و من كلام له عليه السّلام لما اظفره اللّه باصحاب الجمل و هو الثاني عشر من المختار فى باب الخطب
و قد قال له بعض أصحابه وددت أنّ أخي فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك فقال عليه السّلام: أهوى أخيك معنا فقال: نعم، قال عليه السّلام: فقد شهدنا و لقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرّجال و أرحام النّساء سيرعف بهم الزّمان، و يقوى بهم الإيمان.
اللغة
(يرعف) بهم الزّمان يوجدهم و يخرجهم كما يرعف الانسان بالدّم الذي يخرجه من انفه قال الشّاعر:
- و ما رعف الزّمان بمثل عمروو لا تلد النّساء له ضريبا
الاعراب
هوى مرفوع المحلّ على الابتداء و معنا خبره و فاعل شهد الأوّل ضمير راجع إلى أخيك، و فاعل شهد الثّاني قوم و اسناد يرعف الى الزّمان مجاز عقليّ إذ الفاعل الحقيقي هو اللّه و هو من قبيل الاسناد إلى الظرف أو الشّرط و المعدّ لأنّ الزّمان من الاسباب المعدّة لقوابل وجودهم.
المعنى
لما كان بعض أصحابه عليه السّلام يحبّ حضور أخيه معهم في تلك الحرب حتّى يرى نصرة اللّه لأوليائه على أعدائه و يفرح بذلك قال عليه السّلام له: (أهوى أخيك معنا) يعني أنّ أخيك كان هواه معنا و كان إرادته و ميله أن يكون في حزبنا (فقال: نعم) هو من مواليك و كان هواه معك (قال عليه السّلام: فقد شهدنا) أخوك بالقوّة و إن لم يكن حاضرا بالفعل و حصل له من الأجر مثل ما حصل للحاضرين بمقتضى هواه و محبّته التي كانت له، ثمّ أكّد حضوره بقوله عليه السّلام: (و لقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرّجال و أرحام النّساء) من المحبين و الموالين و عباد اللّه الصالحين (سيرعف بهم الزّمان) و يخرجهم من العدم إلى الوجود (و يقوى بهم الإيمان).
اعلم أنّ الشّارح المعتزلي ذكر في شرح هذا الفصل نبذا من الوقايع التي صدرت منه عليه السّلام بعد ظفره على أصحاب الجمل و لامهم لنا في الاطالة بالاشارة إلى جميع ما ذكره هنا مع خلو أكثرها عن المناسبة للمقام، و إنّما ينبغي الاشارة إلى طوافه عليه السّلام على القتلى بعد ما وضعت الحرب أوزارها، و ما قاله عليه السّلام لطلحة حين وقوفه عليه قصدا للتنبيه على خطاء الشّارح تبعا لأصحابه، و لنذكر أولا ما رواه أصحابنا رضى اللّه عنهم في هذا الباب، ثمّ نتبعها بما رواه الشّارح.
فاقول: روى الطبرسي في الاحتجاج أنّه عليه السّلام لما مرّ على طلحة بين القتلى قال اقعدوه، فاقعد فقال: إنّه كانت لك سابقة لكن الشّيطان دخل منخريك فأوردك النار و فيه أيضا روى أنّه عليه السّلام مرّ عليه فقال: هذا النّاكث بيعتي و المنشى ء للفتنة في الامة و المجلب علىّ و الداعي إلى قتلي و قتل عترتي اجلسوا طلحة، فأجلس فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: يا طلحة بن عبيد اللّه لقد وجدت ما وعدني ربّي حقّا فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّا ثمّ قال: اضجعوا طلحة، و سار فقال بعض من كان معه: يا أمير المؤمنين تكلم طلحة بعد قتله فقال: و اللّه لقد سمع كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر، و هكذا فعل عليه السّلام بكعب بن سور لمّا مرّ به قتيلا، و قال: هذا الذي خرج علينا في عنقه المصحف يزعم أنّه ناصر أمّه«» يدعو النّاس إلى ما فيه و هو لا يعلم ما فيه، ثم استفتح و خاب كلّ جبّار عنيد، أمّا انّه دعا اللّه أن يقتلني فقتله اللّه و في البحار من كتاب الكافية لابطال توبة الخاطئة روى خالد بن مخلد عن زياد بن المنذر عن أبي جعفر عن آبائه عليهم السّلام قال: مرّ أمير المؤمنين عليه السّلام على طلحة و هو صريع فقال: أجلسوه، فاجلس، فقال: ام و اللّه لقد كانت لك صحبة و لقد شهدت و سمعت و رأيت و لكن الشّيطان أزاغك و أمالك فأوردك جهنّم.
و روى الشّارح المعتزلي عن اصبغ بن نباتة أنه لمّا انهزم أهل البصرة ركب عليّ عليه السّلام بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشّهباء و كانت باقية عنده و سار في القتلى ليستعرضهم فمرّ بكعب بن سور القاضي قاضي البصرة و هو قتيل فقال: أجلسوه، فاجلس، فقال: ويل امّك كعب بن سور لقد كان لك علم لو نفعك و لكن الشّيطان أضلك فأزلك فعجّلك إلى النّار أرسلوه، ثمّ مرّ بطلحة بن عبيد اللّه قتيلا فقال: أجلسوه فاجلس، ثمّ قال: قال أبو مخنف في كتابه: فقال له: ويل امّك طلحة لقد كان لك قدم لو نفعك و لكنّ الشّيطان أضلّك فأزلّك فعجّلك إلى النّار.
قال الشّارح بعد ذكر ذلك و أمّا اصحابنا فيروون غير ذلك، يروون أنّه قال له لمّا أجلسوه: اعزز علىّ أبا محمّد أن أراك معفّرا تحت نجوم السّماء و في بطن هذا الوادي ابعد جهادك في اللّه و ذبّك عن رسول اللّه، فجاء إليه انسان فقال: اشهد يا أمير المؤمنين لقد مررت عليه بعد أن أصابه السّهم و هو صريع فصاح بي فقال: من أصحاب من أنت فقلت: من أصحاب أمير المؤمنين، فقال امدد يدك لابايع لأمير المؤمنين فمددت إليه يدي فبايعني لك فقال عليّ عليه السّلام: أبى اللّه أن يدخل طلحة الجنّة الا و بيعتي في عنقه، انتهى كلامه.
و أنت خبير بما فيه أمّا أو لا فلأنّ هذه الرّواية ممّا انفرد أصحابه بنقلها فهي غير مسموعة و المعروف بين الفريقين هو ما رواه أبو مخنف، و ثانيا أنّ الشّارح قال في أوائل شرحه عند الكلام على البغاة و الخوارج: أمّا أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا هالكون كلهم إلّا عايشة و طلحة و الزّبير، فانّهم تابوا و لو لا التّوبة لحكموا لهم بالنّار لاصرارهم على البغى فانّ هذا الكلام منهم صريح في استحقاقه للنّار لو لا التّوبة و لا بد لهم من إثبات التّوبة و أنّى لهم بذلك و مبايعته لمن يبايع أمير المؤمنين عليه السّلام في تلك الحال التي كان عليها صريعا بين القتلى آيسا من الحياة لا يكفي في رفع العقاب و استحقاق الثّواب قال سبحانه: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً»بل أقول: إنّ توبته في تلك الحال على تسليم كون تلك المبايعة منه توبة إنّما هي مثل توبة فرعون التي لم تنجه من عذاب ربّه كما قال تعالى: «فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» و حاصل ما ذكرته عدم ثبوت التّوبة أولا و عدم كفايتها في رفع العقوبة على تقدير ثبوتها ثانيا.
و هاهنا لطيفة
يعجبني ذكرها لمناسبته للمقام و هي انّ الشّيخ المحدّث الشّيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق ذكر في لؤلؤة البحرين عند التّعرّض لأحوال شيخ الطائفة محمّد بن محمّد بن النّعمان المفيد (قده) عن الشّيخ و رام بن أبي فراس في كتابه أنّ الشّيخ المفيد (ره) كان من أهل عكبرا ثمّ انحدر و هو صبيّ من أبيه إلى بغداد و اشتغل بالقرائة على الشّيخ أبي عبد اللّه المعروف بجعل، و كان منزله في درب رباح من بغداد و بعد ذلك اشتغل بالدّرس عند أبي ياسر في باب خراسان من البلدة المذكورة.
و لما كان أبو ياسر المذكور بما عجز عن البحث معه و الخروج عن عهدته أشار عليه بالمضيّ إلى عليّ بن عيسى الرّماني الذي هو من أعاظم علماء الكلام، فقال الشّيخ: إنّي لا أعرفه و لا أجد أحدا يدلّني عليه، فأرسل أبو ياسر معه بعض تلامذته و أصحابه فلمّا مضى و كان مجلس الرّماني مشحونا من الفضلاء جلس الشّيخ في صف النّعال و بقي يتدرّج في القرب كلما خلا المجلس شيئا فشيئا لاستفادة بعض المسائل من صاحب المجلس، فاتّفق أنّ رجلا من أهل البصرة دخل و سأل الرّماني فقال له: ما تقول في حديث الغدير و قصّة الغار فقال الرّماني: قصّة الغار دراية و خبر الغديررواية و لا تعارض الرّواية الدّراية و لما كان ذلك الرّجل البصري ليس له قوّة المعارضة سكت و خرج.
فقال الشّيخ إنّي لم أجد صبرا عن السّكوت عن ذلك فقلت: أيّها الشّيخ عندي سؤال، فقال: قل، فقلت: ما تقول في من خرج على الامام العادل و حاربه فقال: كافر، ثمّ استدرك فقال:
فاسق، فقلت ما تقول في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فقال: إمام عادل، فقلت: ما تقول في حرب طلحة و الزّبير له في حرب الجمل فقال: انهم تابوا، فقلت له: خبر الحرب دراية و التّوبة رواية، فقال: أو كنت عند سؤال الرّجل البصري فقلت: نعم، فقال: رواية برواية و سؤالك متّجه وارد.
ثمّ إنّه سأله من أنت و عند من تقرء من علماء هذا البلد فقلت: عند الشّيخ أبي عبد اللّه جعل، ثمّ قال لي: مكانك و دخل منزله و بعد لحظة خرج و بيده رقعه ممهورة فدفعها إلىّ فقال: ادفعها إلى شيخك أبي عبد اللّه، فأخذت الرّقعة من يده و مضيت إلى مجلس الشّيخ المذكور و دفعت له الرّقعة ففتحها و بقي مشغولا بقراءتها و هو يضحك فلمّا فرغ من قراءتها قال: إنّ جميع ما جرى بينك و بينه قد كتب إلىّ و أوصاني بك و لقّبك المفيد، و اللّه الهادي.
|