الفصل الثالث
حتّى إذا بلّغ الكتاب أجله، و الأمر مقاديره، و الحق آخر الخلق بأوّله، و جاء من أمر اللّه ما يريده من تجديد خلقه، أماد السّماء و فطرها، و أرجّ الأرض و أرجفها، و قلع جبالها و نسفها، و دكّ بعضها بعضا من هيبة جلاله، و مخوف سطوته، و أخرج من فيها، فجدّدهم بعد إخلاقهم و جمعهم بعد تفريقهم، ثمّ ميّزهم لما يريد من مسائلتهم: عن خفايا الأعمال، و خبايا الأفعال، و جعلهم فريقين: أنعم على هؤلاء، و انتقم من هؤلاء. فأمّا أهل الطّاعة، فأثابهم بجواره، و خلّدهم في داره، حيث لا يظعن النّزّال، و لا يتغيّر لهم الحال، و لا تنوبهم الأفزاع، و لا تنالهم الأسقام، و لا تعرض لهم الأخطار، و لا تشخصهم الأسفار، و أمّا أهل المعصية، فأنزلهم شرّ دار، و غلّ الأيدي إلى الأعناق، و قرن النّواصي بالأقدام، و ألبسهم سرابيل القطران، و مقطّعات النّيران، في عذاب قد اشتدّ حرّه، و باب قد أطبق على أهله، في نار لها كلب و لجب، و لهب ساطع، و قصيف هائل، لا يظعن مقيمها، و لا يفادى أسيرها، و لا تفصم كبولها، لا مدّة للدّار فتفنى، و لا أجل للقوم فيقضى. اللغة
(الكتاب) بمعنى المكتوب من كتب بمعنى حكم و قضى يقال كتب القاضى بالنّفقة و (ماد) يميد ميدا و ميدانا تحرّك و أماده حرّكه، و في بعض النّسخ أمار، و الموران الحركة (و أرجّ) الأرض زلزلها أرجّت الأرض و أرجّها اللّه يستعمل لازما و متعدّيا و في بعض النسخ و رجّ الأرض بغير همز و هو الأفصح المطابق لقوله تعالى إذا رجّت الأرض رجّا و (الرّجفة) الزّلزلة الشّديدة و (نسفها) قلعها من اصولها.
و قوله (بعد اخلاقهم) في بعض النسخ بفتح الهمزة و في بعضها بالكسر من خلق الثّوب بالضّم اذا بلى فهو خلق بفتحتين و أخلق الثوب بالالف لغة و أخلقته يكون الرّباعي لازما و متعدّيا هكذا في المصباح، و قال الطّريحى: و ثوب اخلاق اذا كانت الخلوق فيه كلّه و (ظعن) ظعنا و ظعنا من باب نفع سار و ارتحل، و يتعدّي بالهمزة و بالحرف يقال أظعنته و ظعنت به و (الاخطار) جمع الخطر محرّكة كأسباب و سبب و هو الاشراف على الهلاك و خوف التّلف.
و (شخص) يشخص من باب منع خرج من موضع إلى غيره و يتعدّى بالهمزة فيقال أشخصته و (السّربال) القميص و (القطران) بفتح القاف و كسر الطاء و بها قرأ السّبعة في قوله تعالى سرابيلهم من قطران، و ربما يكسر القاف و يسكن الطّاء و هو شي ء أسود لزج منتن يطلى به الابل.
و (المقطّعات) الثياب التي تقطع و قيل: هى قصار الثياب و (الكلب) محرّكة الشدّة و يقال كلب الدّهر على أهله اذا ألحّ عليهم و اشتدّ و (اللّجب) بالتحريك أيضا الصّوت و (القصيف) الصّوت الشديدة و (تفصم) بالفاء من انفصم و هو كسر الشي ء من غير إبانة، و في بعض النسخ بالقاف و هو الكسر مع إبانة و (الكبول) جمع الكبل كفلس و فلوس و هو القيد يقال كبلت الأسير و كبلته إذا قيدته فهو مكبول و مكبل قال الشّاعر:
- لم يبق الّا أسير غير منقلبو موثق في عقال الاسر مكبول
الاعراب
قوله: فأما أهل الطّاعة فأثابهم بجواره، أما حرف شرط و تفصيل و توكيد أما أنها شرط فبدليل لزوم الفاء بعدها، و أما أنها تفصيل فلكونها مكرّرة غالبا قال تعالى: و أمّا السّفينة فكانت لمساكين، و أمّا الغلام، و أمّا الجدار، الآيات، و أما أنها مفيدة للتوكيد فقد أفصح عنه الزمخشري حيث قال: فايدة أمّا في الكلام أن تعطيه فضل توكيد، تقول زيد ذاهب فاذا قصدت توكيد ذلك و أنه لا محالة ذاهب و أنّه بصدد الذهاب و أنه منه على عزيمة تقول: أمّا زيد فذاهب، و لذلك قال سيبويه في تفسيره: مهما يكن من شي ء فزيد ذاهب، فهذا التفسير مفيد لفائدتين: بيان كونه تأكيدا، و أنه في معنى الشرط.
و قوله: حيث لا يظعن النزال، حيث ظرف مكان بدل من قوله في داره، و هى من الظّروف الواجبة الاضافة الى الجمل و مبنيّة على الضمّ أمّا بناؤها فلأنها مضافة في المعنى إلى المصدر الذي تضمّنته الجملة إذ معنى جلست حيث جلس زيد جلست مكان جلوسه و إن كانت في الظّاهر مضافة إلى الجملة فاضافتها اليها كلا اضافة فشابهت الغايات المحذوف ما اضيفت اليه فلهذا بنيت على الضمّ كالغايات.
قال نجم الأئمة الرّضيّ: و اعلم أنّ الظرف المضاف إلى الجملة لما كان ظرفا للمصدر الذي تضمّنته الجملة على ما قرّرنا لم يجز أن يعود من الجملة اليه ضمير فلا يقال آتيك يوم قدم زيد فيه، لأنّ الرّبط الذي يطلب حصوله من مثل هذا الضمير حصل باضافة الضمير الى الجملة و جعله ظرفا لمضمونها، فيكون كانّك قلت يوم قدوم زيد فيه، أى في اليوم و ذلك غير مستعمل و إنما وجب الرّبط لما لم يكن الظرف مرتبطا بأن كان منوّنا نحو يوما قدم فيه زيد، قال تعالى: يوم تسوّد وجوه و قد يقول العوام: يوم تسودّ فيه الوجوه و نحوه، و هو شاذّ و بذلك ظهر عدم الحاجة الى الضّمير في قوله حيث لا يظعن النزال، فانّ معناه مكان عدم ظعن النزال فافهم ذلك فانّه ينفعك في كثير من المقامات الآتية.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّن لبيان حال العباد في المعاد و كيفيّة محشرهم و منشرهم و بعثهم و جمعهم و إثابة المطيعين منهم و عقاب العاصين و أكثر ما أورده عليه السّلام هنا مطابق لآيات الكتاب الكريم و القرآن الحكيم حسبما تطلع عليه فيما يتلى عليك فأقول: قوله: (حتّى اذا بلغ الكتاب أجله و الأمر مقاديره) أراد بالكتاب ما كتبه اللّه تعالى سبحانه و قضاه في حقّ النّاس من لبثهم في القبور إلى يوم الحشر و النشور و بالأمر الامورات المقدّرة الحادثة في العالم السفلي المشار اليها بقوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.
فالمعنى أنّه إذا بلغ المقضي في حقّ العباد غايته و نهايته في الامورات المقدّرة مقاديرها المعلومة و حدودها المعينة التي اقتضت الحكمة الالهية و التدبير الأزلى بلوغها اليها (و الحق آخر الخلق بأوّله) أى انتزعوا جميعا عن الدّنيا و أحاط بهم الموت و الفنا و اجتمعوا فى القبور بعد سكنى القصور (و جاء من أمر اللّه) و حكمه (ما يريده من تجديد خلقه) أى بعثهم و حشرهم (أما السّماء و فطرها) أى حرّكها و شقّها، و هو اشارة إلى خراب هذا العالم.
و به نطق قوله سبحانه: يوم تمور السّماء مورا، أى تضطرب و تموج و تتحرّك، و في سورة المزمّل: السّماء منفطر به و كان وعده مفعولا، قال الطّبرسيّ: المعنى أنّ السّماء تنفطر و تنشقّ في ذلك اليوم من هو له، و في سورة الانفطار: إذا السّماء انفطرت، قال الطّبرسىّ تشقّقت و تقطّعت، (و أرجّ الأرض و أرجفها) أى حرّكها و زلزلها كما قال تعالى في سورة الواقعة: إذا رجّت الأرض رجّا، قال الطّبرسيّ أى حركت حركة شديدة، و قيل زلزلت زلزالا شديدا، و قيل معناه رجّت بما فيها كما يرجّ الغربال بما فيه فيكون المراد ترجّ باخراج من في بطنها من الموتى، و في سورة النّازعات: يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة، قيل أى تضطرب الأرض اضطرابا شديدا و تحرّك تحرّكا عظيما يعني يوم القيامة تتبعها الرادفة أى اضطرابة اخرى كائنة بعد الاولى في موضع الرّدف من الراكب فلا تزال تضطرب حتى يفنى كلّها.
(و قلع جبالها و نسفها) و هو موافق لقوله تعالى في سورة طه: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً.
قال الطّبرسيّ أى و يسألك منكر و البعث عند ذكر القيامة عن الجبال ما حالها فقل: يا محمّد ينسفها ربّى نسفا، أى يجعلها ربّي بمنزلة الرّمل، ثمّ يرسل عليها الرّياح فيذريها كتذرية الطعام من القشور و التّراب فلا يبقى على وجه الأرض منها شي ء و قيل يصيّرها كالهباء، و قيل إنّ رجلا من ثقيف سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمها فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه يسوقها بأن يجعلها كالرّمال ثمّ يرسل عليها الرّياح فتفرّقها، فيذرها، اى فيدع أما كنها من الأرض إذا نسفها، قاعا، أى أرضا ملساء، و قيل منكشفة، صفصفا، أى أرضا مستوية ليس للجبل فيها أثر، لا ترى فيها عوجا و لا أمتا، أى ليس فيها منخفض و لا مرتفع و في سورة الواقعة: وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا.
أى فتت فتأ أو كسرت كسرا، فكانت غبارا متفرّقا كالذى يرى من شعاع الشّمس اذا دخل من الكوّة و في سورة المزّمل: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا.
قال الطّبرسيّ: أى رملا سائلا مستأثرا عن ابن عباس و قيل: المهيل الذى اذا وطأه القدم زلّ من تحتها و إذا اخذت أسفله انهار أعلاه، عن الضحاك، و المعنى أنّ الجبال تنقلع من اصولها فتصير بعد صلابتها كالرّمل السّائل و دلّ بعضها بعضا من هيبة جلاله و مخوف سلطنته، و يشهد به قوله سبحانه في سورة الحاقّة: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ.
أى رفعت الأرض و الجبال من اماكنها و ضرب بعضها ببعض حتّى تفتت الجبال و سفتها الرّياح و بقيت الأرض شيئا واحدا لا جبل فيها و لا رابية، بل تكون قطعة مستوية، و قال عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيرها: قد وقعت فدكّ بعضها على بعض، و قال الطّبرسىّ أى كسرتا كسرة واحدة لا تثنى حتى يستوى ما عليها من شي ء مثل الأديم الممدود.
(و اخرج من فيها فجدّدهم بعد اخلاقهم) أى بعد كونهم خلقا باليا أو بعد جعله لهم كذلك (و جمعهم بعد تفريقهم) يحتمل أن يكون المراد به جمع اجزائهم بعد تفتتهم و تأليف أعضائهم بعد تمزيقهم و جمع نفوسهم في المحشر بعد تفرّقهم في مشارق الأرض و مغاربها و الثّاني أظهر (ثمّ ميّزهم لما يريد من مسائلتهم عن خفايا الأعمال و خبايا الأفعال) أى أعمالهم الّتي فعلوها في خلواتهم (و جعلهم فريقين أنعم على هؤلاء و انتقم من هؤلاء) كما قال تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ و في سورة الرّعد: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ.
و اليه أشار بقوله (فأمّا أهل الطّاعة) و السّعادة (فأثا بهم بجواره) و قربه (و خلّدهم فيداره) الاضافة للتشريف و التكريم و فيها تشويق و ترغيب الى هذه الدّار لا سيّما و انها دار خلود (حيث لا يظعن النزال) أى لا يرتحل النازلون فيها عنها و لا يجوز عليهم الانتقال (و) دار سلامة و استقامة (لا يتغيّر لهم الحال و) دار أمن و كرامة (لا تنوبهم الأفزاع و) دار صحّة و عافية (لا تنالهم الأسقام و) دار سرور و لذّة (لا تعرض لهم الأخطار و) دار استراحة (لا تشخصهم الأسفار) و في هذه كلّها اشارة إلى سلامة أهل الجنان من الهموم و الأحزان، و آفات الأجساد و الأبدان، و طوارق المحن و البلاء العارضة لأهل الدّنيا، و فيها حسبما اشرنا اليه حثّ و ترغيب اليها و إلى المجاهدة في طلبها.
فتنبّه أيّها المسكين من نوم الغفلة، و استيقظ من رقدة الجهالة، و عليك بالمجاهدة و التّقوى، و نهى النفس عن الهوى لتصل إلى تلك النعمة العظمى و تدرك الجنّة التي عرضها الأرض و السموات العلى، و تفكّر في أهلها و ساكنيها تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ.
جالسين على منابر الياقوت الأحمر في خيام من اللّؤلؤ الرّطب الأبيض فيها بسط من العبقري الأخضر متّكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر و العسل محفوفة بالغلمان و الولدان مزيّنة بالحور العين من الخيرات الحسان، كأنّهنّ الياقوت و المرجان لم يطمثهنّ انس قبلهم و لا جانّ، يمشين في درجات الجنان و اذا اختالت احديهنّ في مشيها حمل اعطافها سبعون ألفا من الولدان عليها من طرايف الحرير ما تتحيّر فيه الأبصار مكلّلات بالتّيجان المرصّعة باللّؤلؤ و المرجان مشكلات غنجات عطرات امنات من الهرم و البوس و حوادث الزّمان مقصورات في الخيام في قصور من الياقوت بنيت وسط روضات الجنان قاصرات الطرف عين ثمّ يطاف عليهم و عليهنّ بأكواب و أباريق و كأس من معين بيضاء لذّة للشّاربين، و يطوف عليهم ولدان مخلّدون كأمثال اللّؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون، في مقام أمين في جنّات و نهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، لا يرهقهم قتر و لا ذلّة بل عباد مكرمون لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، و من ريب المنون آمنون، خالدون فيها و يأكلون من أطعمتها و يشربون من أنهارها لبنا و خمرا و عسلا مصفّى، و أيّ أنهار أراضيها من فضّة بيضاء و حصبائها مرجان، و يمطرون من سحاب من ماء النسرين على كثبان الكافور و يجلسون على أرض ترابها مسك أذفر، و نباتها زعفران.
فيا عجبا لمن يؤمن بدار هذه صفتها، و يوقن بأنه لا يموت أهلها و لا تحلّ الفجائع بمن نزل بساحتها، و لا تنظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها، كيف يأنس بدار قد أذن اللّه في خرابها، و نودى بالرّحيل قطانها، و اللّه لو لم يكن فيها الّا سلامة الأبدان مع الأمن من البلاء و الموت و ساير الحدثان، لكان جديرا بأن يهجر الدّنيا بسببها، و لا تؤثر عليها مع كون التنغّص و التصرّم من ضروراتها، فانّ نعم الدّنيا زايلة كلّها فانية، و نعم الجنّة دائمة باقية، و أهل الدّنيا كلّهم متنغّصون هالكون، و أهل الجنّة منعّمون آمنون.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ينادى مناديا أهل الجنة انّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا، و انّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، و انّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا و انّ لكم أن تنعّموا فلا تيأسوا أبدا، فذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
(و أمّا أهل المعصية) و الشّقاوة (فأنزلهم شرّدار) و بئس القرار (و غلّ الأيدى إلى الأعناق) بأغلال و سلاسل من نار قال سبحانه: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ و في سورة يس: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ.
قال الطّبرسيّ: يعني أيديهم، كنّى عنها و ان لم يذكرها لأنّ الأعناق و الأغلال تدلّان عليها، و ذلك انّ الغلّ انما يجمع اليد الى الذقن و العنق و لا يجمع الغلّ العنق الى الذقن، و روى عن ابن عباس و ابن مسعود انهما قرءا انّا جعلنا في أيمانهم أغلالا، و قرأ بعضهم في أيديهم، و المعنى في الجميع واحد، لأنّ الغلّ لا يكون في العنق دون اليد و لا في اليد دون العنق، و قوله: فهم مقمحون ، أراد أنّ أيديهم لما غلّت الى أعناقهم و رفعت الأغلال أذقانهم و رؤوسهم صعدا فهم مرفوع و الرّأس برفع الأغلال ايّاها وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ.
اشارة الى ضيق المكان في النار بحيث لا يجدون متقدّما و لا متأخّرا إذ سدّ عليهم جوانبهم فأغشيناهم بالعذاب فهم لا يبصرون في النار.
(و قرن النّواصي بالأقدام) بالأغلال و الأصفاد كما قال تعالى في سورة الرحمن يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ.
قال الطّبرسيّ في تفسير: تأخذهم الزّبانية فتجمع بين نواصيهم و أقدامهم بالغلّ ثمّ يسحبون في النّار و يقذفون فيها (و ألبسهم سرابيل القطران) كما قال عزّ من قائل في سورة إبراهيم: وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ قال المفسّر و هو ما يطلى به الابل الجربي فيحرق الجرب و الجلد، و هو شي ء أسود لزج منتن يطلون به فيصير كالقميص عليهم ثمّ يرسل النار فيهم ليكون أسرع اليهم و أبلغ في الاشتعال و أشدّ في العذاب، و قيل السّربال من قطران تمثيل لما يحيط بجوهر النّفس من المهلكات الرّدية و الهيآت الموحشات المؤلمة (و مقطّعات النّيران) قيل: المقطّعات كلّ ثوب يقطع كالقميص و الجبّة و نحوهما لا ما لا يقطع كالازار و الرّداء، و لعلّ السرّ في كون ثياب أهل النار مقطعات كونها أشدّ في العذاب لاشتمالها على جميع البدن، و في مجمع البيان في تفسير قوله: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قال ابن عباس: حين صاروا إلى جهنّم لبسوا مقطّعات النيران، و هى الثياب القصار و قيل يجعل لهم ثياب نحاس من نار و هى أشدّ ما تكون حمى، و قيل أنّ النّار تحيط بهم كاحاطة الثياب التي يلبسونها (في عذاب قد اشتدّ حرّه و باب قد اطبق على أهله) لكونهم في العذاب مخلّدين، و في النار محبوسين، و من خروج الباب ممنوعين، فالأبواب عليهم مغلقة، و أسباب الخروج بهم منقطعة قال سبحانه: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ.
قال الحسن: انّ النار ترميهم بلهبها حتّى اذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع فهو وا فيها سبعين خريفا، فاذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفير لهبها فلا يستقرّون ساعة فذلك قوله: كلّما أرادوا الآية، و أمّا أهل الجنّة فأبوا بها عليهم مفتوحة كما قال تعالى:
وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ.
(في نار لها كلب و لجب و لهب ساطع) أى لها شدّة و صوت و اشتعال مرتفع (و قصيف هائل) أى صوت شديد مخوف (لا يظعن مقيمها) بل كلّما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها و قيل لهم ذوقوا عذاب النّار الذي كنتم به تكذّبون (و لا ينادى أسيرها) أى لا يؤخذ عنه الفدية فيخلص كأسراء الدّنيا (و لا تفصهم كبولها) و قيودها بل هى و ثيقة محكمة (لا مدّة للدّار فتفنى و لا أجل للقوم فيقضى) بل عذابها أبدىّ سرمديّ.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيذبح بين الجنّة و النّار، و يقال: يا أهل الجنّة خلود بلا موت، و يا أهل النّار خلود بلا موت.
فيا أيّها الغافل عن نفسه المغرور بما هو فيه من شواغل هذه الدّنيا المؤذنة بالزّوال و الانقضاء، دع التّفكر فيما أنت مرتحل عنه و اصرف الفكر الى موردك و مصيرك و قد اخبرت بأنّ النار مورد للجميع اذ قيل: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا.
فانت من الورود على يقين و من النّجاة في شكّ، فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعدّ للنجاة منه، و تأمّل في حال الخلايق و قد قاسوا من دواهى القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها و أهوالها وقوفا ينتظرون حقيقة أنبائها، اذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب و أظلّت عليهم نار ذات لهب، و سمعوا لها زفيرا و جرجرة تفصح عن شدّة الغيظ و الغضب، فعند ذلك أيقن المجرمون بالهلاك و العطب، و جثت الامم على الركب، حتى اشفق البرآء من سوء المنقلب، و خرج المنادى من الزّبانية قائلا أين فلان بن فلان المسوّف نفسه في الدّنيا بطول الأمل المضيّع عمره في سوء العمل، فيبادرونه بمقامع من حديد، و يستقبلونه بعظائم التّهديد و يسوقونه الى العذاب الشّديد، و ينكسونه في قعر الجحيم، و يقولون له: ذق إنّك أنت العزيز الكريم.
فاسكنوا دارا ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك يخلد فيها الأسير، و يوقد فيها السعير، شرابهم فيها الحميم، و مستقرّهم الجحيم، الزّبانية تقمعهم، و الهاوية تجمعهم، أمانيهم فيها الهلاك، و مآلهم منها فكاك، قد شدّت أقدامهم إلى النواصي، و اسودّت وجوههم من ظلمة المعاصى.
ينادون من أكنافها، و يصيحون في أطرافها، يا مالك قد حقّ علينا الوعيد يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك اخرجنا منها فانّا لا نعود، فتقول الرّبانية لات حين أمان، لا خروج لكم من دار الهوان، فاخسئوا فيها و لا تكلّمون، و لو اخرجتم لكنتم الى ما نهيتم عنه تعودون، فعند ذلك يقنطون و على ما فرّطوا في جنب اللّه يتأسّفون، و لا يغنيهم الأسف و لا ينجيهم الندّم، اذ زلّت بهم القدم، بل يكبّون على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم، و النّار من تحتهم، و النار عن أيمانهم، و النّار عن شمائلهم. فهم غرقى في النّار، طعامهم و شرابهم نار، و لباسهم نار، و مهادهم نار.
فهم بين مقطعات النّيران، و سرابيل القطران، و ضرب المقامع، و ثقل السّلاسل، و هم يتجلجلون في مضايقها، و يتحطّمون في دركاتها، و يضطربون بين غواشيها، تغلي بهم النّار كغلى القدور، و يهتفون بالويل و العويل و الثبور، و مهما دعوا بذلك صبّ من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم و الجلود، و لهم مقامع من حديد، تهشم بها جباههم، فيتفجّر الصّديد من أفواههم، و تنقطع من العطش اكبادهم، و تسيل على الخدود أحداقهم و يسقط من الوجنات لحومها، و يتمعّط من الأطراف جلودها، و كلّما نضجت جلودهم بدّلوا جلودا غيرها قد عريت من اللّحم عظامهم، فبقيت الأرواح منوطة بالعروق و علايق العصب، و هى تنش في نفخ تلك النيران و هم مع ذلك يتمنّون الموت فلا يموتون.
فكيف بك لو نظرت اليهم و قد اسودّت و جوههم أشدّ سوادا من الحميم، و اعميت ابصارهم، و ابكمت ألسنتهم، و قصمت ظهورهم، و كسرت عظامهم. و جدعت آذانهم، و مزّقت جلودهم، و غلّت أيديهم إلى أعناقهم، و جمع بين نواصيهم و أقدامهم و هم يمشون على النار بوجوههم و يطؤن حسك الحديد بأحداقهم، فلهيب النار سار في بواطن أجزائهم، و حيّات الهاوية و عقاربها متشبّثة بظواهر أعضائهم.
قال أبو الدّردا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يلقى على أهل النّار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن و لا يغنى من جوع، و يستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذى غصّة فيذكرون انّهم كانوا يجيزون «يجرعون» الغصص في الدّنيا فيستغيثون بشراب فيرفع اليهم الحميم بكلاليب الحديد فاذ ادنت من وجوههم شوت وجوههم، فاذا دخل الشراب بطونهم قطع ما في بطونهم فيقولون: ادعوا اخزنة جهنم، قال: فيدعون فيقولون: ادعوا ربّكم يخفّف عنّا يوما من العذاب، و يقولون أولم تك تأتيكم رسلكم بالبيّنات قالوا بلى قالوا فادعوا و ما دعاء الكافرين إلّا في ضلال، قال فيقولون ادعوا مالكا، فيدعون، فيقولون: يا مالك ليقض علينا ربّك، قال فيجيبهم إنّكم ما كثون.
قال الاعمش انبئت أنّ بين دعائهم و بين اجابة مالك إيّاهم ألف عام قال: فيقولون: ادعوا ربّكم، فلا أحد خير من ربّكم فيقولون: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ.
قال: فيجيبهم: اخسئوا فيها و لا تكلّمون، قال: فعند ذلك يئسوا من كلّ خير، و عند ذلك اخذوا في الزّفير و الحسرة و الويل.
و عن زيد بن أسلم في قوله تعالى:
سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ.
قال صبروا مأئة سنة ثمّ جزعوا مأئة سنة ثمّ صبروا مأئة سنة ثمّ قالوا سواء علينا أجزعنا أم صبرنا.
و قال محمّد بن كعب: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم اللّه عزّ و جلّ في أربعة فاذا كانت الخامسة لم يتكلّموا بعدها أبدا يقولون: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ فيقول اللّه تعالى مجيبا لهم: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ثمَّ يقولون: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً فيجيبهم اللّه تعالى: أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ فيقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فيجيبهم اللّه تعالى: أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ثمّ يقولون: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ فيجيبهم اللّه تعالى قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا.
فلا يتكلّمون بعدها أبدا، و ذلك غاية شدّة العذاب، و هذه بعض أحوال أهل النّار اجمالا، و أمّا تفصيل غمومها و أحزانها و محنها و حسراتها فلا نهاية لها، فالعجب كلّ العجب لي و لأمثالي نضحك و نلهو و نشتغل بمحقرات الدّنيا و قيناتها، و لا ندرى أنحن من أهل الجنّة و فيها منعّمون، أم من أهل النّار و فيها معذّبون، و كيف لنا بالجنّة مع شرور أنفسنا و غرورها، و لا رجاء بل لا طمع إلّا برحمة الغفّار و شفاعة الشّفعاء الأطهار نعوذ باللّه من النّار و من غضب الجبّار.
|