اللغة
(تواصفوا) الشي ء أى وصفه بعضهم على بعض و (تناصف) النّاس أنصف بعضهم لبعض و (صروف) الدّهر تغيّراته و انقلاباته جمع الصّرف
الاعراب
قوله: لكان ذلك خالصا للّه سبحانه دون خلقه، خالصا خال من ذلك و العامل فيه كان، و على قول بعض النّحويّين من أنّ جميع العوامل اللّفظيّة تعمل في الحال إلّا كان و اخواتها، فلابدّ من جعل كان تامّة و دون خلقه في محلّ النصب أيضا على الحال، و هى حال مؤكّدة.
و قوله: و توسّعا بما هو من المزيد أهله، توسّعا منصوب على المفعول لأجله، و ما موصولة و جملة هو أهله مبتدأ و خبر صلة ما و من المزيد بيان لما.
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشّريفة حسبما أشار اليه الرّضي و يأتي في رواية الكافي أيضا في آخر الفصل الثاني من جملة الخطب الّتي خطبها بصفّين، و عمدة غرضه عليه السّلام في هذا الفصل منها نصيحة المخاطبين و ارشادهم إلى ما هو صلاحهم فى الدّنيا و الاخرة من اتّباعهم لأمره و اطاعتهم له و إسراعهم فيما يأمر و ينهي و اتّفاقهم على التّعاون و التّناصف و غير ذلك من وجوه مصالح محاربة القاسطين لعنهم اللّه أجمعين قال عليه السّلام (أمّا بعد) حمد اللّه عزّ و جلّ و الصلاة على رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (فقد جعل اللّه) عزّ شأنه (لى عليكم حقّا بولاية أمركم) أى لى عليكم حقّ الطاعة لأنّ اللّه جعلنى واليا عليكم متولّيا لاموركم و أنزلنى منكم منزلة عظيمة هى منزلة الامامة و الولاية و السّلطنة و وجوب الطّاعة كما قال عزّ من قائل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ.
(و لكم علىّ من الحقّ مثل الّذى لى عليكم) أراد بالحقّ الّذى لهم عليه ما هو حقّ الرّعيّة على الوالى، و الحقّان متماثلان فى الوجوب، و قد صرّح بهما فى الخطبة الرّابعة و الثلاثين بقوله: أيّها النّاس إنّ لى عليكم حقّا و لكم علىّ حقّ، فأمّا حقّكم علىّ فالنّصيحة لكم و توفير فيئكم عليكم و تعليمكم كيلا تجهلوا و تأديبكم كما تعلموا، و أمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة و النصيحة في المشهد و المغيب و الاجابة حين أدعوكم و الطّاعة حين آمركم.
(فالحقّ أوسع الأشياء فى التواصف) يعني إذا أخذ النّاس في بيان الحقّ و وصفه بعضهم لبعض كان لهم في ذلك مجال واسع لسهولته على الألسنة (و أضيقها في التناصف) يعني إذا حضر التناصف بينهم أى انصاف بعضهم لبعض فطلب منهم ضاق عليهم المجال لشدّة العمل و صعوبة الانصاف.
و محصّله سعة الحقّ في مقام الوصف و القول و ضيقه في مقام الانصاف و العمل.
(لا يجرى لأحد إلّا جرى عليه و لا يجرى عليه إلّا جرى له) لمّا ذكر حقّه
عليهم و حقّهم عليه اتبعه بهذه الجملة تأكيدا و ايذانا بأنّ جريان حقّه عليهم إنّما هو بجريان حقّهم عليه و بالعكس، و فيه توطين لأنفسهم على ما عليهم و تشويق لهم إلى ما لهم.
و انّما ساق الكلام مساق العموم تنبيها على أنّ اللّازم على كلّ أحد أن يقوم في الحقوق بماله و ما عليه بمقتضي العدل و الانصاف، فإنّ حقّ الوالي على الرّعيّة و الرّعيّة على الوالي و الوالد على الولد و الولد على الوالد و الزّوج على الزّوجة و الزّوجة على الزّوج و المعلّم على المتعلّم و المتعلّم على المعلّم و الجار على الجار و غيرهم من ذوى الحقوق حسبما نشير اليهم تفصيلا إنّما هو بالتّناصف بين الطرفين.
و يوضحه ما في البحار من الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفلى عن السّكونى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حقّ على المسلم إذا أراد سفرا أن يعلم إخوانه، و حقّ على إخوانه إذا قدم أن يأتوه.
قال العلامة المجلسى فيه ايماء إلى أنّه إذا لم يعلمهم عند الذّهاب لا يلزم عليهم اتيانه بعد الاياب.
(و لو كان لأحد أن يجرى له) حقّ على غيره (و لا يجرى) لغيره (عليه لكان ذلك) الحقّ الجارى (خالصا للّه سبحانه دون خلقه) أى متجاوزا عن حقّه و ذلك (لقدرته على عباده) و عجز غيره، فيجوز له أن يجرى حقّه عليهم و يطلب منهم الطّاعة و ينفذ أمره فيهم الزاما فيطيعوه قهرا بدون امكان تمرّد أحد منهم عن طاعته لكونه قاهرا فوق عباده فعّالا لما يشاء، لا رادّ لحكمه و لا دافع لقضائه كما قال تعالى وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً.
و لمّا كان هنا مظنّة أن يتوهّم و يقال إنه إذا جرى حقّه عليهم و خرجوا من عهدته و قاموا بوظايف عبوديّته و طاعته طوعا أو كرها يكون حينئذ لهم حقّ عليه و هو جزاء ما أتوا به فلو لم يجزهم لكان ذلك منافيا للعدل دفع ذلك التّوهم بقوله: (و لعدله فى كلّ ما جرت عليه صروف قضائه) و أنواعه المتغيّرة المتبدّلة، يعني أنّ الجزاء ليس مقتضي العدل حتّى يكون عدمه منافيا له بل هو العادل فى جميع مقضيّاته و مقدّراته لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون، نعم هو مقتضى التّفضّل، و التّفضّل ليس بلازم عليه فلا يثبت لعباده باطاعتهم له حقّ لهم عليه، هكذا ينبغي أن يفهم المقام.
و قد تاه فيه أفهام الشرّاح فمنهم من طوى عن تحقيقه كشحا و منهم من خبط فيه خبطة عشواء، فانظر ما ذا ترى.
و قريب ممّا حققناه ما قاله العلّامة المجلسى فى البحار حيث قال فى شرح ذلك: و الحاصل أنه لو كان لأحد أن يجعل الحقّ على غيره و لم يجعل له على نفسه لكان هو سبحانه أولى بذلك، و استدلّ على الأولويّة بوجهين: الأوّل القدرة، فانّ غيره تعالى لو فعل ذلك لم يطعه أحد و اللّه قادر على جبرهم و قهرهم و الثاني أنه لو لم يجزهم على أعمالهم و كلّفهم بها لكان عادلا لأنّ له من النعم على العباد ما لو عبدوه أبدا الدّهر لم يوفوا حقّ نعمة واحدة هنها، انتهى فقد علم بذلك كلّه أنه عزّ و جلّ ليس بمقتضى عدله لأحد عليه حقّ.
(و لكنه) عزّ شأنه مع ذلك قد (جعل) له على عباده حقا و لهم عليه كذلك بمقتضى انعامه و فضله فجعل (حقه على العباد أن يطيعوه) و يوحّدوه (و جعل جزاءهم) لم يقل حقّهم رعاية للأدب و دفعا لتوهّم الاستحقاق أى جعل جزاء طاعتهم (عليه مضاعفة الثواب) كما قال تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ و قال مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ».
(تفضّلا منه و توسعا بما هو من المزيد أهله) فيه تنبيه على أنّ الحقّ الذى جعل لهم عليه أعظم مما أتوا به مع عدم كونه من جهة الاستحقاق بل لمحض التفضل و الانعام بما هو أهله من الزّيادة و التوسعة.
تكملة
هذه الخطبة رواها ثقة الاسلام الكليني في كتاب الرّوضة من الكافي و السند علىّ بن الحسن المؤدّب عن أحمد بن محمّد بن خالد و أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحسن التّميمي «التيمى» جميعا عن إسماعيل بن مهران قال: حدّثنى عبد اللّه بن الحرث عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال خطب أمير المؤمنين عليه السّلام الناس بصفّين فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على محمّد النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ قال عليه السّلام: أمّا بعد فقد جعل اللّه لي عليكم حقّا بولاية أمركم و منزلتى الّتي أنزلني اللّه عزّ ذكره بها منكم و لكم عليّ من الحقّ مثل الّذى لى عليكم، و الحقّ أجمل الأشياء في التراصف «التواصف» و أوسعها في التناصف لا يجرى لأحد إلّا جرى عليه، و لا يجرى عليه إلّا جرى له، و لو كان لأحد أن يجرى ذلك له و لا يجرى عليه لكان ذلك للّه عزّ و جلّ خالصا دون خلقه، لقدرته على عباده، و لعدله في كلّ ما جرت عليه ضروب قضائه، و لكن جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، و جعل كفارتهم عليه حسن الثواب تفضّلا منه و تطوّلا بكرمه و توسّعا بما هو من المزيد له أهل
بيان
لما يحتاج إلى البيان من موارد الاختلاف الّتي لم يتقدّم شرحها عند شرح المتن: قوله عليه السّلام «و الحق أجمل الأشياء في التّراصف» أصل التّراصف تنضيد الحجارة بعضها ببعض، و المراد أنّ الحقّ أحسن الأشياء في إنفاق الامور و أحكامها.
قوله «و أوسعها في التّناصف» أى إذا أنصف الناس بعضهم لبعض فالحقّ يسعه و يحتمله و لا يقع الناس في العمل بالحقّ ضيق.
قوله «و جعل كفارتهم عليه حسن الثّواب» قال في البحار: لعلّ المراد بالكفارة الجزاء العظيم لستره عملهم حيث لم يكن له في جنبه قدر، فكأنّه قد محاه و ستره، و في أكثر النسخ بحسن الثواب فيحتمل أيضا أن يكون المراد بها ما يقع منهم لتدارك سيئاتهم كالتوبة و ساير الكفارات، أى أوجب قبول كفارتهم و توبتهم على نفسه مع حسن الثواب بأن يثيبهم على ذلك أيضا
|