64 و من كتاب له ع إلى معاوية جوابا عن كتابه
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا كُنَّا نَحْنُ وَ أَنْتُمْ عَلَى مَا ذَكَرْتَ- مِنَ الْأُلْفَةِ وَ الْجَمَاعَةِ- فَفَرَّقَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وَ كَفَرْتُمْ- وَ الْيَوْمَ أَنَّا اسْتَقَمْنَا وَ فُتِنْتُمْ- وَ مَا أَسْلَمَ مُسْلِمُكُمْ إِلَّا كَرْهاً- وَ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَنْفُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ ص حَرْباً- وَ ذَكَرْتَ أَنِّي قَتَلْتُ طَلْحَةَ وَ الزُّبَيْرَ- وَ شَرَّدْتُ بِعَائِشَةَ وَ نَزَلْتُ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ- وَ ذَلِكَ أَمْرٌ غِبْتَ عَنْهُ فَلَا عَلَيْكَ وَ لَا الْعُذْرُ فِيهِ إِلَيْكَ- وَ ذَكَرْتَ أَنَّكَ زَائِرِي فِي جَمْعِ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ قَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ يَوْمَ أُسِرَ أَخُوكَ- فَإِنْ كَانَ فِيكَ عَجَلٌ فَاسْتَرْفِهْ- فَإِنِّي إِنْ أَزُرْكَ فَذَلِكَ جَدِيرٌ- أَنْ يَكُونَ اللَّهُ إِنَّمَا بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِلنِّقْمَةِ مِنْكَ- وَ إِنْ تَزُرْنِي فَكَمَا قَالَ أَخُو بَنِي أَسَدٍ-
- مُسْتَقْبِلِينَ رِيَاحَ الصَّيْفِ تَضْرِبُهُمْبِحَاصِبٍ بَيْنَ أَغْوَارٍ وَ جُلْمُودِ
- وَ عِنْدِي السَّيْفُ الَّذِي أَعْضَضْتُهُ بِجَدِّكَ- وَ خَالِكَ وَ أَخِيكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ- فَإِنَّكَ وَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ الْمُقَارِبُ الْعَقْلِ- وَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَكَ- إِنَّكَ رَقِيتَ سُلَّماً أَطْلَعَكَ مَطْلَعَ سُوءٍ عَلَيْكَ لَا لَكَ- لِأَنَّكَ نَشَدْتَ غَيْرَ ضَالَّتِكَ وَ رَعَيْتَ غَيْرَ سَائِمَتِكَ- وَ طَلَبْتَ أَمْراً لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَ لَا فِي مَعْدِنِهِ- فَمَا أَبْعَدَ قَوْلَكَ مِنْ فِعْلِكَ- وَ قَرِيبٌ مَا أَشْبَهْتَ مِنْ أَعْمَامٍ وَ أَخْوَالٍ- حَمَلَتْهُمُ الشَّقَاوَةُ وَ تَمَنِّي الْبَاطِلِ عَلَى الْجُحُودِ بِمُحَمَّدٍ ص- فَصُرِعُوا مَصَارِعَهُمْ حَيْثُ عَلِمْتَ- لَمْ يَدْفَعُوا عَظِيماً وَ لَمْ يَمْنَعُوا حَرِيماً- بِوَقْعِ سُيُوفٍ مَا خَلَا مِنْهَا الْوَغَى- وَ لَمْ تُمَاشِهَا الْهُوَيْنَى- وَ قَدْ أَكْثَرْتَ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ- فَادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ ثُمَّ حَاكِمِ الْقَوْمَ إِلَيَّ- أَحْمِلْكَ وَ إِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى- وَ أَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِيدُ- فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ- وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِ
كتاب معاوية إلى علي
أما الكتاب الذي كتبه إليه معاوية- و هذا الكتاب جوابه فهو- من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب- أما بعد فإنا بني عبد مناف- لم نزل ننزع من قليب واحد و نجري في حلبة واحدة- ليس لبعضنا على بعض فضل- و لا لقائمنا على قاعدنا فخر- كلمتنا مؤتلفة و ألفتنا جامعة و دارنا واحدة- يجمعنا كرم العرق و يحوينا شرف النجار- و يحنو قوينا على ضعيفنا و يواسي غنينا فقيرنا- قد خلصت قلوبنا من وغل الحسد- و طهرت أنفسنا من خبث النية- فلم نزل كذلك حتى كان منك ما كان من الإدهان- في أمر ابن عمك و الحسد له- و نصرة الناس عليه حتى قتل بمشهد منك- لا تدفع عنه بلسان و لا يد- فليتك أظهرت نصره حيث أسررت خبره- فكنت كالمتعلق بين الناس بعذر و إن ضعف- و المتبرئ من دمه بدفع و إن وهن- و لكنك جلست في دارك تدس إليه الدواهي- و ترسل إليه الأفاعي- حتى إذا قضيت وطرك منه- أظهرت شماتة و أبديت طلاقة- و حسرت للأمر عن ساعدك و شمرت عن ساقك- و دعوت الناس إلى نفسك- و أكرهت أعيان المسلمين على بيعتك- ثم كان منك بعد ما كان- من قتلك شيخي المسلمين- أبي محمد طلحة و أبي عبد الله الزبير- و هما من الموعودين بالجنة- و المبشر قاتل أحدهما بالنار في الآخرة- هذا إلى تشريدك بأم المؤمنين عائشة- و إحلالها محل الهون- متبذلة بين أيدي الأعراب و فسقة أهل الكوفة- فمن بين مشهر لها و بين شامت بها و بين ساخر منها- ترى ابن عمك كان بهذه لو رآه راضيا- أم كان يكون عليك ساخطا و لك عنه زاجرا- أن تؤذي أهله و تشرد بحليلته و تسفك دماء أهل ملته- ثم تركك دار الهجرة التي
قال رسول الله ص عنها إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد
- فلعمري لقد صح وعده و صدق قوله- و لقد نفت خبثها- و طردت عنها من ليس بأهل أن يستوطنها- فأقمت بين المصرين و بعدت عن بركة الحرمين- و رضيت بالكوفة بدلا من المدينة- و بمجاورة الخورنق و الحيرة عوضا من مجاورة خاتم النبوة- و من قبل ذلك ما عبت خليفتي رسول الله ص أيام حياتهما- فقعدت عنهما و ألبت عليهما و امتنعت من بيعتهما- و رمت أمرا لم يرك الله تعالى له أهلا- و رقيت سلما وعرا و حاولت مقاما دحضا- و ادعيت ما لم تجد عليه ناصرا- و لعمري لو وليتها حينئذ لما ازدادت- إلا فسادا و اضطرابا- و لا أعقبت ولايتكها إلا انتشارا و ارتدادا- لأنك الشامخ بأنفه الذاهب بنفسه- المستطيل على الناس بلسانه و يده- و ها أنا سائر إليك في جمع من المهاجرين و الأنصار- تحفهم سيوف شامية و رماح قحطانية- حتى يحاكموك إلى الله- فانظر لنفسك و للمسلمين و ادفع إلي قتلة عثمان- فإنهم خاصتك و خلصاؤك و المحدقون بك- فإن أبيت إلا سلوك سبيل اللجاج- و الإصرار على الغي و الضلال- فاعلم أن هذه الآية إنما نزلت فيك- و في أهل العراق معك وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً- يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ- فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل و معانيه- قال ع لعمري إنا كنا بيتا واحدا في الجاهلية- لأنا بنو عبد مناف إلا أن الفرقة بيننا و بينكم- حصلت منذ بعث الله محمدا ص فإنا آمنا و كفرتم- ثم تأكدت الفرقة اليوم- بأنا استقمنا على منهاج الحق و فتنتم- . ثم قال و ما أسلم من أسلم منكم إلا كرها- كأبي سفيان و أولاده يزيد و معاوية- و غيرهم من بني عبد شمس- . قال و بعد أن كان أنف الإسلام محاربا لرسول الله ص- أي في أول الإسلام- يقال كان ذلك في أنف دولة بني فلان أي في أولها- و أنف كل شي ء أوله و طرفه- و كان أبو سفيان و أهله من بني عبد شمس- أشد الناس على رسول الله ص في أول الهجرة- إلى أن فتح مكة- ثم أجابه عن قوله قتلت طلحة و الزبير و شردت بعائشة- و نزلت بين المصرين- بكلام مختصر أعرض فيه عنه هوانا به- فقال هذا أمر غبت عنه- فليس عليك كان العدوان الذي تزعم- و لا العذر إليك لو وجب على العذر عنه- . فأما الجواب المفصل فأن يقال- إن طلحة و الزبير قتلا أنفسهما ببغيهما و نكثهما- و لو استقاما على الطريقة لسلما- و من قتله الحق فدمه هدر- و أما كونهما شيخين من شيوخ الإسلام فغير مدفوع- و لكن العيب يحدث- و أصحابنا يذهبون إلى أنهما تابا و فارقا الدنيا- نادمين على ما صنعا- و كذلك نقول نحن فإن الأخبار كثرت بذلك- فهما من أهل الجنة لتوبتهما- و لو لا توبتهما لكانا هالكين كما هلك غيرهما- فإن الله تعالى لا يحابي أحدا في الطاعة و التقوى- لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ- . و أما الوعد لهما بالجنة فمشروط بسلامة العاقبة- و الكلام في سلامتهما- و إذا ثبتت توبتهما فقد صح الوعد لهما و تحقق- و
قوله بشر قاتل ابن صفية بالنار
- فقد اختلف فيه- فقال قوم من أرباب السير و علماء الحديث- هو كلام أمير المؤمنين ع غير مرفوع- و قوم منهم جعلوه مرفوعا- و على كل حال فهو حق- لأن ابن جرموز قلته موليا خارجا من الصف- مفارقا للحرب- فقد قتله على توبة و إنابة و رجوع من الباطل- و قاتل من هذه حاله فاسق مستحق للنار- و أما أم المؤمنين عائشة فقد صحت توبتها- و الأخبار الواردة في توبتها- أكثر من الأخبار الواردة في توبة طلحة و الزبير- لأنها عاشت زمانا طويلا و هما لم يبقيا- و الذي جرى لها كان خطأ منها- فأي ذنب لأمير المؤمنين ع في ذلك- و لو أقامت في منزلها- لم تبتذل بين الأعراب و أهل الكوفة- على أن أمير المؤمنين ع أكرمها و صانها و عظم من شأنها- و من أحب أن يقف على ما فعله معها- فليطالع كتب السيرة- و لو كانت فعلت بعمر ما فعلت به- و شقت عصا الأمة عليه ثم ظفر بها- لقتلها و مزقها إربا إربا- و لكن عليا كان حليما كريما- .
و أما قوله لو عاش رسول الله ص- فبربك هل كان يرضى لك أن تؤذي حليلته- فلعلي ع أن يقلب الكلام عليه فيقول- أ فتراه لو عاش أ كان يرضى لحليلته أن تؤذي أخاه و وصيه- و أيضا أ تراه لو عاش أ كان يرضى لك يا ابن أبي سفيان- أن تنازع عليا الخلافة و تفرق جماعة هذه الأمة- و أيضا أ تراه لو عاش- أ كان يرضى لطلحة و الزبير أن يبايعا- ثم ينكثا لا لسبب بل قالا جئنا نطلب الدراهم- فقد قيل لنا إن بالبصرة أموالا كثيرة- هذا كلام يقوله مثلهما- .
فأما قوله تركت دار الهجرة فلا عيب عليه- إذا انقضت عليه أطراف الإسلام بالبغي و الفساد- أن يخرج من المدينة إليها و يهذب أهلها- و ليس كل من خرج من المدينة كان خبثا- فقد خرج عنها عمر مرارا إلى الشام- ثم لعلي ع أن يقلب عليه الكلام فيقول له- و أنت يا معاوية فقد نفتك المدينة أيضا عنها- فأنت إذا خبث و كذلك طلحة و الزبير و عائشة- الذين تتعصب لهم و تحتج على الناس بهم- و قد خرج عن المدينة الصالحون- كابن مسعود و أبي ذر و غيرهما- و ماتوا في بلاد نائية عنها و أما قوله بعدت عن حرمة الحرمين- و مجاورة قبر رسول الله ص- فكلام إقناعي ضعيف- و الواجب على الإمام أن يقدم الأهم فالأهم- من مصالح الإسلام- و تقديم قتال أهل البغي على المقام بين الحرمين أولى- فأما ما ذكره من خذلانه عثمان و شماتته به- و دعائه الناس بعد قتله إلى نفسه- و إكراهه طلحة و الزبير و غيرهما على بيعته- فكله دعوى و الأمر بخلافها- و من نظر كتب السير عرف أنه قد بهته- و ادعى عليه ما لم يقع منه- . و أما قوله التويت على أبي بكر و عمر و قعدت عنهما- و حاولت الخلافة بعد رسول الله ص- فإن عليا ع لم يكن يجحد ذلك و لا ينكره- و لا ريب أنه كان يدعى الأمر بعد وفاة رسول الله ص لنفسه- على الجملة- أما لنص كما تقوله الشيعة- أو لأمر آخر كما يقوله أصحابنا- فأما قوله لو وليتها حينئذ لفسد الأمر و اضطرب الإسلام- فهذا علم غيب لا يعلمه إلا الله- و لعله لو وليها حينئذ لاستقام الأمر- و صلح الإسلام و تمهد- فإنه ما وقع الاضطراب عند ولايته بعد عثمان- إلا لأن أمره هان عندهم بتأخره عن الخلافة- و تقدم غيره عليه- فصغر شأنه في النفوس- و قرر من تقدمه في قلوب الناس- أنه لا يصلح لها كل الصلاحية- و الناس على ما يحصل في نفوسهم- و لو كان وليها ابتداء و هو على تلك الحالة- التي كان عليها أيام حياة رسول الله ص- و تلك المنزلة الرفيعة و الاختصاص الذي كان له- لكان الأمر غير الذي رأيناه عند ولايته بعد عثمان- و أما قوله لأنك الشامخ بأنفه الذاهب بنفسه- فقد أسرف في وصفه بما وصفه به- و لا شك أن عليا ع كان عنده زهو لكن لا هكذا- و كان ع مع زهوه ألطف الناس خلقا- . ثم نرجع إلى تفسير ألفاظه ع- قوله و ذكرت أنك زائري في جمع من المهاجرين و الأنصار- و قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك- هذا الكلام تكذيب له في قوله- في جمع من المهاجرين و الأنصار أي ليس معك مهاجر- لأن أكثر من معك ممن رأى رسول الله ص هم أبناء الطلقاء- و من أسلم بعد الفتح و
قد قال النبي ص لا هجرة بعد الفتح
- . و عبر عن يوم الفتح بعبارة حسنة- فيها تقريع لمعاوية و أهله بالكفر- و أنهم ليسوا من ذوي السوابق- فقال قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك- يعني يزيد بن أبي سفيان أسر يوم الفتح في باب الخندمة- و كان خرج في نفر من قريش- يحاربون و يمنعون من دخول مكة- فقتل منهم قوم و أسر يزيد بن أبي سفيان- أسره خالد بن الوليد- فخلصه أبو سفيان منه و أدخله داره- فأمن
لأن رسول الله ص قال يومئذ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن
ذكر الخبر عن فتح مكة
و يجب أن نذكر في هذا الموضع- ملخص ما ذكره الواقدي في كتاب المغازي- في فتح مكة فإن الموضع يقتضيه- لقوله ع ما أسلم مسلمكم إلا كرها- و قوله يوم أسر أخوك- . قال محمد بن عمر الواقدي في كتاب المغازي- كان رسول الله ص- قد هادن قريشا في عام الحديبية عشر سنين- و جعل خزاعة داخلة معه- و جعلت قريش بني بكر بن عبد مناة من كنانة داخلة معهم- و كان بين بني بكر و بين خزاعة- تراث في الجاهلية و دماء- و قد كانت خزاعة من قبل حالفت عبد المطلب بن هاشم- و كان معها كتاب منه و كان رسول الله ص يعرف ذلك- فلما تم صلح الحديبية و أمن الناس- سمع غلام من خزاعة إنسانا من بني كنانة- يقال له أنس بن زنيم الدؤلي- ينشد هجاء له في رسول الله ص- فضربه فشجه- فخرج أنس إلى قومه فأراهم شجته فثار بينهم الشر- و تذاكروا أحقادهم القديمة- و القوم مجاورون بمكة- فاستنجدت بكر بن عبد مناة قريشا على خزاعة- فمن قريش من كره ذلك و قال لا انقض عهد محمد- و منهم من خف إليه و كان أبو سفيان أحد من كره ذلك- و كان صفوان بن أمية و حويطب بن عبد العزى- و مكرز بن حفص ممن أعان بني بكر- و دسوا إليهم الرجال بالسلاح سرا- و بيتوا خزاعة ليلا فأوقعوا بهم- فقتلوا منهم عشرين رجلا- فلما أصبحوا عاتبوا قريشا- فجحدت قريش أنها أعانت بكرا و كذبت في ذلك- و تبرأ أبو سفيان و قوم من قريش مما جرى- و شخص قوم من خزاعة إلى المدينة مستصرخين برسول الله ص- فدخلوا عليه و هو في المسجد- فقام عمرو بن سالم الخزاعي فأنشده-
- لا هم إني ناشد محمداحلف أبينا و أبيه الأتلدا
- لكنت والدا و كنا ولداثمت أسلمنا و لم ننزع يدا
- إن قريشا أخلفوك الموعداو نقضوا ميثاقك المؤكدا
- هم بيتونا بالوتير هجدانتلو القران ركعا و سجدا
- و زعموا أن لست تدعو أحداو هم أذل و أقل عددا
- فانصر هداك الله نصرا أيداو ادع عباد الله يأتوا مددا
- في فيلق كالبحر يجري مزبدافيهم رسول الله قد تجردا
قرم لقوم من قروم أصيدا
- . ثم ذكروا له ما أثار الشر- و قالوا له إن أنس بن زنيم هجاك- و إن صفوان بن أمية- و فلانا و فلانا- دسوا إلينا رجال قريش مستنصرين- فبيتونا بمنزلنا بالوتير فقتلونا- و جئناك مستصرخين بك- فزعموا أن رسول الله ص قام مغضبا يجر رداءه و يقول- لا نصرت إن لم أنصر خزاعة فيما أنصر منه نفسي- .
قلت- فصادف ذلك من رسول الله ص إيثارا و حبا لنقض العهد- لأنه كان يريد أن يفتح مكة و هم بها في عام الحديبية فصد- ثم هم بها في عمرة القضية- ثم وقف لأجل العهد و الميثاق الذي كان عقده معهم- فلما جرى ما جرى على خزاعة اغتنمها- . قال الواقدي- فكتب إلى جميع الناس في أقطار الحجاز و غيرها- يأمرهم أن يكونوا بالمدينة في رمضان من سنة ثمان للهجرة- فوافته الوفود و القبائل من كل جهة- فخرج من المدينة بالناس- يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان في عشرة آلاف- فكان المهاجرون سبعمائة و معهم من الخيل ثلاثمائة فرس- و كانت الأنصار أربعة آلاف معهم من الخيل خمسمائة- و كانت مزينة ألفا فيها من الخيل مائة فرس- و كانت أسلم أربعمائة فيها من الخيل ثلاثون فرسا- و كانت جهينة ثمانمائة معها خمسون فرسا- و من سائر الناس تمام عشرة آلاف- و هم بنو ضمرة و بنو غفار و أشجع- و بنو سليم و بنو كعب بن عمرو و غيرهم- و عقد للمهاجرين ثلاثة ألوية- لواء مع علي و لواء مع الزبير- و لواء مع سعد بن أبي وقاص- و كانت الرايات في الأنصار و غيرهم- و كتم عن الناس الخبر فلم يعلم به إلا خواصه- و أما قريش بمكة فندمت على ما صنعت بخزاعة- و عرفت أن ذلك انقضاء ما بينهم و بين النبي ص من العهد- و مشى الحارث بن هشام و عبد الله بن أبي ربيعة- إلى أبي سفيان فقالا له- إن هذا أمر لا بد له أن يصلح- و الله إن لم يصلح لا يروعكم إلا محمد في أصحابه- و قال أبو سفيان قد رأت هند بنت عتبة رؤيا- كرهتها و أفظعتها و خفت من شرها- قالوا ما رأت قال رأت كان دما أقبل من الحجون يسيل- حتى وقف بالخندمة مليا- ثم كان ذلك الدم لم يكن- فكره القوم ذلك و قالوا هذا شر- .
قال الواقدي- فلما رأى أبو سفيان ما رأى من الشر قال- هذا و الله أمر لم أشهده و لم أغب عنه- لا يحمل هذا إلا علي- و لا و الله ما شوورت و لا هونت حيث بلغني- و الله ليغزونا محمد إن صدق ظني و هو صادق- و ما لي بد أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة- و يجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر- قالت قريش قد و الله أصبت- و ندمت قريش على ما صنعت بخزاعة- و عرفت أن رسول الله ص لا بد أن يغزوها- فخرج أبو سفيان و خرج معه مولى له على راحلتين- و أسرع السير- و هو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله ص قال الواقدي و قد روى الخبر على وجه آخر- و هو أنه لما قدم ركب خزاعة على رسول الله ص- فأخبروه بمن قتل منهم- قال لهم بمن تهمتكم و طلبتكم- قالوا بنو بكر بن عبد مناة- قال كلها قالوا لا و لكن تهمتنا بنو نفاثة قصرة- و رأسهم نوفل بن معاوية النفاثي- فقال هذا بطن من بكر- فأنا باعث إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر- و مخيرهم في خصال- فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى خلال ثلاث- بين أن يدوا خزاعة أو يبرءوا من حلف نفاثة- أو ينبذ إليهم على سواء- فأتاهم ضمرة فخيرهم بين الخلال الثلاث- فقال قريظة بن عبد عمرو الأعمى- أما أن ندي قتلى خزاعة- فإنا إن وديناهم لم يبق لنا سبد و لا لبد- و أما أن نبرأ من حلف نفاثة- فإنه ليس قبيلة تحج هذا البيت أشد تعظيما له من نفاثة- و هم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم- و لكنا ننبذ إليه على سواء- فعاد ضمرة إلى رسول الله ص بذلك- و ندمت قريش أن ردت ضمرة بما ردته به- . قال الواقدي و قد روي غير ذلك- روي أن قريشا لما ندمت على قتل خزاعة- و قالت محمد غازينا- قال لهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح- و هو يومئذ كافر مرتد عندهم- أن عندي رأيا أن محمدا ليس يغزوكم- حتى يعذر إليكم و يخيركم في خصال- كلها أهون عليكم من غزوة- قالوا ما هي قال يرسل إليكم أن تدوا قتلى خزاعة- أو تبرءوا من حلف من نقض العهد و هم بنو نفاثة- أو ينبذ إليكم العهد- فقال القوم أحر بما قال ابن أبي سرح أن يكون- فقال سهيل بن عمرو- ما خصلة أيسر علينا من أن نبرأ من حلف نفاثة- فقال شيبة بن عثمان العبدري- حطت أخوالك خزاعة و غضبت لهم- قال سهيل و أي قريش لم تلد خزاعة- قال شيبة لا و لكن ندي قتلى خزاعة فهو أهون علينا- فقال قريظة بن عبد عمرو- لا و الله لا نديهم و لا نبرأ عن نفاثة أبر العرب بنا- و أعمرهم لبيت ربنا- و لكن ننبذ إليهم على سواء- فقال أبو سفيان ما هذا بشي ء و ما الرأي إلا جحد هذا الأمر- أن تكون قريش دخلت في نقض العهد أو قطع مدة- فإن قطعه قوم بغير هوى منا و لا مشورة فما علينا- قالوا هذا هو الرأي لا رأي إلا الجحد لكل ما كان من ذلك- فقال أنا أقسم أني لم أشهد و لم أوامر و أنا صادق- لقد كرهت ما صنعتم و عرفت أن سيكون له يوم غماس- قالت قريش لأبي سفيان فاخرج أنت بذلك فخرج- . قال الواقدي و حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي- عن عطاء بن أبي مروان قال- قال رسول الله ص لعائشة صبيحة الليلة- التي أوقعت فيها نفاثة و قريش بخزاعة بالوتير- يا عائشة لقد حدث الليلة في خزاعة أمر- فقالت عائشة يا رسول الله- أ ترى قريشا تجترئ على نقض العهد بينك و بينهم- أ ينقضون و قد أفناهم السيف- فقال العهد لأمر يريده الله بهم- فقالت خير أم شر يا رسول الله فقال خير- .
قال الواقدي و حدثني عبد الحميد بن جعفر قال حدثني عمران بن أبي أنس عن ابن عباس قال قام رسول الله ص و هو يجر طرف ردائه و يقول- لا نصرت إن لم أنصر بني كعب يعني خزاعة- فيما أنصر منه نفسي
- . قال الواقدي و حدثني حرام بن هشام عن أبيه قال- قال رسول الله ص لكأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يقول- جدد العهد و زد في الهدنة و هو راجع بسخطه- و قال لبني خزاعة عمرو بن سالم و أصحابه- ارجعوا و تفرقوا في الأودية- و قام فدخل على عائشة و هو مغضب فدعا بماء فدخل يغتسل
قالت عائشة فأسمعه يقول و هو يصب الماء على رجليه- لا نصرت أن لم أنصر بني كعب
- . قال الواقدي فأما أبو سفيان فخرج من مكة و هو متخوف- أن يكون عمرو بن سالم- و رهطه من خزاعة سبقوه إلى المدينة- و كان القوم لما رجعوا من المدينة و أتوا الأبواء- تفرقوا كما أوصاهم رسول الله ص- فذهبت طائفة إلى الساحل تعارض الطريق- و لزم بديل بن أم أصرم الطريق في نفر معه- فلقيهم أبو سفيان فلما رآهم أشفق أن يكونوا- لقوا محمدا ص بل كان اليقين عنده- فقام للقوم منذ كم عهدكم بيثرب قالوا لا عهد لنا بها- فعرف أنهم كتموه فقال- أ ما معكم من تمر يثرب شي ء تطعموناه- فإن لتمر يثرب فضلا على تمر تهامة- قالوا لا- ثم أبت نفسه أن تقر فقال يا بديل هل جئت محمدا- قال لا و لكني سرت في بلاد خزاعة من هذا الساحل- في قتيل كان بينهم حتى أصلحت بينهم- قال يقول أبو سفيان إنك و الله ما علمت بر واصل- فلما راح بديل و أصحابه جاء أبو سفيان إلى أبعار إبلهم- ففتها فإذا فيها النوى- و وجد في منزلهم نوى من تمر عجوة كأنه ألسنة العصافير- فقال أحلف بالله لقد جاء القوم محمدا- و أقبل حتى قدم المدينة فدخل على النبي ص- فقال يا محمد إني كنت غائبا في صلح الحديبية- فاشدد العهد و زدنا في المدة- فقال رسول الله ص و لذلك قدمت يا أبا سفيان- قال نعم قال فهل كان قبلكم حدث- فقال معاذ الله- فقال رسول الله- فنحن على موثقنا و صلحنا يوم الحديبية لا نغير و لا نبدل- فقام من عنده فدخل على ابنته أم حبيبة- فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله ص طوته دونه- فقال أ رغبت بهذا الفراش عني أم رغبت بي عنه- فقالت بل هو فراش رسول الله ص- و أنت امرؤ نجس مشرك- قال يا بنية لقد أصابك بعدي شر- فقالت إن الله هداني للإسلام- و أنت يا أبت سيد قريش و كبيرها- كيف يخفى عنك فضل الإسلام- و تعبد حجرا لا يسمع و لا يبصر- فقال يا عجبا و هذا منك أيضا- أ أترك ما كان يعبد آبائي و أتبع دين محمد- ثم قام من عندها فلقي أبا بكر فكلمه- و قال تكلم أنت محمدا و تجير أنت بين الناس- فقال أبو بكر جواري جوار رسول الله ص- ثم لقي عمر فكلمه بمثل ما كلم به أبا بكر فقال عمر- و الله لو وجدت السنور تقاتلكم لأعنتها عليكم- قال أبو سفيان جزيت من ذي رحم شرا- ثم دخل على عثمان بن عفان فقال له- إنه ليس في القوم أحد أمس بي رحما منك- فزدني الهدنة و جدد العهد- فإن صاحبك لا يرد عليك أبدا- و الله ما رأيت رجلا قط أشد إكراما لصاحب من محمد لأصحابه- فقال عثمان جواري جوار رسول الله ص- فجاء أبو سفيان حتى دخل على فاطمة بنت رسول الله ص- فكلمها و قال أجيري بين الناس- فقالت إنما أنا امرأة- قال إن جوارك جائز- و قد أجارت أختك أبا العاص بن الربيع- فأجاز محمد ذلك- فقالت فاطمة ذلك إلى رسول الله ص و أبت عليه- فقال مري أحد هذين ابنيك يجير بين الناس- قالت إنهما صبيان و ليس يجير الصبي- فلما أبت عليه أتى عليا ع فقال يا أبا حسن- أجر بين الناس و كلم محمدا ليزيد في المدة- فقال علي ع ويحك يا أبا سفيان- إن رسول الله ص قد عزم ألا يفعل- و ليس أحد يستطيع أن يكلمه في شي ء يكرهه- قال أبو سفيان فما الرأي عندك فتشير لأمري- فإنه قد ضاق علي فمرني بأمر ترى أنه نافعي- قال علي ع و الله ما أجد لك شيئا- مثل أن تقوم فتجير بين الناس- فإنك سيد كنانة- قال أ ترى ذلك مغنيا عني شيئا- قال علي إني لا أظن ذلك و الله و لكني لا أجد لك غيره- فقام أبو سفيان بين ظهري الناس فصاح- ألا إني قد أجرت بين الناس و لا أظن محمدا يحقرني- ثم دخل على رسول الله ص فقال- يا محمد ما أظن أن ترد جواري- فقال ع أنت تقول ذلك يا أبا سفيان- و يقال إنه لما صاح لم يأت النبي ص- و ركب راحلته و انطلق إلى مكة- و يروى أنه أيضا أتى سعد بن عبادة فكلمه في ذلك- و قال يا أبا ثابت قد عرفت الذي كان بيني و بينك- و إني كنت لك في حرمنا جارا و كنت لي بيثرب مثل ذلك- و أنت سيد هذه المدرة فأجر بين الناس و زدني في المدة- فقال سعد جواري جوار رسول الله ص- ما يجير أحد على رسول الله ص- فلما انطلق أبو سفيان إلى مكة- و قد كان طالت غيبته عن قريش و أبطأ فاتهموه و قالوا- نراه قد صبا و اتبع محمدا سرا و كتم إسلامه- فلما دخل على هند ليلا قالت- قد احتبست حتى اتهمك قومك- فإن كنت جئتهم بنجح فأنت الرجل- و قد كان دنا منها ليغشاها- فأخبرها الخبر و قال لم أجد إلا ما قال لي علي- فضربت برجلها في صدوره و قالت- قبحت من رسول قوم- .
قال الواقدي فحدثني عبد الله بن عثمان- عن أبي سليمان عن أبيه قال- لما أصبح أبو سفيان حلق رأسه عند الصنمين- أساف و نائلة و ذبح لهما- و جعل يمسح بالدم رءوسهما و يقول- لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي- قال فعل ذلك ليبرئ نفسه مما اتهمته قريش به قال الواقدي و قالت قريش لأبي سفيان- ما صنعت و ما وراءك- و هل جئتنا بكتاب من محمد و زيادة في المدة- فإنا لا نأمن من أن يغزونا- فقال و الله لقد أبى علي- و لقد كلمت عليه أصحابه فما قدرت على شي ء منهم- و رموني بكلمة منهم واحدة- إلا أن عليا قال لما ضاقت بي الأمور- أنت سيد كنانة فأجر بين الناس فناديت بالجوار- ثم دخلت على محمد فقلت إني قد أجرت بين الناس- و ما أظن محمدا يرد جواري- فقال محمد أنت تقول ذاك يا أبا سفيان- لم يزد على ذلك- قالوا ما زاد علي على أن يلعب بك تلعبا- قال فو الله ما وجدت غير ذلك- .
قال الواقدي فحدثني محمد بن عبد الله عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم قال لما خرج أبو سفيان عن المدينة- قال رسول الله ص لعائشة- جهزينا و أخفي أمرك
و قال رسول الله ص اللهم خذ عن قريش الأخبار و العيون حتى نأتيهم بغتة
و روي أنه قال اللهم خذ على أبصارهم فلا يروني إلا بغتة- و لا يسمعون بي إلا فجأة
- قال و أخذ رسول الله ص الأنقاب و جعل عليها الرجال- و منع من يخرج من المدينة- فدخل أبو بكر على عائشة و هي تجهز رسول الله ص- تعمل له قمحا سويقا و دقيقا و تمرا- فقال لها أ هم رسول الله ص بغزو قالت لا أدري- قال إن كان هم بسفر فآذنينا نتهيأ له- قالت لا أدري لعله أراد بني سليم- لعله أراد ثقيفا أو هوازن فاستعجمت عليه- فدخل على رسول الله ص فقال- يا رسول الله أردت سفرا قال نعم قال أ فأتجهز قال نعم- قال و أين تريد قال قريشا و أخف ذلك يا أبا بكر- و أمر رسول الله ص الناس فتجهزوا- و طوى عنهم الوجه الذي يريد- و قال له أبو بكر يا رسول الله أ و ليس بيننا و بينهم مدة- فقال إنهم غدروا و نقضوا العهد فأنا غازيهم- فاطو ما ذكرت لك- فكان الناس بين ظان يظن أنه يريد سليما- و ظان يظن أنه يريد هوازن و ظان يظن أنه يريد ثقيفا- و ظان يظن أنه يريد الشام- و بعث رسول الله ص أبا قتادة بن ربعي في نفر إلى بطن- ليظن الناس أن رسول الله ص قدم أمامه أولئك الرجال- لتوجهه إلى تلك الجهة و لتذهب بذلك الأخبار- . قال الواقدي حدثني المنذر بن سعد- عن يزيد بن رومان قال- لما أجمع رسول الله ص المسير إلى قريش- و علم بذلك من علم من الناس- كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش- يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله ص في أمرهم- و أعطى الكتاب امرأة من مزينة- و جعل لها على ذلك جعلا على أن تبلغه قريشا- فجعلت الكتاب في رأسها- ثم فتلت عليه قرونها و خرجت به- و أتى الخبر إلى النبي ص من السماء بما صنع حاطب- فبعث عليا ع و الزبير فقال- أدركا امرأة من مزينة- قد كتب معها حاطب كتابا يحذر قريشا- فخرجا و أدركاها بذي الحليفة- فاستنزلاها و التمسا الكتاب في رحلها فلم يجدا شيئا- فقالا لها نحلف بالله ما كذب رسول الله ص- و لا كذبنا- و لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك- فلما رأت منهما الجد حلت قرونها- و استخرجت الكتاب فدفعته إليهما- فأقبلا به إلى رسول الله ص- فدعا حاطبا و قال له ما حملك على هذا- فقال يا رسول الله و الله إني لمسلم مؤمن بالله و رسوله- ما غيرت و لا بدلت- و لكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل و لا عشيرة- و كان لي بين أظهرهم أهل و ولد فصانعتهم- فقال عمر قاتلك الله ترى رسول الله ص يأخذ بالأنقاب- و تكتب إلى قريش تحذرهم- دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد نافق-
فقال رسول الله ص و ما يدريك يا عمر- لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال- اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
- قال الواقدي فلما خرج رسول الله ص من المدينة- بالألوية المعقودة و الرايات- بعد العصر من يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان- لم يحل عقده حتى انتهى إلى الصلصل- و المسلمون يقودون الخيل و قد امتطوا الإبل- و قدم أمامه الزبير بن العوام في مائتين- قال فلما كان بالبيداء نظر إلى عنان السماء- فقال إني لأرى السحاب تستهل بنصر بني كعب يعني خزاعة- . قال الواقدي- و جاء كعب بن مالك ليعلم أي جهة يقصد- فبرك بين يديه على ركبتيه ثم أنشده-
- قضينا من تهامة كل نحبو خيبر ثم أحمينا السيوفا
- فسائلها و لو نطقت لقالتقواضبهن دوسا أو ثقيفا
- فلست بحاضر إن لم تروهابساحة داركم منها ألوفا
- فننتزع الخيام ببطن وجو نترك دوركم منها خلوفا
- . قال فتبسم رسول الله ص و لم يزد على ذلك- فجعل الناس يقولون و الله ما بين لك رسول الله ص شيئا- فلم تزل الناس كذلك حتى نزلوا بمر الظهران- . قال الواقدي و خرج العباس بن عبد المطلب- و مخرمة بن نوفل- من مكة يطلبان رسول الله ص- ظنا منهما أنه بالمدينة يريدان الإسلام- فلقياه بالسقيا- .
قال الواقدي فلما كانت الليلة التي أصبح فيها بالجحفة- رأى فيها أبو بكر في منامه أن النبي ص و أصحابه- قد دنوا من مكة فخرجت عليهم كلبة تهر- فلما دنوا منها استلقت على قفاها- و إذا أطباؤها تشخب لبنا- فقصها على رسول الله ص- فقال ذهب كلبهم و أقبل درهم- و هم سائلونا بأرحامهم و أنتم لاقون بعضهم- فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه قال الواقدي و إلى أن وصل مر الظهران- لم يبلغ قريشا حرف واحد من حاله- فلما نزل بمر الظهران أمر أصحابه أن يوقدوا النار- فأوقدوا عشرة آلاف نار- و أجمعت قريش أن يبعثوا أبا سفيان يتجسس لهم الأخبار- فخرج هو و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء- قال و قد كان العباس بن عبد المطلب قال- وا سوء صباح قريش- و الله إن دخلها رسول الله ص عنوة- إنه لهلاك قريش آخر الدهر- قال العباس فأخذت بغلة رسول الله ص الشهباء فركبتها- و قلت ألتمس حطابا أو إنسانا أبعثه إلى قريش- فيلقوا رسول الله ص قبل أن يدخلها عليهم عنوة- فو الله إني لفي الأراك ليلا أبتغي ذلك إذ سمعت كلاما يقول- و الله إن رأيت كالليلة نارا- قال يقول بديل بن ورقاء- إنها نيران خزاعة جاشها الحرب- قال يقول أبو سفيان خزاعة أذل- من أن تكون هذه نيرانها و عسكرها- فعرفت صوته فقلت أبا حنظلة- فعرف صوتي فقال لبيك أبا الفضل- فقلت ويحك هذا رسول الله ص في عشرة آلاف و هو مصبحكم- فقال بأبي و أمي فهل من حيلة فقلت نعم- تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله ص- فإنه إن ظفر بك دون ذلك ليقتلنك- قال و الله أنا أرى ذلك فركب خلفي- و رحل بديل و حكيم فتوجهت به- فلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا من هذا- فإذا رأوني قالوا عم رسول الله ص على بغلة رسول الله- حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فلما رآني قال من هذا- قلت العباس فذهب ينظر فرأى أبا سفيان خلفي- فقال أبو سفيان عدو الله- الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد و لا عقد- ثم خرج يشتد نحو رسول الله ص- و ركضت البغلة- حتى اجتمعنا جميعا على باب قبة رسول الله ص- فدخلت و دخل عمر بن الخطاب على أثري- فقال عمر يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله- قد أمكن الله منه بغير عقد و لا عهد فدعني أضرب عنقه- فقلت يا رسول الله إني قد أجرته- ثم لزمت رسول الله ص فقلت- و الله لا يناجيه الليلة أحد دوني- فلما أكثر عمر فيه قلت مهلا يا عمر- فإنه لو كان رجلا من عدي بن كعب ما قلت هذا- و لكنه أحد بني عبد مناف- فقال عمر مهلا يا أبا الفضل- فو الله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب- أو قال من إسلام رجل من ولد الخطاب لو أسلم- فقال رسول الله ص اذهب به فقد أجرناه- فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت- فلما أصبحت غدوت به- فلما رآه رسول الله ص قال ويحك يا أبا سفيان- أ لم يأن لك أن تعلم لا إله إلا الله- قال بأبي أنت ما أحلمك و أكرمك و أعظم عفوك- قد كان يقع في نفسي أن لو كان مع الله إله آخر لأغنى- قال يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم أني رسول الله- قال بأبي أنت ما أحلمك و أكرمك و أعظم عفوك- أما هذه فو الله إن في النفس منها لشيئا بعد- قال العباس فقلت ويحك- تشهد و قل لا إله الله محمد رسول الله قبل أن تقتل- فتشهد- و قال العباس يا رسول الله- إنك قد عرفت أبا سفيان و فيه الشرف و الفخر فاجعل له شيئا-
فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن- و من أغلق داره فهو آمن- ثم قال خذه فاحبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل- حتى تمر عليه جنود الله فيراها
- قال العباس فعدلت به في مضيق الوادي إلى خطم الجبل- فحبسته هناك فقال أ غدرا يا بني هاشم- فقلت له إن أهل النبوة لا يغدرون- و إنما حبستك لحاجة- قال فهلا بدأت بها أولا فأعلمتنيها فكان أفرخ لروعي- ثم مرت به القبائل على قادتها و الكتائب على راياتها- فكان أول من مر به خالد بن الوليد في بني سليم و هم ألف- و لهم لواءان يحمل أحدهما العباس بن مرداس- و الآخر خفاف بن ندبة و راية يحملها المقداد- فقال أبو سفيان يا أبا الفضل من هؤلاء- قال هؤلاء بنو سليم و عليهم خالد بن الوليد- قال الغلام قال نعم- فلما حاذى خالد العباس و أبا سفيان كبر ثلاثا- و كبروا معه ثم مضوا- و مر على أثره الزبير بن العوام في خمسمائة- فيهم جماعة من المهاجرين و قوم من أفناء الناس- و معه راية سوداء فلما حاذاهما كبر ثلاثا و كبر أصحابه- فقال من هذا- قال هذا الزبير قال ابن أختك قال نعم- قال ثم مرت به بنو غفار في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبو ذر- و يقال إيماء بن رحضة- فلما حاذوهما كبروا ثلاثا- قال يا أبا الفضل من هؤلاء قال بنو غفار- قال ما لي و لبني غفار- ثم مرت به أسلم في أربعمائة- يحمل لواءها يزيد بن الخصيب- و لواء آخر مع ناجية بن الأعجم فلما حاذوه كبروا ثلاثا- فسأل عنهم فقال هؤلاء أسلم فقال ما لي و لأسلم- ما كان بيننا و بينهم ترة قط- ثم مرت بنو كعب بن عمرو بن خزاعة في خمسمائة- يحمل رايتهم بشر بن سفيان- فقال من هؤلاء قال كعب بن عمرو قال نعم حلفاء محمد- فلما حاذوه كبروا ثلاثا- ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية- مع النعمان بن مقرن و بلال بن الحارث و عبد الله بن عمرو- فلما حاذوهما كبروا- قال من هؤلاء قال مزينة قال يا أبا الفضل ما لي و لمزينة- قد جاءتني تقعقع من شواهقها- ثم مرت جهينة في ثمانمائة فيها أربعة ألوية- مع معبد بن خالد و سويد بن صخر و رافع بن مكيث- و عبد الله بن بدر- فلما حاذوه كبروا ثلاثا فسأل عنهم فقيل جهينة- ثم مرت بنو كنانة و بنو ليث و ضمرة و سعد بن أبي بكر- في مائتين يحمل لواءهم أبو واقد الليثي- فلما حاذوه كبروا ثلاثا- قال من هؤلاء قال بنو بكر قال نعم أهل شؤم هؤلاء- الذين غزانا محمد لأجلهم- أما و الله ما شوورت فيهم و لا علمته- و لقد كنت له كارها حيث بلغني و لكنه أمر حم- قال العباس لقد خار الله لك في غزو محمد إياكم- و دخلتم في الإسلام كافة- ثم مرت أشجع- و هم آخر من مر به قبل أن تأتي كتيبة رسول الله ص- و هم ثلاثة يحمل لواءهم معقل بن سنان- و لواء آخر مع نعيم بن مسعود فكبروا- قال من هؤلاء قال أشجع- فقال هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد- قال العباس نعم و لكن الله أدخل الإسلام قلوبهم- و ذلك من فضل الله- فسكت و قال أ ما مر محمد بعد قال لا- و لو رأيت الكتيبة التي هو فيها- لرأيت الحديد و الخيل و الرجال و ما ليس لأحد به طاقة- فلما طلعت كتيبة رسول الله ص الخضراء- طلع سواد شديد و غبرة من سنابك الخيل- و جعل الناس يمرون كل ذلك يقول أ ما مر محمد بعد- فيقول العباس لا حتى مر رسول الله ص- يسير على ناقته القصوى بين أبي بكر و أسيد بن حضير- و هو يحدثهما- و قال له العباس هذا رسول الله ص في كتيبته الخضراء- فانظر- قال و كان في تلك الكتيبة وجوه المهاجرين و الأنصار- و فيها الألوية و الرايات- و كلهم منغمسون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق- و لعمر بن الخطاب فيها زجل و عليه الحديد و صوته عال و هو يزعها- فقال يا أبا الفضل من هذا المتكلم- قال هذا عمر بن الخطاب- قال لقد أمر أمر بني عدي بعد قلة و ذلة- فقال إن الله يرفع من يشاء بما يشاء- و إن عمر ممن رفعه الإسلام- و كان في الكتيبة ألفا دارع- و راية رسول الله ص مع سعد بن عبادة و هو أمام الكتيبة- فلما حاذاهما سعد نادى يا أبا سفيان-
- اليوم يوم الملحمةاليوم تسبى الحرمة
- . اليوم أذل الله قريشا- فلما حاذاهما رسول الله ص ناداه أبو سفيان- يا رسول الله أمرت بقتل قومك أن سعدا قال-
- اليوم يوم الملحمةاليوم تسبى الحرمة
اليوم أذل الله قريشا- و إني أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس- و أرحم الناس و أوصل الناس- فقال عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف- يا رسول الله إنا لا نأمن سعدا أن يكون له في قريش صولة-
فوقف رسول الله ص و ناداه- يا أبا سفيان بل اليوم يوم المرحمة- اليوم أعز الله قريشا- و أرسل إلى سعد فعزله عن اللواء
- و اختلف فيمن دفع إليه اللواء- فقيل دفعه إلى علي بن أبي طالب ع- فذهب به حتى دخل مكة فغرزه عند الركن- و هو قول ضرار بن الخطاب الفهري- و قيل دفعه إلى قيس بن سعد بن عبادة- و رأى رسول الله ص أنه لم يخرجه عن سعد حيث دفعه إلى ولده- فذهب به حتى غرزه بالحجون- قال و قال أبو سفيان للعباس- ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط و لا أخبرنيه مخبر- سبحان الله ما لأحد بهؤلاء طاقة و لا يدان- لقد أصبح ملك ابن أخيك يا عباس عظيما- قال فقلت ويحك إنه ليس بملك و إنها النبوة قال نعم- . قال الواقدي قال العباس فقلت له- انج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم- فخرج أبو سفيان حتى دخل من كداء و هو ينادي- من دخل دار أبي سفيان فهو آمن- و من أغلق عليه بابه فهو آمن- حتى انتهى إلى هند بنت عتبة فقالت ما وراءك- قال هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد- و قد جعل لي أنه من دخل داري فهو آمن- و من أغلق عليه بابه فهو آمن و من ألقى سلاحه فهو آمن- فقالت قبحك الله من رسول قوم و جعلت تقول ويحكم- اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم- فيقول أبو سفيان ويحكم- لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإني رأيت ما لم تروا- الرجال و الكراع و السلاح ليس لأحد بهذا طاقة- محمد في عشرة آلاف فأسلموا تسلموا- و قال المبرد في الكامل- أمسكت هند برأس أبي سفيان و قالت بئس طليعة القوم- و الله ما خدشت خدشا يا أهل مكة- عليكم الحميت الدسم فاقتلوه- قال الحميت الزق المزفت- . قال الواقدي و خرج أهل مكة إلى ذي طوى- ينظرون إلى رسول الله ص- و انضوى إلى صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل- و سهيل بن عمرو ناس من أهل مكة و من بني بكر و هذيل- فلبسوا السلاح و أقسموا لا يدخل محمد مكة عنوة أبدا- و كان رجل من بني الدؤل يقال له- حماس بن قيس بن خالد الدؤلي- لما سمع برسول الله ص جلس يصلح سلاحه- فقالت له امرأته لم تعد السلاح قال لمحمد و أصحابه- و إني لأرجو أن أخدمك منهم خادما فإنك إليه محتاجة- قالت ويحك لا تفعل لا تقاتل محمدا- و الله ليضلن هذا عنك لو رأيت محمدا و أصحابه- قال سترين و أقبل رسول الله ص- و هو على ناقته القصواء معتجرا ببرد حبرة- و عليه عمامة سوداء و رايته سوداء و لواؤه أسود- حتى وقف بذي طوى و توسط الناس- و إن عثنونه ليمس واسطة الرحل أو يقرب منه تواضعا لله- حيث رأى ما رأى من الفتح و كثرة المسلمين- و
قال لا عيش إلا عيش الآخرة و جعلت الخيل تعج بذي طوى في كل وجه- ثم ثابت و سكنت و التفت رسول الله ص إلى أسيد بن حضير- فقال كيف قال حسان بن ثابت قال فأنشده-
- عدمنا خيلنا إن لم تروهاتثير النقع موعدها كداء
- تظل جيادنا متمطراتتلطمهن بالخمر النساء
- . فتبسم رسول الله ص و حمد الله- و أمر الزبير بن العوام أن يدخل من كداء- و أمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط- و أمر قيس بن سعد أن يدخل من كدى- و دخل هو ص من أذاخر- . قال الواقدي- و حدثني مروان بن محمد عن عيسى بن عميلة الفزاري- قال دخل رسول الله ص مكة بين الأقرع بن حابس و عيينة بن حصن- . قال الواقدي و روى عيسى بن معمر- عن عباد بن عبد الله عن أسماء بنت أبي بكر قالت- صعد أبو قحافة بصغرى بناته و اسمها قريبة- و هو يومئذ أعمى و هي تقوده حتى ظهرت به إلى أبي قبيس- فلما أشرفت به قال يا بنية ما ذا ترين- قالت أرى سوادا مجتمعا مقبلا كثيرا- قال يا بنية تلك الخيل فانظري ما ذا ترين- قالت أرى رجلا يسعى بين ذلك السواد مقبلا و مدبرا- قال ذاك الوازع فانظري ما ذا ترين- قالت قد تفرق السواد قال قد تفرق الجيش البيت البيت- قالت فنزلت الجارية به و هي ترعب لما ترى- فقال يا بنية لا تخافي- فو الله إن أخاك عتيقا لآثر أصحاب محمد عند محمد- قالت و عليها طوق من فضة- فاختلسه بعض من دخل- فلما دخل رسول الله ص مكة- جعل أبو بكر ينادي أنشدكم الله أيها الناس طوق أختي- فلم يرد أحد عليه- فقال يا أخية احتسبي طوقك- فإن الأمانة في الناس قليل- . قال الواقدي و نهى رسول الله ص عن الحرب- و أمر بقتل ستة رجال و أربع نسوة- عكرمة بن أبي جهل و هبار بن الأسود- و عبد الله بن سعد بن أبي سرح- و مقيس بن صبابة الليثي و الحويرث بن نفيل- و عبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي- و هند بنت عتبة و سارة مولاة لبني هاشم- و قينتين لابن خطل قريبا و قريبة- و يقال قرينا و أرنب- . قال الواقدي و دخلت الجنود كلها- فلم تلق حربا إلا خالد بن الوليد- فإنه وجد جمعا من قريش و أحابيشها قد جمعوا له- فيهم صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل- و سهيل بن عمرو- فمنعوه الدخول و شهروا السلاح و رموه بالنبل- و قالوا لا تدخلها عنوة أبدا- فصاح خالد في أصحابه و قاتلهم- فقتل من قريش أربعة و عشرون و من هذيل أربعة- و انهزموا أقبح انهزام حتى قتلوا بالحزورة- و هم مولون من كل وجه- و انطلقت طائفة منهم فوق رءوس الجبال- و اتبعهم المسلمون- و جعل أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام يناديان- يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم- من دخل داره فهو آمن و من أغلق عليه بابه فهو آمن- و من وضع السلاح فهو آمن- فجعل الناس يقتحمون الدور و يغلقون عليهم الأبواب- و يطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذه المسلمون- . قال الواقدي و أشرف رسول الله ص من على ثنية أذاخر- فنظر إلى البارقة فقال ما هذه البارقة- أ لم أنه عن القتال- قيل يا رسول الله خالد بن الوليد قوتل- و لو لم يقاتل ما قاتل- فقال قضاء الله خير- و أقبل ابن خطل مدججا في الحديد- على فرس ذنوب بيده قناة يقول- لا و الله لا يدخلها عنوة حتى يرى ضربا كأفواه المزاد- فلما انتهى إلى الخندمة و رأى القتال- دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة- و مر هاربا حتى انتهى إلى الكعبة- فدخل بين أستارها بعد أن طرح سلاحه و ترك فرسه- و أقبل حماس بن خالد الدؤلي منهزما حتى أتى بيته فدقه- ففتحت له امرأته فدخل و قد ذهبت روحه- فقالت أين الخادم التي وعدتني- ما زلت منتظرتك منذ اليوم تسخر به- فقال دعي هذا و أغلقي الباب- فإنه من أغلق بابه فهو آمن- قالت ويحك أ لم أنهك عن قتال محمد- و قلت لك إني ما رأيته يقاتلكم مرة- إلا و ظهر عليكم و ما بابنا- قال إنه لا يفتح على أحد بابه- ثم أنشدها-
- إنك لو شهدتنا بالخندمهإذ فر صفوان و فر عكرمه
- و بو يزيد كالعجوز المؤتمهو ضربناهم بالسيوف المسلمه
- لهم زئير خلفنا و غمغمهلم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
- . قال الواقدي و حدثني قدامة بن موسى- عن بشير مولى المازنيين عن جابر بن عبد الله قال- كنت ممن لزم رسول الله ص يومئذ- فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر- فلما أشرف نظر إلى بيوت مكة فحمد الله و أثنى عليه- و نظر إلى موضع قبة بالأبطح تجاه شعب بني هاشم- حيث حصر رسول الله ص و أهله ثلاث سنين- و قال يا جابر- إن منزلنا اليوم حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها- قال جابر فذكرت كلاما كنت أسمعه في المدينة قبل ذلك- كان يقول منزلنا غدا إن شاء الله إذا فتح علينا مكة- في الخيف حيث تقاسموا على الكفر- . قال الواقدي- و كانت قبته يومئذ بالأدم ضربت له بالحجون- فأقبل حتى انتهى إليها و معه أم سلمة و ميمونة قال الواقدي و حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله- عن أبيه عن أبي رافع قال- قيل للنبي ص أ لا تنزل منزلك من الشعب- قال و هل ترك لنا عقيل من منزل- و كان عقيل قد باع منزل رسول الله ص- و منازل إخوته من الرجال و النساء بمكة- فقيل لرسول الله ص فانزل في بعض بيوت مكة من غير منازلك- فأبى و قال لا أدخل البيوت- فلم يزل مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا- و كان يأتي إلى المسجد من الحجون- قال و كذلك فعل في عمرة القضية و في حجته- . قال الواقدي و كانت أم هانئ بنت أبي طالب- تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي- فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها- عبد الله بن أبي ربيعة و الحارث بن هشام المخزوميان- فاستجارا بها و قالا نحن في جوارك- فقالت نعم أنتما في جواري- قالت أم هانئ- فهما عندي إذ دخل علي فارس مدجج في الحديد و لا أعرفه- فقلت له أنا بنت عم رسول الله فأسفر عن وجهه- فإذا علي أخي فاعتنقته- و نظر إليهما فشهر السيف عليهما- فقلت أخي من بين الناس تصنع بي هذا- فألقيت عليهما ثوبا فقال أ تجيرين المشركين- فحلت دونهما و قلت لا و الله و ابتدئ بي قبلهما- قالت فخرج و لم يكد فأغلقت عليهما بيتا و قلت لا تخافا- و ذهبت إلى خباء رسول الله ص بالبطحاء فلم أجده- و وجدت فيه فاطمة فقلت لها ما لقيت من ابن أمي علي- أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما- قالت و كانت أشد علي من زوجها- و قالت لم تجيرين المشركين- و طلع رسول الله ص و عليه الغبار- فقال مرحبا بفاختة و هو اسم أم هانئ- فقلت ما ذا لقيت من ابن أمي علي ما كدت أفلت منه- أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما- فقال ما كان ذلك له قد أجرنا من أجرت و أمنا من أمنت- ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلا فاغتسل- ثم صلى ثماني ركعات- في ثوب واحد ملتحفا به وقت الضحى- قالت فرجعت إليهما و أخبرتهما و قلت إن شئتما فأقيما- و إن شئتما فارجعا إلى منازلكما- فأقاما عندي في منزلي يومين ثم انصرفا إلى منازلهما- . و أتى آت إلى النبي ص فقال- إن الحارث بن هشام و عبد الله بن أبي ربيعة- جالسان في ناديهما متفضلان في الملإ المزعفر- فقال لا سبيل إليهما قد أجرناهما- . قال الواقدي- و مكث رسول الله ص في قبة ساعة من النهار- ثم دعا براحلته بعد أن اغتسل و صلى- فأدنيت إلى باب القبة- و خرج و عليه السلاح و المغفر على رأسه و قد صف له الناس- فركبها و الخيل تمعج ما بين الخندمة إلى الحجون- ثم مر و أبو بكر إلى جانبه على راحلة أخرى يسير و يحادثه- و إذا بنات أبي أحيحة سعيد بن العاص بالبطحاء- حذاء منزل أبي أحيحة و قد نشرن شعورهن- فلطمن وجوه الخيل بالخمر- فنظر رسول الله ص إلى أبي بكر فتبسم و أنشده قول حسان-
- تظل جيادنا متمطراتتلطمهن بالخمر النساء
- . فلما انتهى إلى الكعبة تقدم على راحلته- فاستلم الركن بمحجنه و كبر فكبر المسلمون لتكبيره- و عجوا بالتكبير حتى ارتجت مكة- و جعل رسول الله ص يشير إليهم أن اسكتوا- و المشركون فوق الجبال ينظرون- ثم طاف بالبيت على راحلته- و محمد بن مسلمة آخذ بزمامها- و حول الكعبة ثلاثمائة و ستون صنما مرصوصة بالرصاص- و كان هبل أعظمها و هو تجاه الكعبة على بابها- و إساف و نائلة حيث ينحرون و يذبحون الذبائح- فجعل كلما يمر بصنم منها يشير بقضيب في يده- و يقول جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا- فيقع الصنم لوجهه ثم أمر بهبل فكسر و هو واقف عليه- فقال الزبير لأبي سفيان يا أبا سفيان قد كسر هبل- أ ما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور- حين تزعم أنه قد أنعم- فقال دع هذا عنك يا ابن العوام- فقد أرى أن لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان- . قال الواقدي ثم انصرف رسول الله ص- فجلس ناحية من المسجد- و أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة يأتيه بالمفتاح- مفتاح الكعبة- فقال عثمان نعم فخرج إلى أمه و هي بنت شيبة- فقال لها و المفتاح عندها يومئذ- إن رسول الله ص قد طلب المفتاح- فقالت أعيذك بالله- أن يكون الذي يذهب مأثرة قومه على يده- فقال فو الله لتأتيني به أو ليأتينك غيري فيأخذه منك- فأدخلته في حجرتها و قالت- أي رجل يدخل يده هاهنا- فبينما هما على ذلك و هو يكلمها- إذ سمعت صوت أبي بكر و عمر في الدار- و عمر رافع صوته حين رأى عثمان أبطأ- يا عثمان اخرج فقالت أمه خذ المفتاح- فلأن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيم و عدي- فأخذه فأتى به رسول الله ص- فلما تناوله بسط العباس بن عبد المطلب يده و قال- يا رسول الله بأبي أنت اجمع لنا بين السقاية و الحجابة- فقال إنما أعطيكم ما ترضون فيه- و لا أعطيكم ما ترزءون منه- قالوا و كان عثمان بن طلحة قد قدم على رسول الله ص- مع خالد بن الوليد و عمرو بن العاص مسلما قبل الفتح- . قال الواقدي- و بعث رسول الله ص عمر بن الخطاب- و معه عثمان بن طلحة- و أمره أن يفتح البيت فلا يدع فيه صورة و لا تمثالا- إلا صورة إبراهيم الخليل ع- فلما دخل الكعبة- رأى صورة إبراهيم شيخا كبيرا يستقسم بالأزلام- . قال الواقدي- و قد روي أنه أمره بمحو الصور كلها لم يستثن- فترك عمر صورة إبراهيم- فقال لعمر أ لم آمرك ألا تدع فيها صورة- فقال عمر كانت صورة إبراهيم قال فامحها- و قال قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام- . قال و محا صورة مريم- قال و قد روي أن رسول الله ص محا الصور بيده-
روى ذلك ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال دخلت مع رسول الله ص الكعبة- فرأى فيها صورا فأمرني أن آتيه في الدلو بماء- فجعل يبل به الثوب و يضرب به الصور و يقول- قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون
قال الواقدي و أمر رسول الله ص بالكعبة فأغلقت عليه- و معه فيها أسامة بن زيد و بلال بن رباح و عثمان بن طلحة- فمكث فيها ما شاء الله- و خالد بن الوليد واقف على الباب يذب الناس عنه- حتى خرج رسول الله ص- فوقف و أخذ بعضادتي الباب- و أشرف على الناس و في يده المفتاح- ثم جعله في كمه و أهل مكة قيام تحته- و بعضهم جلوس قد ليط بهم- فقال الحمد لله الذي صدق وعده و نصر عبده- و هزم الأحزاب وحده ما ذا تقولون- و ما ذا تظنون قالوا نقول خيرا و نظن شرا- أخ كريم و ابن أخ كريم و قد قدرت- فقال إني أقول كما قال أخي يوسف- لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ- يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ- ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مأثرة- فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة و سقاية الحاج- ألا و في قتيل شبه العمد- قتيل العصا و السوط الدية مغلظة مائة ناقة- منها أربعون في بطونها أولادها- إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية و تكبرها بآبائها- كلكم لآدم و آدم من تراب- و أكرمكم عند الله أتقاكم- ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات و الأرض- فهي حرام بحرم الله لم تحل لأحد كان قبل- و لا تحل لأحد يأتي بعدي- و ما أحلت لي إلا ساعة من النهار- قال يقصدها رسول الله ص بيده هكذا- لا ينفر صيدها و لا يعضد عضاهها- و لا تحل لقطتها إلا لمنشد و لا يختلى خلاها- فقال العباس إلا الإذخر يا رسول الله- فإنه لا بد منه للقبور و البيوت- فسكت رسول الله ص ساعة- ثم قال إلا الإذخر فإنه حلال- و لا وصية لوارث و الولد للفراش و للعاهر الحجر- و لا يحل لامرأة أن تعطي من مالها إلا بإذن زوجها- و المسلم أخو المسلم و المسلمون إخوة- يد واحدة على من سواهم تتكافأ دماؤهم- يسعى بذمتهم أدناهم و يرد عليهم أقصاهم- و لا يقتل مسلم بكافر و لا ذو عهد في عهده- و لا يتوارث أهل ملتين مختلفتين- و لا تنكح المرأة على عمتها و لا على خالتها- و البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر- و لا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم- و لا صلاة بعد العصر و لا بعد الصبح- و أنهاكم عن صيام يومين يوم الأضحى و يوم الفطر
ثم قال ادعوا لي عثمان بن طلحة فجاء- و قد كان رسول الله ص قال له يوما بمكة قبل الهجرة- و مع عثمان المفتاح- لعلك سترى هذا المفتاح بيدي يوما أضعه حيث شئت- فقال عثمان لقد هلكت قريش إذا و ذلت- فقال ع بل عمرت و عزت- قال عثمان فلما دعاني يومئذ و المفتاح بيده- ذكرت قوله حين قال- فاستقبلته ببشر فاستقبلني بمثله- ثم قال خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة- لا ينزعها منكم إلا ظالم- يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته- فكلوا بالمعروف- قال عثمان فلما وليت ناداني فرجعت- فقال أ لم يكن الذي قلت لك- يعني ما كان قاله بمكة من قبل- فقلت بلى أشهد أنك رسول الله ص قال الواقدي و أمر رسول الله ص يومئذ برفع السلاح- و قال إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر- فخبطوهم بالسيف ساعة و هي الساعة التي أحلت لرسول الله ص- . قال الواقدي و قد كان نوفل بن معاوية الدؤلي من بني بكر- استأمن رسول الله ص على نفسه فأمنه- و كانت خزاعة- تطلبه بدماء من قتلت بكر و قريش منها بالوتير- و قد كانت خزاعة قالت أيضا لرسول الله ص- إن أنس بن زنيم هجاك فهدر رسول الله ص- دمه- فلما فتح مكة هرب و التحق بالجبال- و قد كان قبل أن يفتح رسول الله ص مكة- قال شعرا يعتذر فيه إلى رسول الله ص من جملته-
- أنت الذي تهدى معد بأمرهبك الله يهديها و قال لها ارشدي
- فما حملت من ناقة فوق كورهاأبر و أوفى ذمة من محمد
- أحث على خير و أوسع نائلاإذا راح يهتز اهتزاز المهند
- و أكسى لبرد الخال قبل ارتدائهو أعطى لرأس السابق المتجرد
- تعلم رسول الله أنك مدركيو إن وعيدا منك كالأخذ باليد
- تعلم رسول الله أنك قادرعلى كل حي من تهام و منجد
- و نبي رسول الله أني هجوتهفلا رفعت سوطي إلي إذن يدي
- سوى أنني قد قلت يا ويح فتيةأصيبوا بنحس يوم طلق و أسعد
- أصابهم من لم يكن لدمائهمكفاء فعزت عبرتي و تلددي
- ذؤيبا و كلثوما و سلمى تتابعواجميعا فإلا تدمع العين أكمد
- على أن سلمى ليس منهم كمثلهو إخوته و هل ملوك كأعبد
- فإني لا عرضا خرقت و لا دماهرقت ففكر عالم الحق و اقصد
- . قال الواقدي و كانت كلمته هذه- قد بلغت رسول الله ص قبل أن يفتح مكة- فنهنهت عنه و كلمه يوم الفتح نوفل بن معاوية الدؤلي- فقال يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو- و من منا لم يعادك و لم يؤذك- و نحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ و ما ندع- حتى هدانا الله بك و أنقذنا بيمنك من الهلكة- و قد كذب عليه الركب و كثروا في أمره عندك- فقال رسول الله ص دع الركب عنك أنا لم نجد بتهامة أحدا- من ذوي رحم و لا بعيد الرحم كان أبر بنا من خزاعة- فاسكت يا نوفل- فلما سكت قال رسول الله ص- قد عفوت عنه فقال نوفل فداك أبي و أمي- . قال الواقدي و جاءت الظهر- فأمر رسول الله ص بلالا أن يؤذن فوق ظهر الكعبة- و قريش في رءوس الجبال- و منهم من قد تغيب و ستر وجهه خوفا من أن يقتلوا- و منهم من يطلب الأمان و منهم من قد أمن- فلما أذن بلال و بلغ إلى قوله- أشهد أن محمدا رسول الله ص- رفع صوته كأشد ما يكون قال- تقول جويرية بنت أبي جهل قد لعمري رفع لك ذكرك- فأما الصلاة فسنصلي- و لكن و الله لا نحب من قتل الأحبة أبدا- و لقد كان جاء أبي الذي جاء محمدا من النبوة- فردها و لم يرد خلاف قومه- . و قال خالد بن سعيد بن العاص- الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يدرك هذا اليوم- و قال الحارث بن هشام وا ثكلاه- ليتني مت قبل هذا اليوم- قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة- و قال الحكم بن أبي العاص هذا و الله الحدث العظيم- أن يصيح عبد بني جمح- يصيح بما يصيح به على بيت أبي طلحة- و قال سهيل بن عمرو- إن كان هذا سخطا من الله تعالى فسيغيره- و إن كان لله رضا فسيقره- و قال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا- لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصباء- قال فأتى جبرئيل ع رسول الله ص فأخبره مقالة القوم- .
قال الواقدي فكان سهيل بن عمرو يحدث فيقول- لما دخل محمد مكة انقمعت فدخلت بيتي و أغلقته علي- و قلت لابني عبد الله بن سهيل- اذهب فاطلب لي جوارا من محمد فإني لا آمن أن أقتل- و جعلت أتذكر أثري عنده و عند أصحابه- فلا أرى أسوأ أثرا مني- فإني لقيته يوم الحديبية بما لم يلقه أحد به- و كنت الذي كاتبه مع حضوري بدرا و أحدا- و كلما تحركت قريش كنت فيها- فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله ص فقال- يا رسول الله أبي تؤمنه قال نعم هو آمن بأمان الله- فليظهر- ثم التفت إلى من حوله فقال- من لقي سهيل بن عمرو فلا يشدن النظر إليه- ثم قال قل له فليخرج فلعمري إن سهيلا له عقل و شرف- و ما مثل سهيل جهل الإسلام- و لقد رأى ما كان يوضع فيه إن لم يكن له تتابع- فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله ص- فقال سهيل كان و الله برا صغيرا و كبيرا- و كان سهيل يقبل و يدبر غير خائف- و خرج إلى خيبر مع النبي ص و هو على شركه حتى أسلم بالجعرانة
قال الواقدي و هرب هبيرة بن أبي وهب- و عبد الله بن الزبعري جميعا حتى انتهيا إلى نجران- فلم يأمنا الخوف حتى دخلا حصن نجران- فقيل ما شأنكما قالا- أما قريش فقد قتلت و دخل محمد مكة- و نحن و الله نرى أن محمدا سائر إلى حصنكم هذا- فجعلت بلحارث بن كعب يصلحون ما رث من حصنهم- و جمعوا ماشيتهم فأرسل حسان بن ثابت إلى ابن الزبعرى-
- لا تعدمن رجلا أحلك بغضهنجران في عيش أجد ذميم
- بليت قناتك في الحروب فألفيتجوفاء ذات معايب و وصوم
- غضب الإله على الزبعرى و ابنهبعذاب سوء في الحياة مقيم
- . فلما جاء ابن الزبعرى شعر حسان تهيأ للخروج- فقال هبيرة بن وهب أين تريد يا ابن عم- قال له أريد و الله محمدا- قال أ تريد أن تتبعه قال إي و الله- قال هبيرة يا ليت أني كنت رافقت غيرك- و الله ما ظننت أنك تتبع محمدا أبدا- قال ابن الزبعرى هو ذاك- فعلى أي شي ء أقيم مع بني الحارث بن كعب- و أترك ابن عمى و خير الناس و أبرهم- و بين قومي و داري- فانحدر ابن الزبعرى- حتى جاء رسول الله ص- و هو جالس في أصحابه فلما نظر إليه قال- هذا ابن الزبعرى و معه وجه فيه نور الإسلام- فلما وقف على رسول الله ص قال- السلام عليك يا رسول الله- شهدت أن لا إله إلا الله- و أنك عبده و رسوله- و الحمد لله الذي هداني للإسلام- لقد عاديتك و أجلبت عليك- و ركبت الفرس و البعير- و مشيت على قدمي في عداوتك- ثم هربت منك إلى نجران- و أنا أريد ألا أقرب الإسلام أبدا- ثم أرادني الله منه بخير- فألقاه في قلبي و حببه إلي- و ذكرت ما كنت فيه من الضلال- و اتباع ما لا ينفع ذا عقل من حجر يعبد- و يذبح له لا يدرى من عبده و من لا يعبده-
فقال رسول الله ص الحمد لله الذي هداك للإسلام- احمد الله إن الإسلام يجب ما كان قبله
- و أقام هبيرة بنجران- و أسلمت أم هانئ- فقال هبيرة حين بلغه إسلامها يوم الفتح- يؤنبها شعرا من جملته-
- و إن كنت قد تابعت دين محمدو قطعت الأرحام منك حبالها
- فكوني على أعلى سحوق بهضبةململمة غبراء يبس بلالها
- فأقام بنجران حتى مات مشركا- . قال الواقدي و هرب حويطب بن عبد العزى- فدخل حائطا بمكة- و جاء أبو ذر لحاجته- فدخل الحائط فرآه- فهرب حويطب فقال أبو ذر- تعال فأنت آمن فرجع إليه فقال- أنت آمن فاذهب حيث شئت- و إن شئت أدخلتك على رسول الله ص- و إن شئت فإلى منزلك- قال و هل من سبيل إلى منزلي ألفى- فأقتل قبل أن أصل إلى منزلي- أو يدخل علي منزلي فأقتل- قال فأنا أبلغ معك منزلك- فبلغ معه منزله ثم جعل ينادي على بابه- أن حويطبا آمن فلا يهيج- ثم انصرف إلى رسول الله ص فأخبره- فقال أ و ليس قد أمنا الناس كلهم- إلا من أمرت بقتله- . قال الواقدي و هرب عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن- حتى ركب البحر- قال و جاءت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام- إلى رسول الله ص في نسوة منهن هند بنت عتبة- و قد كان رسول الله ص أمر بقتلها- و البغوم بنت المعدل الكنانية امرأة صفوان بن أمية- و فاطمة بنت الوليد بن المغيرة امرأة الحارث بن هشام- و هند بنت عتبة بن الحجاج- أم عبد الله بن عمرو بن العاص- و رسول الله ص بالأبطح فأسلمن- و لما دخلن عليه دخلن و عنده زوجتاه- و ابنته فاطمة و نساء من نساء بني عبد المطلب- و سألن أن يبايعهن فقال إني لا أصافح النساء- و يقال إنه وضع على يده ثوبا فمسحن عليه- و يقال كان يؤتى بقدح من ماء فيدخل يده فيه- ثم يرفعه إليهن فيدخلن أيديهن فيه- فقالت أم حكيم امرأة عكرمة يا رسول الله- إن عكرمة هرب منك إلى اليمن- خاف أن تقتله فأمنه- فقال هو آمن فخرجت أم حكيم في طلبه- و معها غلام لها رومي فراودها عن نفسها- فجعلت تمنيه حتى قدمت به على حي- فاستغاثت بهم عليه فأوثقوه رباطا- و أدركت عكرمة و قد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة- فركب البحر فهاج بهم- فجعل نوتي السفينة يقول له- أن أخلص قال أي شي ء أقول- قال قل لا إله إلا الله- قال عكرمة ما هربت إلا من هذا- فجاءت أم حكيم على هذا من الأمر- فجعلت تلح عليه و تقول يا ابن عم- جئتك من عند خير الناس و أوصل الناس و أبر الناس- لا تهلك نفسك فوقف لها حتى أدركته- فقالت إني قد استأمنت لك رسول الله ص فأمنك- قال أنت فعلت قالت نعم أنا كلمته فأمنك- فرجع معها فقالت ما لقيت من غلامك الرومي- و أخبرته خبره فقتله عكرمة- فلما دنا من مكة
قال رسول الله ص لأصحابه يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا- فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي- و لا يبلغ الميت
- فلما وصل عكرمة و دخل على رسول الله ص- وثب إليه ص و ليس عليه رداء فرحا به- ثم جلس فوق عكرمة بين يديه- و معه زوجته منقبة فقال يا محمد- إن هذه أخبرتني أنك أمنتني- فقال صدقت أنت آمن- فقال عكرمة فإلام تدعو- فقال إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله- و أني رسول الله و أن تقيم الصلاة و تؤتي الزكاة- و عد خصال الإسلام فقال عكرمة- ما دعوت إلا إلى حق و إلى حسن جميل- و لقد كنت فينا من قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه- و أنت أصدقنا حديثا و أعظمنا برا- ثم قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله- فقال رسول الله ص- لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه- قال فإني أسألك أن تغفر لي كل عداوة عاديتكها- أو مسير أوضعت فيه أو مقام لقيتك فيه- أو كلام قلته في وجهك أو أنت غائب عنه- فقال اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها- و كل مسير سار فيه إلي يريد بذلك إطفاء نورك- و اغفر له ما نال مني و من عرضي- في وجهي أو أنا غائب عنه- فقال عكرمة رضيت بذلك يا رسول الله- ثم قال أما و الله لا أدع نفقة كنت أنفقها- في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها- في سبيل الإسلام و في سبيل الله- و لأجتهدن في القتال بين يديك حتى أقتل شهيدا- قال فرد عليه رسول الله ص امرأته بذلك النكاح الأول- . قال الواقدي و أما صفوان بن أمية- فهرب حتى أتى الشعبة و جعل يقول لغلامه يسار- و ليس معه غيره ويحك انظر من ترى- فقال هذا عمير بن وهب- قال صفوان ما أصنع بعمير- و الله ما جاء إلا يريد قتلي قد ظاهر محمدا علي- فلحقه فقال صفوان يا عمير ما لك- ما كفاك ما صنعت حملتني دينك و عيالك- ثم جئت تريد قتلي فقال يا أبا وهب- جعلت فداك جئتك من عند خير الناس- و أبر الناس و أوصل الناس- و قد كان عمير قال لرسول الله ص يا رسول الله- سيد قومي صفوان بن أمية خرج هاربا ليقذف نفسه في البحر- خاف ألا تؤمنه فأمنه فداك أبي و أمي- فقال قد أمنته فخرج في أثره فقال- إن رسول الله ص قد أمنك صفوان- لا و الله حتى تأتيني بعلامة أعرفها- فرجع إلى رسول الله ص فأخبره و قال- يا رسول الله جئته و هو يريد أن يقتل نفسه- فقال لا أرجع إلا بعلامة أعرفها- فقال خذ عمامتي- فرجع عمير إليه بعمامة رسول الله ص- و هي البرد الذي دخل فيه رسول الله ص مكة- معتجرا به برد حبرة أحمر- فخرج عمير في طلبه الثانية حتى جاءه بالبرد فقال- يا أبا وهب جئتك من عند خير الناس- و أوصل الناس و أبر الناس و أحلم الناس- مجده مجدك و عزه عزك- و ملكه ملكك ابن أبيك و أمك- أذكرك الله في نفسك- فقال أخاف أن أقتل- قال فإنه دعاك إلى الإسلام فإن رضيت- و إلا سيرك شهرين فهو أوفى الناس و أبرهم- و قد بعث إليك ببرده الذي دخل به معتجرا- أ تعرفه قال نعم- فأخرجه- فقال نعم هو هو- فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله ص- فوجده يصلي العصر بالناس فقال- كم يصلون قالوا خمس صلوات في اليوم و الليلة- قال أ محمد يصلي بهم قالوا نعم- فلما سلم من صلاته صاح صفوان يا محمد- إن عمير بن وهب جاءني ببردك- و زعم أنك دعوتني إلى القدوم إليك- فإن رضيت أمرا و إلا سيرتني شهرين- فقال رسول الله ص انزل أبا وهب- فقال لا و الله أو تبين لي- قال بل سر أربعة أشهر- فنزل صفوان و خرج معه إلى حنين و هو كافر- و أرسل إليه يستعير أدراعه و كانت مائة درع- فقال أ طوعا أم كرها فقال ع- بل طوعا عارية مؤداة فأعاره إياها- ثم أعادها إليه بعد انقضاء حنين و الطائف- فلما كان رسول الله ص بالجعرانة- يسير في غنائم هوازن ينظر إليها- فنظر صفوان إلى شعب هناك مملوء نعما وشاء ورعاء- فأدام النظر إليه و رسول الله ص يرمقه فقال- أبا وهب يعجبك هذا الشعب- قال نعم قال هو لك و ما فيه- فقال صفوان ما طابت نفس أحد بمثل هذا- إلا نفس نبي أشهد أن لا إله إلا الله- و أنك رسول الله ص- . قال الواقدي فأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح- فكان قد أسلم و كان يكتب لرسول الله ص الوحي- فربما أملى عليه رسول الله ص سميع عليم- فيكتب عزيز حكيم و نحو ذلك- و يقرأ على رسول الله ص فيقول كذلك الله- و يقرأ فافتتن- و قال و الله ما يدري ما يقول- إني لأكتب له ما شئت فلا ينكر- و إنه ليوحى إلي كما يوحى إلى محمد- و خرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا- فأهدر رسول الله دمه- و أمر بقتله يوم الفتح- فلما كان يومئذ جاء إلى عثمان و كان أخاه من الرضاعة- فقال يا أخي إني قد أجرتك فاحتبسني هاهنا- و اذهب إلى محمد فكلمه في- فإن محمدا إن رآني ضرب عنقي- أن جرمي أعظم الجرم و قد جئت تائبا- فقال عثمان قم فاذهب معي إليه- قال كلا و الله إنه إن رآني ضرب عنقي و لم يناظرني- قد أهدر دمي و أصحابه يطلبونني في كل موضع- فقال عثمان انطلق معي فإنه لا يقتلك إن شاء الله- فلم يرع رسول الله ص إلا بعثمان- آخذا بيد عبد الله بن سعد واقفين بين يديه- فقال عثمان يا رسول الله هذا أخي من الرضاعة- إن أمه كانت تحملني و تمشيه و ترضعني و تفطمه- و تلطفني و تتركه فهبه لي- فأعرض رسول الله ص عنه- و جعل عثمان كلما أعرض رسول الله عنه استقبله بوجهه- و أعاد عليه هذا الكلام- و إنما أعرض ع عنه إرادة لأن يقوم رجل فيضرب عنقه- فلما رأى ألا يقوم أحد و عثمان قد انكب عليه- يقبل رأسه و يقول يا رسول الله- بايعه فداك أبي و أمي على الإسلام- فقال رسول الله ص نعم فبايعه- . قال الواقدي قال رسول الله ص بعد ذلك للمسلمين- ما منعكم أن يقوم منكم واحد إلى هذا الكلب فيقتله- أو قال الفاسق- فقال عباد بن بشر و الذي بعثك بالحق- إني لأتبع طرفك من كل ناحية- رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه- و يقال إن أبا البشير هو الذي قال هذا- و يقال بل قاله عمر بن الخطاب- فقال ع إني لا أقتل بالإشارة- و قيل إنه قال إن النبي لا يكون له خائنة الأعين- . قال الواقدي فجعل عبد الله بن سعد- يفر من رسول الله ص كلما رآه- فقال له عثمان بأبي أنت و أمي- لو ترى ابن أم عبد يفر منك كلما رآك- فتبسم رسول الله ص فقال- أ و لم أبايعه و أؤمنه- قال بلى و لكنه يتذكر عظم جرمه في الإسلام-
فقال إن الإسلام يجب ما قبله
قال الواقدي و أما الحويرث بن معبد- و هو من ولد قصي بن كلاب- فإنه كان يؤذي رسول الله ص بمكة فأهدر دمه- فبينما هو في منزله يوم الفتح و قد أغلق عليه بابه- جاء علي ع يسأل عنه- فقيل له هو في البادية- و أخبر الحويرث أنه جاء يطلبه و تنحى علي ع عن بابه- فخرج الحويرث يريد أن يهرب من بيت إلى بيت آخر- فتلقاه علي ع فضرب عنقه- . قال الواقدي و أما هبار بن الأسود- فقد كان رسول الله ص أمر أن يحرقه بالنار- ثم قال إنما يعذب بالنار رب النار- اقطعوا يديه و رجليه إن قدرتم عليه ثم اقتلوه- و كان جرمه أن نخس زينب بنت رسول الله ص لما هاجرت- و ضرب ظهرها بالرمح و هي حبلى فأسقطت- فلم يقدر المسلمون عليه يوم الفتح- فلما رجع رسول الله ص إلى المدينة- طلع هبار بن الأسود قائلا- أشهد أن لا إله إلا الله- و أشهد أن محمدا رسول الله- فقبل النبي ص إسلامه- فخرجت سلمى مولاة النبي ص فقالت- لا أنعم الله بك عينا- أنت الذي فعلت و فعلت- فقال رسول الله ص و هبار يعتذر إليه- أن الإسلام محا ذلك و نهى عن التعرض له- . قال الواقدي قال ابن عباس رضي الله عنه- رأيت رسول الله ص و هبار يعتذر إليه- و هو يطأطئ رأسه استحياء مما يعتذر هبار- و يقول له قد عفوت عنك- . قال الواقدي و أما ابن خطل- فإنه خرج حتى دخل بين أستار الكعبة- فأخرجه أبو برزة الأسلمي منها- فضرب عنقه بين الركن و المقام- و يقال بل قتله عمار بن ياسر- و قيل سعد بن حريث المخزومي- و قيل شريك بن عبدة العجلاني- و الأثبت أنه أبو برزة- قال و كان جرمه أنه أسلم و هاجر إلى المدينة- و بعثه رسول الله ص ساعيا- و بعث معه رجلا من خزاعة فقتله- و ساق ما أخذ من مال الصدقة و رجع إلى مكة- فقالت له قريش ما جاء بك- قال لم أجد دينا خيرا من دينكم- و كانت له قينتان إحداهما قرينى- و الأخرى قرينة أو أرنب- و كان ابن خطل يقول الشعر- يهجو به رسول الله ص و يغنيان به- و يدخل عليه المشركون بيته فيشربون عنده الخمر- و يسمعون الغناء بهجاء رسول الله ص- . قال الواقدي و أما مقيس بن صبابة فإن أمه سهمية- و كان يوم الفتح عند أخواله بني سهم- فاصطبح الخمر ذلك اليوم في ندامى له- و خرج ثملا يتغنى و يتمثل بأبيات منها-
- دعيني أصطبح يا بكر إنيرأيت الموت نقب عن هشام
- و نقب عن أبيك أبي يزيدأخي القينات و الشرب الكرام
- يخبرنا ابن كبشة أن سنحياو كيف حياة أصداء و هام
- إذا ما الرأس زال بمنكبيهفقد شبع الأنيس من الطعام
- أ تقتلني إذا ما كنت حياو تحييني إذا رمت عظامي
- . فلقيه نميلة بن عبد الله الليثي و هو من رهطه- فضربه بالسيف حتى قتله- فقالت أخته ترثيه-
- لعمري لقد أخزى نميلة رهطهو فجع أصناف النساء بمقيس
- فلله عينا من رأى مثل مقيسإذا النفساء أصبحت لم تخرس
- و كان جرم مقيس من قبل أن أخاه- هاشم بن صبابة أسلم و شهد المريسيع- مع رسول الله ص- فقتله رجل من رهط عبادة بن الصامت- و قيل من بني عمرو بن عوف و هو لا يعرفه- فظنه من المشركين- فقضى له رسول الله ص بالدية على العاقلة- فقدم مقيس أخوه المدينة فأخذ ديته و أسلم- ثم عدا على قاتل أخيه فقتله- و هرب مرتدا كافرا يهجو رسول الله ص بالشعر- فأهدر دمه- .
قال الواقدي فأما سارة مولاة بني هاشم- و كانت مغنية نواحة بمكة- و كانت قد قدمت على رسول الله ص المدينة- تطلب أن يصلها و شكت إليه الحاجة- و ذلك بعد بدر و أحد فقال لها- أ ما كان لك في غنائك و نياحك ما يغنيك- قالت يا محمد إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر- تركوا استماع الغناء- فوصلها رسول الله ص و أوقر لها بعيرا طعاما- فرجعت إلى قريش و هي على دينها- و كانت يلقى عليها هجاء رسول الله ص فتغنى به- فأمر بها رسول الله ص يوم الفتح أن تقتل فقتلت- و أما قينتا ابن خطل فقتل يوم الفتح إحداهما- و هي أرنب أو قرينة- و أما قريني فاستؤمن لها رسول الله ص فأمنها- و عاشت حتى ماتت في أيام عثمان- . قال الواقدي و قد روي أن رسول الله ص- أمر بقتل وحشي يوم الفتح- فهرب إلى الطائف- فلم يزل بها مقيما حتى قدم مع وفد الطائف- على رسول الله ص فدخل عليه فقال- أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله- فقال أ وحشي قال نعم- قال اجلس و حدثني كيف قتلت حمزة- فلما أخبره قال قم و غيب عني وجهك- فكان إذا رآه توارى عنه- .
قال الواقدي و حدثني ابن أبي ذئب و معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي عمرو بن عدي بن أبي الحمراء قال سمعت رسول الله ص يقول بعد فراغه من أمر الفتح- و هو يريد الخروج من مكة أما و الله إنك لخير أرض الله- و أحب بلاد الله إلي- و لو لا أن أهلك أخرجوني ما خرجت
- . و زاد محمد بن إسحاق في كتاب المغازي- أن هند بنت عتبة جاءت إلى رسول الله ص- مع نساء قريش متنكرة متنقبة- لحدثها الذي كان في الإسلام- و ما صنعت بحمزة حين جدعته و بقرت بطنه عن كبده- فهي تخاف أن يأخذها رسول الله ص بحدثها ذلك- فلما دنت منه و قال حين بايعنه- على ألا يشركن بالله شيئا قلن نعم- قال و لا يسرقن فقالت هند- و الله أنا كنت لأصيب من مال أبي سفيان- الهنة و الهنيهة فما أعلم أ حلال ذلك أم لا- فقال رسول الله ص و إنك لهند- قالت نعم أنا هند- و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله- فاعف عما سلف عفا الله عنك- فقال رسول الله ص و لا يزنين- فقالت هند و هل تزني الحرة- فقال لا و لا يقتلن أولادهن- فقالت هند قد لعمري ربيناهم صغارا و قتلتهم كبارا ببدر- فأنت و هم أعرف- فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أسفرت نواجذه- قال و لا يأتين ببهتان يفترينه- فقالت هند إن إتيان البهتان لقبيح- فقال و لا يعصينك في معروف- فقالت ما جلسنا هذه الجلسة و نحن نريد أن نعصيك- . قال محمد بن إسحاق- و من جيد شعر عبد الله بن الزبعرى- الذي اعتذر به إلى رسول الله ص حين قدم عليه-
- منع الرقاد بلابل و همومفالليل ممتد الرواق بهيم
- مما أتاني أن أحمد لامنيفيه فبت كأنني محموم
- يا خير من حملت على أوصالهاعيرانة سرح اليدين سعوم
- إني لمعتذر إليك من الذيأسديت إذ أنا في الضلال أهيم
- أيان تأمرني بأغوى خطةسهم و تأمرني به مخزوم
- و أمد أسباب الردى و يقودنيأمر الغواة و أمرهم مشئوم
- فاليوم آمن بالنبي محمدقلبي و مخطئ هذه محروم
- مضت العداوة و انقضت أسبابهاو دعت أواصر بيننا و حلوم
- فاغفر فدى لك والدي كلاهمازللي فإنك راحم مرحوم
- و عليك من علم المليك علامةنور أغر و خاتم مختوم
- أعطاك بعد محبة برهانهشرفا و برهان الإله عظيم
- و لقد شهدت بأن دينك صادقبر و شأنك في العباد جسيم
- و الله يشهد أن أحمد مصطفىمتقبل في الصالحين كريم
- فرع علا بنيانه من هاشمدوح تمكن في العلا و أروم
- . قال الواقدي و في يوم الفتح- سمى رسول الله ص أهل مكة الذين دخلها عليهم الطلقاء- لمنه عليهم بعد أن أظفره الله بهم- فصاروا أرقاء له- و قد قيل له يوم الفتح قد أمكنك الله تعالى- فخذ ما شئت من أقمار على غصون يعنون النساء- فقال ع يأبى ذلك إطعامهم الضيف- و إكرامهم البيت و وجؤهم مناحر الهدي.
ثم نعود إلى تفسير ما بقي من ألفاظ الفصل- قوله فإن كان فيك عجل فاسترفه-
أي كن ذا رفاهية- و لا ترهقن نفسك بالعجل- فلا بد من لقاء بعضنا بعضا- فأي حاجة بك إلى أن تعجل- ثم فسر ذلك فقال إن أزرك في بلادك- أي إن غزوتك في بلادك- فخليق أن يكون الله بعثني للانتقام منك- و إن زرتني أي إن غزوتني في بلادي- و أقبلت بجموعك إلي- . كنتم كما قال أخو بني أسد كنت أسمع قديما- أن هذا البيت من شعر بشر بن أبي خازم الأسدي- و الآن فقد تصفحت شعره فلم أجده- و لا وقفت بعد على قائله- و إن وقفت فيما يستقبل من الزمان عليه ألحقته- . و ريح حاصب تحمل الحصباء- و هي صغار الحصى- و إذا كانت بين أغوار و هي ما سفل من الأرض- و كانت مع ذلك ريح صيف- كانت أعظم مشقة- و أشد ضررا على من تلاقيه- و جلمود يمكن أن يكون عطفا على حاصب- و يمكن أن يكون عطفا على أغوار- أي بين غور من الأرض و حرة- و ذلك أشد لأذاها لما تكسبه الحرة- من لفح السموم و وهجها و الوجه الأول أليق- . و أعضضته أي جعلته معضوضا برءوس أهلك- و أكثر ما يأتي أفعلته أن تجعله فاعلا- و هي هاهنا من المقلوب- أي أعضضت رءوس أهلك به- كقوله قد قطع الحبل بالمرود- . و جده عتبة بن ربيعة و خاله الوليد بن عتبة- و أخوه حنظلة بن أبي سفيان- قتلهم علي ع يوم بدر- . و الأغلف القلب الذي لا بصيرة له- كأن قلبه في غلاف قال تعالى- وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ- .
و المقارب العقل بالكسر- الذي ليس عقله بجيد- و العامة تقول فيما هذا شأنه- مقارب بفتح الراء- . ثم قال الأولى أن يقال هذه الكلمة لك- . و نشدت الضالة طلبتها- و أنشدتها عرفتها أي طلبت ما ليس لك- . و السائمة المال الراعي- و الكلام خارج مخرج الاستعارة- . فإن قلت كل هذا الكلام يطابق بعضه بعضا- إلا قوله فما أبعد قولك من فعلك- و كيف استبعد ع ذلك و لا بعد بينهما- لأنه يطلب الخلافة قولا و فعلا- فأي بعد بين قوله و فعله- . قلت لأن فعله البغي- و الخروج على الإمام الذي ثبتت إمامته و صحت- و تفريق جماعة المسلمين و شق العصا- هذا مع الأمور التي كانت تظهر عليه و تقتضي الفسق- من لبس الحرير و المنسوج بالذهب- و ما كان يتعاطاه في حياة عثمان من المنكرات- التي لم تثبت توبته منها فهذا فعله- . و أما قوله فزعمه أنه أمير المؤمنين- و خليفة المسلمين- و هذا القول بعيد من ذلك الفعل جدا- . و ما في قوله و قريب ما أشبهت مصدرية- أي و قريب شبهك بأعمام و أخوال- و قد ذكرنا من قتل من بني أمية- في حروب رسول الله ص فيما تقدم- و إليهم الإشارة بالأعمام و الأخوال- لأن أخوال معاوية من بني عبد شمس- كما أن أعمامه من بني عبد شمس- . قوله و لم تماشها الهوينى أي لم تصحبها- يصفها بالسرعة و المضي في الرءوس الأعناق-
و أما قوله ادخل فيما دخل فيه الناس و حاكم القوم- فهي الحجة التي يحتج بها أصحابنا له- في أنه لم يسلم قتلة عثمان إلى معاوية- و هي حجة صحيحة- لأن الإمام يجب أن يطاع- ثم يتحاكم إليه أولياء الدم و المتهمون- فإن حكم بالحق استديمت حكومته- و إلا فسق و بطلت إمامته- .
قوله فأما تلك التي تريدها- قيل إنه يريد التعلق بهذه الشبهة- و هي قتلة عثمان- و قيل أراد به ما كان معاوية يكرر طلبه- من أمير المؤمنين ع و هو أن يقره على الشام وحده- و لا يكلفه البيعة- قال إن ذلك كمخادعة الصبي في أول فطامه عن اللبن- بما تصنعه النساء له مما يكره إليه الثدي و يسليه عنه- و يرغبه في التعوض بغيره- و كتاب معاوية الذي ذكرناه لم يتضمن حديث الشام
( . شرح نهج البلاغه ابن ابی الحدید، ج17، ص 250-284 و ج18 ص 7-21)
|