أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه و طاعته فإنّها النّجاة غدا، و المنجاة أبدا، رهّب فأبلغ، و رغّب فأسبغ، و وصف لكم الدّنيا و انقطاعها، و زوالها و انتقالها، فأعرضوا عمّا يعجبكم فيها لقلّة ما يصحبكم منها، أقرب دار من سخط اللّه، و أبعدها من رضوان اللّه، فغضّوا عنكم عباد اللّه غمومها و أشغالها لما قد أيقنتم به من فراقها و تصرّف حالاتها، فاحذروها حذر الشّفيق النّاصح، و المجدّ الكادح، و اعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم قد تزايلت أوصالهم، و زالت أبصارهم و أسماعهم، و ذهب شرفهم و عزّهم، و انقطع سرورهم و نعيمهم، فبدّلوا بقرب الأولاد فقدها، و بصحبة الأزواج مفارقتها، لا يتفاخرون، و لا يتناسلون، و لا يتزاورون، و لا يتجاورون، فاحذروا عباد اللّه حذر الغالب لنفسه المانع لشهوته النّاظر بعقله، فإنّ الأمر واضح، و العلم قائم، و الطّريق جدد، و السّبيل قصد.
اللغة
(نجا) نجوا و نجاة خلص و قال الشارح المعتزلي: و المنجاة مصدر نجا ينجو و النجاة النّاقة ينجى عليها و (لا يتجاورون) بالجيم من المجاورة و يروى بالحاء المهملة.
الاعراب
فاعل رهّب و رغّب راجع إلى اللّه تعالى، و الفاء في قوله: فأعرضوا، فصيحة و أقرب دار خبر لمبتدأ محذوف، و جملة قد تزايلت استيناف بيانيّ، و الفاء في قوله: فبدّلوا، عاطفة من عطف المفصّل على المجمل.
المعنى
ثمّ عقّب ذلك بالموعظة و الوصيّة بما لا يزال يوصى به دائما فقال (اوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه و طاعته فانّها النّجاة غدا) إفراد الضّمير مع تعدّد المرجع باعتبار أنّهما في المعنى شي ء واحد، و لكونهما سبب النّجاة اطلق عليهما النّجاة من باب اطلاق المسبّب على السّبب، فيكون مجازا مرسلا، و على ما ذكره الشّارح المعتزلي من أنّ النّجاة اسم للنّاقة الّتي ينجي عليها فيكون استعارة تشبيها لهما بالمطيّة الّتي يركب عليها فيخلص من العطب، فانّ المطيع ينجو بهما من الهلاك الاخروي و العذاب الأليم.
(و المنجاة أبدا) جعلهما محلّ النّجاة باعتبار حصولهما في الاتّصاف بهذين الوصفين، فشبها بالمحلّ الّذي يحلّ فيه الشّي ء و أطلق عليهما لفظ المنجاة من باب تسمية الشي ء باسم محلّه.
و لمّا أمر بالتّقوى و الطّاعة و كانت الطّاعة عبارة عن امتثال الأوامر و النّواهي أشار إلى أنّ اللّه سبحانه قد أعذر و أنذر و أتمّ الحجّة و لم يبق لأحد معذرة في التقصير حيث (رهب) المجرمين بعذاب الجحيم و السخط العظيم (فأبلغ) في ترهيبه (و رغب) المطيعين في درجات الجنان و الحور و الغلمان و أكبر نعمائه الرّضوان (فأسبغ) و أكمل في ترغيبه (و وصف لكم) في قوله: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ.
كما وصف في غيره من آيات الكتاب الكريم و القرآن الحكيم (الدّنيا و انقطاعها و زوالها و انتقالها) و حيث إنّها موصوفة بالانقطاع متّصفة بسرعة الزّوال و الانقضاء (فاعرضوا) بقلوبكم (عمّا يعجبكم منها) من زينتها و زخارفها و ازهدوا فيها و في رياشها (لقلّة ما يصحبكم منها) قال الشارح البحراني: و إنّما قال: لقلّة ذلك و لم يقل لعدمه لأنّ السالكين لا بدّ أن يستصحبوا منها شيئا و هو ما يكتسبه أحدهم من الكمالات إلى الآخرة، و لكنّ القدر الذي يكتسبه المترفون من الكمالات إذا قصدوا بأموالهم و ساير زينة الحياة الدّنيا الوصول إلى اللّه نزر قليل، و مع ذلك فهم في غاية الخطر و مزلّة القدم في كلّ حركة و تصرّف، بخلاف أهل القشف الذين اقتصروا منها على مقدار الضرورة البدنيّة، و يحتمل أن يريد بالقليل الّذي يصحبهم منها كالكفن و نحوه.
(أقرب دار من سخط اللّه) لأنّها محفوفة بالشهوات الموجبة لسخطه و أكثر أهلها محبّون لها راغبون إليها متابعون للهوى، و رأس كلّ خطيئة حبّ الدّنيا (و أبعدها من رضوان اللّه) لأنّ الطالب فيها لتحصيل رضوانه و للانتفاع بقيناتها في سلوك سبيله قليل (فغضّوا عنكم عباد اللّه) و كفّوا عن أنفسكم و اخرجوا عن قلوبكم (غمومها و أشغالها لما قد أيقنتم به من فراقها و تصرّف حالاتها) يعني أنّ الغمّ و الاشتغال انما يحسن أن يوجها نحو ما يبقى دون ما يفنى مع أنّ الاشتغال بما يفنى شاغل عن الاشتغال بما يبقى، و هو ليس فعل العاقل.
و روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يحيى بن عقبة الأزدي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قال أبو جعفر عليه السّلام مثل الحريص على الدّنيا مثل دودة القزّ كلّما زادت من القزّ على نفسها لفّا كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت غمّا.
و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أغنى الغنى من لم يكن للحرص أسيرا.
و قال: لا تشعروا قلوبكم الاشتغال بما قد فات فتشغلوا أذهانكم عن الاستعداد لما لم يأت (فاحذروها) على أنفسكم (حذر الشفيق الناصح) على شفيقه (و) حذر (المجدّ الكادح) من خيبة سعيه.
روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن عبد اللّه بن المغيرة عن غياث ابن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ في كتاب عليّ عليه السّلام إنما مثل الدّنيا كمثل الحيّة ما ألين مسّها و في جوفها السمّ النافع يحذرها الرجل العاقل، و يهوى إليها الصّبيّ الجاهل.
(و اعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون) الماضية (قبلكم) فانكم عمّا قليل لاحقون بهم و صائرون مثلهم (قد تزايلت أوصالهم) و أعضائهم (و زالت أسماعهم و أبصارهم) و جرت أحداقهم على الخدود، و سالت أفواههم و مناخرهم بالقيح و الصديد (و ذهب شرفهم و عزّهم و انقطع سرورهم و نعيمهم) فلا تنظر إلى طيب عيشهم و لين رياشهم و لكن انظر إلى سرعة ظعنهم و سوء منقلبهم.
- يا راقد اللّيل مسرورا بأوّلهإنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا
- أفنى القرون التي كانت منعّمةكرّ الجديدان إقبالا و إدبارا
- كم قد أبادت صروف الدّهر من ملكقد كان في الدّهر نفّاعا و ضرّارا
- يا من يعانق دنيا لا بقاء لهايمسى و يصبح في دنياه سفّارا
- هلّا تركت من الدّنيا معانقةحتّى تعانق في الفردوس أبكارا
- إن كنت تبغى جنان الخلد تسكنهافينبغي لك أن لا تأمن النارا
ثمّ انظر إلى أهل القبور كيف صاروا إليها بعد سكنى القصور، و انتقلوا إلى دار الوحدة و ارتحلوا إلى بيت الوحشة ليس لهم أنيس به يستأنسون و لا سكن إليه يسكنون (فبدلوا بقرب الأولاد فقدها و بصحبة الأزواج مفارقتها) بل استوحش من قربهم الأولاد و الأصحاب، و استنفر من قبرهم الألّاف و الأحباب (لا يتفاخرون و لا يتناسلون و لا يتزاورون و لا يتجاورون) إذ لم يبق لهم زائر و لا مجاور
- و حلّوا بدار لا تزاور بينهمو أنّى لسكّان القبور التّزاور
و إنما صار هوام الأرض لهم الزّوار و الضيفان، و الحشرات و الديدان لهم الجيران و انحصر لباسهم و رياشهم في الأكفان.
(فاحذروا عباد اللّه) ثمّ احذروا (حذر الغالب لنفسه) الأمّارة بالسّوء (المانع لشهوته) المؤدّية إلى هلكته (الناظر بعقله) المميّز بين منفعته و مضرّته (فانّ الأمر واضح) أى أمر الدّنيا و الآخرة ظاهر لا خفاء فيه (و العلم قائم) أى علم الشريعة الهادى إلى الحقّ قائم لا غبار عليه (و الطريق) إلى اللّه (جدد) سهل (و السبيل) إلى رضوان اللّه تعالى (قصد) مستقيم.
- فطوبى لعبد آثر اللّه ربّهو جاد بدنياه لما يتوقّع
|