و إنّ هذا الأمر أمر جاهليّة و إنّ لهؤلاء القوم مادّة إنّ النّاس من هذا الأمر إذا حرّك على أمور: فرقة ترى ما ترون، و فرقة ترى ما لا ترون، و فرقة لا ترى هذا، و لا هذا، فاصبروا حتّى يهدأ النّاس، و تقع القلوب مواقعها و تؤخذ الحقوق مسمحة فاهدّؤا عنّي و انظروا ما ذا يأتيكم به أمري، و لا تفعلوا فعلة تضعضع قوّة و تسقط منّة و تورث وهنا و ذلّة، و سامسك الأمر ما استمسك و إذ لم أجد بدّا فاخر الدّواء الكيّ.
اللغة
(هدأ) القوم و الصوت يهدأ من باب منع سكن و (سمح) سماحة جاد و أعطى أو وافق ما اريد منه و أسمح بالالف لغة و قال الأصمعي سمح ثلاثيا بماله و أسمح بقياده و (المنّة) بالضمّ كالقوّة لفظا و معنى.
المعنى
ثمّ قال: (إنّ هذا الأمر) أى أمر المجلبين (أمر جاهليّة) لأنّ قتلهم لعثمان كان عن عصبيّة و حميّة لا لطاعة أمر اللّه و إن كان في الواقع مطابقا له.
و يمكن أن يكون المراد به أنّ ما تريدون من معاقبة القوم أمر جاهليّة نشأ عن تعصّبكم و حميّتكم و أغراضكم الباطلة و فيه إثارة للفتنة، و تهييج للشرّ، لكنّ الأوّل أنسب بسياق الكلام إذ غرضه من إيراد تلك الوجوه إسكات الخصم و عدم تقوية شبه المخالفين الطالبين لدم عثمان.
و أكّد تأكيد تضعيف رأيهم بقوله (و إنّ لهؤلاء القوم مادّة) أى مددا و معينين و (إنّ النّاس من هذا الأمر إذا حرّك) عن موضعه و اريد معاقبة المجلبين (على امور) ثلاثة أشار إليها بقوله (فرقة منهم ترى ما ترون) و يحكمون بحسن العقاب (و فرقة ترى ما لا ترون) و تزعم أنّ في العقاب عدولا عن الصّواب (و فرقة) ثالثة (لا ترى هذا و لا هذا) و لا يحكمون فيه بصواب و لا خطاء.
و لما بيّن اختلاف الاراء و تشتّت الأهواء في التخطئة و التصويب و كان الاقتصاص و الانتقام مع وجود هذا الاختلاف مظنّة فتنة اخرى كالاولى بل و أعظم منها و كان الأصوب في التدبير و الّذي يوجبه العقل و الشرع الصبر و إمساك النكير إلى حين سكون الفتنة، و تفرّق تلك الشعوب من المدينة، لا جرم أمرهم بالصّبر فقال: (فاصبروا حتّى يهدأ الناس) و يسكنوا (و تقع القلوب مواقعها) و تؤوب إلى الناس أحلامهم (و تؤخذ الحقوق مسمحة) منقادة بسهولة (فاهدءوا) متفرّقين (عنّى و انظروا ما ذا يأتيكم به أمرى) و لا تستعجلوه و لا تسرعوا (و لا تفعلوا فعلة) أى نوع فعل (تضعضع) و تهدم (قوّة و تسقط منّة و تورث وهنا و ذلّة) فانّ الامور مرهونة بأوقاتها و مجتنى الثمرة لغير وقت إيناعها لا تذوق إلّا مرارة منها.
قال الشارح المعتزلي و كان عليه السّلام يؤمّل أن يطيعه معاوية و غيره و أن يحضر بنو عثمان عنده يطالبون بدم أبيهم و يعيّنون قوما بأعيانهم بعضهم للقتل و بعضهم للتسوّر كما جرت عادة المتظلّمين إلى الامام و القاضي فحينئذ يتمكّن من العمل بحكم اللّه فلم يقع الأمر بموجب ذلك و عصى معاوية و أهل الشّام و التجأ ورثة عثمان إليه و فارقوا حوزة أمير المؤمنين عليه السّلام و لم يطالبوا القصاص طلبا شرعيّا و إنّما طلبوه مغالبة و جعلها معاوية عصبيّة الجاهلية و لم يأت أحد منهم الأمر من بابه.
و قبل ذلك ما كان من أمر طلحة و الزّبير و نقضهما البيعة و نهبهما أموال المسلمين بالبصرة و قتلهما الصّالحين من أهلها و جرت امور كلّها يمنع الامام عن التصدّي للقصاص و اعتماد ما يجب اعتماده لو كان الأمر وقع على القاعدة الصحيحة من المتطالبة بذلك على وجه السكوت و الحكومة.
و قد قال هو عليه السّلام لمعاوية و أما طلبك قتلة عثمان فادخل في الطاعة و حاكم القوم إلىّ أحملك و إيّاهم على كتاب اللّه و سنّة رسوله صلّى اللّه عليه و آله هذا.
و أمّا قوله عليه السّلام (و سأمسك الأمر ما استمسك و إذا لم أجد بدّا فاخر الدّواء الكىّ) هكذا في نسخة الشارحين البحراني و المعتزلي، قال ثانيهما و هو مثل مشهور و يقال آخر الطبّ و يغلط فيه العامّة فيقول: آخر الدّاء، و الكيّ ليس من الدّاء ليكون آخره.
و في نسخة البحار: آخر الدّاء قال العلّامة المجلسيّ (ره) هكذا في أكثر النسخ المصحّحة و لعلّ المعنى بعد الدّاء الكيّ إذا اشتدّ الداء و لم يزل بأنواع المعالجات فيزول بالكيّ و ينتهى أمره إليه.
ثمّ قال الشارح المعتزلي و ليس معناه و سأصبر عن معاقبة هؤلاء ما أمكن الصبر فاذا لم أجد بدّا عاقبتهم و لكنّه كلام قاله أوّل مسير طلحة و الزّبير إلى البصرة فانّه حينئذ أشار عليه قوم بمعاقبة المجلبين فاعتذر بما قد ذكر.
ثمّ قال و سأمسك الأمر ما استمسك أى أمسك نفسي عن محاربة هؤلاء النّاكثين للبيعة ما أمكن و أدفع الأيّام بمراسلتهم و تخويفهم و إنذارهم و أجتهد في ردّهم الى الطاعة بالترغيب و الترهيب، فاذا لم أجد بدّا من الحرب فاخر الدواء الكيّ أي الحرب لأنّها الغاية التي ينتهى أمر العصاة إليها.
قال العلّامة المجلسيّ «ره» بعد حكاية ما حكيناه عن الشارح أقول: و يحتمل أن يكون ذلك تورية منه عليه السّلام ليفهم بعض المخاطبين المعنى الأوّل و مراده المعنى الثاني.
أقول: قد تقدّم في شرح الكلام الثّلاثين تفصيلا أنّه عليه السّلام كان بنائه على إبهام المرام، و استعمال التورية في الكلام، في أمر عثمان لمصالح قاضية بذلك مانعة عن الابانة و التصريح فليراجع ثمّة.
|