الفصل الثاني
حتّى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده، ثمّ تمثّل عليه السّلام بقول الأعشى:
- شتّان ما يومي على كورهاو يوم حيّان أخي جابر
فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّرا ضرعيها،
اللغة
يقال فلان (مضى) لسبيله أي مات و (أدلى) بها إلى فلان أى القاها إليه و دفعها قال تعالى: «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ» أى
تدفعوها إليهم رشوة و أصله من أدليت الحبل في البئر إدلاء أي أرسلتها
ليستقى بها و (تمثل) بالبيت أنشده للمثل و (شتّان) اسم فعل فيه معنى التعجب
يقال: شتان ما هما و ما بينهما و ما عمرو و أخوه أى بعد ما بينهما، قال
الشّارح المعتزلي و لا يجوز شتّان ما بينهما إلّا على قول ضعيف و (الكور)
بالضمّ رحل البعير بأداته و (الاقالة) فكّ عقد البيع و نحوه، و الاستقالة
طلب ذلك و (شدّ) أى صار شديدا مثل حبّ اذا صار حبيبا (تشطر) إما مأخوذ من
الشّطر بمعنى النّصف يقال: فلان شطر ماله اى نصفه، أو من الشطر بمعنى خلف
الناقة بالكسر، قال الشّارح المعتزلي: و للنّاقة أربعه أخلاف خلفان
قادمان«» و خلفان آخر ان و كلّ اثنين منهما شطر و تشطرا ضرعيها اقتسما
فايدتها، و الضّمير للخلافة و سمّى القادمين معا ضرعا و سمّى الآخرين معا
ضرعا لتجاورهما و لكونهما لا يحلبان إلا معا كالشّي ء الواحد انتهى، و لفظ
التشطر على وزن التّفعل غير موجود في كتب اللغة.
قال العلامة المجلسي: و في رواية المفيد و غيره شاطرا على صيغة المفاعلة
يقال: شاطرت ناقتي إذا احتلبت شطرا و تركت الآخر، و شاطرت فلانا مالى إذا
ناصفته
الاعراب
اللّام في قوله عليه السّلام: لسبيله، بمعنى على كما في قوله:
فخرّ صريعا لليدين و للفم.
و شتّان مبني على الفتح لتضمّنه معنى افترق مع تعجب، أى ما أشدّ
الافتراق فيطلب فاعلين كافترق نحو شتّان زيد و عمرو، و قد يزاد بعده ما كما
في البيت، و يومي و يوم حيّان مرفوعان على الفاعليّة، و يا عجبا منصوب
بالنداء و أصله يا عجبي ثم قلبت الياء ألفا، كأن المتكلّم ينادي عجبه و
يقول له: احضر فهذا أو ان حضورك، و بينا هي بين الظرفيّة اشبعت فتحها فصارت
ألفا و تقع بعدها إذا الفجائية غالبا، و اللام في قوله عليه السّلام: لشدّ
جواب للقسم المقدر، و شدّ أى صار شديدا، و ما مصدريّة و المصدر فاعل شدّ و
لا يستعمل هذا الفعل إلّا في التّعجب،
المعنى
(حتى اذا مضى الأوّل) و هو ابو بكر (لسبيله) أى على سبيله الذي يسلكه
كلّ انسان و هو سبيل الآخرة، و ذلك بعد ما مضى من خلافته سنتان و ثلاثة
أشهر إلّا خمس ليال، و قيل: سنتان و ثلاثة أشهر و سبع ليال، و قال ابن
اسحاق: توفى على رأس اثنتين و ثلاثة أشهر و اثنى عشر يوما من متوفى رسول
اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قيل: و عشرة أيام، و قيل: و عشرين
يوما، ذكر ذلك كلّه. في البحار من كتاب الاستيعاب.
و كيف كان فانّه لمّا ظهر له علائم الموت (أدلى بها) أى بالخلافة أى
دفعها (إلى ابن الخطاب بعده) بطريق النّص و الوصيّة من دون أن يكون له
استحقاق لها كما يشير إليه لفظ الادلاء على ما نبّه به الشّارح المعتزلي
حيث قال بعد ما فسّر الادلاء بالدّفع على وجه الرّشوة: فان قلت: فان أبا
بكر إنّما دفعها إلى عمر حين مات و لا معنى للرّشوة عند الموت قلت: لما كان
عليه السّلام يرى أنّ العدول بها عنه إلى غيره إخراج لها إلى غير جهة
الاستحقاق شبّه ذلك بادلاء الانسان بماله إلى الحاكم، فانّه إخراج للمال
إلى غير وجهه فكان ذلك من باب الاستعارة هذا.
و المراد بابن الخطاب هو عمر و هو ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن
رياح بالمثنّاة التّحتانية و امّه حنتمة«» بنت هاشم بن المغيرة بن عبد
اللّه بن عمر ابن مخزوم.
و ينبغي لنا تحقيق الكلام في هذا النسب الشّريف من طريقنا و من طريق
العامّة فأقول: قال العلامة في كشف الحقّ: و روى الكلبيّ و هو من رجال
السّنة في كتاب المثالب قال: كانت صهّاك أمة حبشيّة لهاشم بن عبد مناف فوقع
عليها نفيل بن هاشم ثمّ وقع عليها عبد العزّى بن رياح و جاءت بنفيل جدّ
عمر بن الخطاب، و قال الفضل ابن روز بهان في الشّرح بعد القدح في صحّة
النّقل: إن انكحة الجاهليّة على ما ذكره أرباب التواريخ على أربعة أوجه،
منها أن يقع جماعة على امرأة ثمّ ولد منها يحكم فيه القايف أو تصدّق المرأة
و ربّما كان هذا من أنكحة الجاهلية، و أورد عليه شارح الشّرح بأنّه لو صحّ
ما ذكره لما تحقق زنا في الجاهلية و لما سمّي مثل ذلك في المثالب و لكان
كلّ من وقع على امرأة كان ذلك نكاحا منه عليها و لم يسمع عن أحد أنّ من
نكاح الجاهلية كون امرأة واحدة في يوم واحد أو شهر واحد في نكاح جماعة من
النّاس.
و قال المحدّث المجلسي في البحار: و حكى بعض أصحابنا عن محمّد بن
شهرآشوب و غيره أن صهّاك كانت امة حبشية لعبد المطلب و كانت ترعى له الابل،
فوقع عليها نفيل فجاءت بالخطاب، ثمّ إنّ الخطاب لما بلغ الحلم رغب في
صهّاك فوقع عليها فجاءت بابنة فلفّتها في خرقة من صوف و رمتها خوفا من
مولاها في الطريق فرآها هاشم بن المغيرة مرميّة في الطريق فأخذها و ربّاها و
سمّاها حنتمة فلما بلغت رآها خطاب يوما فرغب فيها و خطبها من هاشم فأنكحها
إياه فجاءت بعمر بن الخطاب فكان الخطاب أبا و جدا و خالا لعمر، و كانت
حنتمة امّا و اختا و عمّة له فتأمل.
ثمّ قال المجلسي (ره) فأقول: وجدت في كتاب عقد الدّرر لبعض الأصحاب روى
باسناده عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن ابن
الزّيات عن الصّادق عليه السّلام أنّه قال: كانت صهّاك جارية لعبد المطلب و
كانت ذات عجز و كانت ترعى الابل و كانت من الحبشة و كانت تميل إلى
النّكاح، فنظر إليها نفيل جدّ عمر فهواها و عشقها من مرعى الابل، فوقع
عليها فحملت منه بالخطاب، فلما أدرك البلوغ نظر إلى امّه صهّاك فأعجبه
عجيزها فوثب عليها فحملت منه بحنتمة فلما ولدتها خافت من أهلها فجعلتها في
صوف و ألقتها بين أحشام مكّة، فوجدها هشام بن المغيرة بن الوليد، فحملها
إلى منزله و رباها و سمّاها بالحنتمة، و كانت شيمة العرب من ربى يتيما
يتّخذه ولدا، فلمّا بلغت حنتمة نظر إليها الخطاب فمال إليها و خطبها من
هشام فتزوّجها فأولد منها عمر، فكان الخطاب أباه و جده و خاله، و كانت
حنتمة أمّه و اخته و عمّته، و ينسب إلى الصّادق عليه السّلام في هذا المعنى
شعر:
- من جدّه خاله و والدهو امّه اخته و عمّته
أجدر أن يبغض الوصيّ و أن
ينكر يوم الغدير بيعته
أقول: هذا النّسب و أمّا الحسب فقد حكى العلامة في كشف الحقّ عن ابن عبد
ربّه في كتاب العقد الحديث استعمال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص في بعض
ولايته، فقال: عمرو بن العاص: قبح اللّه زمانا عمل فيه عمرو بن العاص لعمر
بن الخطاب، و اللّه إنّي لأعرف الخطاب على رأسه حزمة من حطب و على ابنه
مثلها و ما ثمنها إلّا تمرة لا تبلغ مضغته، و روى نحو ذلك الشّارح المعتزلي
عن زبير بن بكار في حديث طويل و فيه فلما رأى عمرو كثرة ما أخذ منه قال:
لعن اللّه زمانا صرت فيه عاملا لعمرو اللّه لقد رأيت عمرو أباه على كلّ
واحد منهما عبائة قطوانية لا يجاوز مأبض ركبتيه و على عنقه حزمة حطب و
العاص بن وائل في مزررات الدّيباج انتهى.
و في البحار عن النهاية في تفسير المبرطش كان عمر في الجاهليّة مبرطشا و
هو السّاعي بين البايع و المشتري شبه الدّلال، و يروى بالسّين المهملة
بمعناه و في القاموس المبرطس الذي يكتري للنّاس الابل و الحمير و يأخذ عليه
جعلا.
و قال المحدث الجزائري: و من عجيب ما رووه عن الخطاب والد عمر بن الخطاب
أنّه كان سرّاقا و قطع في السّرقة ما ذكره ابو عبيدة القاسم بن سلام في
كتاب الشّهاب في تسمية من قطع من قريش في الجاهلية في السرقة ما هذا لفظه:
قال: و الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عدي بن كعب أبو عمر بن
الخطاب قطعت يده في سرقة قدر و محاه ولاية عمر و رضي الناس عنه، قال بعض
المسلمين: ألا تعجب من قوم رووا أن عمر كان ولد زنا و أنه كان في الجاهليّة
نخاس«» الحمير و أنّه كان أبوه سراقا و أنه ما كان يعرف إلّا بعمير
لرذالته ثمّ مع هذا جعلوه خليفة قائما مقام نبيهم صلّى اللّه عليه و آله و
سلّم و نائبا عن اللّه تعالى في عباده و قدّموه على من لا طعن عليه في حسب و
لا نسب و لا أدب و لا سبب، و يا ليتهم حيث ولوه و فضحوا أنفسهم بذلك كانوا
قد سكتوا عن نقل هذه الأحاديث التي قد شمتت بها الأعداء و جعلوها طريقا
إلى جهلهم بمقام الأنبياء و خلافة الخلفاء هذا.
و بقي الكلام في كيفيّة عقد أبي بكر الخلافة لعمر و إدلائه بها إليه
فأقول: قال الشّارح المعتزلي و روى كثير من النّاس أنّ أبا بكر لما نزل به
دعا عبد الرحمن ابن عوف فقال: أخبرني عن عمر فقال: إنّه أفضل من رأيت إلّا
أن فيه غلظة، فقال أبو بكر ذاك لأنّه يراني رقيقا و لو قد افضى الأمر إليه
لترك كثيرا ممّا هو عليه و قد رمقته إذا أنا غضبت على رجل أرانى الرّضى عنه
و إذا لنت له أراني الشدّة عليه، ثم دعا عثمان بن عفّان فقال: أخبرني عن
عمر، فقال: سريرته خير من علانيته و ليس فينا مثله، فقال لهما لا تذكرا
ممّا قلت لكما شيئا و لو تركت عمر لما عدوتك يا عثمان و الخيرة لك أن لا
تلي من امورهم شيئا و لوددت أني كنت من اموركم خلوا و كنت فيمن مضى من
سلفكم.
و دخل طلحة بن عبيد اللّه على أبي بكر فقال: إنّه بلغني أنّك يا خليفة
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استخلفت على النّاس عمر و قد رأيت
ما يلقى الناس منه و أنت معه فكيف به إذا خلابهم و أنت غدا لاق ربّك فسألك
عن رعيتك، فقال أبو بكر أجلسوني ثم قال: أبا للّه تخوّفني إذا لقيت ربّي
فسألني قلت: استخلفت عليهم خير أهلك، فقال طلحة: أعمر خير النّاس يا خليفة
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاشتد غضبه فقال: اي و اللّه هو
خيرهم و أنت شرّهم أم و اللّه لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك و لرفعت نفسك
فوق قدرها حتى يكون اللّه هو الذي يضعها، أتيتني و قد دلكت عينيك تريد أن
تفتنني عن ديني و تزيلني عن رأيي، قم لا أقام اللّه رجليك، أما و اللّه لئن
عشت فواق ناقة و بلغني أنّك غمضته فيها أو ذكرته بسوء لا لحقنّك بخمصات«»
قنة«» حيث كنتم تسقون و لا تروون و ترعون و لا تشبعون و أنتم بذلك
مبتجحون«» راضون، فقام طلحة فخرج.
ثمّ قال الشّارح: أحضر أبو بكر عثمان و هو يجود بنفسه فأمره أن يكتب
عهده و قال: اكتب بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد عبد اللّه بن عثمان
إلى المسلمين أمّا بعد، ثم اغمي عليه و كتب عثمان قد استخلفت عليكم عمر بن
الخطاب، و أفاق أبو بكر فقال: اقرء، فقرأه فكبر أبو بكر و سرّ، و قال:
أراك خفت أن تختلف النّاس ان متّ في غشيتي قال: نعم، قال: جزاك اللّه خيرا
عن الاسلام و أهله، ثمّ أتمّ العهد و أمر أن يقرأ على النّاس فقرأ عليهم،
ثمّ أوصى عمر بوصايا و توفى ليلة الثّلثا لثمان بقين من جمادي الآخرة من
سنة ثلاث عشر.
أقول: انظروا يا أهل البصيرة و الانصاف و الدّقة و الاعتبار إلى الخلافة
العظمى و الرّياسة الكبرى كيف صارت لعبة للجهال و دولة بين أهل الغيّ و
الضّلال و انظروا رئيس الضّالين و المضلّين كيف اجترى على ربّ العالمين في
تلك الحالة التي كان يفارق الدّنيا و ينتقل إلى نزاعة للشّوى، فحكم بكون
عمر أفضل الصّحابة مع كون أمير المؤمنين عليه السّلام بينهم، و قد قال فيه
نبيّهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك، و
ساير أحاديث الفضل التي لا تحصى حسبما عرفت بعضها في مقدّمات هذه الخطبة و
غيرها، ثمّ انظر إلى ابن الخطاب عليه النّكال و العذاب كيف لم يقل لأبي بكر
في هذه الحالة التي يغمى عليه فيها مرّة و يفيق اخرى إنّه ليهجر«» كما قال
للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين أراد أن يكتب كتابا أن لا
يضلّوا بعده: انّه ليهجر و لنعم ما قيل:
- اوصى النّبيّ فقال قائلهمقد خلّ يهجر سيد البشر
و رأى أبا بكر اصاب و لم
يهجر فقد اوصى الى عمر
ثمّ العجب من النعثل الفاجر عثمان بن عفان عليه سخط الرّحمن حيث كتبها
برأيه بدون مصلحة الخليفة الخوّان، و العجب كل العجب من هذا الشّقي كيف
مدحه و شكره و جزاه خيرا عن الاسلام و أهله و لم يقل له: لم اجترئت على هذا
الأمر العظيم و الخطب الجسيم الذي هو مقام الأنبياء و ميراث الأوصياء
يترتب عليه أمر الدّين و الدّنيا بمحض رأيك و رضاك و طبعك و هواك، مع أن
سيد الورى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يجترى أن يخبر بأدنى حكم إلّا
بوحي يوحى و يلزم على زعمهم الفاسد و رأيهم الكاسد أن يكون ابو بكر و عثمان
أشفق على أهل الاسلام و الايمان من سيد الانس و الجان لأنه بزعمهم أهمل
أمر الامة و لم يوص لهم بشي ء، و هما أشفقا على الامة حذرا من ضلالتهم
فنصبا لهم جاهلا شقيا و فظا غليظا.
- يا ناعي الاسلام قم فانعهقد مات عرف و بدا المنكر
و غير خفيّ على العاقل اللبيب و الكامل الأريب أنّ تلك الامور الفاضحة و
الحيل الواضحة لم تكن إلّا لتأسيس أساس الكفر و النفاق و هدم بنيان
الاسلام و الاتفاق، و إرجاع الناس إلى أعقابهم القهقرى و ترويج عبودية
اللّات و العزى، فجزاهم اللّه عن الاسلام و أهله شر الجزاء، و غضب عليهم
ملؤ الارض و السماء.
(ثمّ تمثل عليه السّلام بقول الأعشى) أعشى قيس و هو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل:
- (شتان ما يومي على كورهاو يوم حيان أخي جابر)
و هو من قصيدة طويلة له قالها في منافرة علقمة بن علانة بن عوف و عامر
بن الطفيل ابن مالك بن جعفر و تفصيل قصة نفارهما ذكره أبو الفرج في الأغاني
و قبل ذلك البيت الذي تمثل عليه السّلام به قوله:
- و قد اسلي«» الهمّ اذ يعتريبحسرة دوسرة عاقر
- زيافة بالوحل خطارةتلوى بشرخى ميسة فاتر
ارمى بها البيداء إذ هجرت
و أنت بين القرد و العاصر
- في مجدل شيّد بنيانهيزلّ عنه ظفر الطائر
و معنى البيت بعد ما بين يومي على رحل هذه النّاقة الموصوفة، و بين يوم
حيّان و هو في سكرة الشّراب ناعم البال مرفه من الأكدار و المشاق، و حيان و
جابر ابنا السّمين الحنفيان و كان حيان صاحب حصن باليمامة و كان من سادات
بني حنيفة مطاعا في قوله يصله كسرى في كلّ سنة و كان فى رفاهيّة و نعمة
مصونا من و عثاء السفر، لم يكن يسافر أبدا، و كان الأعشى ينادمه و كان أخوه
جابر أصغر سنا منه، حكي ان حيان قال للأعشى نسبتني إلى أخي و هو أصغر سنّا
مني فقال: إنّ الرّوى اضطرني إلى ذلك، فقال: و اللّه لا نازعتك كاسا أبدا
ما عشت هذا.
و معنى البيت على ما ذكرناه هو الذي أفاده المرتضى (قده) و هو الظاهر
المطابق للبيت الذي بعده أعني قوله: أرمى بها البيداء. و هو أيضا مما تمثل
عليه السّلام به على ما حكي عن بعض النسخ، فيكون غرضه عليه السّلام من
التمثل على ذلك بيان البعد بين يومه صابرا على القذى و الشّجى و بين يومهم
فايزين بما طلبوا من الدّنيا، و قريب منه ما قال الشّارح المعتزلي حيث قال:
يقول أمير المؤمنين عليه السّلام: شتّان بين يومي في الخلافة مع ما انتقض
علىّ من الأمر و منيت به من انتشار الحبل و اضطراب أركان الخلافة، و بين
يوم عمر حيث وليها على قاعدة ممهّدة و أركان ثابته و سكون شامل، فانتظم
أمره و اطرد حاله.
و قال بعض الشّارحين: المعنى ما أبعد ما بين يومي على كور النّاقة اداب و
انصب و بين يومي منادما حيّان أخي جابر في خفض و دعة، فالغرض من التّمثل
إظهار البعد بين يومه عليه السّلام بعد وفات الرّسول صلّى اللّه عليه و آله
و سلّم مقهورا ممنوعا عن حقّه، و بين يومه في صحبة النّبيّ صلّى اللّه
عليه و آله و سلّم فارغ البال مرفّه الحال كاسبا للفيوضات الظاهريّة و
الباطنية، و هذا المعنى هو الأقرب إلى النّظر و الأنسب إلى السّياق، و به
فسّره المحدّث الجزايري حيث قال: و قوله عليه السّلام: شتّان البيت و هو
الاعشى يقول: تفرق ما بين يوميّ يوم سروري و هو منادمتي لأخي حيّان، و يوم
شدّتي و ركوبي على متن ناقتي في البراري و القفار، و هو عليه السّلام قد
استعار هذا ليوميه يوم فرحه لما كان نديمه النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و
سلّم، و يوم تعبه و يوم ركوبه المشاق و الحروب وحده بلا معاون و لا نصير.
ثمّ إنّه عليه السّلام أظهر التعجب من إدلائه بالخلافة إليه مع استقالته
منها بقوله: (فيا عجبا بينا هو) يعني أبا بكر (يستقيلها) أي يطلب الاقالة
منها (في حياته) و يقول: أقيلوني أقيلوني (إذ عقدها لآخر) أراد به عمر أى
جعلها معقودة له لتكون له (بعد وفاته) و وجه التّعجب أنّ استقالته منها في
حياته دليل على رغبته عنها و زهده فيها و عقدها لغيره دليل على رغبته فيها و
ميله اليها، و هو يضادّ الاستقالة الحقيقية فيكون دليلا على كون الاستقالة
منه صوريّة ناشئة عن وجه الخدعة، و التدليس، و نعم ما قيل:
- حملوها يوم السّقيفة وزراتخفّ الجبال و هى ثقال
ثمّ جاءوا من بعدها يستقيلون
و هيهات عثرة لا تقال
هذا و خبر الاقالة ممّا رواه الجمهور، و هو قوله: اقيلوني أقيلوني فلست
بخيركم و عليّ فيكم، و رواه في البحار عن الطبري في تاريخه و البلادري في
أنساب الأشراف و السّمعاني في الفضائل و أبي عبيدة في بعض مصنّفاته، قال: و
لم يقدح الفخر الرّازي في صحّته و إن أجاب عنه بوجوه ضعيفة، و كفى كلامه
عليه السّلام شاهدا على صحته انتهى.
و قال بعض المحقّقين من أصحابنا: معنى استقالته الأمر بقتل علي بن أبي
طالب عليه السّلام يعني ما دام عليّ فيكم موجودا فأنا لست بخيركم فاقتلوه
حتّى أكون خليفة بلا منازع، و قوله عليه السّلام: (لشدّ ما تشطر اضرعيها)
شبه الخلافة بناقة لها ضرعان و كان كلّ واحد منهما أخذ منها ضرعا يحلبه
لنفسه، فالمعنى و اللّه لصار شديدا أخذ كلّ واحد منهما شطرا أى نصفا أو
شطرا بالكسر أى خلفا من ضرعيها، و المقصود اقتسامهما فايدتها بينهما، و في
بعض روايات السّقيفة أنّه عليه السّلام قال لعمر بن الخطاب بعد يوم
السّقيفة: احلب حلبا لك شطره، اشدد له اليوم يردّه عليك غدا
|