و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و السادسة و الخمسون من المختار في باب الخطب
الحمد للّه الّذي جعل الحمد مفتاحا لذكره، و سببا للمزيد من فضله، و دليلا على آلاءه و عظمته، عباد اللّه إنّ الدّهر يجري بالباقين كجريه بالماضين، لا يعود ما قد ولّى منه، و لا يبقى سرمدا ما فيه، آخر فعاله كأوّله، متشابهه أموره، متظاهرة أعلامه، فكأنّكم بالسّاعة تحدوكم حدو الزّاجر بشوله، فمن شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظّلمات، و ارتبك في الهلكات، و مدّت به شياطينه في طغيانه، و زيّنت له سىّ ء أعماله، فالجنّة غاية السّابقين، و النّار غاية المفرطين
اللغة
(زجر) البعير من باب نصر ساقه و (شول) جمع شائلة على غير قياس و هى من الابل ما أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجفّ لبنها و جمع الجمع أشوال، و أمّا الشّائل بغير هاء فهى النّاقة تشول و ترفع ذنبها للقاح و الجمع شوّل مثل راكع و ركّع
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشّريفة قد خطب بها للنّصح و الموعظة و تنبيه المخاطبين من نوم الغفلة و الجهالة، و افتتحها بما هو حقيق أن يفتتح به كلّ كلام ذى بال أعني حمد اللّه سبحانه و الثناء عليه تعالى بجملة من نعوت كماله فقال (الحمد للّه الّذي جعل الحمد مفتاحا لذكره) قال الشّارح المعتزلي: لأنّ أوّل الكتاب العزيز الحمد للّه ربّ العالمين، و القرآن هو الذكر قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
أقول: هذا إنّما يتمّ لو كان سورة الفاتحة أوّل ما نزل من القرآن أو يكون هذا الجمع و الترتيب و وقوع الفاتحة في البداء بجعل من اللّه سبحانه.
أمّا الثّاني فباطل قطعا إذ نظم السّور و تأليفها و ترتيبها على ما هى عليه الآن إنّما كان في زمن عثمان و من فعله حسبما عرفته في تذييلات شرح الفصل السّابع عشر من الخطبة الاولى.
و أمّا الأوّل فهو أيضا غير معلوم بعد، بل المشهور بين المفسّرين أنّ أوّل سورة نزلت بمكّة هو سورة اقرء باسم ربك، و قد رواه في مجمع البيان في تفسير سورة هل أتى عن ابن عباس و غيره، نعم قد روى هناك عن سعيد بن المسيّب عن عليّ عليه السّلام أنّ اوّل ما نزل بمكّة فاتحة الكتاب، ثمّ اقرء باسم ربّك.
فالأولى أن يقال إنّ المراد أنه سبحانه جعل الحمد مفتاحا لذكره في عدّة سور، و اطلاق الذكر على السورة لا غبار عليه كما أنّ القرآن يطلق على المجموع و على البعض من سورة و آية و نحوها (و سببا للمزيد من فضله) بمقتضى وعده الصادق في كتابه العزيز أعني قوله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.
(و دليلا على آلائه و عظمته) أمّا كونه دليلا على آلائه فيحتمل معنيين. أحدهما أنه دليل للحامد على آلائه سبحانه أى على الفوز بها إذ الحمد و الشّكر سببان للوصول إلى النّعم موجبان لزيادتها حسبما عرفت آنفا، و أنّها منه دون غيره، فمن حمد له تعالى فقد اهتدى بحمده إلى نيل نعمه.
و ثانيهما أنّ الحمد للّه تعالى دليل على أنّه صاحب الآلاء و النّعم إذ الحمد لا يليق إلّا بوليّ النّعمة، و لعلّ الثاني أظهر.
و أمّا كونه دليلا على عظمته فلدلالته على عدم تناهي قدرته و عدم نفاد ملكه و خزائنه إذ كلّما ازداد الحمد ازدادت النّعمة لا يزيده كثرة العطاء إلّا كرما وجودا فسبحان من لا تفنى خزائنه المسائل، و لا تبدل حكمته الوسائل.
و لمّا فرغ من حمد اللّه سبحانه شرع في التّذكير و الموعظة فقال (عباد اللّه إنّ الدّهر يجري بالباقين كجريه بالماضين) يعني أنّ جريانه بالأخلاف كجريانه بالأسلاف قال الشّاعر:
- فما الدّهر إلّا كالزمان الّذي مضىو لا نحن إلّا كالقرون الأوائل
و هو من تشبيه المعقول بالمعقول، إذ الجرى أمر عقلاني غير مدرك باحدى الحواس الخمس، و من باب التّشبيه المفصل للتّصريح بوجه الشّبه و كونه مذكورا في الكلام و هو قوله (لا يعود ما قد ولّي منه و لا يبقى سرمدا ما فيه) يعني أنّ ما ولّي منه و أدبر فقد فات و مضى لا عود له أبدا، و ما هو موجود فيه فهو في معرض الزّوال و الفناء ليس له ثبات و لا بقاء، إذ وجود الزّماني إنّما هو بوجود زمانه، فيكون منقضيا بانقضائه، و في هذا المعنى قال الشّاعر:
- ما أحسن الأيّام إلّا أنّهايا صاحبيّ إذا مضت لم ترجع
(آخر فعاله كأوّله) و عن بعض النّسخ كأوّلها فالضّمير راجع إلى فعاله، و على ما في المتن فالضّمير راجع إلى الدّهر فيحتاج إلى تقدير مضاف كأوّل فعاله، و المراد واحد و انّ هو أجزاء الزّمان أوّلا و آخرا سابقا و لا حقا على وتيرة واحدة و نسق واحد أي (متشابهة اموره) فانّه كما كان أوّلا يعدّ قوما للفقر و آخرين للغنى و طائفة للصحّة و اخرى للمرض، و فرقة للضّعة و اخرى للرّفعة، و جمعا للوجود و آخر للعدم، و هكذا كذلك هو آخرا، و بالجملة فانّ حديثه يخبر عن قديمه، و جديده ينبى ء عن عتيقه قال الشّارح المعتزلي: و روى متسابقة اموره، أى شي ء منها قبل كلّ شي ء كأنّها خيل تتسابق في مضمار (متظاهرة أعلامه) أى دلالاته على سجيّته و شيمته و أفعاله الّتي يعامل بها النّاس قديما و حديثا تظاهر بعضها بعضا و تعاضده هذا.
و نسبة هذه الأمور إلى الدّهر و إن كان الفاعل في الحقيقة هو الرّب تعالى باعتبار كونه من الأسباب المعدّة لحصول ما يحصل في عالم الكون و الفساد من الخير و الشّر و السّعة و الضّيق حسبما عرفت في شرح الخطبة الثّانية و الثلاثين.
و قوله (فكأنّكم بالساعة تحدوكم حد و الزّاجر بشوله) قد مرّ تحقيق الكلام في شرح نظير هذا الكلام له عليه السّلام في شرح الخطبة الحادية و العشرين و استظهرنا هناك أنّ المراد بالسّاعة ساعات اللّيل و النّهار، لأنّها تسوق النّار إلى الدّار الآخرة و يسعى النّاس بها إليها، و يجوز أن يراد بها هنا القيامة و إن لم نجوّزه فيما تقدّم لاباء لفظة ورائكم هناك عنه، و لعلّ إرادة هذه هنا أظهر بملاحظة لفظة فكأنّكم فتأمّل.
و تسميتها بالسّاعة باعتبار أنّ النّاس يسعى إليها، فيكون المقصود به الاشارة إلى قرب القيامة و كونها حادية للمخاطبين باعتبار أنّها لا بدّ للنّاس من الحشر اليها و الاجتماع فيها للسّؤال و الجواب و الحساب و الكتاب و الثواب و العقاب لا مناص لهم عن وقوفها فكأنّها تسوقهم إليها ليجتمعوا فيها و ينظر إلى أعمالهم و إنّما شبّه حدوهم بحدو الزّاجر بشوله لأنّ سائق الشّول إنّما يسوقها بعنف و سرعة لخلوّها من الضّرع و اللّبن بخلاف سائق العشار فانّه يرفق بها و لا يزجرها كما هو ظاهر.
و لمّا نبّه على قرب السّاعة و أنّها تحدو المخاطبين أردفه بالتّنبيه على وجوب الاشتغال بالنّفس أى بصرف الهمّة إلى محاسبتها و إصلاحها و تزكيتها و ترغيبها إلى ما اريد منها (ف) انّ (من شغل نفسه بغير نفسه) لا يتحصّل له نور يهتدي به في ظلمات طريق الآخرة بل إنّما يحصل على أغطية من الهيئات البدنيّة و أغشية متحصّلة من الاشتغال بزخارف الدّنيا حاجبة له عن نور البصيرة فلأجل ذلك يكون قد (تحيّر في الظّلمات) و تاه فيها (و ارتبك) أى اختلط (في الهلكات) لا يكاد يتخلّص منها (و مدّت به شياطينه في طغيانه و زينت له سىّ ء أعماله) كما قال عزّ من قائل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ.
يعني أنّ الّذين اتّقوا اللّه باجتناب معاصيه إذا طاف عليهم الشّيطان بوساوسه تذكّروا ما عليهم من العقاب بذلك فيجتنبوه و يتركونه فاذاهم مبصرون للرّشد، و إخوان المشركين من شياطين الجنّ و الانس يمدّونهم في الضّلال و المعاصى و يزيدونهم فيه و يزينون ما هم فيه ثمّ لا يقصرون لا يكفّون الشّياطين عن استغوائهم و لا يرحمونهم و قيل: معناه و إخوان الشّياطين من الكفّار يمدّهم الشّياطين في الغىّ ثمّ لا يقصرون هؤلاء مع ذلك كما يقصر الّذين اتّقوا، هكذا في مجمع البيان.
ثمّ ذكر غاية وجود الانسان و قال: (فالجنّة غاية السّابقين و النّار غاية المفرطين) و كفى بالجنّة نعمة لمن طلب، و كفى بالنّار نقمة لمن هرب، و تخصيص الجنّة بالسّابقين و النّار بالمفرطين تنبيها على فضيلة السّبق و رذيلة التّفريط بتقوى الباعث على طلب أشرف الغايتين و الهرب من أخسّهما.
|