و من كلام له عليه السّلام و هو التاسع عشر من المختار في باب الخطب الجارى مجراها قاله للأشعث بن قيس و هو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض كلامه عليه السّلام شي ء اعترضه الأشعث فقال يا أمير المؤمنين: هذه عليك لا لك، فخفض عليه السّلام إليه بصره ثمّ قال عليه السّلام له: و ما يدريك ما عليّ و مالي عليك لعنة اللّه و لعنة الّلاعنين، حائك بن حائك، منافق بن كافر، و اللّه لقد أسرك الكفر مرّة و الإسلام أخرى، فما فداك منهما مالك و لا حسبك، و إنّ امرء دلّ على قومه السّيف، و ساق إليهم الحتف، لحرىّ أن يمقته الأقرب، و لا يأمنه الأبعد. أقول: يريد أنّه اسر في الكفر مرّة و في الاسلام مرّة و أمّا قوله: دلّ على قومه السّيف فأراد به حديثا كان للاشعث مع خالد بن الوليد باليمامة غرّ فيه قومه و مكر بهم حتّى أوقع بهم خالد، و كان قومه بعد ذلك يسمّونه عرف النّار، و هو اسم للغادر عندهم.
اللغة
(خفض إليه بصره) طأطأه و (الحائك) بالهمزة النّاسج و (الفداء) ما يفديه الأسير لفكّ رقبته و (الحتف) الموت و (العرف) الرمل و المكان المرتفعان قال الشّارح البحراني و أمّا استعارتهم له عرف النّار فلأنّ العرف عبارة عن كلّ عال مرتفع، و الأعراف في القرآن الكريم سور بين الجنّة و النّار، و لمّا كان من شأن كلّ عال مرتفع أن يستر ما ورائه و كان الغادر يستر بمكره و حيلته اموراكثيرة و كان هو قد غرّ قومه بالباطل و غدر بهم، صدق عليه بوجه الاستعارة لفظ عرف النار لستره عليهم لما ورائه من نار الحرب أو نار الآخرة إذ حملهم على الباطل.
أقول: روى في المجلّد التّاسع من البحار في الباب المأة و الثلاثة عشر المتضمّن للأخبار الغيبيّة لأمير المؤمنين عليه السّلام عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام في خبر أنّ الأشعث ابن قيس الكندي بنى في داره ميذنة و كان يرقى إليها إذا سمع الأذان في أوقات الصّلاة في مسجد جامع الكوفة فيصيح من أعلى ميذنته: يا رجل إنّك لكذّاب ساحر، و كان أبي يسميّه عنق النّار و في رواية عرف النّار، فسئل عن ذلك فقال إنّ الاشعث إذا حضرته الوفاة دخل عليه عنق من النّار ممدودة من السّماء فتحرقه فلا يدفن إلّا و هو فحمة سوداء، فلمّا توفّى نظر ساير من حضر إلى النّار و قد دخلت عليه كالعنق الممدود حتّى أحرقته و هو يصيح و يدعو بالويل و الثبور.
و الميذنة بالكسر موضع الأذان و المنارة، و قد ظهر من هذه الرّواية سبب تسميته بعرف النّار، و أنّه ليس سببها ما توهّمه البحراني ره
الاعراب
كلمة ما مرفوع المحلّ على الابتداء، و يدريك خبره، و ماء الثّانية في موضع رفع على الابتداء، و يدريك معلّق لتضمّنه معنى الاستفهام و على خبره و الجملة متعلّقة بيدريك في موضع المفعول الثّاني على حدّ قوله سبحانه: و ما أدريك ما الحاقّة قال الثّوري: يقال: للمعلوم ما أدريك و لما ليس بمعلوم ما يدريك في جميع القرآن و حائك مرفوع على أنّه خبر لمبتدأ محذوف، أى أنت حائك، أو على النّداء بحذف حرف النّداء، أو منصوب بتقدير الفعل المحذوف أى أذمّ حائك بن حائك على حدّ قوله: و امرأته حمّالة الحطب فتأمّل.
المعنى
اعلم أنّ هذا الكلام (قاله عليه السّلام للأشعث بن قيس) الأشجّ لأنّه شجّ في بعض حروبه و هو من بني كندة و اسمه معدي كرب و كان أشعث الرأس أبدا فغلب الأشعث عليه حتّى نسي اسمه و كيف كان فقد قاله (و هو على منبر الكوفة يخطب) خطبة يذكر فيها أمر الحكمين و ذلك بعد ما انقضى أمر الخوارج (فمضى في بعض كلامه شي ء) و هو أنّه قام إليه رجل من أصحابه و قال له: نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها فما ندري أىّ الأمرين أرشد فصفق عليه السّلام باحدى يديه على الاخرى و قال: هذا جزاء من ترك العقدة أى جزاى حيث وافقتكم على ما الزمتموني به من أمر التحكيم و ترك الحزم فلمّا قال ذلك (اعترضه الأشعث) لشبهة وجدها في نفسه من تركه عليه السّلام وجه المصلحة و اتباع الآراء الباطلة و أراد إفحامه (فقال يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك) و جهل أو تجاهل أنّ وجه المصلحة قد يترك محافظة على أمر أعظم منه و مصلحته أهمّ فانّه عليه السّلام لم يترك العقدة إلّا خوفا من أصحابه أن يقتلوه كما ستطلع عليه في قصّتهم هذا و قال الشّارح المعتزلي: إنّ الشي ء الذي اعترضه الأشعث في كلامه هو أنّه كان مقصوده بقوله: هذا جزاء من ترك العقدة هذا جزاؤكم إذ تركتم الرّأى و الحزم و أصررتم على إجابة القوم إلى التحكيم، فظنّ الاشعث أنّه أراد هذا جزاى حيث تركت الرّأى و الحزم و حكمت لأنّ هذه اللفظة محتملة ألا ترى أنّ الرّئيس إذا شغب عليه جنده و طلبوا منه اعتماد أمر ليس بصواب فوافقهم تسكينا لشغبهم لا استصلاحا لرأيهم ثمّ ندموا بعد ذلك، قد يقول هذا«» جزاء من ترك الرأى و خالف وجه الحزم، و يعني بذلك أصحابه و قد يقوله يعني به نفسه حيث وافقهم أمير المؤمنين عليه السّلام إنّما عنى ما ذكرناه دون ما خطر للأشعث.
(ف) لمّا قال له هذه عليك لا لك (خفض عليه السّلام إليه بصره) و طأطأه (ثمّ قال له: و ما يدريك ما علىّ ممّا لي) إشارة إلى جهله و عدم جواز الاعتراض من مثله عليه سلام اللّه عليه، ثمّ اتبعه بالطرد و الابعاد عن رحمة اللّه سبحانه و قال (عليك لعنة اللّه و لعنة اللّاعنين) و استحقاقه بذلك من حيث كونه من المنافقين في خلافته عليه السّلام و هو في أصحابه كعبد اللّه بن أبي سلول في أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّ واحد منهما رأس النّفاق في زمانه كما يدلّ عليه اعتراضه عليه عليه السّلام و يشهد به شهادته عليه السّلام بأنّه منافق ابن كافر، و لا شكّ أنّ المنافق مستحقّ للّعن و الطرد لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» و يدلّ على كفره و نفاقه صريحا ما رواه الشّارح المعتزلي عن أبي الفرج الاصبهاني في شرح كلام الخامس و السّتين في ذكر كيفيّة شهادة أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: قال أبو الفرج: و قد كان ابن ملجم لعنه اللّه أتى الأشعث بن قيس في هذه اللّيلة فخلا به في بعض نواحي المسجد و مرّ بهما حجر بن عديّ فسمع الأشعث و هو قول: ابن ملجم النّجا النّجا بحاجتك فقد فضحك الصّبح، قال له حجر: قتلته يا أعور، و خرج مبادرا إلى عليّ عليه السّلام و قد سبقه ابن ملجم و ضربه، و أقبل حجر و النّاس يقولون: قتل أمير المؤمنين عليه السّلام.
قال أبو الفرج: و للأشعث بن قيس في انحرافه عن أمير المؤمنين عليه السّلام أخبار يطول شرحها.
منها أنّه جاء الأشعث إلى عليّ عليه السّلام يستأذن عليه فردّه قنبر فأدمى الأشعث أنفه فخرج عليّ عليه السّلام و هو يقول: مالي و لك يا أشعث أما و اللّه لو لعبد ثقيف تمرست لا قشعرت شعيراتك، قيل يا أمير المؤمنين من عبد ثقيف قال غلام لهم لا يبقى أهل من العرب الّا أدخلهم ذلّا، قيل يا أمير المؤمنين كم يلي أو كم يمكث قال: عشرين إن بلغها.
و قال أبو الفرج: إنّ الأشعث دخل على عليّ عليه السّلام فكلّمه فأغلظ عليّ عليه السّلام له فعرض له الأشعث ان سبقتك به فقال له عليّ عليه السّلام: أ بالموت تخوّفني أو تهدّدني فو اللّه ما ابالي وقعت على الموت أو وقع الموت علىّ أقول: و أشار بعبد ثقيف إلى حجّاج بن يوسف الثّقفي و المستفاد من رواية أبي مخنف المروية في البحار أنّ حضور الأشعث تلك الليلة في المسجد إنّما كان لمعونة ابن ملجم لعنه اللّه على قتله عليه السّلام، و في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ الاشعث بن قيس شرك في دم أمير المؤمنين، و ابنته جعدة سمّت الحسن، و ابنه محمّد شرك في دم الحسين عليهم السّلام.
ثمّ عيّره عليه السّلام بأنّه (حائك بن حائك) و المراد بهما إمّا معناهما الحقيقي لما روى أنّه كان هو و أبوه ينسجان برود اليمن و ليس هذا ممّا يخصّ بالأشعث بل أهل اليمن كلهم يعيّرون بذلك كما قال خالد بن صفوان: ما أقول في قوم ليس فيهم إلّا حائك برد، أو دابغ جلد، أو سايس قرد، ملكتهم امرأة، و أغرقتهم فارة، و دلّ عليهم هدهد و إمّا معناهما المجازي، و هو حائك الكذب على اللّه و رسوله و وليّه كما هو شأن المنافق و الكافر.
و من ذلك ما رواه في الوسائل مرفوعا إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال ذكر الحائك عند أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه ملعون، فقال: إنّما ذلك الذي يحوك الكذب على اللّه و رسوله و على هذا المعنى فارداف اللعن به يكون إشارة إلى علّة الاستحقاق له هذا.
و الأظهر أنّه وارد على سبيل الاستعارة إشارة إلى نقصان عقله و قلّة تدبيره و استعداده، كما أنّ الحائك ناقص العقل، إمّا من حيث كون معاملته و معاشرته غالبا مع النّساء و الصّبيان كالمعلّمين، و لا شكّ أنّ المخالطة مؤثّرة و لذلك قال الصّادق عليه السّلام لا تستشيروا المعلّمين و لا الحوكة فإنّ اللّه قد سلبهم عقولهم مبالغة في قصور عقلهم.
و في حديث آخر عنه عليه السّلام أنّه قال: عقل أربعين معلّما عقل حائك، و عقل أربعين حائكا عقل امرأة، و المرأة لا عقل لها.
و إمّا من حيث إنّ ذهنه عامّة وقته مصروف إلى جهة صنعته مصبوب الفكر إلى أوضاع الخيوط المتفرّقة و ترتيبها و نظامها محتاجا إلى حركة يديه و رجليه كما أنّ الشّاهد له يعلم من حاله أنّه مشغول الفكر عمّا وراء ما هو فيه غافل عمّا عداه.
و يمكن أن يكون المقصود بالاستعارة الاشارة إلى دنائة النّفس و رذالة الطبع و البعد عن مكارم الأخلاق و محاسن الآداب و التخلّق بالأوصاف الذّميمة و الأخلاق الدّنيّة، لاتّصاف الحائك بذلك كلّه، و لذلك ورد في بعض الأخبار النّهى عن الصّلاة خلفه، بل ورد أنّ ولده لا ينجب إلى سبعة أبطن نحو ما ورد في ولد الزّنا و روى القميّ في تفسير قوله سبحانه: «وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» انّه كان ذلك اليوم يوم سوق فاستقبلها الحاكة و كانت الحياكة أنبل صناعة في ذلك الزّمان، فأقبلوا على بغال شهب فقالت لهم مريم: أين النخلة اليابسة فاستهزءوا بها و زجروها، فقالت لهم: جعل اللّه كسبكم بورا و جعلكم في النّاس عارا، ثمّ استقبلها جمع من التّجار فدلّوها على النخلة اليابسة فقالت لهم: جعل اللّه البركة في كسبكم و أحوج النّاس إليكم الحديث.
و روى المحدّث الجزايري ره في كتاب زهر الرّبيع عن شيخنا بهاء الملّة و الدّين أنّه دخل رجل إلى مسجد الكوفة و كان ابن عبّاس مع أمير المؤمنين عليه السّلام يتذاكران العلم، فدخل الرّجل و لم يسلّم و كان أصلع«» الرّأس من أوحش ما خلق اللّه تعالى و خرج أيضا و لم يسلّم.
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: يا بن عبّاس اتّبع هذا الرّجل و اسأله ما حاجته و من أين و إلى أين فأتى و سأله فقال: أنا من خراسان و أبي من القيروان و امّي من اصفهان قال: و إلى أين تطلب قال: البصرة في طلب العلم، قال ابن عباس: فضحكت من كلامه فقلت له: يا هذا تترك عليّا جالسا في المجسد و تذهب إلى البصرة في طلب العلم و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أنا مدينة العلم و عليّ بابها فمن أراد العلم فليأت المدينة من بابها، فسمعني عليّ عليه السّلام و أنا أقول له ذلك، فقال: يا ابن عبّاس اسأله ما تكون صنعته، فسألته فقال: إنّي رجل حائك، فقال عليه السّلام: صدق و اللّه حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث قال: يا عليّ إيّاك و الحائك، فانّ اللّه نزع البركة من أرزاقهم في الدّنياو هم الأرذلون.
ثمّ قال عليه السّلام: يا ابن عبّاس أ تدري ما فعل الحيّاك في الأنبياء و الأوصياء من عهد آدم إلى يومنا هذا، فقال: اللّه و رسوله و ابن عمّ رسوله أعلم، فقال عليه السّلام معاشر النّاس من أراد أن يسمع حديث الحائك فعليه بمعاشرة الديلم، ألا و من مشى مع الحائك قتر عليه رزقه، و من أصبح به جفى، فقلت: يا أمير المؤمنين و لم ذلك قال عليه السّلام: لأنّهم سرقوا ذخيرة نوح، و قدر شعيب، و نعلي شيث، و جبّة آدم، و قميص حوّاء، و درع داود، و قميص هود، و رداء صالح، و شملة إبراهيم، و نخوت اسحاق، و قدر يعقوب، و منطقة يوشع، و سروال زليخا، و ازار أيوب، و حديد داود، و خاتم سليمان، و عمّامة إسماعيل، و غزل سارة، و مغزل هاجر، و فصيل ناقة صالح، و اطفاء سراج لوط، و القوا الرّمل في دقيق شعيب، و سرقوا حمار العزير و علّقوه في السقف و حلفوا أنّه لا في الأرض و لا في السّماء، و سرقوا مردد «مرود ظ» الخضر، و مصلّى زكريّا، و قلنسوة يحيى، و فوطة يونس، و شاة إسماعيل و سيف ذي القرنين و منطقة أحمد، و عصا موسى، و برد هارون، و قصعة لقمان، و دلو المسيح، و استر شدتهم مريم فدلوها على غير الطريق، و سرقوا ركاب النبيّ، و حطام النّاقة و لجام فرسي، و قرط خديجة، و قرطي فاطمة، و نعل الحسن، و منديل الحسين، و قماط إبراهيم، و خمار فاطمة، و سراويل أبي طالب، و قميص العبّاس، و حصير حمزة، و مصحف ذي النّون، و مقراض إدريس، و بصقوا في الكعبة، و بالوا في زمزم، و طرحوا الشّوك و العثار في طريق المسلمين.
و هم شعبة البلاء، و سلاح الفتنة، و نسّاج الغيبة، و أنصار الخوارج، و اللّه تعالى نزع البركة من بين أيديهم بسوء أعمالهم، و هم الذين ذكرهم في محكم كتابه العزيز بقوله «وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ» و هم الحاكة و الحجّام فلا تخالطوهم و لا تشاركوهم، فقد نهى اللّه عنهم.
و يناسب هذه الرّواية الشّعر المنسوب إليه عليه السّلام و إن لم أجده في الدّيوان المعروف نسبته إليه و هو:
- لعن الحائك في عشر خصال فعلوهابشلنك لنك لنك و مكوك ترحوها
- و برجلين تطق طق و برأس حركوهاو بكرّ كرّ فرّ هاء هوء نسجوها
- سرقوا قدر شعيب و حريص أكلوهاقتلوا ناقة صالح ثمّ جاءوا قسموها
- و مناديل رسول سرقوها حرقوهاو بسبعين نبيّا كلّهم قد لعنوها
و بالجملة فقد تحصّل ممّا ذكرناه أنّ تعريضه عليه السّلام على الأشعث الملعون بأنّه حائك بن حائك دلالة على كمال القدح و الطعن و أكّده بقوله (منافق بن كافر) بحذف حرف العطف إشارة إلى كمال الاتّصال المعنوي ثمّ أتبعه بقوله: (و اللّه لقد أسرك الكفر مرّة و الاسلام أخرى) تأكيدا لنقصان عقله و إشارة إلي أنّه لو كان له عقل لما حصل له في الأسر مرّتين.
أمّا اسره الواقع في الكفر فهو على ما رواه الشّارح المعتزلي عن ابن الكلبي أنّه لمّا قتلت مراد أباه قيسا الأشجّ خرج الأشعث طالبا بثاره، فخرجت كندة متساندين على ثلاثة ألوية، على أحد الألوية كبش بن هاني بن شرجيل، و على أحدها القشعم، و على أحدها الأشعث فأخطئوا مرادا و لم يقعوا عليهم و وقعوا على بني الحارث بن كعب، فقتل كبش و القشعم و اسر الأشعث ففدى بثلاثة آلاف بعير لم يفد بها عربيّ قبله و لا بعده، فقال في ذلك عمرو بن معديكرب الزّبيدي فكان فداؤه ألفي بعير و ألف من طريفات و تله و أمّا اسره الواقع في الاسلام فهو أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما قدمت كندة حجاجا عرض نفسه عليهم كما كان يعرض نفسه على احياء العرب، فدفعه بنو وليعة من بني عمرو بن معاوية و لم يقبلوه فلمّا هاجر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تمهّدت دعوته و جائته و فود العرب جاءه و تد كندة و فيهم الأشعث و بنو وليعة، فأسلموا فأطعم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بني وليعة من صدقات حضرموت، و كان قد استعمل على حضرموت زياد بن لبيد البياضي الانصاري فدفعها زياد إليهم فأبوا أخذها و قالوا: لا ظهر لنا فابعث بها إلى بلادنا على ظهرمن عندك، فأبي زياد و حدث بينهم و بين زياد شرّ كاد يكون حربا، فرجع منهم قوم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كتب زياد إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشكوهم قال الشّارح المعتزلي و في هذه الواقعة كان الخبر المشهور عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لبني وليعة: لتنتهنّ يا بني وليعة أو لأبعثنّ إليكم رجلا عديل نفسي يقتل مقاتليكم و يسبي ذراريكم، قال عمر بن الخطاب: فما تمنّيت الامارة إلّا يومئذ و جعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول: هو هذا، فأخذ بيد عليّ و قال: هو هذا.
ثمّ كتب لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى زياد فوصلوا إليه الكتاب و قد توفّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و طار الخبر بموته إلى قبائل العرب فارتدّت بنو وليعة و غنّت بغاياهم و خضبن له أيديهنّ، فأمّر أبو بكر زيادا على حضرموت و أمره بأخذ البيعة على أهلها و استيفاء صدقاتهم فبايعوه إلّا بني وليعة فلمّا خرج ليقبض الصّدقات من بني عمرو بن معاوية أخذ ناقة لغلام منهم يعرف بشيطان بن حجر و كانت صفيّة نفيسة اسمها شذرة، فمنعه الغلام عنها، و قال خذ غيرها فأبى زياد ذلك و لجّ فاستغاث الشّيطان بأخيه الغداء بن حجر، فقال لزياد دعها و خذ غيرها، فأبي زياد ذلك و لجّ الغلامان في أخذها و لجّ زياد فهتف الغلامان مسروق بن معدي كرب، فقال مسروق لزياد: أطلقها، فأبي ثمّ قام فأطلقها فاجتمع إلى زياد بن لبيد أصحابه و اجتمع بنو وليعة و أظهروا أمرهم فتبينهم زيادوهم غارون فقتل منهم جمعا كثيرا و نهب و سبى و لحق فلهم ودّ بالأشعث بن قيس اللّعين فاستنصروه فقال لا أنصركم حتّى تملكوني عليكم، فملكوه و توّجوه كما يتوّج الملك من قحطان فخرج إلى زياد في جمع كثيف.
و كتب أبو بكر إلى مهاجر بن أبي أميّة و هو على صنعاء أن يسير بمن معه إلى زياد، فاستخلف على صنعاء و سار إلى زياد، فلقوا الأشعث فهزموه و قتل مسروق و لجأ الأشعث و الباقون إلى الحصن المعروف بالبخير، فحاصرهم المسلمون حصارا شديدا حتّى ضعفوا، و نزل الأشعث ليلا إلى مهاجر و زياد فسألهما الأمان على نفسه حتّى يقدما به على أبي بكر فيرى فيه رأيه على أن يفتح لهم الحصن و يسلم إليهم من فيه و قيل بل كان في الأمان عشرة من أهل الأشعث فآمناه و أمضيا شرطه، ففتح لهم الحصن فدخلوه و استنزلوا كل من فيه و أخذوا أسلحتهم و قالوا للأشعث: اعزل العشرة، فعزلهم فتركوهم و قتلوا الباقين و كانوا ثمانمائة، و قطعوا أيدي النّساء اللواتي شمتن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاسروا الأشعث و حملوه إلى أبي بكر موثقا في الحديد هو و العشرة.
و قيل: إنّه لمّا حاصره المسلمون و قومه بعث إلى زياد يطلب منه الأمان لأهله و لبعض قومه، و كان من غفلته أنّه لم يطلب لنفسه بالتعيين فلمّا نزل أسره زياد و بعث به إلى أبي بكر فسأل أبا بكر أن يستبقيه لحربه فعفا عنه و زوّجه اخته أمّ فروة بنت أبي قحافة.
و كان من جهالته أنّه بعد خروجه من مجلس عقد امّ فروة أصلت سيفه في أزقّة المدينة و عقر كلّ بعير رآه و ذبح كلّ شاة استقبلها للنّاس و التجأ إلى دار من دور الأنصار، فصاح به النّاس من كلّ جانب و قالوا: قد ارتدّ الأشعث مرّة ثانية فأشرف عليهم من السّطح و قال يا أهل المدينة إنّي غريب ببلدكم قد أولمت بما نحرت و ذبحت فليأكل كلّ إنسان منكم ما وجد و ليغد إلىّ من كان له على حقّ حتّى ارضيه فدفع أثمانها إلى أربابها فضرب أهل المدينة به المثل و قالوا أو لم من الأشعث و فيه قال الشّاعر:
- لقد أولم الكنديّ يوم ملاكهوليمة حمّال لثقل العظائم
فإن قلت: المستفاد ممّا ذكرته أخيرا مضافا إلى ما ذكرته سابقا من أنّه فدى عند اسره في الكفر بثلاثة آلاف بعير أنّه كان ذا مال و ثروة فكيف يجتمع ذلك مع قوله عليه السّلام:
(فما فداك من واحدة منهما مالك و لا حسبك) قلت: لم يرد عليه السّلام به الفداء الحقيقي و إنّما أراد به ما دفع عنك الاسر مالك و لا حسبك و ما نجاك من الوقوع فيه شي ء منهما.
ثمّ أردف عليه السّلام ذلك كلّه بالاشارة إلى صفة رذيلة أخرى له أعنى صفة الغدر الذي هو مقابل فضيلة الوفاء و قال: (و انّ امرء دلّ على قومه السّيف و قاد إليهم الحتف لحريّ بأن يمقته الأقرب و) حقيق بأن (لا يأمنه الأبعد) و المراد به الاشارة إلى ما سبق ذكره منّا أنّه طلب الأمان لنفسه أو له مع عشرة من قومه ففتح لزياد و مهاجر باب الحصن و عزل العشرة و أسلم الباقين للقتل فقتلوا صبرا، و لا شكّ أنّ من كان كذلك لجدير أن يمقته قومه و لا يأمنه غيرهم، و أمّا ما قاله السّيد رضي اللّه عنه من أنّه أراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة إلى آخر ما مرّ ذكره، فأنكره الشّارحان الّا أنّ البحراني قال: و حسن الظنّ بالسّيد يقتضي تصحيح نقل السّيد ره.
|