فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده إلّا بالحقّ، و لا يحلّ أذى المسلم إلّا بما يجب، بادروا أمر العامّة و خاصّة أحدكم و هو الموت، فإنّ النّاس أمامكم و إنّ السّاعة تحدوكم، تخفّفوا تلحقوا، فإنّما ينتظر بأوّلكم اخركم، إتّقوا اللّه في عباده و بلاده، فإنّكم مسئولون حتّى عن البقاع و البهائم أطيعوا اللّه و لا تعصوه و إذا رأيتم الخير فخذوا به و إذا رأيتم الشّرّ فاصدفوا عنه.
اللغة
(البقعة) من الأرض القطعة و تضمّ الباء في الأكثر فتجمع على بقع مثل غرفة و غرف و تفتح فتجمع على بقاع بالكسر مثل كلبة و كلاب.
الاعراب
الفاء في قوله عليه السّلام فالمسلم فصيحة، و قوله خاصّة أحدكم عطف على أمر و الفاء في قوله فانّ النّاس تعليل و كذا في قوله فانكم مسؤلون.
المعنى
و لكن الأظهر ما ذكروه بقرينة التفريع بقوله (فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده إلّا بالحقّ) و إن كان يمكن توجيهه على ما ذكرناه أيضا بنوع تكلّف فافهم هذا.
و قوله إلّا بالحقّ تنبيه على أنّه لا يجب كفّ اليد و اللّسان عن المسلم إذا استحقّ عدمه و قد ورد نظير هذا الاستثناء في الكتاب العزيز قال تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ قال المفسّرون أى بإحدى ثلاث إمّا زنا بعد إحصان أو كفر بعد إيمان أو قتل المؤمن عمدا ظلما.
و قوله: (و لا يحلّ أذى المسلم إلّا بما يجب) تأكيد لما سبق على أنّ الماء مصدرية أى لا يجوز أذاه إلّا مع وجوبه، فيكون مساقه مساق قوله إلّا بالحقّ، و يجوز أن يكون تأسيسا فانه لما دلّ الكلام السابق على جواز عدم الكفّ عنه عند الاستحقاق نبّه بهذا الكلام على أنه لا يجوز أذاه عند الاستحقاق أيضا إلّا بما يجب من الأذى كما و كيفا فتكون ما موصولة و محصّله التنبيه على جواز أذيّته من باب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر بمقدار مخصوص يستحقّه أو كيفيّة خاصّة تستحقّها على ما تقرّر في باب الحسبة هذا.
و قد تلخص مما ذكره عليه السّلام وجوب مراعات حرمة المسلم و المحافظة على حقوقه و قد اشير إليها في أخبار أهل البيت عليهم السّلام: ففي الوسائل عن الكلينيّ عن أبي المعزا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يخونه، و يحقّ على المسلمين الاجتهاد في التواصل و التعاون على التعاطف، و المواساة لأهل الحاجة، و تعاطف بعضهم على بعض، حتى تكونوا كما أمركم اللّه عزّ و جلّ رحماء بينكم متراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم، على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و عن معلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: ما حقّ المسلم على المسلم قال: له سبع حقوق واجبات ما منهنّ حقّ إلّا و هو عليه واجب، إن ضيع منها شيئا خرج من ولاية اللّه و طاعته، و لم يكن للّه فيه من نصيب قلت له: جعلت فداك و ما هي قال يا معلّى إنّي عليك شفيق أخاف أن تضيّع و لا تحفظ أو تعلم و لا تعمل قلت: لا قوّة إلّا باللّه.
قال: أيسر حقّ منها أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك، و تكره له ما تكره لنفسك و الحقّ الثاني أن تجتنب سخطه و تتّبع مرضاته و تطيع أمره.
و الحقّ الثالث أن تعينه بنفسك و مالك و لسانك و يدك و رجلك.
و الحقّ الرّابع أن تكون عينه و دليله و مرآته.
و الحقّ الخامس أن لا تشبع و يجوع، و لا تروى و يظمأ، و لا تلبس و يعرى.
و الحقّ السّادس أن يكون لك خادم و ليس لأخيك خادم فوجب أن تبعث خادمك فيغسّل ثيابه، و يصنع طعامه، و يمهّد فراشه.
و الحقّ السابع أن تبرّ قسمه، و تجيب دعوته، و تعود مريضه، و تشهد جنازته و إذا علمت أنّ له حاجة تبادره إلى قضائها و لا تلجئه إلى أن يسألكها و لكن تبادره مبادرة فاذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته و ولايته بولايتك.
و في الوسائل عن محمّد بن عليّ الكراجكى في كنز الفوائد عن الحسين بن محمّد ابن عليّ الصّيرفي عن محمّد بن عليّ الجعابي عن القاسم بن محمّد بن جعفر العلوي عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للمسلم على أخيه ثلاثون حقّا لا براءة له منها إلّا بالأداء أو العفو: يغفر زلّته، و يرحم عبرته، و يستر عورته، و يقيل عثرته، و يقبل معذرته، و يردّ غيبته، و يديم نصيحته، و يحفظ خلّته، و يرعى ذمّته، و يعود مرضته، و يشهد ميتته، و يجيب دعوته، و يقبل هديته، و يكافي صلته، و يشكر نعمته، و يحسن نصرته و يحفظ حليلته، و يقضى حاجته، و يشفع مسئلته، و يسمّت عطسته، و يرشد ضالته و يردّ سلامه، و يطيب كلامه، و يبرّ إنعامه، و يصدّق أقسامه، و يوالي وليّه، و يعادى عدوّه و ينصره ظالما و مظلوما فأمّا نصرته ظالما فيردّه عن ظلمه، و أمّا نصرته مظلوما فيعينه على أخذ حقّه، و لا يسلمه و لا يخذله و يحبّ له من الخير ما يحبّ لنفسه، و يكره له من الشرّ ما يكره لنفسه.
ثمّ قال عليه السّلام سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّ أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا فيطالب به يوم القيامة فيقضى له و عليه.
ثمّ أمر عليه السّلام بالمبادرة إلى الموت مؤيّدا به البدار إلى تهيّة أسبابه فقال: (و بادروا أمر العامّة و خاصّة أحدكم و هو) أى ذلك الأمر (الموت).
قال الشّارح المعتزلي سمّاه المواقعة العامّة لأنّه يعمّ الحيوان كلّه ثمّ سمّاه خاصّة أحدكم لأنّه و إن كان عامّا إلّا أنّ له مع كلّ انسان بعينه خصوصيّة زايدة على ذلك العموم (فانّ الناس أمامكم) أى سبقوكم إلى الموت، و في بعض النسخ فانّ الباس أمامكم بالباء الموحّدة أى الفتنة (و إنّ الساعة تحدوكم) أى يسوقكم من خلفكم (تخفّفوا) بالقناعة من الدّنيا باليسير و ترك الحرص عليها و ارتكاب الماثم (تلحقوا) فانّ المسافر الخفيف أحرى بلحوق أصحابه و بالنجاة (فانّما ينتظر بأوّلكم آخركم) أى للبعث و النشور.
و قد مضى هذا الكلام بعينه في الخطبة الحادية و العشرين و تقدّم شرحه هناك بما لا مزيد عليه.
ثمّ أمرهم بالتقوى لأنّه الزّاد إلى المعاد فقال: (اتّقوا اللّه في عباده) و رعاية ما يجب مراعاته من حقوقهم (و بلاده) بترك العلوّ و الفساد فيها قال اللّه تعالى تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (فانّكم مسؤلون) لقوله: وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و قوله: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (حتّى عن البقاع) فيقال لم استوطنتم هذه و تركتم هذه.
و قد ورد النّهى عن إقامة بلاد الشرك مع إمكان الخروج منها و اذا لم يتمكّن من القيام بوظائف الاسلام و كذا عن مجالسة أهل البدع و المعاصي كما مرّ في شرح الخطبة الخامسة و الثمانين (و البهائم) فيقال: لم ضربتم هذه و أوجعتم هذه فانّه تعالى قد جعل للبهائم حقّا على صاحبها.
روى في الوسائل من عقاب الأعمال للصّدوق عن حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ امرأة عذبت في هرّة ربطتها حتّى ماتت عطشا.
و من مكارم الأخلاق للحسن بن الفضل الطبرسي نقلا من كتاب المجالس عن الصّادق عليه السّلام قال أقذر الذّنوب قتل البهيمة، و حبس مهر المرأة، و منع الأجير أجره.
و في الوسائل عن الصدوق باسناده عن السكوني باسناده أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أبصر ناقة معقولة عليها جهازها فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أين صاحبها مروه فليستعدّ غدا للخصومة.
و فيه عن محمّد بن محمّد المفيد في الارشاد مسندا عن إبراهيم بن عليّ عن أبيه قال حججت مع عليّ بن الحسين عليهما السّلام فالتاثت عليه النّاقة في سيرها فأشار إليها بالقضيب، ثمّ قال آه لولا القصاص و ردّ يده عنها.
و فيه عن الصّدوق قال: روى أنه يعني أبا عبد اللّه عليه السّلام قال اضربوها على العثار و لا تضربوها على النفار، فانّها ترى ما لا ترون.
و فيه عن الصّدوق باسناده عن اسماعيل بن أبي زياد باسناده عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للدابّة على صاحبها خصال يبدء بعلفها اذا نزل، و يعرض عليها الماء اذا مرّ به، و لا يضرب وجهها فانّها تسبّح بحمد ربّها، و لا يقف في ظهرها الّا في سبيل اللّه و لا يحمّلها فوق طاقتها و لا يكلّفها من المشى إلّا ما تطيق.
و عن الصّدوق مرسلا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تتورّكوا على الدوابّ و لا تتّخذوا ظهورها مجالس.
ثمّ أمرهم بالاطاعة و نهاهم عن المعصية على سبيل الاجمال فقال: (أطيعوا اللّه و لا تعصوه و إذا رأيتم الخير فخذوا به) لأنّه ينفعكم في العاجل و الاجل (و إذا رأيتم الشرّ فأعرضوا عنه) لأنه يسوقكم الى الجحيم و يؤدّى إلى العذاب الأليم.
تكملة
روى في مجلّد الفتن من البحار من كامل ابن الأثير هذه الخطبة باختلاف يسير قال: قال: و بويع عليه السّلام يوم الجمعة لخمس بقين من ذى الحجّة من سنة خمس و ثلاثين من الهجرة و أوّل خطبة خطبها عليه السّلام حين استخلف حمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال عليه السّلام.
إنّ اللّه أنزل كتابا هاديا بيّن فيه الخير و الشرّ فخذوا الخير، و دعوا الشرّ الفرائض أدّوها إلى اللّه تؤدّكم إلى الجنّة إنّ اللّه حرّم حرمات غير مجهولة، و فضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها، و شدّ بالاخلاص و التوحيد حقوق المسلمين فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده إلّا بالحقّ و لا يحلّ دم امرء مسلم إلّا بما يجب.
بادروا أمر العامّة و خاصّة أحدكم الموت، فانّ النّاس أمامكم و إنّما خلفكم السّاعة تحدوكم، تخفّفوا تلحقوا فانما ينتظر الناس باخركم.
اتّقوا اللّه عباد اللّه في عباده و بلاده، إنّكم مسؤلون حتّى عن البقاع و البهائم و أطيعوا اللّه و لا تعصوه و إذا رأيتم الخير فخذوه و إذا رأيتم الشرّ فدعوه.
|