و اعلم أنّ لكلّ ظاهر باطنا علي مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، و ما خبث ظاهره خبث باطنه، و قد قال الرّسول الصّادق صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ وَ يُبْغِضُ عَمَلَهُ، وَ يُحِبُّ الْعَمَل وَ يُبْغِضُ بَدَنُهُ» و اعلم أنّ كلّ عمل نبات، و كلّ نبات لا غنى به عن الماء، و المياه مختلفة، فما طاب سقيه طاب غرسه، و حلت ثمرته، و ما خبث سقيه خبث غرسه، و أمرّت ثمرته.
الاعراب
قوله: و اعلم أنّ كلّ عمل نبات هكذا في بعض النسخ فيكون كلّ اسم إنّ و نبات خبرها و في بعضها أنّ لكلّ عمل نباتا فيكون نباتا اسما لها
المعنى
ثمّ قال عليه السّلام (و اعلم أنّ لكلّ ظاهر باطنا على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، و ما خبث ظاهره خبث باطنه) المراد بهما إمّا كلّ ما يصدق عليه أنّه ظاهر و باطن فيشمل الأفعال الظاهرة و الأقوال الصّادرة عن الانسان خيرا أو شرّا و الملكات و الأخلاق النّفسانيّة الباطنيّة له حسنة أو قبيحة فالجود و الكرم و الانعام و الاحسان و نحوها ممّا هو حسن ظاهرا كاشف عن حسن الباطن أعنى ملكة السّخاء و الجود، و القبض و الامساك و المنع و نحوها ممّا هو قبيح ظاهرا دالّ على قبح الباطن و خبثه أعنى ملكة البخل و هكذا، و كذلك في الأقوال ما هو الطيّب ظاهرا كاشف عن طيب الباطن و ما هو الخبيث كاشف عن خبث الباطن قال عليه السّلام في الخطبة الشقشقيّة في وصف حال الثاني: فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها و يخشن مسّها، و قال تعالى: «مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ»... «وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» و يشمل أيضا لمثل حسن الصّورة الموافق لحسن الباطن أعني اعتدال المزاج، و قبحها الموافق لقبح الباطن أعني عدم اعتداله أو الأعمّ من الاعتدال و عدم الاعتدال.
و يشهد بذلك ما رواه في البحار من الأمالى عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: عليكم بالوجوه الملاح و الحدق السّود فانّ اللَّه يستحيى أن يعذّب الوجه المليح بالنّار و فيه من ثواب الأعمال عن موسى بن إبراهيم عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: سمعته يقول: ما حسّن اللَّه خلق عبد و لا خلقه إلّا استحيى أن يطعم لحمه يوم القيامة النّار و فيه من العيون عن الرّضا عن آبائه عليهم السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: لا تجد في أربعين أصلع رجل سوء و لا تجد في أربعين كوسجا رجلا صالحا و أصلع سوء أحبّ إليّ من كوسج صالح و من ذلك ما روى أنّ أبا محمّد الحسن بن عليّ عليهما السّلام دخل يوما على معاوية فسأله عليه السّلام تعنّتا و قال: قال اللَّه تعالى: «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ».
فأين ذكر لحيتك و لحيتي من الكتاب و كان أبو محمّد وفر المحاسن«» و معاوية بخلافه فقرأ عليه السّلام: «وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً».
و نحوه ما عن المناقب قال عمرو بن العاص للحسين عليه السّلام: ما بال لحاكم أوفر من لحانا فقرأ عليه السّلام هذه الآية و من هذا الباب كلّ ما في الكتاب العزيز من التّعبير عن الأئمة عليهم السّلام بأعزّ الأسماء و أحسن الأفعال و أفضل الخصال و التّعبير عن أعدائهم بأخبثها و أخسّها و أنزلها.
و يدلّ عليه ما في الصّافي من الكافي عن الصّادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: «إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ».
قال عليه السّلام: إنّ القرآن له ظهر و بطن فجميع ما حرّم اللَّه في القرآن هو الظاهر و الباطن من ذلك أئمّة الجور، و جميع ما أحلّ اللَّه في الكتاب هو الظاهر و الباطن من ذلك أئمة الحقّ.
و في البحار من البصاير بسنده عن الهيثم التميمي قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: يا هيثم إنّ قوما آمنوا بالظاهر و كفروا بالباطن فلم ينفعهم شي ء، و جاء قوم من بعدهم فآمنوا بالباطن و كفروا بالظاهر فلم ينفعهم ذلك شيئا، و لا ايمان بظاهر إلّا بباطن و لا بباطن إلّا بظاهر.
و من كنز جامع الفوايد قال: روى الشّيخ أبو جعفر الطوسي باسناده إلى الفضل ابن شاذان عن داود بن كثير قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام: أنتم الصّلاة في كتاب اللَّه عزّ و جلّ و أنتم الزّكاة و أنتم الحجّ، فقال: يا داود نحن الصّلاة في كتاب اللَّه عزّ و جلّ، و نحن الزّكاة، و نحن الصّيام، و نحن الحجّ، و نحن الشّهر الحرام، و نحن البلد الحرام، و نحن كعبة اللَّه، و نحن قبلة اللَّه، و نحن وجه اللَّه قال اللَّه تعالى: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا- وجوهكم- فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ». و نحن الآيات و نحن البيّنات، و عدوّنا في كتاب اللَّه عزّ و جلّ الفحشاء و المنكر و البغى و الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام و الأصنام و الأوثان و الجبت و الطّاغوت و الميتة و الدّم و لحم الخنزير، يا داود إنّ اللَّه خلقنا فأكرم خلقنا، و فضّلنا و جعلنا امنائه و حفظته و خزّانه على ما في السّماوات و ما في الأرض، و جعل لنا أندادا أضدادا و أعداء فسمّانا في كتابه و كنّى عن أسمائنا بأحسن الأسماء و أحبّها إليه، و سمّى أضدادنا و أعدائنا في كتابه و كنّى عن أسمائهم، و ضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه و إلى عباده المتّقين هذا كلّه مبنيّ على أن يراد بالظّاهر و الباطن المعنى الأعمّ، و يجوز أن يراد بهما الخصوص أعنى العلم المأخوذ من معدنه، فيكون قوله، فما طاب ظاهره طاب باطنه إشارة إلى العلوم الحقّة المتلقّاة من الأئمة عليهم السّلام الخارجة من مهبط الوحى و معدن الرّسالة، و قوله: و ما خبث ظاهره خبث باطنه، إشارة إلى العلوم الباطلة المأخوذة من أهل الضّلال عن طريق الرأي و القياس و الاستحسانات العقليّة الفاسدة، و الوجه الأوّل أعني إرادة العموم هو الأوفق بنفس الأمر، و الوجه الثّاني أنسب بالنّسبة إلى ما حقّقناه سابقا، فانّه عليه السّلام حسبما ذكرنا لمّا أشار إلى أنّ السّالك لا بدّ أن يكون سلوكه على علم و بصيرة حتّى لا يكون كالسّائر على غير الطّريق أردفه بهذه الجملة تنبيها على أنّ كلّ علم ليس ممّا ينتفع به في مقام السّلوك بل خصوص العلم الموصل إلى الحقّ المتلقّى من أهل الحقّ أعني أئمّة الدّين و هو الطيّب ظاهرا و باطنا، و امّا غيره أعني العلم المأخوذ من أهل الضّلال فهو جهل في صورة العلم لا يوجب إلّا بعدا من الحقّ خبيث ظاهره و باطنه و قد يفسّر به قوله تعالى: «وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ».
قال القمّي: إنّه مثل للأئمّة يخرج علمهم باذن ربّهم و لأعدائهم لا يخرج علمهم إلّا كدرا فاسدا. (و قد قال الرّسول الصّادق صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إنّ اللَّه يحبّ العبد و يبغض عمله و يحبّ العمل و يبغض بدنه) يعني أنّ اللَّه يحبّ العبد المؤمن بما فيه من وصف الايمان لكنّه يبغض عمله لكونه سيّئة و حراما، و يبغض الكافر بما له من الكفر لكنّه يحبّ عمله لكونه حسنا و صالحا، و هذا لا غبار عليه و إنّما الاشكال في ارتباط هذا الكلام لسابقه و في استشهاد الامام عليه السّلام به مع أنّه لا مناسبة بينهما ظاهرا، و ليس للاستشهاد به وجه ظاهر، بل منافاته لما مرّ أظهر من المناسبة كما هو غير خفيّ إذ لازم محبّة اللَّه للعبد كون العبد طيّبا، و لازم بغضه لعمله كون العمل خبيثا فلم يكن الظّاهر موافقا للباطن، فينا في قوله عليه السّلام: فما خبث ظاهره خبث باطنه، و كذلك مقتضي بغض اللَّه سبحانه لبدن الكافر كونه خبيثا، و حبّه لعمله كون عمله طيّبا ففيه أيضا مخالفة الظّاهر للباطن، فينا في قوله: فما طاب ظاهره طاب باطنه و الذي سنح لي في وجه الارتباط و حلّ الاشكال بعد التّروى و صرف الهمّة إلى حلّه أيّاما و الاستمداد من جدّى أمير المؤمنين عليه و آله سلام اللَّه ربّ العالمين هو أنّه لمّا ذكر أنّ ما هو طيّب الظّاهر طيّب الباطن و ما هو خبيث الظّاهر خبيث الباطن، عقّبه بهذا الحديث النّبوي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم تنبيها و ايقاظا للسّامعين بأنّ العبد قد يكون نفسه محبوبا و عمله مبغوضا، و قد يكون بالعكس كما أفصح عنه الرّسول الصّادق المصدّق فاللّازم له إذا كان محبوب الذّات للَّه سبحانه و مبغوض العمل أن يجدّ في تحبيب عمله إليه تعالى حتّى يوافق نفسه عمله في المحبوبيّة، و إذا كان محبوب العمل و مبغوض البدن أى الذّات أن يجدّ في تحبيب ذاته إليه كى يوافق عمله نفسه و الغرض بذلك الحثّ على تطبيق الظّاهر للباطن في الأوّل و تطبيق الباطن للظّاهر في الثّاني في المحبوبيّة حتى يكونا طيّبين، و يفاز إلى النّعيم الدّائم و الفوز الأبد، و لا يعكس حتّى يكونا خبيثين مبغوضين له تعالى فيقع في العذاب الأليم و الخزى العظيم، و قد زلّت في هذا المقام أقدام الشّراح و المحشّين، و كلّت فيه أفهامهم طوينا عن ذكر كلامهم، من أراد الاطلاع فليراجع الشّروح، و اللَّه وليّ التّوفيق ثمّ حثّ على تزكية الأعمال و تصفيتها بمثل ضربه بقوله (و اعلم أنّ كلّ عمل نبات) و في بعض النّسخ أنّ لكلّ عمل نباتا، قال الشّارح البحراني: استعار لفظ النّبات لزيادة الأعمال و نموّها و رشّح الاستعارة بذكر الماء آه، و على ما روينا فهو من التّشبيه البليغ أعنى التّشبيه المحذوف الأداة أى كلّ عمل بمنزلة نبات، و وجه الشّبه أنّ النّباتات كما أنّها مختلفة من حيث طيبها و نضارتها و خضرتها و حسنها و ثبات أصلها في الأرض و رسوخ عروقها و ارتفاع فروعها و حلاوة ثمراتها و من حيث كونها على خلاف ذلك، فكذلك الأعمال و إلى ذلك أشار بقوله (و كلّ نبات لا غنى به عن الماء) و هو مادّة حياته كما قال سبحانه: «أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ» و قال «وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً».
و كذلك كلّ عمل لا غنى به عن النيّة و عن توجّه القلب اليه و هو مادّة حصوله (و المياه مختلفة) هذا عذب فرات سائغ شرابه و هذا ملح اجاج، و النيّات أيضا مختلفة بعضها صادرة عن وجه الخلوص و التقرّب إلى الحضرة الرّبوبيّة، و بعضها عن وجه الشّرك و الرّياء و السّمعة (فما طاب سقيه) أى نصيبه من الماء لكونه عذبا صافيا (طاب غرسه) و ثبت أصله و ارتفع فرعه و كان له خضرة و نضرة (و حلت ثمرته) و كذلك العمل الصّادر عن وجه الخلوص و التقرّب إلى الحقّ يعلو و يزكو و يثمر ثمرات طيبة و هى ثمرات الجنان اكلها دائم و ظلّها قال تعالى: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً».
(و ما خبث سقيه) لكون مائه ملحا اجاجا أو كدرا فاسدا (خبث غرسه) لا يكون له رونق و بهاء و لا لأصله ثبات و لفرعه ارتفاع (و أمرّت ثمرته) و هكذا العمل المشوب بالشّرك و الرّيا يثمر ثمرات خبيثة أعنى ثمرات الجحيم و هى الضّريع و الرّقوم قال تعالى: «طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ».
و أقول: قد وقع مثل هذا التّشبيه الواقع في كلام أمير المؤمنين أعني تشبيه العمل بالنّبات في كلام اللَّه ربّ العالمين قال سبحانه في سورة إبراهيم: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ».
قال في مجمع البيان «ألم تر» أى ألم تعلم يا محمّد «كيف ضرب اللَّه مثلا» أى بين اللَّه شبها ثمّ فسّر ذلك المثل فقال «كلمة طيّبة» و هى كلمة التّوحيد شهادة أن لا إله إلّا اللَّه عن ابن عباس، و قيل هى كلّ كلام أمر اللَّه به من الطاعات عن أبي علي قال: و إنّما سمّاها طيّبة لأنّها زاكية نامية لصاحبها بالخيرات و البركات «كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السّماء» أى شجرة زاكية نامية راسخة اصولها في الأرض عالية أغصانها و ثمارها في السّماء و أراد به المبالغة في الرّفعة و الأصل سافل و الفرع عال إلّا أنّه يتوصّل من الأصل إلى الفرع «تؤتى اكلها» أى تخرج هذه الشّجرة ما يؤكل منها «كلّ حين» أى كلّ غدوة و عشيّة «باذن ربّها» و قيل: إنّه سبحانه شبّه الايمان بالنّخلة لثبات الايمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في منبتها، و شبّه ارتفاع عمله إلى السّماء بارتفاع فروع النّخلة، و شبّه ما يكسبه المؤمن من بركة الايمان و ثوابه في كلّ وقت و حين بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السّنة كلها من الرّطب و التمر «و يضرب اللَّه الأمثال للنّاس لعلّهم يتذكّرون» أى لكى يتدبّروا فيعرفوا الغرض بالمثل «و مثل كلمة خبيثة» و هى كلمة الكفر و الشّرك، عن ابن عبّاس و غيره، و قيل: هو كلّ كلام في معصية اللَّه عن أبي عليّ «كشجرة خبيثة» غير زاكية و هى شجرة الحنظل عن ابن عبّاس و أنس و مجاهد «اجتثّت من فوق الأرض» أى اقتطعت و استوصلت و اقتلعت جثّته من الأرض «ما لها من قرار» أى ما لتلك الشّجرة من ثبات فانّ الرّيح تنسفها و تذهب بها، فكما أنّ هذه الشّجرة لا ثبات لها و لا بقاء و لا ينتفع بها أحد، فكذلك الكلمة الخبيثة لا ينتفع بها صاحبها و لا يثبت له منها نفع و لا ثواب.
تبصرة
قال الشّارح المعتزلي عند شرح قوله عليه السّلام من هذه الخطبة: نحن الشّعار و الأصحاب و الخزنة و الأبواب: و اعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لو فخر بنفسه و بالغ في تعديد مناقبه و فضايله بفصاحته التي أتاه اللَّه إيّاها و اختصّه بها و ساعده على ذلك فصحاء العرب كافّة لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به الصّادق صلوات اللَّه عليه و آله في أمره، و لست أعني بذلك أخبار العامّة الشّايعة التّي يحتجّ بها الاماميّة على إمامته، كخبر الغدير، و المنزلة، و قصّة برائة، و خبر المناجاة، و قصّة خيبر، و خبر الدار بمكّة في ابتداء الدّعوة و نحو ذلك، بل الأخبار الخاصّة الّتي رواها فيه أئمّة الحديث الّتي لم يحصل أقلّ القليل منها لغيره، و أنا أذكر من ذلك شيئا يسيرا ممّا رواه علماء الحديث الذين لا يتّهمون فيه و جلّهم قائلون بتفضيل غيره عليه، فروايتهم فضائله توجب سكون النّفس ما لا يوجبه رواية غيرهم ثمّ أورد أربعة و عشرين حديثا نبويّا في فضائله، و الحديث الرّابع و العشرون قوله: لمّا نزل إذا جاء نصر اللَّه و الفتح بعد انصرافه من غزاة حنين جعل يكثر سبحان اللَّه استغفر اللَّه ثمّ قال: يا عليّ إنّه قد جاء ما وعدت به جاء الفتح و دخل النّاس في دين اللَّه أفواجا و ليس أحد أحقّ منك بمقامي لقدمك في الاسلام و قربك منّي و صهرك و عندك سيدة نساء العالمين، و قبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب عندى حين نزل القرآن فأنا حريص أن اراعى ذلك لولده، رواه أبو إسحاق الثّعلبيّ في تفسير القرآن.
ثمّ قال الشّارح: و اعلم أنّا إنّما ذكرنا ههنا هذه الأخبار لأنّ كثيرا من المنحرفين عنه عليه السّلام إذا مرّوا على كلامه في نهج البلاغة و غيره المتضمّن للتّحدّث بنعمة اللَّه عليه من اختصاص الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و تميزه إيّاه عن غيره ينسبونه فيه إلى التّيه و الزّهو و الفخر، و لقد سبقهم بذلك قوم من الصّحابة قيل لعمر ولّ عليّا أمر الجيش و الحرب فقال: هو أتيه من ذلك، و قال زيد بن ثابت: ما رأينا أزهى من عليّ و اسامة فاردنا ايراد هذه الأخبار أن تنبّه على عظيم منزلته عليه السّلام عند الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و أنّ من قيل في حقّه ما قيل لو رقى إلى السّماء و عرج في الهواء و فخر على الملائكة و الأنبياء تعظما و تبجحا لم يكن ملوما بل كان بذلك جديرا فكيف و هو عليه السّلام لم يسلك قطّ مسلك التعظّم و التكبّر في شي ء من أقواله و لا من أفعاله، و كان ألطف البشر خلقا، و أكرمهم طبعا، و أشدّهم تواضعا، و أكثرهم احتمالا، و أحسنهم بشرا، و أطلقهم وجها حتّى نسبه من نسبه إلى الدّعابة و المزاح و هما خلقان يتنافيان التكبّر و الاستطالة، و إنما كان يذكر احيانا ما يذكره نفثة مصدور و شكوى مكروب و تنفّس مهموم و لا يقصد به إذا ذكره إلّا شكر النعمة و تنبيه الغافل على ما خصّه اللَّه به من الفضيلة، فانّ ذلك من باب الأمر بالمعروف و الحضّ على اعتقاد الحقّ و الصواب في أمره و النهى عن المنكر الذي هو تقديم غيره عليه في الفضل، فقد نهى اللَّه سبحانه عن ذلك فقال: أ فمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يهدّى إلّا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون، انتهى أقول: و لقد أجاد الشارح فيما أفاد و لا يخفى ما في كلامه من وجوه التعريض إلى عمر من حيث نسبته أمير المؤمنين عليه السّلام تارة إلى التيه و التكبّر، و اخرى إلى المزاح و الدّعابة، و قد نبّه الشّارح على أنّ هذه النّسبة افتراء منه عليه عليه السّلام لأنّ التكبّر و الدّعابة على طرفى الافراط و التفريط و هما مع تضادّهما و عدم امكان اجتماعهما في محلّ واحد لا يجوز أن يوصف الامام عليه السّلام الّذي هو على حدّ الاعتدال في الأوصاف و الأخلاق بشي ء منهما فضلا عن كليهما، و قد مرّ فساد نسبة الدّعابة إليه في شرح الكلام الثالث و الثّمانين بما لا مزيد عليه.
ثمّ العجب من الشّارح أنّه مع نقله هذه الرّوايات كيف ضلّ عن الهدى و أعمى عن الحقّ و أنكر وجود النّص على خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام مع ظهور دلالتها على خلافته لو لم تكن نصا فيها لا سيّما الرّواية الأخيرة أعني الحديث الرّابع و العشرين.
و أعجب من ذلك أنّه قد صرّح هنا بأنّ تقديم غيره عليه عليه السّلام من المنكر، و أنّ غرض أمير المؤمنين عليه السّلام من تعديد مناقبه و فضايله كان النّهي عن ذلك المنكر و ردع النّاس عن الاعتقاد الباطل إلى الحقّ و الصّواب و هو مناف لمذهبه الّذي اختاره وفاقا لأصحابه المعتزلة من أنّ تقديم غيره عليه إنّما هو من فعل اللَّه سبحانه و تعالى عمّا يقول الجاهلون الضّالّون علوّا كبيرا كما هو صريح كلامه في خطبة الشّرح حيث قال هناك: و قدّم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التّكليف، و إذا كان تقديم غيره عليه منكرا و قبيحا كيف نسبه إلى اللَّه تعالى هنالك، و قد أجرى اللَّه الحقّ على لسانه هنا حتّى صرّح بنفسه على فساد مذهبه، و اللَّه الهادى إلى سواء السّبيل
|