نحن شجرة النّبوة، و محطّ الرّسالة، و مختلف الملائكة، و معادن العلم، و ينابيع الحكم، ناصرنا و محبّنا ينتظر الرّحمة، و عدوّنا و مبغضنا ينتظر السّطوة.
اللغة
(السّطوة) القهر و الذلّة.
المعنى
و أما الامر الثاني
فهو قوله (نحن شجرة النبوّة) أراد به رسول اللّه و نفسه الشريف و زوجته الصّديقة و أولاده الطّيبين الطّاهرين سلام اللّه عليهم أجمعين و به فسّر قوله سبحانه: كشجرة طيّبة أصلها ثابت و فرعها في السّماء الآية، و قد مضى توضيحه في شرح الكلام السّادس و السّتين، و شرح الخطبة الثّالثة و التّسعين فتذكّر.
(و محطّ الرّسالة) لم يرد بذلك أنهم عليهم السّلام جميعا رسل اللّه جعلهم محالّ الرّسالة و موضعها كما توهّمه بعض الغلاة و زعموا أنّ الأئمة يوحى اليهم كالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كذبوا لعنهم اللّه و انما هم محدثون مفهمون، بل المراد به أنّ قبيلتهم محلّ نزول الرسالة أو نزلت في بيتهم، أو أنّ رسول اللّه مرسل من عند اللّه و جميع ما أرسله به و وصل إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد وصل اليه سلام اللّه عليه و أولاده الطّاهرين فهم موضع الرّسالة و محطّها بهذا المعنى.
و يشهد بذلك ما في الكافي باسناده عن حمران بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ جبرئيل أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم برمّانتين فأكل رسول اللّه إحداهما و كسر الاخرى بنصفين فأكل نصفا و أطعم عليا نصفا، ثمّ قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا أخى هل تدرى ما هاتان الرّمانتان قال: لا، قال: أمّا الاولى فالنبوّة ليس لك فيها نصيب، و أمّا الاخرى فالعلم فأنت شريكى فيه، فقلت: أصلحك اللّه كيف يكون شريكه فيه قال: لم يعلم اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علما إلّا و أمره أن يعلّمه عليّا و عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول، نزل جبرئيل عليه السّلام على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم برمّانتين من الجنّة فلقاه عليّ عليه السّلام فقال: ما هاتان الرّمانتان اللتان في يديك فقال: أمّا هذه فالنبوّة ليس لك فيها نصيب، و أمّا هذه فالعلم، ثمّ فلقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنصفين فأعطاه نصفها و أخذ رسول اللّه نصفها ثمّ قال: أنت شريكى فيه و أنا شريكك فيه و قال عليه السّلام فلم يعلم و اللّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرفا مما علّمه اللّه إلّا و قد علّمه عليا عليه السّلام، ثمّ انتهى العلم إلينا ثمّ وضع يده على صدره و بالجملة فالمراد أنّهم مخزن علم الرسالة و أسرارها (و مختلف الملائكة) أى محلّ اختلافهم و تردّدهم و مجيئهم و ذهابهم مرّة بعد اخرى، أما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فظاهر، و أما الأئمة عليهم السّلام فلأنّهم ينزلون اليهم مرّة بعد اولى و طائفة بعد اخرى لزيارتهم و التشرّف بهم و إنزال الأخبار اليهم.
و يدلّ عليه ما في الكافي باسناده عن مسمع كردين البصرى قال: كنت لا أزيد على اكلة باللّيل و النّهار فربّما استأذنت على أبي عبد اللّه و أجد المائدة قد رفعت لعلّى لا أراها بين يديه فاذا دخلت دعابها فاصيب معه من الطعام و لا أتأذّى بذلك و اذا عقبت بالطعام عند غيره لم أقدر على أن أقرّ و لم أنم من النفخة، فشكوت ذلك إليه عليه السّلام و أخبرته بأنّى اذا أكلت عنده لم أتأذّبه، فقال: يا با سيّار إنّك تأكل طعام قوم صالحين تصافحهم الملائكة على فرشهم، قال: قلت: و يظهرون لكم قال، فمسح يده على بعض صبيانه فقال: هم ألطف بصبياننا منّا بهم.
و عن الحسين بن أبي العلا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال يا حسين و ضرب بيده إلى مساور في البيت: مساور طال ما اتّكت عليها الملائكة و ربّما التقطنا من زغبها و المساور جمع المسورة و هو المتّكاء، و الزّغب محرّكة صغار الريش و لينه.
و فيه عن أبي حمزة الثمالي قال: دخلت على عليّ بن الحسين عليهما السّلام فاحتبست في الدار ساعة ثمّ دخلت البيت و هو يلتقط شيئا و أدخل يده من وراء الستر فناوله من كان في البيت، فقلت: جعلت فداك هذا الذي أراك تلتقطه أىّ شي ء هو فقال: فضلة من زغب الملائكة نجمعه إذا خلونا نجعله سبحا لأولادنا، فقلت جعلت فداك و انّهم ليأتونكم فقال: يا با حمزة انّهم ليزاحمونا على تكائتنا و السبح بالباء الموحدة النّوم و السّكون، و في بعض النّسخ سيحا بالياء المثناة التحتانيّة و هو الكساء المخطط، و في البحار عن بصائر الدّرجات سحابا بدله و هو ككتاب خيط ينظم فيه خرز و يلبسه الصبيان و الجوارى، و التّكأة كهمزة ما يتّكا عليه.
و في الكافي أيضا عن عليّ بن أبي حمزة عن أبي الحسن قال: سمعته يقول: ما من ملك يهبطه اللّه في أمر ما يهبطه إلّا بدء بالامام فعرض ذلك عليه، و أنّ مختلف الملائكة من عند اللّه تبارك و تعالى إلى صاحب هذا الأمر.
و في البحار من بصائر الدرجات عن أحمد عن الحسين عن الحسن بن برة الأصم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّ الملائكة لتنزل علينا في رحالنا و تنقلب على فرشنا و تحضر موائدنا و تأتينا من كلّ نبات في زمانه رطب و يابس، و تقلب أجنحتها على صبياننا، و تمنع الدّواب أن تصل الينا و يأتينا في وقت كلّ صلاة لتصلّيها معنا، و ما من يوم يأتي علينا و لا ليل إلّا و أخبار أهل الأرض عندنا، و ما يحدث فيها، و ما من ملك يموت في الأرض و يقوم غيره إلّا و تأتينا بخبره، و كيف كان سيرته في الدّنيا.
و الأخبار في هذا المعنى كثيرة، و في ما ذكرناه كفاية، و قد عقد العلّامة المجلسي (ره) في المجلد السابع من البحار بابا في أنّ الملائكة تأتيهم و تطاء فرشهم و أنهم يرونهم صلوات اللّه عليهم أجمعين.
(و معادن العلم) أى مستقرّه و محلّه و قد مضى بيان ذلك في التذييل الثالث من الفصل السابع عشر من فصول الخطبة الاولى، و في شرح الفصل الرّابع من فصول الخطبة الثانية.
(و ينابيع الحكم) أى منهم عليهم السّلام يخرج الأحكام إلى العباد يجرى إلى الموادّ القابلة على حسب الاستعداد حسبما يجرى المياه من مجاريها و منابعها فتربط الجاش و تسقى العطاش كما يروّى الماء للغليل و يقوى للعليل، و المراد بالحكم إمّا الأحكام الشرعية أو فصل الخطاب أعنى القضاء و قطع الخصومات بالصّواب في كلّ باب على ما مضى تحقيقه و تفصيله في شرح الفصل الرّابع من فصول الخطبة الثانية، و شرح الفصل الثاني من فصول الخطبة الثالثة هذا.
و يحتمل أن يراد بالحكم الحكمة كما فسّربه قوله سبحانه: وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، قال الباقر عليه السّلام في رواية الكافي: مات زكريّا فورثه ابنه يحيى الكتاب و الحكمة و هو صبىّ صغير، ثمّ تلى هذه الآية و يؤيّد هذا الاحتمال ما في بعض النّسخ من ضبط الحكم بكسر الحاء و فتح الكاف و هو جمع الحكمة و الحكمة هو الفهم و العقل و به فسّره الكاظم عليه السّلام في قوله سبحانه: و لقد آتينا لقمان الحكمة و في مجمع البيان أى أعطيناه العقل و العلم و العمل به و الاصابة في الامور، و كيف كان فلا غبار على كون الأئمة متّصفين بالحكم بأىّ معنى يراد، و هم الحاكمون بين العباد بالحقّ و الصّواب و السّداد.
ثمّ اعلم أنّ الشّارح المعتزلي قد أورد في شرح المقام بعض الأخبار الدالّة على غزارة علم أمير المؤمنين عليه السّلام و قال بعد ذلك: و بالجملة فحاله عليه السّلام في العلم رفيعة جدا لم يلحقه أحد فيها و لا قاربه و حقّ له أن يصف نفسه بأنه معادن العلم و ينابيع الحكم فلا أحد أحقّ به منها بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
أقول: و بعد الاعتراف بسبقه على غيره في العلم و الحكم و أنّه لم يدانيه في ذلك أحد و لم يقاربه فيه، كيف يجوز أن يقدّم غيره عليه و يؤتمّ به دونه قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ وَ لَا الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
ثمّ إنّه لما أشار إلى بعض فضائله و مناقبه الجميلة عقّب ذلك بذكر ما لعلّه هو الغرض الأصلى من ذكر هذه المناقب و هو الحثّ و الترغيب في نصرته ببشرى ناصريه بالثّواب، و التحذير و التنفير عن عداوته بانذار مبغضيه من العقاب و هو قوله: (ناصرنا و محبّنا ينتظر الرّحمة و عدوّنا و مبغضنا ينتظر السّطوة) لما كان نزول الرّحمة في حقّ ناصريه و السّخط و العقوبة في حقّ معانديه معلوما محقق الوقوع لا محالة، جعل كلا من الفريقين بمنزلة المنتظرين لما يستحقّه من الأمرين كمن أيقن بشى ء فانتظره و إلّا فلا انتظار للمعاندين حقيقة و أمّا المحبّون و الأنصار فلهم الانتظار حقيقة برحمة اللّه الغفّار و شفاعة الشفعاء الأطهار سلام اللّه عليهم ما تعاقب اللّيل و النّهار.
و يدلّ على ما ذكر ما في البحار من أمالي الشيخ باسناد أخى دعبل عن الرّضا عن آبائه عليهم السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في «قرء ظ» الآية: لا يستوى أصحاب النّار و أصحاب الجنّة، أصحاب الجنّة هم الفائزون. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصحاب الجنّة من أطاعني و سلّم لعليّ بن أبي طالب بعدى و أقرّ بولايته، فقيل و أصحاب النّار قال من سخط الولاية و نقض العهد و قاتله بعدى.
و من امالي الصّدوق باسناده عن عباد الكلبيّ عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن عليّ بن الحسين عن فاطمة الصغرى عن الحسين بن عليّ عن امّه فاطمة بنت محمّد صلوات اللّه عليهم قالت خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشيّة عرفة فقال: إنّ اللّه تبارك تعالى باهى بكم و غفر لكم عامّة و لعلىّ خاصّة، و إنّى رسول اللّه إليكم غير محاب لقرابتي، هذا جبرئيل يخبرني أنّ السّعيد كلّ السّعيد حقّ السّعيد من أحبّ عليّا في حياته و بعد موته، و أنّ الشقىّ كلّ الشقيّ حقّ الشّقي من أبغض عليّا في حياته و بعد وفاته.
و من العيون باسناده عن الرّضا عليه السّلام قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام من أحبّك كان مع النّبيّين في درجتهم يوم القيامة، و من مات و هو يبغضك فلا يبالي مات يهوديا او نصرانيا.
و الأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا و قد تقدّم في التذنيب الثّالث من تذنيبات الفصل الرّابع من فصول الخطبة الاولى روايات مناسبة للمقام.
|