به و التذّ، و كماله تعالى أجلّ الكمالات و إدراكه أقوى الادراكات فوجب أن يكون لذّاته أقوى اللّذات.
قال صدر المتألّهين: أجلّ مبتهج بذاته هو الحقّ الأوّل، لأنه أشدّ إدراكا لاعظم مدرك له الشرف الأكمل و النور الأنور و الجلال الأرفع، و هو الخير المحض و بعده في الخيريّة و الوجود و الادراك هو الجواهر العقليّة و الأرواح النوريّة و الملائكة القدسيّة المبتهجون به تعالى، و بعد مرتبتهم مرتبة النفوس البشريّة و السعداء من أصحاب اليمين على مراتب ايمانهم باللّه.
و أما المقرّبون من النفوس البشريّة و هم أصحاب المعارج الروحانيّة فحالهم في الاخرة كحال الملائكة المقرّبين في العشق و الابتهاج به تعالى.
إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ ابتهاج اللّه بمخلوقاته راجع إلى ابتهاجه بذاته، لأنه لما ثبت أنه أشدّ مبتهج بذاته لما له من الشرف و الكمال كان ذاته أحبّ الأشياء إليه، و كلّ من أحبّ شيئا أحبّ جميع أفعاله و آثاره لاجل ذلك المحبوب، و كلّ ما هو أقرب إليه فهو أحبّ اليه و ابتهاجه به أكمل.
فثبت بذلك أنّ اللّه سبحانه مبتهج بالجنّة و أهلها لأنها دار كرامته و رحمته و أقرب المجعولات إليه، و كذلك أهلها لأنهم مقرّبو حضرته و محبوبون إليه و مكرّمون لديه كما أنهم مبتهجون به سبحانه و محبّون إيّاه. و أما أنّ بهجته تعالى نور لها أى لأهلها فلكون محبّته و ابتهاجه سببا لاستنارة نفوسهم بما يفاض عليهم من الأنوار الملكوتيّة الّتي تغشى أبصار البصاير و يستغرق في الابتهاج بها الأولياء المقرّبون، و على ذلك فتسمية البهجة بالنور من باب تسمية السبب باسم المسبّب، هذا.
و انما خصّ بهجته بالذكر لأنها حسبما عرفت ملازمة للمحبّة، و محبّته تعالى لهم و رضوانه عنهم أعظم الخيرات و أفضل الكمالات.
روى في البحار عن العياشي عن ثوير عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: إذا صار أهل الجنّة في الجنّة و دخل وليّ اللّه إلى جنانه و مساكنه، و اتكى كلّ مؤمن منهم أريكته حفّته خدّامه و تهدّلت عليه الثمار و تفجّرت حوله العيون و جرت من تحته الأنهار و بسطت له الزّرابي، و صففت له النمارق و أتته الخدّام بما شائت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك قال: و يخرج عليهم الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء اللّه، ثمّ إنّ الجبّار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي و أهل طاعتي و سكان جنّتي في جواري ألا هل انبئكم بخير مما أنتم فيه فيقولون: ربّنا و أىّ شي ء خير مما نحن فيه نحن فيما اشتهت أنفسنا و لذّت أعيننا من النعم في جوار الكريم، قال: فيعود عليهم بالقول، فيقولون: ربّنا نعم، فأتنا بخير مما نحن فيه، فيقول لهم تبارك و تعالى: رضاى عنكم و محبّتي لكم خير و أعظم مما أنتم فيه، فيقولون: نعم يا ربّنا رضاك عنّا و محبّتك لنا خير لنا و أطيب لأنفسنا، ثمّ قرء عليّ بن الحسين عليه السّلام هذه الاية «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».
(و زوّارها ملائكته) يعني أنّ الملائكة يزورون ساكنيها تعظيما لهم و تشريفا و تكريما حسبما عرفت الاشارة إليه في الرواية الّتي رويناها من روضة الكافي في شرح الفصل التاسع من المختار الأول.
(و رفقاؤها رسله) كما قال عزّ من قائل «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» رغب اللّه تعالى و كذا أمير المؤمنين أهل الطاعة و التّقوى بهذا الوعد و ما أحسنه من وعد و هو كونهم رفيق النّبيين الّذينهم في أعلا علّيين و الصدّيقين الّذين صدقوا في أقوالهم و أفعالهم، و الشهداء المقتول أنفسهم و أبدانهم بالجهاد الأكبر و الأصغر و الصالحين الّذين صلحت حالهم و استقامت طريقتهم.
روى في الصّافي من الكافي عن الصادق عليه السّلام: المؤمن مؤمنان: مؤمن وفى للّه بشروطه الّتي اشترطها عليه فذلك مع النّبيين و الصدّيقين و الشهداء و الصّالحين و حسن اولئك رفيقا، و ذلك ممّن يشفع و لا يشفع له، و ذلك ممّن لا يصيبه أهوال الدّنيا و لا أهوال الاخرة، و مؤمن زلّت به قدم فذلك كخامة الزرع كيفما كفته الريح انكفى، و ذلك ممّن يصيبه أهوال الدّنيا و أهوال الاخرة و يشفع له و هو على خير.
و فيه من الكافي و العياشي عن الصّادق عليه السّلام لقد ذكركم اللّه في كتابه فقال: «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ» الاية، فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الاية النبيّون و نحن في هذا الموضع الصدّيقون و الشهداء و أنتم الصّالحون فتسمّوا بالصّلاح كما سمّاكم اللّه، هذا.
و لجزالة هذا الوعد أعنى مرافقة النّبيين عقّب اللّه تعالى قوله «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ» بقوله «ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً» و قد مضى بعض الكلام في وصف الجنّة و نعيمها في شرح الفصل الثالث من المختار الثامن و المأة، رزقنا اللّه نيلها بمنّه و جوده.
ثمّ إنه عليه السّلام لما أمر بالتقوى و نبّه على فضلها و عظم ما يترتّب عليها من الثمرات الدّنيويّة و الأخرويّة رتّب عليه قوله (فبادروا المعاد و سابقوا الاجال) أى سارعوا إلى المعاد بالمغفرة و التّقوى لأنّها خير الزّاد و استبقوا إلى الاجال بالخيرات و صالح الأعمال.
و المراد بالمعاد هو العود إلى الفطرة الاولى بعد الانتقال منها و النزول إلى الدّنيا فالاشارة إلى الابتداء بقوله تعالى «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» «وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً» و الاشارة إلى الانتهاء «كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ» فالبدو و الرّجوع متقابلان قال تعالى «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ» فالعدم الخاصّ الأوّل للانسان هو الجنّة الّتي كان فيها أبونا آدم عليه السّلام و أمّنا حوّا، و الوجود بعد العدم هو الهبوط منها إلى الدّنيا «اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً» و العدم الثاني من هذا الوجود هو الفناء في التّوحيد، و الأوّل هو النزول و الهبوط، و الثاني هو العروج و الصّعود، و البداية النزول عن الكمال إلى النقص، و النهاية المعاد من النقصان إلى الكمال و اليه الاشارة بقوله «ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي» هذا.
و لما أمر عليه السّلام بالمبادرة إلى المعاد و المسابقة إلى الاجال علّله بقوله (فانّ الناس يوشك أن ينقطع بهم الأمل و يرهقهم الأجل) يعني أنه تقريب انقطاع آمالهم الخادعة و مفاجاة آجالهم المستورة (و) أن (يسدّ عنهم باب) الانابة و (التوبة) و من كان هذا شأنه فلا بدّ أن يتّقى ربّه و ينصح نفسه و يقدّم توبته و يغلب شهوته و يستغفر من خطيئته و يستقيل من معصيته، فانّ أجله مستور عنه و أمله خادع له، و الشيطان موكّل به يزيّن له المعصية ليركبها و يمّنيه التوبة ليسوّفها حتّى يهجم منيته عليه أغفل ما يكون عليها.
(فقد أصبحتم في مثل ما سأل إليه الرّجعة من كان قبلكم) أى أصبحتم في حال الحياة و الصحّة و سلامة المشاعر و القوى و البنية و ساير الأسباب الّتي يتمنّى من كان قبلكم الرجعة إليها لتدارك ما فات و اصلاح الزلّات و الهفوات، و قال: «رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ»، و لكنّهم قد حيل بينهم و بين ما يشتهون و قيل كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
فالان و الخناق مهمل، و الروح مرسل، في راحة الأجساد، و باحة الاحتشاد و انتظار التوبة، و انفساح الحوبة، لا بدّ من اغتنام الفرصة و الانابة من الخطيئة قبل الضنك و الضيق، و الرّوع و الزهوق، و قبل أن يروع من الرّجعة و يعظم الحسرة
|