اعلموا عباد اللّه أنّ التّقوى دار حصن عزيز، و الفجور دار حصن ذليل، لا يمنع أهله، و لا يحرز من لجأ إليه، ألا و بالتّقوى تقطع حمة الخطايا، و باليقين تدرك الغاية القصوى، عباد اللّه اللّه اللّه في أعزّ الأنفس عليكم، و أحبّها إليكم، فإنّ اللّه قد أوضح لكم سبيل الحقّ، و أنار طرقه، فشقوة لازمة، أو سعادة دائمة، فتزوّدوا في أيّام الفناء لأيّام البقاء، قد دللتم على الزّاد، و أمرتم بالظّعن، و حثثتم على المسير، فإنّما أنتم كركب وقوف لا تدرون متى تؤمرون بالسّير، ألا فما يصنع بالدّنيا من خلق للآخرة، و ما يصنع بالمال من عمّا قليل يسلبه، و يبقى عليه تبعته و حسابه، عباد اللّه إنّه ليس لما وعد اللّه من الخير مترك و لا فيما نهى عنه من الشّرّ مرغب، عباد اللّه احذروا يوما تفحص فيه الأعمال، و يكثر فيه الزّلزال، و تشيب فيه الأطفال، اعلموا عباد اللّه أنّ عليكم رصدا من أنفسكم، و عيونا من جوارحكم، و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم، و عدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج، و لا يكنّكم منهم باب ذور تاج
اللغة
(الحمة) بضمّ الحاء و فتح الميم ابرة العقرب و هى محلّ سمّها، و ربّما يطلق على نفس السمّ، و يروى حمّة بالتّشديد من حمة الحرّ و هو معظمة و (رتج) الباب أغلقه كارتجه
الاعراب
قوله: اللّه اللّه في أعزّ الأنفس، منصوبان على التّحذير، و حذف العامل وجوبا اي احذروا اللّه أو اتّقوا اللّه قال نجم الأئمة: و حكمة اختصاص وجوب الحذف بالمحذر منه المكرّر كون تكريره دالّا على مقارنة المحذر منه للمحذر بحيث يضيق الوقت إلّا عن ذكر المحذر منه على أبلغ ما يمكن، و ذلك بتكريره و لا يتّسع لذكر العامل مع هذا المكرّر، و إذا لم يكرّر الاسم جاز إظهار العامل اتّفاقا و قوله: فشقوة لازمة أو سعادة دائمة، مرفوعان على الخبريّة أى فعاقبتكم شقوة أو سعادة، أو مبتدءان محذوفا الخبر، و لا يضرّ نكارتهما لكونهما نكرة موصوفة و التّقدير فشقوة لازمة لمن نكب عنها أو سعادة دائمة لمن سلكها، أى سلك هذه الطرق، و يجوز أن يكونا فاعلين لفعل محذوف.
و قوله: فما يصنع، استفهام انكارى على سبيل التّقريع و التّوبيخ، و عن في قوله. عمّا قليل، بمعنى بعد، و الضّمير في قوله: انّه ليس آه للشّأن
المعنى
و لمّا كان السّبق إلى الجنّة و النّجاة من النّار لا يحصل إلّا بالتّقوى و بالكفّ عن الفجور أردفه بذكر ثمرات هذين الوصفين و شرح ما يترتّب عليهما من الفضايل و الرّذائل فقال: (اعلموا عباد اللّه أنّ التّقوى دار حصن عزيز و الفجور دار حصن ذليل) قال الشّارح المعتزلي: أى دار حصانة، فأقيم الاسم مقام المصدر هذا و نسبة العزّة و الذّلّة إلى الدّار من التّوسّع باعتبار عزّة من تحصّن بالأوّل و ذلّة من تحصّن بالآخر أمّا الأوّل فلأنّ التقوى تحرز من اتّقى في الدّنيا من الرّذايل المنقصة و القبايح الموقعة له في الهلكات و المخازى، و في الآخرة من النار و غضب الجبّار كالحصن الحصين الذي يحرز متحصّنه من المضارّ و المكاره.
و أما الثاني فلأنّ الفجور يوقع الفاجر في الدّنيا في المعاطب و المهالك و لا ينجيه في الآخرة من العذاب الأليم و السخط العظيم، فهو بمنزلة دار غير وثيق البنيان منهدم الحيطان و الجدران (لا يمنع أهله و لا يحرز من لجأ إليه) و من تحصّن بدار كذلك ليكوننّ ذليلا مهانا لا محالة.
(ألا و بالتّقوى تقطع حمة الخطايا) التشبيه المضمر في النفس للخطايا بالعقارب أو بذوات السموم من الحيوان استعارة بالكناية و ذكر الحمة تخييل و القطع ترشيح و المراد أنّ بالتقوى يتدارك و ينجبر سريان سمّ الخطايا و الآثام في النفوس الموجب لهلاكها الأبد كما يقطع سريان سموم العقارب و الأفاعي في الأبدان بالباد زهر و الترياق و يمنع من نفوذها في أعماق البدن بقطع العضو الملدوغ من موضع اللّدغ، و على رواية حمة بالتشديد فالمقصود أنّ بها تدفع شدّتها و ترفع.
و لمّا نبّه على كون التقوى حاسمة لمادّة الخطايا، و كان بذلك إصلاح القوّة العمليّة نبّه على ما به يحصل إصلاح القوّة النّظرية أعني اليقين فقال: (و باليقين تدرك الغاية القصوى) و إدراكها به لأنّ الانسان إذا كملت قوّته النّظريّة باليقين و قوّته العمليّة بالتّقوى، بلغ الغاية القصوى من الكمال الانساني البتّة.
ثمّ عاد عليه السّلام إلى تحذير العباد تأكيدا للمراد فقال: (عباد اللّه اللّه اللّه) أى راقبوه سبحانه و اتّقوه تعالى (في أعزّ الأنفس عليكم و أحبّها إليكم) الظّاهر أنّ المراد بأعزّ الأنفس عليهم نفسهم، إذ كلّ أحد يحبّ نفسه بالذّات و لغيره بالعرض و التّبع، و لذلك قال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ قدّم الأمر بوقاية النّفس على الأهل لكونها أولى بها من الغير هذا.
و قال الشّارح البحراني: و في الكلام إشارة إلى أنّ للانسان نفوسا متعدّدة و هى باعتبار مطمئنة و أمّارة بالسّوء و لوّامة و باعتبار عاقلة و شهويّة و غضبيّة، و الاشارة إلى الثّلاث الأخيرة و أعزّها النّفس العاقلة إذ هى الباقية بعد الموت و عليها العقاب و فيها العصبيّة.
أقول: كون كلامه عليه السّلام إشارة إلى ما ذكره بعيد غايته (فانّ اللّه قد أوضح لكم سبيل الحقّ و أنار طرقه) و يروى فأبان طرقه، فالعطف للتّفسير يعني أنّه سبحانه أتمّ الحجّة عليكم، و أزال العذر عنه بما بعثه من الأنبياء و الرّسل و أنزله من الزّبر و الكتب، و أبلج لكم نهج الحقّ على لسانهم (ف) لم يبق بعد ذلك إلّا (شقوة لازمة) لمن نكب عنه (أو سعادة دائمة) لمن سلكه كما قال عزّ من قائل إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً.
ثمّ عاد على الحثّ على أخذ الزّاد ليوم المعاد و قال: (فتزوّدوا في أيّام الفناء لأيّام البقاء قد دللتم على الزّاد) أى دلّكم اللّه سبحانه عليه بقوله: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى .
(و أمرتم بالظعنّ) و الرحيل (و حثثتم على المسير) يحتمل أن يكون الظّعن و المسير كنايتين عن ترك الدّنيا و الرّغبة في الآخرة و السّير إليها بالقلوب و النّفوس، فيكون المراد بالأمر و الحثّ ما ورد في الكتاب و السّنة من الآيات و الأخبار المنفّرة من الاولى و المرغبة في الاخرى، و يجوز أن يراد بهما معناهما الحقيقي أعني السّير و الرّحلة إلى الآخرة بالأبدان فيكون الأمر و الحثّ كناية عمّا أو جد اللّه من الأسباب المعدّة لفساد المزاج المقربة إلى الموت، و عن اللّيل و النّهار الحاديين للانسان بتعاقبها إلى وطنه الأصلي على ما مرّ تحقيقا و تفصيلا في شرح الخطبة الثّالثة و السّتين.
(فانّما أنتم كركب وقوف لا تدرون متى تؤمرون بالسّير) لمّا أمرهم بالتّزوّد في الدّنيا علّله بذلك تنبيها على وجوب المبادرة إلى أخذ الزّاد لأنّ المسافر إذا كان زمام أمره بيد غيره و لا يعلم متى يسار به لزم عليه أن يبادر إلى زاده كيلا يفجاه السّفر و يسير بغير زاد فيعطب.
قال الشّارح البحراني: قوله: فانّما أنتم كركب إلى آخره فوجه التّشبيه ظاهر، فالانسان هو النّفس، و المطايا هى الأبدان و القوى النّفسانيّة و الطريق هى العالم الحسيّ و العقلي، و السّير الّذي ذكر ما قبل الموت هو تصرّف النّفس في العالمين لتحصيل الكمالات المعدّة و هى الزّاد لغاية السّعادة الباقية، و أمّا السّير الثّاني الّذي هم وقوف ينتظرون و لا يدرون متى يؤمرون به فهو الرّحيل إلى الآخرة من دار الدّنيا و طرح البدن و قطع عقبات الموت و القبر إذ الانسان لا يعرف وقت ذلك.
(ألا فما يصنع بالدّنيا من خلق للآخرة) الاستفهام في معرض التّنفير عن الدّنيا و التّوبيخ لطالبيها إذ الانسان لمّا كان مخلوقا للآخرة فمقتضى العقل أن يصرف همّته إليها لا إلى الدّنيا الزّائلة عنه عن قليل (و ما يصنع بالمال عمّا قليل يسلبه) و هو في معرض التّنفير عن المال بالتّنبيه على أنّه مسلوب عنه بعد زمان قليل فيزول سريعا لذّته (و يبقى عليه تبعته) أى اثمه (و حسابه) و ما كان هذا وصفه فحرىّ بأن يرفض و يترك لا أن يقتنى و يجمع.
ثمّ رغّب في الخير بقوله (عباد اللّه أنّه ليس لما وعد اللّه من الخير مترك) أى ليس للخيرات و المثوبات الّتي وعدها اللّه سبحانه في كتابه و على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم محلّ لأن تترك رغبة عنها إلى غيرها إذ كلّ خير دونها زهيد، و كلّ نفع عندها قليل كما قال عزّ من قائل: الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا و في سورة آل عمران: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ. هذا و مقصوده عليه السّلام بذلك الكلام التّرغيب في الطّاعات المحصّلة للخيرات الاخرويّة و التّحضيض عليها و على القيام بوظائفها.
ثمّ نفرّ عن الشّر بقوله (و لا فيما نهى عنه من الشّر مرغب) أى ليس في المحرّمات و المعاصى التّي نهى اللّه سبحانه عنها محلّ لأن يرغب فيها مع وجود نهيه و كونها مبغوضة عنده محصّلة للآثام و العقوبات الدّائمة (عباد اللّه احذروا يوما تفحص فيه الأعمال) أى تكشف و تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تودّلو أنّ بينها و بينه أمدا بعيدا (و يكثر فيه الزّلزال) و نظير التّحذير عنه بكثرة الزّلزال التّحذير في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. قال في مجمع البيان معناه يا أيّها العقلاء المكلّفون اتّقوا عذاب ربّكم و اخشوا معصية ربّكم إنّ زلزلة الأرض يوم القيامة أمر عظيم هايل لا يطاق، يوم ترون الزّلزلة أو السّاعة تشغل كلّ مرضعة عن ولدها و تنساه، و تضع الحبالي ما في بطونها و هو تهويل لأمر القيامة و تعظيم لما يكون فيه من الشّدايد أى لو كان ثمّ مرضعة لذهلت أو حامل لوضعت و إن لم يكن هناك حامل و لا مرضعة، و ترى النّاس سكارى من شدّة الخوف و الفزع، و ما هم بسكارى من الشّراب و قيل: معناه كأنّهم سكارى من ذهول عقولهم لشدّة ما يمرّ بهم لأنّهم يضطربون اضطراب السّكران هذا (و) لشدّة ذلك اليوم أيضا (يشيب فيه الأطفال) كما قال تعالى: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً.
قال الطّبرسيّ: و هذا وصف لذلك اليوم و شدّته كما يقال هذا أمر يشيب منه الوليد و تشيب منه النّواصي إذا كان عظيما شديدا.
و قال الشّارح المعتزلي: قوله عليه السّلام و يشيب فيه الأطفال كلام جار مجرى المثل و ليس ذلك على حقيقته لأنّ الامّة مجتمعة على أنّ الأطفال لا يتغيّر حالهم في الآخرة إلى الشّيب، و الأصل في هذا أنّ الهموم و الأحزان إذا توالت على الانسان شاب سريعا قال أبو الطّبيب:
- و الهمّ يخترم الجسيم مخافةو يشيب ناصية الصّبيّ و يهرم
ثمّ عقّب بالتّحذير من المعاصي بقوله (اعلموا عباد اللّه أنّ عليكم رصدا من أنفسكم) أى حرسا و حفظة ملازمين لكم غير منفكّين عنكم، و أراد به الجوارح و الأعضاء، و لذا فسّره بقوله (و عيونا من جوارحكم) مراقبين لكم شهداء عليكم يوم القيامة كما قال تعالى في سورة السّجدة: وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
روى في الصّافي عن القمّي نزلت في قوم تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها فيقولون ما عملنا شيئا منها، فيشهد عليهم الملائكة الّذين كتبوا عليهم أعمالهم قال الصّادق عليه السّلام فيقولون للّه: يا ربّ هولاء ملائكتك يشهدون لك، ثمّ يحلفون باللّه ما فعلوا من ذلك شيئا و هو قول اللّه عزّ و جلّ «يوم يبعثهم اللّه جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم» و هم الّذين غصبوا أمير المؤمنين عليه السّلام فعند ذلك يختم اللّه عزّ و جلّ على ألسنتهم و ينطق جوارحهم فيشهد السّمع بما سمع ممّا حرّم اللّه، و يشهد البصر بما نظر به إلى ما حرّم اللّه عزّ و جلّ، و يشهد اليدان بما أخذتا، و تشهد الرّجلان بما سعتا فيما حرّم اللّه، و يشهد الفرج بما ارتكب ممّا حرّم اللّه، ثمّ أنطق اللّه عزّ و جلّ ألسنتهم، فيقولون هم لجلودهم: لم شهدتم علينا الآية قال: و الجلود الفروج.
و في الصّافي عن القمّي أيضا في تفسير قوله تعالى في سورة يس: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
قال: إذا جمع اللّه عزّ و جلّ الخلق يوم القيامة دفع إلى كلّ إنسان كتابه فينظرون فيه فينكرون أنّهم عملوا من ذلك شيئا، فتشهد عليهم الملائكة، فيقولون، يا ربّ ملائكتك يشهدون لك، ثمّ يحلفون أنّهم لم يعملوا من ذلك شيئا و هو قول اللّه عزّ و جلّ: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ فاذا فعلوا ذلك ختم اللّه على ألسنتهم و تنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون، هذا و بما ذكرنا ظهر لك ضعف ما ذكره الشّارح البحراني بل فساده من أنّ شهادة الجلود و غيرها بلسان الحال و النّطق به، فانّ كلّ عضو لما كان مباشرا لفعل من الأفعال كان حضور ذلك العضو و ما صدر عنه في علم اللّه تعالى بمنزلة الشّهادة القوليّة بين يديه، فانّ ذلك مخالف لظاهر الآية و نصّ الرّواية لدلالتهما على كون الشّهادة بلسان القال لا بلسان الحال كما زعمه الشّارح و توهّم.
و قوله (و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم و عدد أنفاسكم) أراد بهم الكرام الكاتبين قال تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
قال في مجمع البيان: ذكر سبحانه أنّه مع علمه به وكّل به ملكين يحفظان عليه عمله الزاما للحجّة، فقال: إذ يتلقّى المتلقّيان، و هما الملكان يأخذان منه عمله فيكتبانه كما يكتب المملى عليه، عن اليمين و عن الشّمال قعيد، المراد بالقعيد هو الملازم الّذي لا يبرح لا القاعد الّذي هو ضدّ القائم، و قيل: عن اليمين كاتب الحسنات و عن الشّمال كاتب السّيئات عن الحسن و مجاهد، و قيل: الحفظة أربعة: ملكان باللّيل، و ملكان بالنّهار عن الحسن، ما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب عتيد أى ما يتكلّم بكلام فيلفظه أى يرميه من فيه إلّا لديه حافظ حاضر معه يعني الملك الموكّل به إمّا صاحب اليمين و إمّا صاحب الشّمال، يحفظ عمله لا يغيب عنه، و عن أبي أمامة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ صاحب الشّمال ليرفع القلم ستّ ساعات عن العبد المسلم المخطى أو المسى ء، فان ندم و استغفر اللّه منها ألقاها و إلّا كتب واحدة، و في رواية اخرى قال: صاحب اليمين أمير على صاحب الشّمال، فاذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها و إذا عمل سيئة فأراد صاحب الشّمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين: امسك، فيمسك عنه سبع ساعات، فان استغفر اللّه منها لم يكتب عليه شي ء، و إن لم يستغفر اللّه كتب له سيّئة واحدة، هذا و قد علم بذلك أنّه سبحانه مع علمه بحال العبد و كونه أقرب إليه من حبل الوريد وكّل عليه لحكمة اقتضته من تشديد في تثبط العبد من المعصية و تأكيد في اعتبار الأعمال و ضبطها للجزاء و إلزام الحجّة يوم يقوم الأشهاد حفظة صدق يحفظون عمله و يضبطونه و هم ملازمون له غير غائبين عنه أبدا.
كما أشار إليه بقوله (لا تستركم منهم ظلمة ليل داج) أى شديدة الظلمة (و لا يكنّكم) أى لا يستركم (منهم باب ذور تاج) أى باب عظيم مغلق.
|