الفصل الثالث
منها قدّر ما خلق فأحكم تقديره، و دبّره فألطف تدبيره، و وجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته، و لم يقصر دون الانتهاء إلى غايته، و لم يستصعب إذ أمر بالمضيّ على إرادته، و كيف و إنّما صدرت الامور عن مشيّة المنشي ء أصناف الأشياء بلا رويّة فكر آل إليها، و لا قريحة غريزة أضمر عليها، و لا تجربة أفادها من حوادث الدّهور، و لا شريك أعانه على ابتداع عجائب الامور، فتمّ خلقه و أذعن لطاعته، و أجاب إلى دعوته، و لم يعترض دونه ريث المبطى، و لا أناة المتلكِّي، فأقام من الأشياء أودها، و نهج حدودها، و لائم بقدرته بين متضادّها، و وصل أسباب قرائنها، و فرّقها أجناسا مختلفات، في الحدود و الأقدار و الغرائز و الهيئات، بدايا (برايا خ ل) خلايق أحكم صنعها، و فطرها على ما أراد و ابتدعها.
اللغة
(التدبير) في الامور النّظر إلى ما يؤل إليه عاقبتها و (وجهة) الشي ء بالكسر جهة الشّي ء يتوجّه اليها قال تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها.
و (قصر) السهم عن الهدف إذا لم يبلغه و قصرت عن الشي ء أى عجزت عنه و (دون) الشّي ء أى قريبا منه و قبل الوصول إليه و (آل) إليه رجع و (الغريزة) الطبيعة و (قريحة الغريزة) ما يستنبطه الذّهن.
قال الجوهريّ: القريحة أوّل ما يستنبط من البئر و منه قولهم: لفلان قريحة جيّدة يراد استنباط العلم بجودة الطبع و (أضمر عليها) أى بلغ الغاية و استقصى عليها من الاضمار بمعنى الاستقصاء، و قيل: من الاضمار بمعنى الاخفاء و ليس بشي ء لتعدّيه بنفسه يقال أضمره و أخفاه و لا يقال: أخفى و أضمر عليه و (الافادة) الاستفادة و (اعترض) الشي ء دون الشي ء حال، و اعترض صار كالخشبة المعترضة في النهر و (الريث) الابطاء و (الاناة) كقتاة: الحلم و الوقار مأخوذ من تأنّي في الأمر أى تثبّت و (تلكّاء) عليه اعتلّ و عنه أبطأ و (الاود) محركة الاعوجاج و (قرائنها) جمع القرينة و هي الأنفس و يحتمل أن يراد بها مقارنات الأشياء كما تطلع عليه.
قال الشّارح المعتزلي: و (بدايا) ههنا جمع بدية و هي الحالة العجيبة بدأ الرّجل إذا جاء بالأمر البدى ء أى المعجب و البدية أيضا الحالة المبتكرة المبتدئة و منه قولهم فعله بادى بدي ء على وزن فعل أي أوّل كلّ شي ء.
الاعراب
قوله: و كيف استفهام على سبيل الانكار و إنما صدرت جملة حالية و العامل محذوف أى كيف يستصعب و إنّما صدرت الامور، و جملة لم يعترض حال أيضا من فاعل المصدر أعني دعوته، قوله: أجناسا حال من مفعول فرّق أو منصوب بنزع الخافض أي فرّقها بأجناس أو على أجناس مختلفة، و قوله: بدايا خلايق خبر لمبتدأ محذوف أى هي بدايا خلايق، و اضافة بدايا إلى خلايق من باب اضافة الصّفة إلى موصوفها، قال الشّارح المعتزلي: و يجوز أن لا يكون بدايا إضافة إليها بل يكون بدلا من اجناسا.
أقول: فعلى هذا الاحتمال تكون بدايا صفة ثانية لأجناسا و ما ذكرناه أظهر فتدبّر.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة متضمن لتنزيه اللَّه سبحانه في كيفية ايجاده للأشياء و خلقه لها عن صفات المصنوعين، و فيه تنبيه على كون المخلوقين مذلّين لانقياد حكمه، مطيعين لأمره، ماضين على ارادته، غير متمرّدين عن طاعته كما قال عليه السّلام: (قدّر ما خلق فأحكم تقديره) يعني أنّ كلّ مخلوق قدّره في الوجود فعلى وفق حكمته بحيث لو زاد على ذلك المقدار أو نقص منه لاختلّت مصلحة ذلك المقدّر و تغيّرت جهة المنفعة فيه (و دبّره فألطف تدبيره) يعني أنّه أوجد الأشياء على وفق المصلحة و نظام الخير فتصرّف فيها تصرّفات كلّية و جزئيّة من غير شعور غيره ذلك.
(و وجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته و لم يقصر دون الانتهاء إلى غايته) أراد أنّه سبحانه وجّه كلّ ما خلق إلى الجهة التي وجّهه إليها، و ألهم كلّا و يسّره لما خلق له، كالسحاب للمطر و الحمار للحمل و النّحل للشمع و العسل و هكذا فلم يتجاوز شي ء منها مرسوم تلك المنزلة المحدودة له المعيّنة في حقّه، و لم يقصر دون الانتهاء إلى الغاية التي كتبت له في اللّوح المحفوظ و إلّا لزم التّغيّر في علمه و عدم النفاذ في أمره و هما محالان.
(و لم يستصعب إذ أمر بالمضيّ على إرادته) أى لم يستصعب أحد من المخلوق التّوجّه إلى الجهة التي وجّهه إليها، و لم يمكنه التّخلّف من المضيّ اليها على وفق إرادته و حكمته بعد أمره له بذلك أمر تكوين لا تشريع. (و كيف) يستصعب و يتخلّف (و إنّما صدرت الامور عن مشيّة المنشي أصناف الأشياء) يعني أنّ جميع الآثار مستند إلى مشيّة إذ كلّ أثر فهو واجب عن مؤثّره و الكلّ منته في سلسلة الحاجة إلى إرادته فهو واجب عنها.
و يدلّ عليه ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذينة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة.
و سيأتي تحقيق الكلام في ذلك بعد الفراغ من شرح الفصل، هذا و قوله عليه السّلام (بلا رويّة فكر آل إليها و لا قريحة غريزة أضمر عليها و لا تجربة أفادها من حوادث الدّهور و لا شريك أعانه على ابتداع عجائب الامور) إشارة إلى تنزّهه في ايجاد المخلوقات عن الافتقار إلى هذه الامور، و أنّ ذاته بذاته مصدر جميع الامور و أنّ خلقه سبحانه لها غير موقوف على شي ء منها.
أمّا رويّة الفكر فلأنها عبارة عن حركة القوّة المفكّرة في تحصيل المطالب من المبادي و انتقالها منها إليها و هي محال على اللَّه سبحانه: «أمّا أوّلا» فلكون القوّة المفكّرة من خواصّ نوع الانسان «و أمّا ثانيا» فلأنّ فايدتها تحصيل المطالب المجهولة من المعلومات و الجهل محال في حقه تعالى و أمّا قريحة الغريزة فلانّها على ما عرفت عبارة عن استنباط العلم بجودة الذهن، و استحالته على اللَّه واضحة إذ العلم عين ذاته و هو تعالى غير فاقد له حتّى يكون محتاجا إلى التّعمق و الاستنباط و النظر في موارده و مصادره و الاستقصاء عليه و بلوغ الغاية فيه و أمّا التجربة فلأنّها عبارة عن حكم العقل بأمر على أمر بواسطة مشاهدات متكرّرة معدّة لليقين بسبب انضمام قياس خفيّ إليها، و هو أنّه لو كان هذا الأمر اتفاقيّا لما كان دائما أو أكثريّا و استحالتها على اللَّه من وجهين: أحدهما أنّها، مركبة من مقتضى الحسّ و العقل، و ذلك أنّ الحسّ يشاهد وقوع الاسهال مثلا عقيب شرب الدّواء مرّة بعد مرّة فينتزع العقل من تلك المشاهدة حكما كلّيا بأنّ ذلك الدّواء مسهل و معلوم أنّ اجتماع الحسّ و العقل من خصايص نوع الانسان و ثانيهما أنّ التّجربة إنما تفيد علما لم يكن قبل فالمحتاج إلى التجربة لاستفادة العلم بها ناقص بذاته مستكمل بها و المستكمل بالغير محتاج إليه فيكون ممكنا و أمّا الشريك المعين فلانتفاء الشريك أوّلا كما مرّ في شرح الفصل الرابع من فصول الخطبة الاولى، و لانتفاء مبدء الاستعانة ثانيا لأنّ مبدئها هو العجز من الفعل و العجز عبارة عن تناهي القوّة و القدرة، و قدس الحقّ منزّه عن ذلك.
فقد وضح و اتّضح بذلك كلّ الوضوح أنّ اللَّه سبحانه غير محتاج في ابداع الخلايق و ايجادها إلى الفكر و الرّوية، و لا قريحة الطّبيعة و لا تجربة و لا مشاركة و إنّما مستند الايجاد نفس الارادة و المشيّة و أنّه سبحانه إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
(فتمّ خلقه) بمشيّته (و أذعن) الكلّ (لطاعته) بمقتضا امكانه و حاجته (و أجاب) الجميع (إلى دعوته) حيث دعاهم إلى بساط الوجود بمقتضا عموم الافاضة و الجود (و) الحال انّه (لم يعترض دونه ريث المبطئ و لا أناة المتلكّى) أى لم يحل دون نفاذ أمره إبطاء المبطئ و لا تثبّت المتوقّف المعتلّ بل انقاد له جميع الأشياء و أسرعوا إلى أمره عند الدّعاء من غير تعلّل و لا إبطاء لكون الكلّ مقهورا تحت قدرته أذلّة تحت عزّته كما قال عزّ من قائل: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
يعنى أنّه إذا أراد فعله و خلقه يقول له ذلك بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكّر، فقوله كن اشارة إلى هبة ما ينبغي لذلك المأمور و بذل ما يعدّه لاجابة أمره بالكون في الوجود، و قوله: فيكون إشارة إلى وجوده، و الفاء المقتضية للتعقيب بلا مهلة دليل على اللّزوم و عدم التأخّر، هذا.
و يحتمل أن يكون المراد بنفي اعتراض الرّيث و الاناة نفي اعتراضهما بالنّظر إلى ذاته من حيث فاعليته، فيكون المقصود بذلك تنزيهه من أن يعرض له شي ء من هذه الكيفيّات كما يعزض على أحدنا إذا أردنا فعل شي ء من حيث قصور قدرتنا و ضعف قوّتنا (فأقام من الأشياء أودها) و اعوجاجها، و إقامتها كناية عن اعداده ما ينبغي لها و إفاضته الكمال بالنسبة إليها (و نهج حدودها) و غاياتها أراد به ايضاحه لكلّ شي ء وجهته و تيسيرها له (و لائم بقدرته بين متضادّها) كما جمع بين العناصر الأربعة على تضادّ كيفيّتها في مزاج واحد (و وصل أسباب قرائنها) و نفوسها بتعديل أمزجتها لأنّ اعتدال المزاج سبب بقائها.
قال الشارح البحراني: و يحتمل أن يكون معنى الوصول لأسبابها هدايتها إلى عبادته و ما هو الأولى بها في معاشها و معادها و سوقها إلى ذلك، إذ المفهوم من قول القائل: وصل الملك أسباب فلان إذا علّقه عليه و وصله إلى برّه و انعامه، هذا إن جعلنا القراين بمعنى الأنفس و إن كانت بمعنى مقارنات الشي ء فهو إشارة إلى أنّ الموجودات لا تنفكّ عن أشياء يقترن بها من هيئة أو شكل أو غريزة و نحوها، و اقتران الشيئين لا محالة مستلزم لاقتران أسبابهما، لاستحالة قيام الموجود بدون أسبابه، و ذلك الاقتران و الاتّصال مستند إلى كمال قدرته إذ هو مسبب الأسباب.
(و فرّقها أجناسا مختلفات في الحدود و الاقدار و الغرايز و الهيئات) أى جعلها أقساما مختلفة النهايات و المقادير متفاوتة الطبايع و الصفات، فجعل بعضها طويلا و بعضها قصيرا و بعضها صغيرا و بعضها كبيرا، و جعل سجيّة بعضها شجاعا و بعضها جبانا و بعضها شحيحة و بعضها كريمة و هيئة بعضها حسنة و بعضها قبيحة و هكذا، هذا ان كان الحدود في كلامه عليه السّلام بمعنى النهايات قال الشارح البحرانيّ: و إن حملنا الحدود على ما هو المتعارف كان حسنا، فانّ حكمة الخالق سبحانه اقتضت تميّز بعض الموجودات عن بعض بحدودها و حقايقها، و بعضها بأشكالها و هيئاتها و مقاديرها و غرائزها و اخلاقها كما يقتضيه نظام الوجود و أحكام الصّنع و حكم الارادة الالهيّة.
(بدايا خلايق أحكم صنعها و فطرها على ما أراد و ابتدعها) أى هي مخلوقات عجيبة أو مبتكرة غير محتذى بها حذو خالق سابق، جعل صنعها محكما متقنا، و أوجدها على وفق ارادته و أبدعها من العدم المحض إلى الوجود من دون أن تكون لها مادّة أصلا لها كما زعمت الفلاسفة من أنّ الأجسام لها أصل أزلىّ هي المادّة فهو المخترع للممكنات بما فيها من المقادير و الأشكال و الهيآت، و المبتدع للموجودات بمالها من الحدود و الغايات و النّهايات بمحض القدرة على وفق الارادة و مقتضى الحكمة.
تنبيه
اعلم أنّه لما جرى في هذا الفصل ذكر حديث صدور الأشياء عن مشيّته سبحانه أحببت تنقيح ذلك المرام و عزمت على تحقيق الكلام في هذا المقام لكونه من مزالّ الأقدام.
فأقول: و باللّه التكلان و هو المستعان إنّ الكلام في هذا الباب يقع في مقامات ثلاثة.
المقام الاول
في معنى المشيّة، و قد فسّرها أهل اللغة بالارادة قال في القاموس: شئته إشائه شيئا و مشيئة و مشائة و مشائية أرادته، و في مجمع البحرين: و المشيّة الارادة من شاء زيد يشاء من باب قال أراد، و في المصباح شاء زيد الأمر يشائه شيئا من باب قال أراده، و المشيئة اسم منه بالهمز، و الادغام غير سايغ إلّا على قياس من يحمل الأصلى على الزّايد لكنّه غير منقول و نحوها في ساير كتب اللغة.
و أما في الأخبار و أحاديث أئمّتنا الأبرار الأخيار فتارة اطلقتا على معنى واحد مثل ما رواه الطريحي عن الرّضا عليه السّلام ان الابداع و المشية و الارادة معناها واحد و الأسماء ثلاثة، و اخرى و هو الأكثر على معنيين مختلفين يجعل مرتبة المشية متقدّمة على مرتبة الارادة و كون نسبتها إليها نسبة القوّة إلى الضعف.
و يدلّ عليه ما رواه المحدّث المجلسيّ من المحاسن للبرقي قال: حدثني أبي عن يونس عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: قلت: لا يكون إلّا ما شاء اللَّه و أراد و قضى فقال عليه السّلام: لا يكون إلّا ما شاء اللَّه و قدّر و قضى، قلت: فما معنى شاء قال: ابتداء الفعل، قلت: فما معنى أراد قال عليه السّلام: الثبوت عليه، قلت: فما معنى قدّر قال: تقدير الشي ء من طوله و عرضه، قلت: فما معنى قضى قال عليه السّلام: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مردّ له.
و رواه في الكافي مسندا عن عليّ بن إبراهيم الهاشمي عن أبي الحسن موسى ابن جعفر عليهما السّلام نحوه إلّا أنّه ليس فيه قوله: قلت: فما معنى أراد قال الثبوت عليه، و لعلّه سقط من الكتاب و الظّاهر أنّ مراده منه هو ما ذكرنا كما فهمه شرّاح الحديث.
قال في مرآت العقول: قوله عليه السّلام: ابتداء الفعل أى أوّل الكتابة في اللّوح المحفوظ أو أوّل ما يحصل من جانب الفاعل و يصدر عنه ممّا يؤدّي إلى وجود المعلول و على ما في المحاسن يدلّ على أنّ الارادة تأكّد المشيّة و في اللَّه سبحانه تكون عبارة عن الكتابة في الألواح و تسبيب أسباب وجوده، و قوله: تقدير الشي ء، أى تعيين خصوصيّاته في اللّوح أو تعيين بعض الأسباب المؤدّية إلى تعيين المعلول و تحديده و خصوصيّاته إذا قضى أمضاه، أى إذا أوجبه باستكمال شرايط وجوده و جميع ما يتوقّف عليه المعلول أوجده، و ذلك الذي لا مردّ له لاستحالة تخلّف المعلول عن الموجب التّام.
و قال الصّالح المازندراني في شرحه على أصول الكافي: لما كان قوله عليه السّلام: لا يكون شي ء إلّا ما شاء اللَّه، دالّا بحسب الظاهر على أنّ المعاصي تقع بمشيّته تعالى و إرادته و هذا لا يستقيم على المذهب الحقّ، سأل السائل عن معنى المشيّة حتى يظهر له وجه الاستقامة، فأجاب عليه السّلام بأنّ المشيّة ابتداء الفعل و أوله، و لعلّ المراد بابتداء الفعل أنّ مشيّته تعالى أوّل فعل من الأفعال، و كلّ فعل غيرها يتوقّف عليها و يصدر بعدها كما يدلّ عليه ما عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة، يعني خلق أفعاله بها و كذا خلق أفعال عباده لكن بتوسط مشيّة جازمة صادرة منهم، فاذا سلسلة جميع الأفعال منتهية إلى مشيّته تعالى، و المراد به أنّ مشيّته أوّل المشيئات، و كلّ مشيّة سواها تابعة لها، كما أنّه تعالى هو الفاعل الأوّل و كلّ فاعل بعدها فاعل ثانوى يسند فعله إليه بلا واسطة، و إلى الفاعل الأوّل بواسطة، و هذا معنى مشيّته تعالى لأفعال العباد و معنى اسناد فعلهم إلى مشيّته.
و في محاسن البرقي بعد هذا السؤال و الجواب قلت: فما معنى أراد قال: الثبوت عليه، يعنى على ابتداء الفعل و من ههنا فسرّ بعضهم الارادة تارة بأنّها عزيمة على المشيّة، و تارة بأنها الاتمام لها، و تارة بأنّها الجدّ عليها.
و قال صدر المتألّهين: نسبة المشيّة إلى الارادة كنسبة الضعف إلى القوّة و نسبة الظنّ إلى الجزم، فانّك ربما تشاء أشياء و لا تريده، فظهر أنّ المشيّة ابتداء العزم على الفعل هذا.
و في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبيه و محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسين بن سعيد و محمّد بن خالد جميعا عن فضالة بن أيوب عن محمّد بن عمارة عن حريز بن عبد اللَّه و عبد اللَّه بن مسكان جميعا عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: لا يكون شي ء في الأرض و لا في السّماء إلّا بهذه الخصال السّبع: بمشيّة، و إرادة، و قدر، و قضاء، و اذن، و كتاب، و أجل، فمن زعم أنّه يقدر على نقص واحدة فقد كفر.
قال في مرآت العقول: يمكن حمل الخصال السبع على اختلاف مراتب التقدير في الألواح السّماويّة، أو اختلاف مراتب تسبب الأسباب السّماويّة و الأرضيّة، أو يكون بعضها في الامور التكوينيّة و بعضها في الأحكام التكليفيّة، أو كلّها في الامور التكوينيّة.
فالمشيّة و هي العزم و الارادة و هي تأكّدها في الأمور التكوينيّة ظاهرتان و أمّا في التكليفيّة فلعلّ عدم تعلّق الارادة الحتميّة بالترك عبّر عنه بارادة الفعل مجازا.
و الحاصل أنّ الارادة متعلّقة بالأشياء كلّها لكن تعلّقها بها على وجوه مختلفة إذ تعلّقها بأفعال نفسه بمعنى ايجادها و الرضا بها و الأمر بها، و بالمباحاة بمعنى الرّخصة بها، و بالمعاصي إرادة أن لا يمنع منها بالجبر لتحقّق الابتلاء و التكليف كما قال تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا.
أو يقال تعلّقها بأفعال العباد على سبيل التجوّز باعتبار ايجاد الآلة و القدرة عليها و عدم المنع منها فكانّه أرادها.
و بالقدر تقدير الموجودات طولا و عرضا و كيلا و وزنا و حدّا و وصفا و كمّا و كيفا، و بالقضاء الحكم عليها بالثواب و العقاب أو تسبيب أسبابه البعيدة كما مرّ و المراد بالاذن إما العلم أو الأمر في الطّاعات أو رفع الموانع، و بالكتاب الكتابة في الألواح السّماوية أو الفرض و الايجاب كما قال تعالى: كتب عليكم الصّيام، و كتب على نفسه الرّحمة، و بالأجل الأمد المعيّن و الوقت المقدّر عنده تعالى.
و في الكافي أيضا عن الحسين بن محمّد عن معلّى بن محمّد قال: سئل العالم عليه السّلام كيف علم اللَّه قال: علم و شاء و أراد و قدّر و قضى و أمضى، فأمضى ما قضى و قضى ما قدّر و قدّر ما أراد، فبعلمه كانت المشيّة، و بمشيّته كانت الارادة، و بارادته كان التقدير، و بتقديره كان القضاء، و بقضائه كان الامضاء الحديث.
قال صدر المتألّهين في شرحه: هذا السّائل سأله عليه السّلام عن كيفيّة علمه تعالى بالجزئيات الزّمانيّة و المكانيّة، فأجابه عليه السّلام عنها بما أفاده من المراتب السّتة المرتّب بعضها على بعض. أوّلها العلم، لأنه المبدأ الأوّل لجميع الأفعال الاختياريّة، فانّ الفاعل المختار لا يصدر عنه فعل إلّا بعد القصد و الارادة، و لا يصدر عنه القصد و الارادة إلّا بعد تصوّر ما يدعوه إلى ذلك الميل و تلك الارادة و التّصديق به تصديقا جازما أو ظنا راجحا، فالعلم مبدء مبادى الأفعال الاختياريّة، و اعلم أنّ المراد بهذا العلم المقدّم على المشيّة و الارادة و ما بعدهما بحسب الاعتبار أو التحقّق هو العلم الأزلىّ الذاتي الالهيّ أو القضائي المحفوظ عن التغيّر، فينبعث منه ما بعده و أشار إليه بقوله: علم، أى علم دائما عن غير زوال و تبدّل.
و ثانيها المشيّة، و المراد بها مطلق الارادة سواء بلغت حدّ العزم و الاجماع أم لا، و قد ينفكّ المشيّة فينا عن الارادة الجازمة كما نشتاق أو نشتهى شيئا و لا نعزم على فعله لمانع عقليّ أو شرعيّ و إليها أشار بقوله: و شاء و ثالثها الارادة، و هي العزم على الفعل أو الترك بعد تصوّره و تصوّر غاية المترتبة عليه من خير أو نفع أو لذّة، لكنّ اللَّه برى ء عن أن يفعل لأجل غرض يعود إلى ذاته و إليها الاشارة بقوله: أراد.
و رابعها التقدير، فانّ الفاعل لفعل جزئيّ من أفعال طبيعة واحدة مشتركة إذا عزم على تكوينه في الخارج كما إذا عزم الانسان على بناء بيت فلا بدّ قبل الشروع أن يعيّن مكانه الذي يبنى عليه، و زمانه الذي يشرع فيه، و مقداره الذي يكوّنه عليه من كبر أو صغر أو طول أو عرض، و شكله و وصفه و لونه و غير ذلك من صفاته و أحواله، و هذه كلّها داخلة في التقدير.
و خامسها القضاء، و المراد هنا ايجاب الفعل و اقتضاء الفعل من القوّة الفاعلة المباشرة، فانّ الشي ء ما لم يجب لم يوجد، و هذه القوّة الموجبة بوقوع الفعل منّا هي القوّة التي تقوم في العضلة و العصب من العضو الذي توقع القوّة الفاعلة فيها قبضا و تشنّجا أو بسطا و إرخاء أوّلا فيتبعه حركة العضو فتتبعه صورة الفعل في الخارج من كتابة أو بناء أو غيرهما، و الفرق بين هذا الايجاب و بين وجود الفعل في العين كالفرق بين الميل الذي في المتحرّك و بين حركته، و قد ينفكّ الميل كما تحسّ يدك من الحجر المسكن باليد في الهواء، و معنى هذا الايجاب و الميل من القوّة المحرّكة أنه لو لا هناك اتفاق مانع أو دافع من خارج لوقعت الحركة ضرورة إذ لم يبق من جانب الفاعل شي ء منتظر فقوله عليه السّلام: و قضى، إشارة إلى هذا الاقتضاء و الايجاب الذي ذكرنا أنه لا بدّ من تحقّقه قبل الفعل قبليّة بالذّات لا بالزّمان إلّا أن يدفعه دافع من خارج، و ليس المراد منه القضاء الأزلي لأنه نفس العلم، و مرتبة العلم قبل المشيّة و الارادة و التقدير.
و سادسها نفس الايجاد و هو أيضا متقدّم على وجود الشي ء المقدّر في الخارج و لهذا يعدّه أهل العلم و التحقيق من المراتب السّابقة على الوجود الممكن في الخارج فيقال أوجب فوجب. فأوجد فوجد.
فان قلت: أليس الايجاد و الوجود و كذا الايجاب و الوجوب متضايفين و المتضايفان معان في الوجود قلت: المتضايفان و إن كانا من حيث مفهوميهما الاضافيّين و من حيث اتّصاف الذاتين بهما معا كما ذكرت، لكنّ المراد ههنا ليس حال المفهومين، فانّ كلّا من الموجد بالفعل أو المقتضى أو المحرّك قد يراد به المعنى الاضافي و المفهوم النّسبي و حكمه كما ذكرت من كون تحقّقه مع تحقّق ما اضيف إليه من حيث إنه اضيف إليه، و قد يراد به كون الشي ء بحيث يكون وجوده مستتبعا لوجود شي ء آخر و هذا الكون لا محالة متقدّم على كون شي ء آخر هو تابعه و مقتضاه الموجود بسبب هذا الاقتضاء أو الايجاد.
كما في تحريك اليد بحركتها للمفتاح، تقول: تحرّك اليد فتحرّك المفتاح فانّ الفاء يدلّ على الترتيب و إن كانا معا في الزّمان و ربما يتقدّم المقتضي على المقتضي زمانا في عالم الاتفاقات إذا كان هناك مانع من خارج كما في المثال الذي ذكرناه و كما في اقتضاء الشمس لاضائة ما يحاذيها من وجه الأرض فحال بينهما حائل، فعدم استضاءة ذلك الموضع ليس لأجل فتور أو نقصان في جانب المقتضي، لأنّ حاله في الاقتضاء و الاضائة لم يتغيّر عما كان، و إنّما التخلّف في الاستضائة لأجل شي ء من جانب القابل، فقوله عليه السّلام: فأمضى، اشارة إلى هذا الايجاد الذي بيّنا أنه قبل الوجود و الصدور.
المقام الثاني
في تحقيق أنّ المشية و الارادة من صفات الفعل لا من صفات الذات، و توضيح ذلك موقوف على رسم مقدّمة متضمنة لقاعدة كلّية بها يعرف الفرق بين صفات الذات و صفات الفعل، و قد أشار إليها ثقة الاسلام الكليني عطّر اللَّه مضجعه في الكافي أيضا و هي: أنّ الفرق بينهما من وجوه ثلاثة: الأوّل أنّ كلّ صفة وجودية لها مقابل وجوديّ فهي من صفات الفعل لا من صفات الذات، لأنّ صفاته الذاتية كلّها عين ذاته و ذاته مما لا ضدّ له، فكذلك كلّما هو عين ذاته، مثال ذلك أنّك تقول: إنّ اللَّه سبحانه رضي و سخط و أحبّ و أبغض و أحيى و أمات، و هكذا و لا يجوز أن تقول: علم و جهل و قدر و عجز و عزّ و ذلّ، فبذلك يعرف أنّ الحبّ و الاحياء و الرّضا من صفات الفعل لأنّ البغض و الاماتة و السّخط مقابلاتها ناقضات لها، فلو كانت من صفات الذّات لزم أن يكون مقابلاتها ناقضات للذّات الأحدية و هو محال، لأنّه لا ضدّ له كما لا ندّ له فاتصاف ذاته بصفتين ذاتيّتين متقابلتين محال.
الثّاني أنّ كلّ صفة صحّ تعلّق القدرة بها فهي من صفات الفعل و كلّما لا تصحّ تعلّقها بها فهي صفة الذات، و ذلك لأنّ القدرة صفة ذاتيّة تتعلّق بالممكنات لا غير، فلا تتعلّق بالواجب و لا بالممتنع، فكلّ ما هو صفة الذات فهو أزليّ غير مقدور و كلّما هو صفة الفعل فهو ممكن مقدور فيصح أن تقول: يقدر أن يخلق و أن لا يخلق و يقدر أن يميت و يحيى و أن يثيب و يعاقب و هكذا، و لا يصحّ أن تقول: يقدر أن يعلم و أن لا يعلم، لأنّ علمه بالأشياء ضروريّ واجب بالذّات، و عدم علمه بها محال ممتنع بالذات و مصحّح المقدوريّة هو الامكان، و مثله صفة الملك و العزّة و العظمة و الكبرياء و الجلال و الجمال و الجبروت و أمثالها. الثّالث أنّ كلّ صفة صحّ تعلّق الارادة بها فهي صفة فعل، و ما لا يصحّ تعلّقها بها فهي صفة الذّات، و ذلك لأنّ الارادة من توابع القدرة إذ هي عبارة عن اختيار أحد طرفي المقدور و العزم عليه لأجل تحقّق الدّاعي، فما لا يكون مقدورا لا يكون مرادا، و أيضا الارادة صفة فعل حادثة و الحادث لا يؤثر في القديم.
إذا عرفت هذه المقدّمة الشريفة فأقول:
إنّ الارادة كما حقّقه صدر المتألّهين في شرح الكافي تطلق على معنيين:
أحدهما ما يفهمه الجمهور
و هو الذي ضدّه الكراهة، و هي التي قد تحصل فينا عقيب تصوّر الشي ء الملايم و عقيب التردّد حتى يترجّح عندنا الأمر الداعي إلى الفعل أو الترك فيصدر أحدهما منا، و هذا المعنى فينا من الصفات النفسانية، و هى و الكراهة فينا كالشهوة و الغضب فينا، و هذا المعنى لا يجوز على اللَّه سبحانه، بل ارادته نفس صدور الأفعال الحسنة منه من جهة علمه بوجه الخير و كراهته عدم صدور الفعل القبيح من جهة علمه بقبحه.
كما قال المفيد (ره): إنّ الارادة من اللَّه جلّ اسمه نفس الفعل و من الخلق الضمير و أشباهه مما لا يجوز إلّا على ذوى الحاجة و النقص و ذلك لأنّ العقول شاهدة بأنّ القصد لا يكون إلّا بقلب كما لا تكون الشهوة و المحبّة إلّا لذي قلب و لا تصحّ النيّة و الضمير و العزم إلّا على ذيخاطر يضطرّ معه في الفعل الذى يقلب عليه إلى الارادة له و النّية فيه و العزم و لما كان اللَّه تعالى يجلّ عن الحاجات و يستحيل عليه الوصف بالجوارح و الأدوات و لا يجوز عليه الدّواعى و الخطرات، بطل أن يكون محتاجا في الأفعال إلى القصود و العزمات، و ثبت أنّ وصفها بالارادة مخالف في معناه لوصف العباد و أنها نفس فعله الأشياء و بذلك جاء الخبر عن أئمة الهدى.
ثمّ اورد رواية صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أخبرني عن الارادة من اللَّه و من الخلق قال: فقال عليه السّلام: الارادة من الخلق الضمير«» و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من اللَّه تعالى فارادته إحداثه لا غير ذلك، لأنّه تعالى لا يروّي و لا يتفكّر و لا يهمّ و هذه الصّفات منتفية عنه و هي صفات الخلق فارادة اللَّه تعالى الفعل يقول له كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكر و لا كيف لذلك كما لا كيف له تعالى.
المعنى الثاني للارادة
كون ذاته سبحانه بحيث يصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها التابع لعلمه بذاته، لا كاتباع الضؤ للمضي ء و السخونة للمسخن، و لا كفعل الطبايع لا عن علم و شعور، و لا كفعل المجبورين و المسّخرين، و لا كفعل المختارين بقصد زايد أو ارادة ظنيّة يحتمل الطرف المقابل.
و قد تحقّقت أنّ قيّوم الكلّ إنّما يفعل الكلّ عن علم هو نفس ذاته العليم الذي هو أتمّ العلوم، فاذا هو سبحانه فاعل للأشياء كلّها بارادة ترجع إلى علمه بذاته المستتبع لعلمه بغيره المقتضى لوجود غيره في الخارج لا لغرض زايد و جلب منفعة أو طلب محمدة أو ثناء أو التخلّص من مذمّة، بل غاية فعله محبة ذاته فهذه الأشياء الصادرة عنه كلّها مرادة لأجل ذاته لأنها من توابع ذاته و علمه بذاته، فلو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما يصدر عنه معشوقا لك لأجل ذلك الشّي ء.
و إليه الاشارة بما ورد في الحديث الالهي عن نفسه: كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف.
و إذا ظهر لك ذلك اتّضح عندك أنّ الارادة بالمعنى الثاني لا غبار على كونها من صفات الذّات لكونها عبارة اخرى للعلم بالأصلح و النّظام الخير و العلم صفة ذات له سبحانه، و بالمعنى الأول هي صفة فعل و لذلك صحّ سلبها عنه سبحانه.
و يشهد به ما رواه في الكافي باسناده عن عاصم بن حميد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قلت: لم يزل اللَّه مريدا قال: إنّ المريد لا يكون إلّا المراد معه، لم يزل اللَّه عالما قادرا ثم أراد.
فانّه كما ترى يدلّ على كونها من الصّفات الاضافيّة المتجدّدة كخالقيّته تعالى و رازقيّته، و يشهد به أخبار اخر أيضا لا حاجة إلى إيرادها بعد وضوح المراد.
المقام الثالث
في تحقيق الحديث المعروف المرويّ في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذينة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة.
و قد ذكروا في تأويله وجوها أشار إليها المحدّث العلّامة المجلسيّ طاب رمسه في مرآت العقول.
الأوّل أن لا يكون المراد بالمشيّة الارادة بل احدى مراتب التّقديرات التي اقتضت الحكمة جعلها من أسباب وجود الشّي ء، كالتّقدير في اللّوح مثلا و الاثبات فيه، فانّ اللّوح و ما أثبت فيه لم يحصل بتقدير اخر فى لوح سوى ذلك اللّوح و إنما وجد ساير الأشياء بما قدّر في ذلك اللّوح و ربما يلوح هذا المعنى من بعض الأخبار، و على هذا المعنى يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير.
الثّاني أن يكون خلق المشيّة بنفسها كناية عن كونها لازمة لذاته تعالى غير متوقّفه على تعلّق إرادة اخرى بها، فيكون نسبة الخلق إليها مجازا عن تحقّقها بنفسها منتزعة عن ذاته تعالى بلا توقّف على مشيّة اخرى، أو أنه كناية عن أنّه اقتضى علمه الكامل و حكمته الشّاملة كون جميع الأشياء حاصلة بالعلم بالأصلح، فالمعنى أنه لما اقتضى كمال ذاته أن لا يصدر عنه شي ء إلّا على الوجه الأصلح و الأكمل فلذا لا يصدر شي ء عنه تعالى إلّا بارادته المقتضية لذلك.
الثالث ما ذكره السيّد داماد قدّس اللَّه روحه و هو: أنّ المراد بالمشيّة هنا مشيّة العباد لأفعالهم الاختيارية، لتقدّسه تعالى عن مشيّة مخلوقة زايدة على ذاته عزّ و جلّ و بالأشياء أفاعيلهم المترتّب وجودها على تلك المشيّة، و بذلك تنحلّ شبهة ربما اوردت ههنا، و هي: أنه لو كانت أفعال العباد مسبوقة بارادتهم لكانت الارادة مسبوقة بارادة اخرى و تسلسلت الارادات لا إلى نهاية.
الرّابع ما ذكره بعض الأفاضل و هو: أنّ للمشيّة معنيين أحدهما متعلّق بالشّائى و هي صفة كمالية قديمية هي نفس ذاته سبحانه، و هي كون ذاته سبحانه بحيث يختار ما هو الخير و الصّلاح و الاخر يتعلّق بالمشي ء و هو حادث بحدوث المخلوقات لا تتخلّف المخلوقات عنه، و هو ايجاده سبحانه إيّاها بحسب اختياره، و ليست صفة زايدة على ذاته عزّ و جلّ و على المخلوقات بل هي نسبة بينهما تحدث بحدوث المخلوقات لفرعيّتها على المنتسبين معا فنقول إنه لما كان ههنا مظنّة شبهة هي: أنه إن كان اللَّه عزّ و جلّ خلق الأشياء بالمشيّة فبم خلق المشيّة أبمشيّة اخرى فيلزم أن تكون قبل كلّ مشيّة مشيّة إلى ما لا نهاية له، فأفاد الامام عليه السّلام أنّ الأشياء مخلوقة بالمشيّة و أما المشيّة نفسها فلا يحتاج خلقها إلى مشيّة اخرى، بل هي مخلوقة بنفسها لأنها إضافة و نسبة بين الشائي و المشى ء تتحصّل بوجوديهما العيني و العلمي، و لذا أضاف خلقها إلى اللَّه سبحانه لأنّ كلّ الوجودين له و فيه و منه، و في قوله: بنفسها، دون أن يقول بنفسه إشارة لطيفة إلى ذلك، نظير ذلك ما يقال: إنّ الأشياء إنما توجد بالوجود و أما الوجود نفسه فلا يفتقر على وجود آخر بل إنما يوجد بنفسه.
الخامس ما ذكره بعض المحقّقين بعد ما حقّق: أنّ إرادة اللَّه المتحقّقه المتجدّدة هي نفس أفعاله المتجدّدة الكائنة الفاسدة، فارادته لكلّ حادث بالمعنى الاضافي يرجع إلى ايجاده، و بمعنى المراديّة ترجع إلى وجوده.
قال: نحن إذا فعلنا شيئا بقدرتنا و اختيارنا فاردناه أوّلا ثمّ فعلناه بسبب الارادة فالارادة نشأت من أنفسنا بذاتها لا بارادة اخرى و إلّا لتسلسل الأمر لا إلى نهاية فالارادة مرادة لذاتها و الفعل مراد بالارادة، و كذا الشهوة في الحيوان مشتهاة لذاتها لذيذة بنفسها و ساير الأشياء مرغوبة بالشهوة.
فعلى هذا المثال حال مشيّة اللَّه المخلوقة و هي وجودات الأشياء، فانّ الوجود خير و مؤثر لذاته و مجعول بنفسه و الأشياء بالوجود موجودة و الوجود مشي ء بالذات و الأشياء مشيئة بالوجود، و كما أنّ الوجود حقيقة واحدة متفاوتة بالشدّة و الضعف و الكمال و النقص، فكذا الخيرية و المشيئة، و ليس الخير المحض الذي لا يشوبه شرّ إلّا الوجود البحت الذى لا يمازجه عدم و نقص، و هو ذات الباري جلّ مجده فهو المراد الحقيقى إلى آخر ما حقّقه.
قال المحدّث المجلسيّ (ره) بعد ايراد هذه الوجوه: و الأوفق بأصولنا هو الوجه الأوّل.
أقول: بل ما سوى الوجه الأخير كلّها أوفق و إن كانت متفاوتة بالقرب و البعد، و إنما الوجه الأخير الذى مرجعه إلى القول بوحدة الوجود مخالف للأخبار و اصول الأئمة الأطهار سلام اللَّه عليهم ما تعاقب اللّيل و النّهار، و اللَّه العالم بحقايق صفاته و المتعالى عن مجانسة مخلوقاته.
|