(الاسى) بالضمّ جمع الاسوة و هو ما يتأسى به الانسان و يتسلّى.
و قوله فقائل، خبر لمبتدأ محذوف و الجملة معطوفة على جملة تنازعوا و تفصيل له، و اللام في قوله: لما به، بمعني على كما في قوله تعالى وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ و قوله وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ و ليست بمعناها الأصلى كما توهّم.
قوله: و دعاء مولم لقلبه، اللّام للتّقوية، و في بعض النسخ بقلبه بالباء بدل اللام و عليه فهى زايدة كما في قوله تعالى وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ و يجوز جعلها بمعني في على تضمين مولم معني مؤثر، و بهذا المعني جاء الباء في قوله تعالى وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ أى فيها.
و فصّل كيفية التنازع و الاختلاف بقوله: (فقائل) منهم (هو لما به) أى على الحال الذى كان عليه لا تفاوت فى مرضه و قيل: معناه هو الأمر الذى نزل به، أى قد أشفى على الموت، و ما قلناه أظهر و أولى.
(و) آخر (ممنّ لهم إياب عافيته) أى يمنّيهم و يطمعهم عود عافيته بقوله: قد رأيت مثل هذا المريض و أشدّ مرضا منه ثمّ عوفى.
(و) ثالث (مصبّر لهم على فقده) أى يحملهم على الصبر و التحمّل على فقده و فراقه (يذكرهم اسى الماضين من قبله) بقوله: تلك الرّزيّة ممّا لا اختصاص لهابكم و لا الموت مخصوصا بهذا المريض بل كلّ حيّ سالك سبيل و كلّ نفس ذائقة الموت، و قد مضى قبل هذا المريض عالم من النّاس و بقي بعد الأسلاف الأخلاف فتعزّوا بعزاء اللّه و تسلّوا و اصبروا و لم يكن لهم علاج إلّا أن قالوا: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، فينبغي لكم التأسّي بالماضين، فانّ لكم فيهم اسوة، و في هذا المعني قال الشاعر و لنعم ما قال:
- و إنّ الاولى بالطف من آل هاشمتأسّوا فسنّوا للكرام التأسّيا
و قالت الخنساء:
- و ما يبكون مثل أخي و لكناسلّي النفس عنه بالتّأسّي
و قد قال أمير المؤمنين عليه السّلام فى المختار المأتين و الواحد الّذى قاله عند دفن الصّديقة عليهما السّلام: قلّ يا رسول اللّه عن صفيّتك صبرى إلّا أنّ لى فى التّأسى بعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعزّ.
(فبينا هو كذلك على جناح) أى على حركة سريعة فانّ الطّيران بالجناح سبب سرعة الحركة فتجوز عنها (من فراق الدّنيا و ترك الأحبّة إذ) دهمته فجعات المنية و (عرض له عارض من غصصه) و اعترض فى حلقه و أخذ بخناقه.
(فتحيّرت نوافذ فطنته) أى تاهت إدراكات جودته و ذكائه الثاقبة المتعلّقة بمصالح النشأة الدّنيويّة و الاخرويّة، و فى بعض النسخ: فطنه، بصيغة الجمع، و المراد تبلّد مشاعره و قواه الدّرّاكة و قصورها عن الادراكات النظرية.
(و يبست رطوبة لسانه) و جفّ حيله- ريقه- و حيل بينه و بين منطقه فصار بين أهله ينظر وجوههم و يسمع رجع كلامهم و يرى حركات ألسنتهم و لا يستطيع التّكلّم معهم.
(فكم من مهمّ من جوابه عرفه فعىّ عن ردّه) أى جواب سائل سأله عن أمر مهم من وصيّه و وصيّته و دينه و مصارف ماله و قيّم أطفاله و نحو ذلك فعجز عن ردّه.
(و دعاء مولم لقلبه سمعه فتصامّ عنه) أى نداء موجع لقلبه سمعه فأظهر الصّمم لعدم قدرته على اجابة المنادى (من كبير كان يعظّمه) كما إذا كان المنادى له والده و ولىّ النعمة له (أو صغير كان يرحمه) كما إذا كان المنادى ولده الصغير.
(و انّ للموت لغمرات) و أهاويل و سكرات (هى أفظع من أن تستغرق بصفة) أى تستعاب بوصف و بيان (أو تعتدل) و تستقيم (على قلوب أهل الدّنيا) لكونها خارجة عن حدّ الاحصاء متجاوزة عن طور الاستقصاء و كيف لا و هو هادم اللّذّات و قاطع الامنيّات و جذبة من جذباته أهون عندها نشر المناشير و قرض المقاريض.
أعاننا اللّه عليه، و ثبّتنا بالقول الثابت لديه، و وفّقنا اللّه و أيّدنا و هدانا الصّراط المستقيم بفضله العميم، هذا.
و قد أشار بعض الشعراء إلى إجمال ما قاله عليه السّلام فى هذا الفصل و قال:
- بينا الفتى مرح الخطا فرحا بمايسعى له إذ قيل قد مرض الفتى
- إذ قيل بات بليلة ما نامهاإذ قيل أصبح مثقلا ما يرتجى
- إذ قيل أمسى شاخصا و موجهاإذ قيل فارقهم و حلّ به الرّدى
و للّه درّ المؤلّف أبى الحسن الرّضىّ قدّس سرّه ما أعجب نظمه فى شرح حال الدّنيا و أهلها و الهالكين منهم و وصف مضجعهم و برزخهم و ساير حالاتهم قال:
- انظر إلى هذا الأنام بعبرةلا يعجبنّك خلقه و رواؤه
- فتراه كالورق النضير تقصّفتأغصانه و تسلّبت شجراته
- انّى محاباه المنون و إنّماخلقت مراعى للرّدى خضراؤه
- أم كيف تأمل فلتة أجسادهمن ذا الزّمان و حشوها اوداؤه
- لا تعجبنّ فما العجيب فناؤهبيد المنون بل العجيب بقاؤه
- إنّا لنعجب كيف حمّ حمامهعن صحّة و يغيب عنّاد آؤه
- من طاح فى سبل الرّدى آباؤهفليسلكن طريقهم أبناؤه
- و مؤمّر نزلوا به فى سوقةلا شكله فيهم و لا نظراؤه
- قد كان يفرق ظلّه أقرانهو يغضّ دون جلاله أكفاؤه
- و محجّب ضربت عليه مهابةيغشى العيون بهاؤه و ضياؤه
- نادته من خلف الحجاب منيّةامم فكان جوابها حوباؤه
- شقّت إليه سيوفه و رماحهو اميط عنه عبيده و إماؤه
- لم يغنه من كان ودّ لو أنّهقبل المنون من المنون فداؤه
- حرّم عليه الذّلّ إلّا أنّهابدا ليشهد بالجلال بناؤه
- متخشع بعد الانيس جنائهمتضائل بعد القطين فناؤه
- عريان تطرد كلّ ريح ترابهو يطيع اوّل أمرها حصباؤه
- و لقد مررت ببرزخ فسألتهأين الاولى ضمّمتهم ارجاؤه
- مثل المطىّ بواركا أجداثهيسقى على جنباتها بوغاؤه
- ناديته فخفى علىّ جوابهبالقول إلّا ما زقت أصداؤه
- من ناظر مطروفة ألحاظهأو خاطر مطلوبة سوداؤه
- أو واجد مكظومة زفراتهأو حاقد منسيّة شحناؤه
- و مسندين على الجنوب كأنّهمشرب تخاذل بالطلى أعضاؤه
- تحت الصعيد لغير إشفاق إلىيوم المعاد يضمّهم أحشاؤه
- أكلتهم الارض الّتي ولدتهمأكل الضّروس حلت له اواؤه
|