نحن أهل البيت منها بمنجاة، و لسنا فيها بدعاة، ثمّ يفرّج اللّه عنكم كتفريج الأديم بمن يسومهم خسفا، و يسوقهم عنفا، و يسقيهم بكأس مصبّرة، و لا يعطيهم إلّا السّيف، و لايحلسهم إلّا الخوف، فعند ذلك تودّ قريش بالدّنيا و ما فيها لو يرونني مقاما واحدا و لو قدر جزر جزور، لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه، فلا يعطونني.
اللغه
(المنجاة) مصدر بمعنى النجاة و اسم مكان و (سام) فلانا الأمر كلّفه إيّاه أو أولاه إيّاه كسوّمه و أكثر ما يستعمل في العذاب و الشرّ و (الخسف) الذّهاب في الأرض و الغيبة فيها و في القاموس سامه خسفا إذا أولاه ذلّا و (العنف) مثلّثة ضدّ الرفق.
و (المصبرة) الممزوجة بالصّبر و هو وزان كتف عصارة شجر مرّ و يجوز أن يكون المصبرة بمعنى المملوة إلى اصبارها، قال في القاموس ملاء الكاس إلى اصبارها أى رأسه و أخذه باصباره بجميعه و (حلس) البعير يحلسه غشاه بحلس و هو كساء يجعل على ظهر البعير تحت رحله و الجمع أحلاس كحمل و أحمال و (الجزور) الناقة التي تجزر أى تنحر.
الاعراب
الباء في قوله بالدّنيا للبدل على حدّ قول الحماسي:
- فليت لى بهم قوما إذا ركبواشدّوا الاغارة فرسانا و ركبانا
و ما فيها عطف على الدّنيا، و ما موصولة و لفظة لو في قوله: لو يرونني، حرف مصدر بمعنى ان إلّا أنها لا تنصب كما تنصب ان قال سبحانه: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ.
و في قوله و لو قدر جزر جزور بمعنى إن الوصلية و حذف بعده كان كما هو الغالب و قوله: لأقبل متعلّق بتوّد و قوله: فلا يعطونني، فاعل يعطون ضمير قريش و ضمير المتكلّم مفعوله الأوّل و حذف مفعوله الثاني و في بعض النسخ فلا يعطوننيه باثبات المفعولين كليهما
المعنى
ثمّ أشار عليه السّلام إلى برائة ساحتهم من تلك الفتنة بقوله (نحن أهل البيت منها بمنجاة و لسنا فيها بدعاة) أراد نجاتهم من الدخول فيها و من لحوق آثامها و تبعاتها و عدم كونهم من الداعين إليها و إلى مثلها، و ليس المراد نجاتهم من أذيّتها و خلاصهم من بليّتها لكونهم عليهم السّلام أعظم النّاس بليّة و أشدّهم أذيّة فيها، و كفى بذلك شاهدا شهادة الحسين عليه السّلام و أولاده و أصحابه و هتك حريمه و نهب أمواله و ما أصاب ساير أئمة الدّين من الطغاة الظالمين لعنهم اللّه أجمعين.
ثمّ بشّر بظهور الفرج بقوله: (ثمّ يفرّج اللّه) و يكشف عنكم (كتفريج الأديم) قيل أى ككشف الجلد عن اللّحم حتى يظهر ما تحته.
و قال في البحار: يحتمل أن يكون المراد بالأديم الجلد الذي يلفّ الانسان فيه للتّعذيب لأنّه يضغطه شديدا إذا جفّ، و في تفريجه راحة، و كيف كان فالمقصود انفتاح باب الفرج لهم (بمن يسومهم خسفا) أي يكلّفهم و يولّيهم ذلّا و هوانا أو خسفا في الأرض (و يسوقهم عنفا) أي بعنف و شدّة (و يسقيهم بكأس مصبرة) ممزوجة بالصّبر أو المراد مملوة إلى اصبارها (و لا يعطيهم إلّا السّيف و لا يحلسهم إلّا الخوف) استعار لفظ الاحلاس بمشابهة جعلهم الخوف شعارا لهم غير منفكّ عنهم كالحلس الملازم للبعير الذي يكسى على ظهره و يلاصق جسده.
قال الشراح: و هذه الفقرات إشارة إلى انقراض دولة بني اميّة بظهور بني العباس و انّ بني العباس أولاهم ذلّا و هوانا و أذاقوهم كأس العذاب طعوما مختلفة و أروهم عيان الموت ألوانا شتّى كما هو مذكور في كتب السير و التواريخ.
أقول: و الأظهر بملاحظة الزيادات الآتية في رواية سليم بن قيس الهلالي و إبراهيم الثقفي أنها إشارة إلى ظهور السلطنة الالهية و الدولة القائميّة، و على هذا يكون قوله: يسومهم خسفا إشارة إلى خسف الأرض بجيش السفياني في البيداء كما هو مرويّ في أخبار الرجعة.
ثمّ أشار الى مآل حال الفرقة المنقلبة من قريش و منتهى ذلّتهم و ضعفهم بقوله:
(فعند ذلك تودّ قريش بالدّنيا و ما فيها لو يرونني مقاما واحدا و لو قدر جزر جزور لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونني) أى حينئذ يتمنّى قريش بدل الدّنيا و ما فيها أن يروني مقاما قصيرا بمقدار جزر جزور فيطيعوني اطاعة كاملة و قد رضيت منهم اليوم بأن يطيعوني إطاعة ناقصة فلم يقبلوا و يصدّق هذا ما روى في السّير أنّ مروان بن محمّد و هو آخر ملوك بني امية قال يوم الزاب«» لمّا شاهد عبد اللّه بن محمّد بن عليّ بن عبد اللّه بن العبّاس بازائه في صفّ خراسان: لوددت إنّ عليّ بن أبي طالب تحت هذه الرّاية بدلا من هذا الفتى، و على ما استظهرناه فيكون الاشارة بذلك إلى التمنّى عند قيام القائم عليه السّلام
تكملة
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة ملتقطة من خطبة طويلة أوردها في البحار بزيادة و اختلاف كثير لما أورده السّيد (ره) في الكتاب أحببت أن اورد تمامها توضيحا للمرام و غيرة على ما أسقطه السيد (ره) اختصارا أو اقتصارا من عقايل الكلام فأقول: روى المحدّث العلّامة المجلسيّ (ره) من كتاب الغارات لابراهيم بن محمّد الثقفي، عن إسماعيل بن أبان عن عبد الغفار بن القسم عن المنصور بن عمر عن زربن حبيش، و عن أحمد بن عمران بن محمّد بن أبي ليلي عن أبيه عن ابن أبي ليلى عن المنهال ابن عمرو عن زرّبن حبيش قال خطب عليّ عليه السّلام بالنّهروان فحمد اللّه و أثنا عليه ثمّ قال: أيّها النّاس أما بعد أنا فقأت عين الفتنة لم يكن احد ليجترئ عليها غيري، و في حديث ابن أبي ليلي لم يكن ليقفاها أحد غيري و لو لم أك فيكم ما قوتل أصحاب الجمل و لا أهل صفّين و لا أهل النّهروان، و أيم اللّه لو لا ان تتكلّمو او تدعوا العمل لحدّثتكم بما قضى اللّه على لسان نبيّكم لمن قاتلهم مبصرا لضلالتهم عارفا للهدى الذى نحن عليه ثمّ قال: سلونى قبل أن تفقدوني سلوني عمّا شئتم سلوني قبل أن تفقدوني إني ميّت أو مقتول بلى (بل خ ل) قتل ما ينتظر أشقاها أن يخضبها من فوقها بدم، و ضرب بيده إلى لحيته، و الذي نفسى بيده لا تسألوني عن شي ء فيما بينكم و بين الساعة و لا عن فئة تضلّ مأئة أو تهدى مأئة إلّا نبأتكم بناعقها و سائقها فقام إليه رجل فقال: حدّثنا يا أمير المؤمنين عن البلاء، قال عليه السّلام: إنكم في زمان إذا سأل سائل فليعقل و إذا سئل مسئول فليثبت، ألا و إنّ من ورائكم امورا أتتكم جللا مزوجا و بلاء مكلحا، و الذي فلق الحبّة و برء النسمة أن لو فقدتموني و نزلت بكم كرايه الأمور و حقايق البلاء لقد أطرق كثير من السائلين و فشل كثير من المسئولين، و ذلك إذا قلصت حربكم و شمّرت عن ساق و كانت الدّنيا بلاء عليكم و على أهل بيتي حتّى يفتح اللّه لبقيّة الأبرار فانصروا أقواما كانوا أصحاب رايات يوم بدر و يوم حنين تنصروا و توجروا، و لا تسبقوهم فتصرعكم البلية.
فقام إليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين حدّثنا عن الفتن قال: إنّ الفتنة إذا اقبلت شبّهت و إذا أدبرت أسفرت يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات، إنّ الفتن تحوم كالرّياح يصبن بلدا و يخطين اخرى، ألا إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بنى اميّة إنّها فتنة عمياء مظلمة مطينة عمّت فتنتها و خصّت بليتها و أصاب البلاء من أبصر فيها و أخطا البلاء من عمى عنها، يظهر أهل باطلها على أهل حقّها حتى يملاء الأرض عدوانا و بدعا، و إنّ أوّل من يضع جبروتها و يكسر عمدها و ينزع أوتادها اللّه ربّ العالمين.
و أيم اللّه لتجدنّ بني اميّة أرباب سوء لكم بعدي كالناب الضّروس تعضّ بفيها و تخبط بيديها و تضرب برجليها و تمنع درّها لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا في مصركم إلّا تابعا لهم أو غير ضارّ، و لا يزال بلائهم بكم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلّا مثل انتصار العبد من ربّه إذا رآه أطاعه، و إذا توارى عنه شتمه و أيم اللّه لو فرّقوكم تحت كلّ حجر لجمعكم اللّه شرّ يوم لهم ألا إنّ من بعدى جمّاع شتّى، ألا إنّ قبلتكم واحدة و حجّكم واحد و عمرتكم واحدة و القلوب مختلفة ثمّ أدخل أصابعه بعضها في بعض فقام رجل فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين قال: هذا هكذا يقتل هذا هذا و يقتل هذا هذا قطعا جاهلية ليس فيها هدى و لا علم يرى، نحن أهل البيت منها بنجاة و لسنا فيها بدعاة.
فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما نصنع في ذلك الزّمان قال عليه السّلام: انظروا أهل بيت نبيكم فان لبدوا فالبدوا، و إن استصرخوكم فانصروهم توجروا، و لا تسبقوهم فتصرعكم البليّة.
فقام رجل آخر فقال: ثمّ ما يكون بعد هذا يا أمير المؤمنين قال عليه السّلام: ثمّ إنّ اللّه يفرج الفتن برجل منّا أهل البيت كتفريج الأديم، بأبى ابن خيرة الاماء يسومهم خسفا و يسقيهم بكأس مصبرة، و لا يعطيهم إلّا السّيف هرجا هرجا، يضع السّيف على عاتقه ثمانية أشهر، ودّت قريش عند ذلك بالدّنيا و ما فيها لو يرونى مقاما واحدا قد رحلب شاة أو جزر جزور لأقبل منهم بعض الذى يرد عليهم حتى تقول قريش لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا، فيغريه اللّه ببني امية فجعلهم: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا.
بيان
و رواه في البحار أيضا من كتاب سليم بن قيس الهلالى نحو ما رواه من كتاب الغارات مع زيادات كثيرة في آخره و لا حاجة لنا إلى ايرادها و إنما المهمّ تفسير بعض الالفاظ الغريبة في تلك الروّاية فأقول «الجلل» بالضم جمع جليّ وزان ربّي و هو الأمر العظيم و «مزوجا» في النسخه بالزّاء المعجمة و الظاهر انه تصحيف و الصحيح مروجا بالمهملة من راج الريح اختلطت و لا يدرى من أين تجي ء و يمكن تصحيحه بجعله من زاج بينهم يزوج زوجا إذا أفسد بينهم و حرش و «كلح» كلوحا تكثر في عبوس كتلكح و دهر كالح شديد و «طان» الرجل البيت و السطح يطينه من باب باع طلاه بالطين و طينه بالتثقيل مبالغة و تكثير و المطينة فاعل منه، و في رواية سليم بن قيس بدلها مطبقة و «جمّاع» النّاس كرمّان اخلاطهم من قبائل شتّى و من كلّ شي ء مجتمع اصله و كلّ ما تجمع و انضمّ بعضه إلى بعض و «لبد» بالمكان من باب نصر و فرح لبدا و لبودا أقام و لزق.
و قوله: «بابى ابن خيرة الاماء» اشارة إلى امام الزمان الغايب المنتظر عجّل اللّه فرجه و سهّل مخرجه و «هرجا هرجا» منصوبان على المصدر قال في القاموس هرج النّاس يهرجون وقعوا في فتنة و اختلاط و قتل، و في رواية سليم بن قيس حتّى يقولوا ما هذا من قريش لو كان هذا من قريش و من ولد فاطمة لرحمنا و «غرى» بالشي ء غرى من باب تعب أولع به من حيث لا يحمله عليه حامل و أغريته به إغراء.
|