(أيها المخلوق السوي إلخ).. الخطاب للإنسان، و الظلمات و المضاعفات إشارة الى ما جاء في الآية الكريمة 6 من سورة الزمر «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» بعضها فوق بعض، و هي ظلمة البطن و الرحم و المشيمة، و المراد بالسوي انه تام جسما و روحا، و متقن واقعا و شكلا «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ- 4 التين». «وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ- 64 غافر». و المراد بالمرعي ان الانسان منذ نشأته و تكوينه في بطن أمه الى آخر لحظة، يخضع لعناية اللّه و تدبيره و لو بطريق غير مباشر. (بدئت من سلالة إلخ).. قال سبحانه: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ- الى قوله تعالى- فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ- 15 المؤمنون». (فمن هداك- في ساعة ولادتك- لاجترار الغذاء من ثدي أمك). ما أن يسقط الجنين من بطن أمه حتى يلتمس الثدي، و لا تنشق البيضة عن الفرخ حتى يلتمس الحب بمنقاره، و ما رأى أحدا من قبل حتى يحاكيه.. انها غريزة، ما في ذلك شك، و لكن من الذي أودعها فيه.
«فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ- 83 يس».
الكون و النظام:
و من نظر و تأمل هذا الكون يجد انه مسخر للقانون و النظام في جميع أوضاعه و أطواره، فكل كوكب يبعد عن الآخر بمقدار، و يسير بحساب، و كذلك الضوء و الحرارة و البرودة.. لكل شي ء حد لا يعدوه، و لو تجاوزه لاختل نظام الكون، و كان مصيره الخراب و الدمار: «وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً- 2 الفرقان». و قال أكثر الفلاسفة بوحدة الكون على تباين أشيائه و محتوياته، و انه شخص كثير الأعضاء و الأجزاء، و أسماه بعضهم بالانسان الكبير، و أسمى الانسان بالكون الصغير، و مرادهم بوحدة الكون وحدة القوانين التي تربط بين كواكبه و أركانه.
هذا ما يعود الى الكون بوجه عام، أما أشياؤه و احداثه فإن منها- كما شاهدنا بالعيان- ما يقوم بوظيفة خاصة، و يهدف الى غرض معين، و تبدو هذه الحقيقة واضحة في أعضاء الانسان و الحيوان، و من قرأ شيئا من علم وظائف الأعضاء رأى عجبا.. و ما انا من أهل هذا الفن في شي ء، و لكني قرأت بعض ما قاله أهل الاختصاص، فشعرت بأنه لا شي ء في هذا الكون إلا و هو مدهش و عجيب تماما كالكون في عظمته، و ما وجدت تفسيرا لذلك إلا بقوة عليا تقدّر و تدبر من وراء الطبيعة، و قد اتهمت نفسي في البداية، و قلت: ربما كان شعوري هذا انعكاسا عن عقيدتي و إيماني حتى قرأت كتاب: الانسان.. ذلك المجهول، للطبيب الفرنسي الشهير «الكسيس كاريل». و قد حصل هذا العالم- بالإضافة الى إجازة الطب- على إجازة في العلوم، و جائزة نوبل، و درّس في الولايات المتحدة أكثر من 20 عاما، و طبع كتابه المذكور عدة مرات، و ترجم الى كثير من اللغات.
و جاء فيه: «ان كل عضو من أعضاء الجسم يكيف نفسه مع سائر الأعضاء، و هي أيضا تكيف نفسها معه.. و ما من أحد ينكر وجود الغاية من هذه الأعضاء حتى كأن لكل عضو معرفة يعمل في ضوئها.. فالجسم بما فيه يدرك و يعرف القريب و البعيد من أعماله، و الحاضر و المستقبل.. و حينما يقترب الجنين من الاكتمال يمهّد و يعبّد له طريق المرور و الخروج من بطن أمه، و ذلك بأن تصبح أنسجة الفرج مرنة ناعمة تمتد بسهولة، و يتسع الفرج بحجم الجنين». ثم قال: و لا يمكن تفسير هذه الحقائق الأولية بآرائنا الميكانيكية- أي بالعلل المادية- أو الحيوية الساذجة أي بقول من قال: ان الحياة تأخذ مجراها بطبيعتها، و تكيف نفسها بنفسها، و بدون سبب خارج عنها. و علّق الفيلسوف الصيني «لين يوتانج» في كتابه «كيف يحيا الانسان» علّق على ذلك بقوله: «لقد قبل كاريل النظرية الغيبية في الحياة بالرغم من سعة أفقه، و نحن نتفق معه على ان هناك أشياء غير قابلة للتفسير».
و إذا لم تقبل التفسير بالمادة فإنها تقبل التفسير بما وراء المادة، و في مجلة «عالم الفكر الكويتية» ج 2 ع 2 مقال مطول عن اينشتين جاء فيه: قال اينشتين: «ان التجارب لا يمكن أن تصنع علما حقيقيا بدون تدخّل الروح». و قال الفيلسوف راسل في كتاب «الفلسفة بنظرة علمية» الفصل السادس: «أنا أعتقد ان ثمة حقائق لا يوصل اليها إلا بالتأمل الباطني، بل أذهب الى أبعد من ذلك و أقول: ان علم الفيزياء لا بد له من هذه الحقائق التي لا يوصل اليها إلا بالتأمل الباطني».
و بعد أن اتفق الكل على ان الكون بما فيه مسخر لسلطان النظام و القدر في طبعه و حجمه و وضعه و حركته- اختلفوا في مصدر هذا النظام: أي شي ء هو و نلخص الأقوال في ذلك بما يلي: 1- لا مصدر إلا الصدفة العشوائية.. و الجواب لا مصدر لهذا القول إلا العجز و التهرب من حكم العقل و الواقع، و في كتاب «ملقى السبيل» لاسماعيل مظهر ان داروين قال: «كلمة الصدفة خطأ محض يدل على الاعتراف بالجهل و القصور عن معرفة السبب». ذلك ان الصدفة لا تطّرد كنظرية محددة ذات نتائج علمية أو فلسفية أو دينية تناط بظاهرة من الظواهر أو حادثة من الحوادث.
2- لا سبب إلا المادة، فهي وحدها، و بما تملك من طاقة و استعداد ذاتي ترتب و تنظم.. و قد دحض العلماء هذا القول دحضا قاطعا بما يتلخص ان النظام يحتاج الى قصد، و المادة بما هي لا إرادة لها و لا شعور و إلا كانت على نسق واحد، لا فرق بين مادة و مادة في الصفات و الخصائص، و هو خلاف الواقع.. و أيضا اذا كانت المادة في غنى بذاتها عن الغير تكون، و الحال هذه، واجبة الوجود أزلية أبدية، لا تجري عليها حركة و لا حرارة أو برودة، و لا تركيب و نقصان، و متاعب و آلام.. و أيضا كيف أنشأت المادة لنفسها عقلا و سمعا و بصرا، و هي بطبيعتها صماء عمياء بل كيف انتقلت بانتظام من وضع الى وضع لتؤدي غاية معقولة و اذا كان في المادة طاقة تولّد الحياة و النظام تلقائيا فمن الذي أودع فيها هذه الطاقة و على حد ما قال شوقي: «الطبيعة من طبعها».
و ان قال قائل: و إلهكم من ألّهه و واجب الوجود من أوجبه قلنا في جوابه: إن الذي نؤلهه و نعبده لا تراه عين، و لا تلمسه يد كما هو شأن المادة التي تقضم بالأنياب، و تدخل المعدة و تخرج منها، و تلبس على الأجسام و تداس بالإقدام.. إن إلهنا قوة عليا فوق المادة و منزهة عنها، قوة فعالة و مؤثرة، و حكمية مدبرة، و عادلة تسمع الشكوى و تغنى بالآلام، و تحاسب و تعاقب، و عليمة بكل جليل و حقير، و قاهرة يخضع لها كل شي ء، و لا تخضع لشي ء.. انها الكمال المطلق في ذاتها و صفاتها.. و اذن فأين القاسم المشترك و القدر الجامع و ما هو المبرر للشبه و القياس.
3- الاعتراف بوجود قوة سرمدية عالمة قادرة ليس كمثلها شي ء في الجلال و الكمال، و انها تدبر الكون بما فيه، و اسمها اللّه الأحد الفرد الصمد، و لكن هذا الإله العظيم غير منفصل عن الطبيعة و لا مستقل عنها، بل يتحد معها و مع جميع أشيائها اتحادا كليا يشبه اتحاد الروح مع الجسم بحيث لا يمكن التمييز بينه و بين الطبيعة.. و بكلمة، ان اللّه موجود بلا ريب، و لكن في نفس الطبيعة، و ليس وراءها كما يقول المشاءون و المؤمنون.. و هذا الدين أو هذه الفلسفة تعرف بوحدة الوجود.
و الجواب عن هذه الوحدة انها مجرد حدس و تخمين، و انها تخلط بين العلة و المعلول، و الفعل و فاعله، و تجعل الكون إلها خالقا، و الإله كونا مخلوقا.
4- و اذا بطلت الأقوال الثلاثة تختم الأخذ بالقول الرابع، و هو ان وراء الكون خالقا حكيما يدبر و ينظم، و لا شي ء يشبهه من الكائنات، و لا هو يشبهها في شي ء.. و تقدم ذلك مرات و مرات.
و من جملة ما قرأت في الصحف اليومية كلمة بعنوان خطبه 163 نهج البلاغه بخش 3 «أجمل ما في الحياة» و هي تمثل الايمان الصادق مع سلامة المنطق و بداهته، فاحتفظت بها- على عادتي- في ملف خاص بقصاصات الجرائد. و من المفيد أن أختم شرحي لهذه الخطبة بأجمل ما جاء في تلك الكلمة، قال كاتبها، أحسن اللّه اليه و أرضاه: «إن أجمل ما في الحياة هو المجهول، و أجمل ما في المجهول محاولة معرفته، و أجمل من هذه المحاولة العجز عن معرفة التفاصيل مع الرجوع بالتالي الى الايمان بالقوة العظمى المسيطرة على الكون، و من ملك هذا الايمان فلا يهاب أحدا غير اللّه».
|