و من خطبة له عليه السّلام و هي المأة و الرابعة و الثمانون من المختار في باب الخطب
و رواها الطبرسي في الاحتجاج مثله.
الحمد للّه الّذي لا تدركه الشّواهد، و لا تحويه المشاهد، و لا تراه النّواظر، و لا تحجبه السّواتر، الدّالّ على قدمه بحدوث خلقه، و بحدوث خلقه على وجوده، و باشتباههم على أن لا شبه له، الّذي صدق في ميعاده، و ارتفع عن ظلم عباده، و قام بالقسط في خلقه، و عدل عليهم في حكمه، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته، و بما وسمها به من العجز على قدرته، و بما اضطرّها إليه من الفناء على دوامه، واحد لا بعدد، و دائم لا بأمد، و قائم لا بعمد، تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة، و تشهد له المرائي لا بمحاضرة، لم تحط به الأوهام بل تجلّى لها بها، و بها امتنع منها، و إليها حاكمها، ليس بذي كبر امتدّت به النّهايات فكبّرته تجسيما، و لا بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا، بل كبر شأنا، و عظم سلطانا.
اللغة
(العمد) بالتحريك جمع العمود و (المرائي) جمع المرئي كمرمي و هو ما يدرك بالبصر أو جمع مرآة بفتح الميم يقال فلان حسن في مرآة عينى قاله الشارح المعتزلي، و سيأتي ما فيه و (تجسيما و تجسيدا) مصدران من باب التفعيل و في بعض النسخ من باب التفعل، و يفرق بين الجسم و الجسد بأنّ الجسم يكون جيوانا و جمادا و نباتا، و الجسد مختصّ بجسم الانس و الجنّ و الملائكة و يطلق على غير ذوى العقول و قوله تعالى: «عِجْلًا جَسَداً» أي ذا جثّة على التشبيه بالعاقل أو بجسمه.
الاعراب
بل في قوله بل تجلّى للاضراب، و الباء في بها للسببيّة، و تجسيما و تجسيدا منصوبان على الحال
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مشتملة على مطالب نفيسة من العلم الالهى و مقاصد لطيفة من آثار قدرته، و بدايع تدبيره و حكمته في مصنوعاته، و افتتحها بما هو حقيق بالافتتاح فقال: (الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد) أراد بالشواهد الحواسّ و تسميتها بها إمّا لحضورها من شهد فلان بكذا إذا حضره، أو لشهادتها عند العقل على ما تدركه و تثبته، و عدم امكان إدراكها له سبحانه لانحصار مدركاتها في المحسوسات و اختصاص معلوماتها بالأجسام و الجسمانيات، و هو سبحانه منزّه عن ذلك حسبما عرفته في شرح الفصل الثاني من المختار الأوّل و غيره.
و لا تحويه المشاهد أي المجالس و الأمكنة، لأنّ حواية المجلس و المكان من صفات الامكان كما مرّ في شرح الفصل الخامس من المختار الأول و غيره.
و لا تراه النواظر أي نواظر الأبصار و تخصيصها بالذكر مع شمول الشواهد لقوّتها و وقوع الشبهة في أذهان أكثر الجاهلين في جواز إدراكه تعالى بها كما هو مذهب المجسمة و المشبهة و الكرامية و الأشاعرة المجوّزين للرّؤية، و قد عرفت فساد قولهم في شرح المختار التاسع و الأربعين، و المختار المأة و الثامن و السبعين و غيرهما.
و لا تحجبه السواتر لأنّ المحجوبيّة بالسواتر الجسمانية من أوصاف الأجسام و عوارضها حسبما عرفت تحقيقه في شرح المختار المأة و الثاني و الخمسين الدالّ على قدمه بحدوث خلقه، و بحدوث خلقه على وجوده) يعني أنّ حدوث خلقه دليل على وجوده و قدمه معا، و قد مرّ تحقيقه أيضا في شرح المختار المأة و الثاني و الخمسين و المختار التاسع و الأربعين و باشتباههم على أن لا شبه له) أي بابدائه المشابهة بين الموجودات دلّ على أن لا شبه له و لا نظير، و قد مرّ تحقيقة أيضا في شرح المختار الّذي أشرنا إليه.
الّذي صدق في ميعاده) أي في وعده لأنّ الخلف في الوعد كذب قبيح محال عليه سبحانه كما قال عزّ من قائل: «إنّ اللّه لا يخلف الميعاد» و استدلّ على عدم جواز الكذب عليه بأنّه إذا جاز وقوع الكذب في كلامه ارتفع الوثوق عن اخباره بالثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و ساير ما أخبر به من أخبار الاخرة و الأولى، و في ذلك تفويت مصالح لا تحصى و هو سبحانه حكيم لا يفوت عنه الأصلح بنظام العالم، فعلم من ذلك عدم جواز الخلف في وعده و وعيده.
و) بذلك أيضا علم أنّه تعالى ارتفع عن ظلم عباده) لكون الظلم قبيحا عقلا و نقلا. يعني أنّه سبحانه منزه عن حال ملوك الأرض الذين من شأنهم ظلم رعيتهم إذا شاهدوا انّ في ظلمهم منفعة لهم، و في ترك الظلم مضرّة، فيظلمون من تحت ملكهم نيلا إلى تلك المنفعة، و دفعا لتلك المضرّة، و تحصيلا لذلك الكمال الحقيقي أو الوهمي، و اللّه سبحانه كامل في ذاته غير مستكمل بغيره.
و قام بالقسط) و العدل في خلقه و عدل عليهم في حكمه) يعني أنّه سبحانه خلقهم و أوجدهم على وفق الحكمة و مقتضى النظام و المصلحة و أجرى فيهم الأحكام التكوينيّة و التكليفيّة على مقتضى عدله و قسطه قال تعالى «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ». قال لطبرسيّ: أي أخبر بما يقوم مقام الشهادة على وحدانيته من عجيب حكمته و بديع صنعته، و شهدت الملائكة بما عاينت من عظيم قدرته و شهد أولوا العلم بما ثبت عندهم و تبيّن من صنعه الّذي لا يقدر عليه غيره.
قال: و روي عن الحسن أنّ في الاية تقديما و تأخيرا و التقدير شهد اللّه أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط، و شهدت الملائكة أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط، و شهد أولو العلم أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط، و القسط العدل الّذي قامت به السّماوات و الأرض، و رواه أصحابنا أيضا في التفسير، و قيل: معنى قوله قائما بالقسط أنّه يقوم باجراء الأمور و تدابير الخلق و جزاء الأعمال بالعدل كما يقال: فلان قائم بالتدبير أي يجري في أفعاله على الاستقامة.
مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته) أى مستدلّ بحدوثها على قدمه سبحانه و قد عرفت وجه الدلالة في شرح المختار المأة و الثاني و الخمسين.
و قال العلّامة المجلسي (ره) الاستشهاد طلب الشهادة أي طلب من العقول بما بين لها من حدوث الأشياء الشهادة على أزليّته أو من الأشياء أنفسها بأن جعلها حادثة، فهى بلسان حدوثها تشهد على أزليّته، و المعنى على التقديرين أنّ العقل يحكم بأنّ كلّ حادث يحتاج إلى موجد و أنّه لا بدّ أن تنتهى سلسلة الاحتياج الى من لا يحتاج إلى موجد، فيحكم بأنّ علّة العلل لا بدّ أن يكون أزليّا و إلّا لكان محتاجا إلى موجد آخر بحكم المقدّمة الأولى.
و بما وسمها به من العجز على قدرته) يعني أنّه استشهد على قدرته بالعجز الذي وسم و وصف به خلقه، و وجه شهادته عليها أنّا نرى أنّ غيره تعالى لا يقدر على ما يقدر عليه هو جلّ و علا من الموجودات بل لا يقدر على شي ء أصلا و لا يملك لنفسه موتا و لا حياتا و لا نشورا، فضلا عن غيره، و لا يتمكّن من أن يخلق ذبابا فضلا عما هو أعظم منه، فعلم بذلك أنّ الموجودات على كثرتها و عظمتها لا بدّ من انتهاء وجوداتها على من هو قادر عليها كلّها بالايجاد و الاعدام و التصريف و التقليب قال تعالى «أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ» و قال العلّامة المجلسي (ره) في تفسير هذه الفقرة: الوسم الكى شبّه ما اظهر عليها من آثار العجز و الامكان و الاحتياج بالسمة الّتي تكون على العبيد و النعم و تدلّ على كونها مقهورة مملوكة.
و قال الصّدوق (ره) الدليل على أنّ اللّه قادر أنّ العالم لما ثبت أنّه صنع لصانع و لم نجد أن يصنع الشي ء من ليس بقادر عليه بدلالة أنّ المقعد لا يقع منه المشى و العاجز لا يتأتّي منه الفعل صحّ أنّ الذي صنعه قادر، و لو جاز غير ذلك لجاز منّا الطيران مع فقد ما يكون به من الالة و يصحّ لنا الادراك و ان عدمنا الحاسّة فلما كان اجازة هذا خروجا عن المعقول كان الأوّل مثله.
و بما اضطرّها اليه من الفناء على دوامه) المراد من اضطرارها الى الفناء حكم قدرته القاهرة على ما استعدّ منها للعدم بافنائه حين استعداده بحكم قضائه المبرم، و دلالة ذلك على دوامه سبحانه أنّ الفناء لما كان دليلا على الحدوث و الامكان دلّ فناؤها على أنّ صانعها ليس كذلك و أنّه أزليّ أبديّ سرمديّ.
واحد لا بعدد) يعني أنّ وحدته ليست وحدة عددية بأن يكون معه ثان من جنسه، و قد مرّ تحقيق ذلك مستوفي في شرح المختار الرابع و الستّين.
قال الصّدوق «ره» في التوحيد في تفسير أسماء اللّه الحسنى: الأحد الواحد الأحد معناه أنّه واحد في ذاته أى ليس بذى ابعاض و لا أجزاء و لا أعضاء، و لا يجوز عليه الاعداد و الاختلاف لأنّ اختلاف الأشياء من آيات وحدانيّته ممّا دلّ به على نفسه و يقال لم يزل اللّه واحدا، و معنى ثان أنه واحد لا نظير له و لا يشاركه في معنى الوحدانية غيره، لأنّ كلّ من كان له نظراء أو أشباه لم يكن واحدا في الحقيقة و يقال فلان واحد الناس أى لا نظير له فيما يوصف به، و اللّه واحد لا من عدد لأنّه عزّ و جلّ لا يعدّ في الأجناس و لكنه واحد ليس له نظير.
(دائم لا بأمد) قال الشارح البحراني قد سبق بيان أنّ كونه دائما بمعنى أنّ وجوده مساوق لوجود الزمان، إذ كان تعالى هو موجد الزمان بعد مراتب من خلقه و مساوقة الزمان لا يقتضى الكون في الزمان، و لما كان الأمد هو الغاية من الزمان و منتهى المدّة المضروبة لذي الزمان من زمانه، و ثبت أنّه تعالى ليس بذى زمان يفرض له الأمد ثبت أنّه دائم لا أمد له.
و قال الصّدوق (ره) الدائم الباقي الذي لا يبيد و لا يفنى.
(قائم لا بعمد) أي ليس قيامه قياما جسمانيا يكون بالعمد البدنيّة أو بالاعتماد على الساقين، أو أنّه قائم باق من غير استناد الى سبب يعتمد عليه و يقيمه كساير الوجودات الممكنة.
و في حديث الرّضا عليه السّلام المروي في الكافي عنه عليه السّلام مرسلا قال: و هو قائم ليس على معنى انتصاب و قيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء، و لكن قائم يخبر أنّه حافظ كقول الرّجل القائم بأمرنا فلان و اللّه هو القائم على كلّ نفس بما كسبت و القائم أيضا في كلام النّاس الباقي، و القائم أيضا يخبر عن الكفاية كقولك للرجل قم بأمر بني فلان، أي اكفهم و القائم منّا قائم على ساق فقد جمعنا الاسم و لم يجمع المعنى الحديث.
قال صدر المتألّهين في شرح الكافي: قوله عليه السّلام: و هو قائم ليس على معنى انتصاب، يعني أنّ من الأسماء المشتركة بين الخالق و الخلق اسم القائم لكن في كلّ منهما بمعنى آخر، فإنّ القائم من الأجسام ما ينتصب على ساق كما نحن ننتصب عند القيام بأمر على سوقنا في كبد و مشقّة، و أمّا الباري جلّ مجده فاسم القيام فيه يخبر بأنه حافظ للأشياء مقوم لوجودها و لا يؤده حفظهما و أنّه القائم على كلّ نفس بما كسبت فاختلف المعنى و اتّحد الاسم.
و قد يطلق القائم في كلام الناس بمعنى الباقي و هو أيضا معناه مختلف فمعنى الباقي في الخلق ما يوجد في زمان بعد زمان حدوثه، و أما في حقّه تعالى فليس بهذا المعنى لارتفاعه عن مطابقة الزمان، بل بقاؤه عبارة عن وجوب وجوده و امتناع العدم عليه بالذات و بقاؤه نفس ذاته.
و القائم قد يجي ء بما يخبر عن الكفاية كما يقال: قم بأمر بني فلان أى اكفه و لا شكّ أنّ هذا المعنى فيه تعالى على وجه أعلى و أشرف، بل لا نسبة بين كفايته للخلق كافّة لا بالة و قوّة و تعمل و تكلّف، و بين كفاية الخلق بعضهم لبعض بتعب و مشقة فقد اتّفق الاسم و اختلف المعنى.
(تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة) أى لا من طريق المشاعر و الحواس، و المراد بتلقّى الأذهان له تقبّلها، أي إدراكها لما يمكن لها إدراكه من صفاته السّلبيّة و الاضافية لا تلقّى ذاته، لما عرفت مرارا من عجز العقول و الأوهام و الأذهان و الأفهام عن تعقّل ذاته.
(و تشهد له المرائي لا بمحاضرة) يعني تشهد له المرئيات و المبصرات و تدلّ على وجوده و صفات كماله حسبما عرفته في شرح المختار التاسع و الأربعين.
و لما كان بناء الشهادة غالبا على حضور الشاهد عند المشهود به كما يشعر به تصاريف تلك المادّة مثل قوله سبحانه «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ» الاية أي من كان حاضرا غير مسافر فليصمه، و قولهم: الشاهد يرى ما لا يراه الغايب، و شهدت مجلس فلان أى حضرته، و سمّى الشهيد شهيدا لحضور ملائكة الرّحمة عنده فعيل بمعنى المفعول إلى غير ذلك من تصاريفها، و كان قوله تشهد له المرائي موهما لكون شهادتها بعنوان خطبه 185 نهج البلاغه بخش 1 الحضور.
استدرك بقوله: لا بمحاضرة، من باب الاحتراس دفعا للتوهّم المذكور، يعني أنّ شهادتها ليست بعنوان خطبه 185 نهج البلاغه بخش 1 الحضور كما في ساير الشهود، بل المراد من شهادتها دلالتها عليه من باب دلالة الأثر على المؤثر و الفعل على الفاعل.
هذا كلّه على كون المرائي جمع المرئي و هو الشي ء المدرك بالبصر قال الشارح المعتزلي: و الأولى أن يكون المرائي ههنا جمع مرآة بفتح الميم من قولهم هو حسن في مرآة عيني يقول إن جنس الرّؤية يشهد بوجود الباري من غير محاضرة منه للحواس انتهى.
و تبعه العلّامة المجلسي (ره) في البحار و كذا الشارح البحراني قال: و المرائي جمع مرآة بفتح الميم و هي المنظر يقال فلان حسن في مرآة العين و في رأى العين أي المنظر انتهى إلّا أنّه جعل المرائي بمعنى النواظر.
أقول: و يتوجّه عليهم أولا أنّ كون المرائي جمعا للمرآة لم يثبت من أهل اللّغة.
و ثانيا سلمنا لكن لا بدّ من جعل المرآة الّتي هي مفردها اسم مكان بمعنى محلّ الرّؤية حتّى يصحّ بناء الجمع منها إذ لو جعلناها مصدرا بمعنى نفس الرّؤية كما هو ظاهر كلام الأولين لا يصحّ أن يبنى منها جمعا، كما أنّ المناظر التي هي جمع المنظر يراد بها محال النظر، و فسرها في القاموس باشراف الأرض.
و الحاصل أنّ المرآة التي هي واحدة المرائي على زعمهم بمعنى المنظر فان جعلناها مصدرا لا يصحّ أن يبنى منها جمع. و إن جعلناها اسما للمكان فيصحّ بناؤه منها إلّا أنّه لا وجه حينئذ للحكم بكون المرائي جمعا لها أولى كونها جمعا للمرئي إذ لا تفاوت بينهما في المعنى كما لا يخفى.
و أمّا الشارح البحراني فلا يفهم وجه تفسير المرائي بالنواظر بعد تفسير المرآة بمعنى المنظر إلّا ان يقال إنّ مراده بالمرائي محالّ النظر أى الابصار فيصحّ التعبير عنها بالنواظر و المناظر كليهما فتأمل جيّدا.
(لم تحط به الأوهام بل تجلّى لها بها و بها امتنع منها و إليها حاكمها) قال الشارح المعتزلي: الأوهام ههنا هي العقول يقول: إنّه سبحانه لم تحط به العقول أى لم تتصوّر كنه ذاته، و لكنه تجلّى للعقول بالعقول، و تجلّيه ههنا هو كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من صفاته السّلبيّة و الاضافية و كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من أسرار مخلوقاته، فأما غير ذلك فلا.
و قوله: و بالعقول امتنع من العقول، أى و بالعقول و بالنظر علمنا أنّه تعالى يمتنع أن تدركه العقول.
و قوله: و إلى العقول حاكم العقول أى جعل العقول المدّعية أنها أحاطت به و أدركته كالخصم له سبحانه ثمّ حاكمها إلى العقول السّليمة الصحيحة النظر فحكمت له سبحانه على العقول المدّعية لما ليست أهلا له انتهى.
و قيل: يحتمل أن يكون أحد الضميرين في كلّ من الفقرات الثلاث راجعا إلى الأوهام، و الاخر إلى الأذهان فيكون ان بالأوهام و خلقه تعالى لها و أحكامها أو بادراك الأوهام آثار صنعته و حكمته تجلّى للعقول، و بالعقول و حكمها بأنه تعالى لا يدرك بالأوهام امتنع من الأوهام، و إلى العقول حاكم الأوهام لو ادّعت معرفته حتّى تحكم العقول بعجزها عن ادراك جلال هذا.
و يجوز أن يراد بالأوهام الأعمّ منها و من العقول و اطلاقه على هذا المعنى شايع، فالمراد تجلّى اللّه لبعض الأوهام أى العقول ببعض الحواس و هكذا على سياق ما مرّ.
(ليس بذى كبر امتدّت به النهايات فكبرته تجسيما) الكبير يطلق على معان: أحدها العظيم الحجم و المقدار و الكبير في الطول و العرض و السّمك الثاني العالي السنّ من الحيوان الثالث رفيع القدر و عظيم الشأن.
إذا عرفت ذلك نقول: إنّ اطلاق الكبير على اللّه سبحانه و وصفه به كما ورد في الكتاب العزيز ليس باعتبار المعنى الأوّل و الثاني، لأنّ الكبير بهذين المعنيين من عوارض الأجسام و الأحجام، فلا بدّ أن يراد به حيثما يطلق عليه المعنى الثالث و هو معنى قوله عليه السّلام ليس بذي كبراه يعني أنّه موصوف بالكبر و لكن لا بالمعنى الموجود في الأجسام بأن يكون ممتدّا طولا و عرضا و عمقا، و إنّما اسند الامتداد به الى النهايات لأنّها غاية الطبيعة بالامتداد يقف عندها و ينتهى بها، فكانت من الأسباب الغائية، فلذلك اسند إليها، و كذلك اسناد التكبر اليها اذ كان التكبير من لوازم الامتداد اليها، فمعنى قوله: فكبّرته تجسيما أنّه كبّرته النهايات مجسّمة له أو حالكونه سبحانه مجسما.
روى في الكافي عن ابن محبوب عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رجل عنده: اللّه أكبر، فقال عليه السّلام: اللّه أكبر من أيّ شي ء فقال: من كلّ شي ء فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: حددته، فقال الرجل: كيف أقول قال عليه السّلام: قل: اللّه أكبر من أن يوصف.
قال بعض شراح الكافي: لما كان الأكبر من أسماء التفضيل كالأعظم و الأطول و الأعلم و نحوها، و الموصوف بها من جنس ما يفضل عليه فيهما، فانك اذا قلت هذا أطول من ذلك أنه وجد لهذا مثل الذي في ذلك من الطول مع زيادة، و كان الحق بحيث لا مجانس له في ذاته و صفاته، فلم يجز اطلاق الأكبر عليه بالمعنى الذى يفهمه الناس من ظاهر اللفظ، اذ الكبر و الصغر من صفات الجسمانيات و لا ينبغي أيضا أن يكون المفضل عليه شيئا خاصا أو عاما كما يقال: اللّه أكبر من العرش أو من العقل أو من كلّ شي ء، لأنّه يوجب التحديد و التجنيس كما علمت، فلذلك أفاد عليه السّلام أن معنى اللّه أكبر أنّه أكبر من أن يوصف لئلا يلزم التحديد.
(و لا بذى عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا) و معناها كسابقتها، يعني أنّ اتصافه بالعظمة و اطلاق العظيم عليه في القرآن الكريم و غيره ليس بالمعنى المتبادر إلى الأفهام المتصوّر في الأجسام أعنى العظم في القطر و الجسد، بل المراد أنّه عظيم السلطان رفيع الشأن. و هو معنى قوله عليه السّلام في حديث ذعلب المتقدّم روايته عن الكافي في شرح المختار المأة و الثامن و السّبعين: و يلك يا ذعلب انّ ربّي لطيف اللطافة لا يوصف باللّطف عظيم العظمة لا يوصف بالعظم كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ. و الى ما ذكرناه أشار هنا بقوله (بل كبر شأنا و عظم سلطانا) أي كبره من حيث الشأن، و عظمته من حيث السّلطنة.
|