اللغة
(دقّ) الشي ء يدقّ دقة من باب ضرّ خلاف غلظ فهو دقيق و غلظ الشي ء بالضمّ غلظا و زان عنب و الاسم الغلظة و هو غليظ و (أبان) و بين و تبين و استبان كلّها بمعنى الوضوح و الانكشاف و جميعها يستعمل لازما و متعدّيا إلّا بان الثلاثى فلا يستعمل إلّا لازما قاله الفيومى.
الاعراب
جليله و غليظه مرفوعان على الفاعل للزوم فعليهما، و الباء فى قوله سلك به للتعدية، و فى قوله بطمأنينة بدنه للمصاحبة، و فى قوله بما استعمل للسببية، و كلتا الأخيرتين متعلقتان بقوله ثبتت.
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام على غاية و جازته جامع لجميع صفات العارف الكامل
و لكيفيّة سلوكه و لمال أمره و لعمرى إنّه لا يوجد كلام أوجز من هذا الكلام في أداء هذا المعني، و هو في الحقيقة قطب دائرة العرفان و عليه مدارها، و في الايجاز الّذي هو فنّ نفيس من علم البلاغة تالي كلام الملك الرّحمن، مثل قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ الجامع للزّهد كلّه و قوله «خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين» الجامع لمكارم الأخلاق جميعا، و شرحه يحتاج إلى بسط في المقال بتوفيق الربّ المتعال فأقول مستعينا باللّه و بوليّه عليه السّلام: قوله عليه السّلام (قد أحيا عقله و أمات نفسه) المراد بعقله العقل النظرى و العملي و بنفسه النفس الأمّارة بالسّوء و المراد بحياة الأوّل كونه منشئا للاثار المترتّبة عليه مقتدرا على تحصيل الكمالات و المعارف الحقّة و مكارم الأخلاق المحصّلة للقرب و الزّلفي لديه تعالى، و بموت الثّاني بطلان تصرّفاته و آثاره المبعدة عنه عزّ و جلّ بحذافيره، فانّ الحياة و الموت عبارة اخرى عن الوجود و العدم لا أثر له أصلا.
و أراد باحيائه الأوّل و إماتته الثاني تقويته و تغليبه له عليه بحيث يكون الأوّل بمنزلة سلطان قادر قاهر يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، و الثاني بمنزلة عبد ذليل داخر مقهور لا يريد و لا يصدر إلّا باذن مولاه.
و لا يحصل تقوية الأوّل و تذليل الثاني إلّا بملازمة الكمالات العقلانية و المجاهدة و الرّياضة النفسانية، و المجاهدة عبارة عن ذبح النفس بسيوف المخالفة كما قال تعالى وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما بعث سرية و رجعوا: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر و بقى عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول اللّه و ما الجهاد الأكبر قال: جهاد النفس.
و قال بعض أهل العرفان: جاهد نفسك بأسياف الرّياضة و الرّياضة على أربعة أوجه القوت من الطعام، و الغمض من المنام، و الحاجة من الكلام، و حمل الأذى من جميع الأنام، فيتولّد من قلّة الطعام موت الشهوات، و من قلّة المنام صفو الارادات،و من قلّة الكلام السّلامة من الافات، و من احتمال الأذى البلوغ إلى الغايات و ليس على العبد شي ء أشدّ من الحلم عند الجفا، و الصبر على الأذى، و إذا تحرّكت من النّفس إرادة الشهوات و الاثام و هاجت منها حلاوة فضول الكلام جرّدت عليهم سيوف قلة الطّعام من غمد التهجّد و قلة المنام و ضربتها بأيدى الخمول و قلّة الكلام حتّى تنقطع عن الظّلم و الانتقام فتأمن من بوائقها من بين سائر الأناء و تصفّيها من ظلّة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها فتصير عند ذلك نظيفة و نورية خفيفة روحانيّة، فتجول في ميدان الخير و تسير في مسالك الطاعات كالفرس الفارة في الميدان و كالمسلك المتنزّه في البستان.
و قال أيضا: أعداء الانسان ثلاثة: دنياه، و شيطانه، و نفسه، فاحترس من الدّنيا بالزّهد فيها، و من الشّيطان بمخالفته، و من النفس بترك الشّهوات.
و تفصيل ذلك على ما قرّر في علم السّلوك إنّ للسّالك لطريق الحقّ المريد للوصول إلى حظيرة القدس شروطا و وظايف لابدّ من ملازمتها.
أمّا الشروط الّتي لابدّ من تقديمها في الارادة فهي رفع الموانع و الحجب الّتي بينه و بين الحقّ، فانّ حرمان الخلق من الحقّ سببه تراكم الحجب و وقوع السّد على الطريق قال اللّه تعالى وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ.
و السّد بين المريد و بين الحقّ ثلاثة: المال، و الجاه، و المعصية و رفع حجاب المال إنّما يحصل بالخروج منه حتّى لا يبقي منه إلّا قدر الضرورة فما دام يبقى له درهم ملتفت إليه فهو مقيّد به محجوب عن اللّه عزّ و جل، و رفع حجاب الجاه إنما يحصل بالبعد من موضع الجاه و الهرب منه و ايثار خمول الذّكر، و رفع حجاب المعصية إنما يحصل بالتّوبة و النّدم على ما مضى من المعاصى و تدارك ما فات من العبادات و ردّ المظالم و إرضاء الخصوم و إذا قدّم هذه الشّروط فلا بدّ له من المواظبة على وظائف السّلوك، و هى خمس: الجوع، و الصّمت، و السّهر، و العزلة، و الذّكر.
أمّا الجوع فانّه ينقص دم القلب و يبيضه و يلطفه و فى بياضه و تلطيفه نوره و يذيب شحم الفؤاد و فى ذوبانه رقّته و رقته مفتاح انكشاف الحجب كما أنّ قساوته سبب الحجاب، و مهما نقص دم القلب ضاق مسلك العدوّ الشيطان فانّ مجاريه العروق الممتلئة بالشهوات، و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدّم فى العروق فضيّقوا مجاريه بالجوع، أو قال بالصوم و فى حديث آخر ألا اخبركم بشى ء ان أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الصّوم يسوّد وجهه الحديث.
ففائدة الجوع فى كسر شهوات المعاصى كلّها و الاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء أمر ظاهر لأنّ منشأ المعاصى كلّها الشهوات و القوى و مادّة القوى و الشهوات لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كلّ شهوة و قوّة و يكسر سورة النفس الأمّارة كالدابة الجموح إذا شبعت شررت و جمحت لا يمكن ضبطها باللجام، و إذا جاعت ذللت و انقادت و بالجملة فالشبع يورث القسوة و الشهوة و السبعية، و الجوع يوجب الرّقة و انكسار الشهوة و الصولة، و هو مشاهد بالتجربة، و من هنا قيل: مفتاح الدّنيا الشبع و مفتاح الاخرة الجوع، و قال النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أجاع بطنه عظم فكرته و فطن قلبه و قال أيضا أحيوا قلوبكم بقلّة الضحك و قلّة الشبع و طهّروها بالجوع تصفو و ترق.
و أما الصمت فينبغى أن لا يتكلّم إلّا بقدر الضرورة لأنّ الكلام يشغل القلب و ميل القلوب إلى الكلام عظيم، فانه يستروح اليه و يستثقل التجرّد للذّكر و الفكر و فى الحديث طوبى لمن أنفق فضول ماله و أمسك عن فضول كلامه، هذا فى الكلام المباح و أما الكلام الغير المباح من الكذب و النميمة و البهت و غيرها فبينه و بين السلوك إلى الحقّ بون بعيد بعد المشرقين.
و أما السهر فانه يجلو القلب و يصفيه و ينوّره و لذلك مدح اللّه سبحانه المستغفرين بالأسحار لأنها أوقات صفاء الذّهن و نزول الرّحمة و الألطاف الالهيّة، فيضاف صفاء السّهر إلي الصفاء الحاصل من الجوع فيصير القلب كالكوكب الدّرىّ و المرآة المجلوة مستعدا لافاضة الأنوار الالهيّة، فيلوح فيه سبحات جمال الحقّ و يشاهد رفعة الدّرجات الاخرويّة و عظم خطرها و خسّة الزّخارف الدّنيويّة و حقارتها، فتتمّ بذلك رغبته عن الدّنيا و شوقه إلى الاخرة، و السّهر أيضا من خواصّ الجوع و بالشبع غير ممكن.
و أمّا العزلة و الخلوة ففائدتها دفع الشواغل و ضبط السمع و البصر، فانهما دهليز القلب و القلب بمنزلة حوض تنصبّ إليه مياه كريهة كدرة من مجارى الحواس و المقصود بالرّياضة تفريغ الحوض من المياه الردغة و من الطّين الحاصل منها فينفجر أصل الحوض فيبغ منه ماء نظيف سائغ صاف و لا يمكن نزح ماء الحوض و الأنهار إليه مفتوحة فيتجدّد في كلّ حال أكثر ممّا ينقص.
قال الرّضا عليه التحيّة و الثناء إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان يقول: طوبى لمن أخلص للّه العبادة و لم يشغل قلبه بما تراه عيناه و لم ينس ذكر اللّه بما تسمع اذناه الحديث.
فلا بدّ من ضبط الحواس إلّا عن قدر الضرورة و لا يتمّ ذلك إلّا بالعزلة و الخلوة.
قال بعض السّياحين: قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق كيف الطريق إلى الحقّ قال: أن تكون في الدّنيا كأنّك عابر طريق، و قلت له مرّة: دلّنى على عمل أجد قلبى فيه مع اللّه تعالى على الدّوام، فقال لى: لا تنظر إلى الخلق فانّ النّظر إليهم ظلمة، قلت: لا بدّ لى من ذلك، قال: فلا تسمع كلامهم، فانّ فى سماع كلامهم قسوة، قلت: لابدّ لى من ذلك، قال: فلا تعاملهم فانّ معاملتهم وحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بدّ لى من معاملتهم، قال: فلا تسكن إليهم فانّ السكون إليهم هلكة، قال: قلت: هذا لعلّه يكون، قال يا هذا أتنظر إلى الغافلين و تسمع كلام الجاهلين و تعامل البطالين و تريد أن تجد قلبك مع اللّه تعالى على الدّوام، و لا يمكن ذلك إلّا بأن يخلو عن غيره و لا يخلو عن غيره إلّا بطول المجاهدة، و قد عرفت أنّ طريق المجاهدة مضادّة الشهوات و مخالفة هوى النّفس، فاذا حصل للسالك هذه المقدّمات اشتغل بذكر اللّه تعالى بالأذكار الشرعيّة من الصّلاة و تلاوة القرآن و الأدعيّة المأثورة و التسبيح و التهليل و غير ذلك بلسانه و قلبه، فلا يزال يواظب عليها حتّى لا يبقى على قلبه و لسانه
غير ذكره تعالى، و لا يكون له منظور غيره أصلا، فعند ذلك يتجلّى له من أنوار جماله و سبحات عظمته و جلاله ما لا يحيط به لسان الواصفين، و يقصر عنه نعت الناعتين.
هذا من الشّرايط و الوظايف المقرّرة قد أشار إليها أمير المؤمنين عليه السّلام فى مطاوى كلماته و خطبه المتقدّمة و غيرها كثيرا.
مثل ما رواه في الوسايل من أمالى ابن الشيخ قال روى انّ أمير المؤمنين عليه السّلام خرج ذات ليلة من المسجد و كانت ليلة قمراء فأمّ الجبّانة و لحقه جماعة تقفون أثره فوقف عليهم ثمّ قال عليه السّلام: من أنتم قالوا: شيعتك يا أمير المؤمنين، فتفرّس في وجوههم قال: فمالى لا أرى عليكم سيماء الشّيعة، قالوا: و ما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين قال عليه السّلام: صفر الوجوه من السّهر عمش العيون من البكاء حدب الظهور من القيام خمص البطون من الصّيام ذبل الشفّاه من الدّعاء عليهم غبرة الخاشعين.
و قال عليه السّلام في الخطبة الثانية و الثمانين: فاتّقوا اللّه تقاة ذى لبّ شغل التفكّر قلبه و أنصب الخوف بدنه و أسهر التهجّد غرار نومه و أظمأ الرّجاء هواجر يومه و أظلف الزّهد شهواته و أوجف الذّكر بلسانه و قدّم الخوف لابانه و تنكب المخالج عن وضح السبيل و سلك أقصد المسالك إلى النهج المطلوب.
و غير ذلك ممّا تقدّم في ضمن خطبه المسوقة فى الحثّ على الزهد و التقوى و وصف حال المتقين و لا حاجة إلى الاعادة.
ثمّ لا يخفى عليك أنّ مطلوبيّة الاعتزال و الخلوة إنّما هى للفراغ للذّكر و الخلوة و العبادة و كون المعاشرة مانعة منه، و أمّا إذا لم تكن المعاشرة مانعة بل تبعثه على سلوك الصّراط المستقيم كالجمعة و الجماعات و زيارة الاخوان المؤمنين و الاجتماع فى مجالس الذّكر و نحوها فهى من أعظم العبادات، و سلوك نهج الحقّ على ما ذكرنا من الاداب و الوظايف هو المتلقّى من صاحب الشرع.
و أمّا غيرها ممّا ذكره الصّوفية من الاداب و الوظايف فى المجاهدة و الرّياضة و كيفيّة السّلوك مثل قولهم بالجلوس فى بيت مظلم و الخلوة أربعين
يوما، و اشتراطهم الاعتصام بالشيخ و كون السّلوك بارشاده، و قولهم بالمداومة على ذكر مخصوص ألقاه الشيخ إلى المريد من الأذكار الفتحيّة أو غيرها نحوها من الأذكار المبتدعة أو من الأذكار الشرعيّة لكن على هيئة مخصوصة و عدد مخصوص لم يرد به نصّ، و قولهم بأنّ المريد إذا تمّ مجاهدته و لم يبق فى قلبه علاقة تشغله يلزم قلبه على الدّوام و يمنعه من تكثير الأوراد الظاهرة بل يقتصر على الفرائض و الرواتب و يكون ورده وردا واحدا و هو ملازمة القلب لذكر اللّه بعد الخلوّ عن ذكر غيره، فعند ذلك يلزمه الشيخ زاوية ينفرد بها و يلقّنه ذكرا من الأذكار حتّى يشغل به لسانه و قلبه فيجلس و يقول مثلا: اللّه اللّه أو سبحان اللّه سبحان اللّه أو ما يراه الشيخ من الكلمات فلا يزال يواظب عليه حتّى تسقط حركة اللّسان و تكون الكلمة كأنّها جارية على اللّسان من غير تحريك، ثمّ لا يزال يواظب عليه حتّى يسقط الأثر عن اللسان و تبقى صورة اللفظ فى القلب ثمّ لا يزال كذلك حتّى يمحى عن القلب حروف اللفظ و صورته و تبقى حقيقة معناه لازمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ من كلّ ما سواه و نحو ذلك مما قالوه فشي ء منها لم يرد به اذن من الشارع بل هو من بدعاتهم التي أبدعوها اللهمّ إلّا أن يستدلّ على الأخير أعنى المواظبة على الذّكر باللسان و القلب على ما وصل بعمومات أدلّة الاكثار من ذكر اللّه و التفكر فى اللّه.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى شرح المتن فأقول: قوله عليه السّلام (حتى دقّ جليله و لطف غليظه) غاية لا ماتته لنفسه أولها و لا حيائه لعقله أيضا، و الجملة الثانية إما مؤكّدة للاولى فالمعنى أنّ تكميله لعقله و تركه لشهوات نفسه انتهى إلى مرتبة أوجبت هزال جسمه و نحول بدنه، أو المراد بالجليل أعضاؤه العظام كالرأس و اليدين و الفخذين و الساقين، و بالغليظ غيرها، أو المراد بالأول عظامه و بالثانى جلده و أعصابه، أو بالأول بدنه و بالثاني قلبه.
و على أىّ معني فالمقصود كونه ناحل الجسم ضعيف البدن إما من خوف اللّه تعالى و تحمله لمشاق العبادات أو لجوعه و كفه عن الأكل و الشرب و ساير الشهوات.
كما قال عليه السّلام فى الخطبة المأة و الثانية و التسعين في وصف المتقين: قد براهم الخوف برى القداح ينظر اليهم الناظر فيحسبهم مرضى و ما بالقوم من مرض.
و قال في الخطبة الثانية و الثمانين: فاتّقوا اللّه تقيّة ذى لبّ شغل التفكر قلبه و أنصب الخوف بدنه، أى أمرضه و أتعبه.
و قال فى الخطبة المأة و التاسعة و الخمسين حكاية عن كليم اللّه على نبيّنا و عليه السّلام إذ يقول ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير: و اللّه ما سأله إلّا خبزا يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله و تشذّب لحمه.
و قوله عليه السّلام (و برق له لامع كثير البرق) الظاهر أنه عطف على سابقه فيكون هو أيضا غاية لتكميل عقله و جهاد نفسه يعني أنه بلغ من كمال قوّته النظرية و العملية إلى مقام شروق الأنوار المعارف الالهية على مرآة سرّه فصار مشاهدا بعين بصيرته أنوار قدسه و سبحات وجهه عين اليقين.
كما أشار عليه السّلام إليه فى الخطبة السادسة و الثمانين فى وصف أحبّ عباد اللّه تعالى إليه عزّ و جلّ بقوله: فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس.
و قال زين العابدين و سيد السّاجدين عليه السّلام في المناجاة التّاسعة من المناجاة الخمس عشرة و هى مناجاة المحبّين: يا من أنوار قدسه لأبصار محبّيه رائقة و سبحات وجهه لقلوب عارفيه شائفة و قال عليه السّلام فى المناجاة الثّانية عشر منها و هى مناجاة العارفين: إلهى فاجعلنا من الّذين ترسّخت أشجار الشّوق إليك فى حدائق صدورهم، و أخذت لوعة محبّتك بمجامع قلوبهم، فهم إلى أوكار الأفكار يأوون، و فى رياض القرب و المكاشفة يرتعون، و من حياض المحبّة بكاس الملاطفة يكرعون، و شرايع المصافات يروون، قد كشف الغطاء عن أبصارهم، و انجلت ظلمة الرّيب عن عقائدهم فى ضمائرهم و انتفت مخالجة الشك عن قلوبهم و سرائرهم، و انشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم، و علت لسبق السّعادة فى الزّهادة هممهم، و عذب فى معين المعاملة شربهم، و طاب فى مجلس الانس سرّهم، و أمن فى موطن المخافة سربهم، و اطمأنّت بالرّجوع إلى ربّ الأرباب أنفسهم، و تيقّنت بالفوز و الفلاح أرواحهم، و قرّت بالنّظر إلى محبوبهم أعينهم، و استقرّ بادراك السؤل و نيل المأمول قرارهم، هذا.
و لأهل السّلوك و الصّوفيّة كلام طويل فى البروق اللامعة أسندوها إلى الشّهود و المكاشفة.
قال الرّئيس أبو علىّ بن سينا فى محكىّ كلامه من الاشارات فى ذكر السّالك إلى مرتبة العرفان ما لفظه: ثمّ إنّه إذا بلغت به الرّياضة و الارادة حدّا ما عنت له خلسات من اطّلاع نور الحقّ عليه لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثمّ تخمد عنه، و هى الّتى تسمّى عندهم أوقاتا و كلّ وقت يكتنفه وجد اليه و وجد عليه، ثمّ إنّه ليكثر عليه هذا الغواشى إذا أمعن فى الارتياض، ثمّ إنّه ليتوغّل فى ذلك حتىّ يغشاه فى غير الارتياض فكلّما لمح شيئا عاج منه إلى جانب القدس فتذكّر من أمره أمرا فغشيه غاش فيكاد يرى الحقّ في كلّشي ء و لعلّه إلى هذا الجدّ تستولى عليه غواشيه و يزول عن سكينته و يتنبّه جليسه لاستنفاره عن قراره، فاذا طالت عليه الرّياضة لم يستنفره غاشية و هدى للتّأنس بما هو فيه، ثمّ إنّه لتبلغ به الرّياضة مبلغا ينقلب له وقته سكينته فيصير المخطوب ما لولا و الوميض شهابا بيّنا، و يحصل له معارفه مستقرّة كأنّها صحبة مستمرّة و يستمتع فيها ببهجته فاذا انقلب عنها انقلب حيران أسفا.
و قال أبو القاسم القشيرى فى رسالة القشيريّة: المحاضرة قبل المكاشفة فاذا حصلت المكاشفة فبعدها المشاهدة و قال: هى أرفع الدّرجات، فالمحاضرة حضور القلب و قد تكون بتواترها البرهان و الانسان بعد وراء السّتر و إن كان حاضرا باستيلاء سلطان الذكر، و أمّا المكاشفة فهى الحضور البيّن غير مفتقر إلى تأمل الدّليل و تطلّب السّبيل، ثمّ المشاهدة و هى وجود الحقّ من غير بقاء تهمة و قال أيضا: هى ثلاث مراتب: اللّوايح، ثمّ اللّوامع، ثمّ الطّوالع، فاللّوايح كالبروق ما ظهرت حتّى استترت، ثمّ اللوّامع و هى أظهر من اللّوايح و ليس زوالها بتلك السّرعة فقد تبقى وقتين و ثلاثة و لكن كما قيل: و العين باكية لم تشبع النظر فأصحاب هذا المقام بين روح و توح لأنّهم بين كشف و ستر يلمع ثمّ يقطع لا يستقرّ لهم نور النّهار حتى تكرّ عليهم عساكر اللّيل، ثمّ الطوالع و هى أبقى وقتا و أقوى سلطانا و أدوم مكثا و أذهب للظّلمة و أنقى للتّهمة.
و قال عمرو بن عثمان المكّى: المشاهدة أن تتوالى أنوار التّجلّى على القلب من غير أن يتخلّلها ستر و لا انقطاع كما لو قدر اتصال البروق فى اللّيله المظلمة فكما أنّها تصير بذلك فى ضوء النّهار فكذلك القلب إذا دام له التّجلّى منع النّهار فلا ليل و انشدوا شعرا:
- ليلي بوجهك مشرقو ظلامه في النّاس سار
و النّاس فى سدف الظلام
و نحن فى ضوء النّهار
و قال الشّارح البحراني قوله عليه السّلام: و برق له لامع كثير البروق أشار باللّامع إلى ما يعرض للسّالك عند بلوغ الارادة بالرّياضة به حدّ أما من الخلسات إلى الجناب الأعلى فيظهر له أنوار إلهيّة لذيذة شبيهة بالبرق فى سرعة لمعانه و اختفائه و تلك اللّوامع مسمّاة عند أهل الطّريقة أوقاتا و كلّ وقت فانّه محفوف بوجد اليه ما قبله و وجد عليه ما بعده لأنّه لما ذاق تلك اللذّة ثمّ فارقها حصل فيه حنين و أنين الي ما فات منها، ثمّ إنّ هذه اللوامع في مبدء الأمر تعرض له قليلا فاذا أمعن فى الارتياض كثرت فأشار عليه السّلام، باللّامع إلى نفس ذلك النّور و بكثرة برقه الى كثرة عروضه بعد الامعان في الرّياضة، انتهى.
و هو كما ترى محصّل ما قدّمنا حكايته عن الشّيخ الرّئيس و مثل هذه المقالات فى كتب المتصوّفة كثير لكنها لم يرد بها خبر من الأئمة عليهم السّلام، مع أنّهم رؤساء السّالكين و أقطاب العارفين و نادر فى أخبارهم عليهم السّلام مثل هذا الكلام لأمير المؤمنين عليه السّلام الّذى نحن فى شرحه، فانّما هو من المجملات و حملها على ما يوافق مذاق أهل الشّرع بأن يراد باللّوامع أنوار العلوم الحقّة و لوامع المعارف الالهيّة البالغة إلى مرتبة الكمال و مقام عين اليقين و ببروقها فيضانها عليه من الحضرة الأعلى أولى، و اللّه العالم بحقايق كلام وليّه.
و قوله عليه السّلام (فأبان له الطريق و سلك به السّبيل) أى أظهر ذلك البرق اللّامع و أوضح له الطّريق المؤدّى إلى رضوانه و سلك به السّبيل المبلغ إلى جنانه و هو الطّريق المطلوب من اللّه تعالى الاهتداء إليه فى قوله: اهدنا الصّراط المستقيم قال الصّادق عليه السّلام فى تفسيره: يعنى أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّى إلى محبّتك و المبلّغ إلى جنّتك و المانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب أو أن نأخذ بارائنا فنهلك.
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام يعنى أدم لنا توفيقك الّذى أطعناك به فى ماضى أيامنا حتى نطيعك كذلك فى مستقبل أعمارنا قال فى الصّافى: لمّا كان العبد محتاجا إلى الهداية فى جميع أموره آنا فانا و لحظة فلحظه فادامة الهداية هى هداية أخرى بعد الهداية الأولى فتفسير الهداية بادامتها ليس خروجا عن ظاهر اللفظ.
و فيه من معانى الأخبار عن الصّادق عليه السّلام هى الطريق إلى معرفة اللّه و هما صراطان صراط فى الدّنيا و صراط فى الاخرة فأمّا الصّراط فى الدّنيا فهو الامام المفترض الطّاعة من عرفه فى الدّنيا و اقتدى بهداه مرّ على الصّراط الذى هو جسر جهنّم فى الاخرة، و من لم يعرفه فى الدّنيا زلّت قدمه عن الصّراط فى الاخرة فتردى فى نار جهنّم.
قال الفاضل الفيض بعد نقله لتلك الأخبار: و مال الكلّ واحد عند العارفين بأسرارهم، و بيانه على قدر فهمك: أنّ لكلّ إنسان من ابتداء حدوثه إلى منتهى عمره انتقالات جبليّة باطنية في الكمال و حركات نفسانيّة و طبيعيّة تنشؤ من تكرّر الأعمال و تنشؤ منها المقامات و الأحوال، فلا يزال ينتقل من صورة إلى صورة و من خلق إلى خلق و من عقيدة إلى عقيدة و من حال إلى حال و من مقام إلى مقام و من كمال إلى كمال حتّى يتّصل بالعالم العقلي و المقرّبين و يلحق الملأ الأعلى و السابقين ان ساعده التّوفيق و كان من الكاملين، أو بأصحاب اليمين إن كان من المتوسّطين أو يحشر مع الشياطين و أصحاب الشّمال إن ولاه الشيطان و قارنه الخذلان في المال، و هذا معنى الصّراط و المستقيم منه إذا سلكه سالكه وصله إلى الجنّة و هو ما يشتمل عليه الشّرع كما قال اللّه عزّ و جلّ وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما و هو صراط التّوحيد و المعرفة و التّوسط بين الأضداد في الأخلاق و التزام صوالح الأعمال، و بالجملة صورة الهدى الّذي أنشأه المؤمن لنفسه ما دام في دار الدّنيا مقتديا فيه بهدى إمامه و هو أدقّ من الشّعر و أحدّ من السّيف في المعنى مظلم لا يهتدى إلّا من جعل اللّه له نورا كما يمشى به في الناس يسعى عليها على قدر أنوارهم، انتهى.
فان قلت: إنّ العارف إذا أحيا عقله و أمات نفسه فيكون واقعا قصد على الطريق و سالكا للسّبيل البتّة فما معنى قوله عليه السّلام: فأبان له الطريق آه، فانّ ظاهره بمقتضى افادة الفاء للتّرتيب كون وضوحها و ظهورها و سلوكها مترتّبا على الاحياء و الاماتة.
قلت: و إن كان المكمّل لعقله و المجاهد لنفسه سالكا سبيل الحقّ، لكن في سلوك هذا السبيل احتمال خلجان الشكّ و طريان القواطع عن سلوكه بعروض الوساوس الشيطانيّة كما قال اللّه تعالى حكاية عنه قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ و أمّا بعد ما أكمل عقله بعلم اليقين و أمات نفسه و استنار قلبه بأنوار العلم و المعارف و تجلّى عليه اللّوامع الغيبيّة و الألطاف الالهيّة و بلغ في الكمال إلى مرتبة عين اليقين فانّه يشاهد حينئذ بعين بصيرته الصراط المستقيم الّذى هو سبيل مقيم، و يكون مشيه و سلوكه فيه بذلك النّور الّذي تجلّى له كما قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا
بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ و إذا كان سلوكه به فلا يضلّ و لا يشقى و لحق بالملاء الأعلى.
(و تدافعته الأبواب إلى باب السلامة و دار الاقامة) الظاهر أنّ المراد بالأبواب مقامات العارفين و درجات السّالكين اللّاتى بعضها فوق بعض، و أراد بتدافعها إيّاه ترقيه من مقام إلى مقام و من درجة إلى درجة إلى أن ينتهى ترقّياته إلى مرتبة حقّ اليقين.
فوصل به الصراط الأقوم إلى باب اللّه الأعظم الّذى من دخل منه كان سالما فى الدّنيا من المعاطب و المهالك و من الزّيغ و الضّلال، و سالما في الاخرة من الخزى و النّكال، و هو في الحقيقة باب دار السّلام الموعود للمذّكّرين في قوله وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ و المدعوّ إليه في قوله «و اللّه يدعو إلى دار السلام و يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم» أى دار السلامة الدّائمة من كلّ آفة و بليّة ممّا يلقاه أهل النار و العذاب.
و وصل به أيضا إلى دار الاقامة و هي دار المخلصين في التّوحيد في الدّنيا و المقيمين عليه و هم «الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألّا تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنّة الّتى كنتم توعدون» و الجنّات المخصوصة في الاخرة و هي «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ. وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ.
قال في التّفسير: جنّات عدن أى جنّات إقامة و خلد و هى بطنان الجنّة أى وسطها، و قيل: هى مدينة في الجنّة فيها الرّسل و الأنبياء و الشهداء و أئمّة الهدى و الناس حولهم و الجنان حولها، و قيل: إنّ عدن أعلى درجة في الجنّة و فيها عين التسنيم و الجنان حولها محدقة بها و هي مغطّاة من يوم خلقها اللّه حتّى ينزلها أهلها الأنبياء و الصدّيقون و الشهداء و الصالحون و من شاء اللّه.
(و ثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن و الرّاحة) يعنى أنّه بعد اندفاعه إلى باب السلامة و دار الاقامة الّتي هي مقرّ الأمن و الرّاحة استقرّ فيها، و ثبوت رجليه كناية عنه و حصل له برد اليقين الموجب للطمأنينة الكاملة و هو منتهى سير السالكين و غاية غايات المريدين و آخر مقامات العارفين، و أعلى درجات المقرّبين.
و هو الّذى أشار إليه سيد الساجدين عليه السّلام فيما قدّمنا حكايته عنه عليه السّلام قريبا بقوله في وصف العارفين: و طاب في مجلس الانس سرّهم و أمن فى موطن المخافة سربهم و اطمأنّت بالرّجوع إلى ربّ الأرباب أنفسهم و تيقّنت بالفوز و الفلاح أرواحهم و قرّت بالنظر إلى محبوبهم أعينهم و استقرّ بادراك السؤل و نيل المأمول قرارهم قال الشارح البحرانى: قوله: و ثبتت رجلاه آه إشارة إلى الطور الثاني للسالك فانّه ما دام في مرتبة الوقت يعرض لبدنه عند لمعان تلك البروق في سرّه اضطراب و قلق، لأنّ النفس إذا فاجاها أمر عظيم اضطربت و تقلقلت، فاذا كثرت تلك الغواشي ألقتها بحيث لا تنزعج عنها و لا يضطرب لورودها عليها البدن بل يسكن و يطمئنّ لثبوت قدم عقله في درجة أعلى من درجات الجنّة الّتي هي قرار الأمن و الرّاحة من عذاب اللّه. انتهى.
و هو متفرّع على ما قدّمنا حكايته عن المتصوّفة في شرح البروق اللّامعة، و كلام السّجاد عليه السّلام غير خال عن الاشارة إليه.
و يجوز أن يراد بقرار الأمن و الرّاحة جنة الاخرة كما قال عليه السّلام في الخطبة المأة و الثانية و التسعين في وصف المتّقين: صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم.
و قال تعالى أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً. خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً و قال وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ و قال إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ. وَ عُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ أى يقال لهم: ادخلوا الجنات بسلامة من الافات
و براءة من المكاره و المضرّات آمنين من الاخراج منها ساكنى النفس إلى انتفاء الضّرر فيها قال الزّجاج: السلام اسم جامع لكلّ خير لأنّه يتضمّن السلامة و قول الملائكة ادخلوها بسلام بشارة لهم بعظيم الثواب.
و ذلك كلّه (بما استعمل قلبه و أرضى ربّه) أى حصول ذلك المقام العالى و نيل تلك الكرامات العظيمة له إنّما هو بسبب استعمال قلبه في الذّكر و التفكر في اللّه و إرضائه لرّبه بالمجاهدة و الرّياضات و الملازمة على الطاعات و القربات، بل خلوّه عن الارادات و المرادات في جميع الحالات و جعل رضاه تابعا لرضى مولاه لا يشاء شيئا إلّا أن يشاء اللّه.
فينادى من عند ربّ العزّة بنداء يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي و يدخل في حزب من قال تعالى فيهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
|